الأربعاء , 19 فبراير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » تاريخ الزمن الراهن في التجربة المغربية

تاريخ الزمن الراهن في التجربة المغربية

العفاس (محمد)، تاريخ الزمن الراهن في المغرب: بحث في سياق الميلاد، مؤسسة آفاق، مراكش، 2023.

 

انخرط البحث التاريخي في المغرب منذ عقدين من الزمن في ورش تاريخ الزمن الراهن والمصالحة مع الذاكرة القريبة. وشجعت على هذا الأمر دينامية الانفراج النسبي في الواقع السياسي منذ نهاية التسعينيات، مرورا بمتغيرات مطلع القرن الحالي، وبروز صياغة هادئة لخطاب سياسي جديد، في حاجة لإعادة بناء ذاكرة وطنية تعددية غير انتقائية وغير مبنية على الإقصاء، ومعه تغطية كثير من بياضات التاريخ الوطني لما بعد الاستقلال.  وقد تواترت عقب ذلك مجموعة من الملتقيات العلمية والإصدارات والأبحاث حول موضوعات ذات صلة بما هو آني. في ذات السياق يحاول الباحث محمد العفاس في عمله المعنون بـ: “تاريخ الزمن الراهن في المغرب: بحث في سياق الميلاد”، الصادر سنة 2023، تتبع حيثيات وظروف بروز هذا الحقل الإسطوغرافي في التجربة المغربية. عبر أربعة فصول، أغناها بملحق تضمن نصوصا ترجمها من الفرنسية إلى العربية، لباحثين انبروا لدراسة هذا الحقل، وكذا حوارا مع مدير مؤسسة أرشيف المغرب المؤرخ جامع بيضا.

وينطلق الباحث من سياق ميلاد هذا الحقل الإسطوغرافي، ليكشف على أن كتابة التاريخ القريب تقليد قديم جدا، غير أنه عرف تراجعا مع اختراع المطبعة، حيث بدأ التركيز على الحقب البعيدة، وظهر نوع من التقديس للوثيقة المكتوبة. ومع ظهور المدرسة الوضعانية في القرن 19م، وضعت قواعد صارمة لكتابة التاريخ وأقصيت الحقبة القريبة وتم الزج بها في دائرة العلوم السياسية. بيد أن التحولات التي رافقت ما بعد الحرب العالمية الثانية، ستفرض العودة إلى التاريخ القريب والزمن القصير ومعه الحدث السياسي وتاريخ الفرد. وأعقب ذلك تزايد أعداد معاهد تاريخ الزمن الراهن في أعرق الجامعات العالمية، فقد أحصى جون فرانسوا سولي (J. F. Soulet) إلى حدود سنة 2012 ما لا يقل عن 22 معهدا تم تأسيسه في أوربا وأمريكا الشمالية.

يتوقف الباحث بعد ذلك عند تعدد التسميات المرتبطة بهذا الحقل التاريخي: التاريخ القريب، التاريخ المباشر، تاريخ الزمن الراهن. ويبرر هذا التعدد بصعوبة تحديد الإطار الكرونولوجي لهذا الحقل. ويقترح حلا وسطا للخروج من هذا اللبس، باعتماد عبارة “تاريخ الزمن الراهن” بمعناها المجازي لا بمعناها الحرفي، أي بالمعنى الذي تحيل فيه على الماضي القريب وليس على ما يحدث هنا والآن. واصطدم تاريخ الزمن الراهن بمعارضة كثيرة في سنوات بدايته شككت في علميته، برر المعارضون توجههم بغياب المسافة الزمنية الكافية، وصعوبة الإطلاع على الأرشيف. غير أن أمثلة كثيرة، حسب الباحث، برهنت أن “المسافة الزمنية” ليست ضرورية من أجل قياس الظواهر، كما أن قرب المسافة الزمنية لا يعني بالضرورة أن المؤرخ سيتناول موضوع بحثه بذاتية. وفيما يتعلق بالأرشيف يمكن اعتماد أنواع متعددة من المصادر، على أساس أن ما يجب على المؤرخ أن يلتزم به هو المنهج النقدي، والتفاعل مع العلوم الاجتماعية الأخرى بالأخذ عنها وإقناعها بنجاعة المقاربة التاريخية.

وسلط الباحث في، المحور الثاني من هذا العمل، الضوء على أجواء الانفراج السياسي الذي عرفه المغرب طيلة التسعينيات، وما رافقه من تحرر الذاكرة التي ساهمت في إثارة قضايا مسكوت عنها، وقد كان من جملة النتائج تعدد الروايات حول الحدث الواحد، حتى صار المغرب يعيش ما يسميه الفرنسيون بـ “لحظة-ذاكرة”Moment-mémoire . وتتبَّع اتساع النقاش داخل الوسط الجامعي حول إمكانيات وحدود وصعوبات كتابة تاريخ بلادنا القريب. إذ لم يجد الأكاديميون المغاربة بدّا من التفاعل مع الظرفية الجديدة، وترجم ذلك من خلال ندوتين رائدتين تكررت فيهما الدعوة إلى الانكباب على كتابة تاريخ المغرب القريب. كانت الأولى بعنوان: “وثائق عهد الحماية. رصد أولي” نظمتها الجمعية المغربية للبحث التاريخي يومي 29 و30 ماي 1995، وفيها كان التأكيد على أن أهم ما يميز الأرشيف المتعلق بفترة الحماية هو غزارته، وتنوعه وبالتالي فائدته الكبيرة للباحثين المغاربة. والندوة الثانية من تنظيم مجلة “هسبيريس-تمودا” بالرباط ما بين 28 و30 ماي من سنة 1998، وهمت إعادة التفكير في حقبة الحماية وضرورة الانغماس بقوة في دراسة هذه الفترة الصعبة في تاريخ بلادنا، لتدارك النقص الحاصل في الدراسات التاريخية عنها. وقد كان من مخرجاتها كذلك التأكيد على ضرورة الاستفادة من التقدم المنهجي الذي حققه علم التاريخ في الثلاثين سنة الأخيرة، في فرنسا، خاصة ما يتعلق باستثمار الرواية الشفوية والأعمال الأدبية والصور الفوتوغرافية في البحث في تاريخ الزمن الراهن.

وانكب الباحث في المحور الثالث على دراسة متغيرات مطلع الألفية الثالثة، التي تزامنت مع بداية عهد جديد بتولي الملك محمد السادس حكم المغرب سنة 1999، حيث ارتفعت حدة النقاش العمومي حول عدد من القضايا التي تهم حاضر ومستقبل البلاد مثل قضية الانتقال الديموقراطي، والقضية الأمازيغية، وحقوق الإنسان، والمرأة…

ولعل أهم ما ميز هذه المرحلة هو تفاعل المؤسسة الملكية مع عدد من الملفات الموروثة عن المرحلة السابقة، وكان في مقدمتها ملف حقوق الانسان، وتحديدا ملف ضحايا “سنوت الرصاص”، لتتأسس في يناير 2004 هيئة الانصاف والمصالحة، التي اشتغلت طيلة سنتين على تسجيل شهادات آلاف الضحايا وعرضها في قنوات الاعلام العمومي، وحصر حالات الاختفاء القسري، وتحديد مواقع التعذيب والمقابر السرية التي تم دفن معارضي النظام فيها. لتُصْدِر بعد ذلك تقريرها الختامي الذي تضمن توصيات عديدة نصت على ضرورة الاهتمام بتاريخ المغرب الراهن، ومراجعة تدريجية لمحتوى برامج مادة التاريخ ببلادنا، وتأسيس معهد خاص بتاريخ الزمن الراهن يتولى التوثيق والبحث والنشر حول الأحداث التاريخية المتصلة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. ومن جملة التوصيات كذلك إحداث مركز جامعي خاص بتاريخ الزمن الراهن، إلى جانب مؤسسة عمومية لحفظ الأرشيف.

كما شكل الملف الاقتصادي هاجسا كبيرا للدولة في بداية “العهد الجديد”، حيث فتح نقاش جماعي منذ سنة 2003 شارك فيه سياسيون وخبراء وأكاديميون، تم تعيينهم خصيصا لصياغة تقرير شامل ومفصل حول التنمية في المغرب طيلة خمسين سنة من تاريخ المغرب المستقل. وقد صدر التقرير النهائي سنة 2005، وبني على مفهوم “الإمكان البشري”، وطرح عددا من القضايا التي تثير تساؤلات وفضول مؤرخ الزمن الراهن، وتحفزه على إعمال المنهج التاريخي في دراستها من أجل استخلاص العوامل الظرفية والبنيوية المسؤولة عن تعثر مسيرة التنمية.

وتميزت بداية الألفية الثالثة كذلك بالانتشار الواسع للرواية التاريخية المتعلقة بتاريخ المغرب القريب، بفضل التعاطي المتزايد للصحافة المغربية مع قضايا ساخنة، وبفضل توالي إصدار الفاعلين السياسيين مذكراتهم. ولم تكن الجامعة المغربية، لتبقى بمعزل عن هذا النقاش، بل بادر المؤرخون إلى عقد عدة ندوات خلصت كلها إلى أن كتابة التاريخ القريب ممكنة، بل وضرورية. كانت أولها تنظيم مائدة مستديرة، في أبريل 2004 بمدينة مراكش، خصصت لموضوع “مذكرات الوطنيين المغاربة وإشكالية الزمن الراهن”، نشرت أشغالها في السنة الموالية، ضمن العدد الثالث من مجلة البحث التاريخي. وقد أجمع المتدخلون في هذا اللقاء على أن توظيف المذكرات في كتابة التاريخ القريب قبيل وبعد 1956 ممكن جدا وضروري. على أنه لا يجب الخلط بينها وبين التاريخ، وأن يتم التعامل مع المذكرات كأي مصدر تاريخي آخر يخضع للنقد والمقابلة مع المصادر الأخرى، وأن يتم الانتباه إلى حدوده المتمثلة في الذاتية، والنسيان، والسكوت المتعمد، وحتى الكذب.

ونظمت ندوة ثانية سنة 2005، كان موضوعها هو: “من الحماية إلى الاستقلال: إشكالية الزمن الراهن”، وصدرت ضمن منشورات كلية الآداب بالرباط سنة 2006. وكان الهدف منها التحفيز على الانخراط بقوة في إنتاج بحوث تاريخية غزيرة حول الحقبة الاستعمارية وما بعدها استجابة لتطلعات المجتمع، على أن يتم تنويع المصادر، وضمنها الذاكرة بكل تجلياتها التي تعد مصدرا جديدا لا محيد عنه، لكن شريطة أن يبقى التاريخ تاريخا والذاكرة ذاكرة. غير أن بعض المساهمين في أشغال هذه الندوة، أمثال الأستاذ عبد السبتي، وفيصل الشريف، لفتوا الانتباه إلى شرط أساسي لإنجاح تجربة كتابة تاريخ الزمن الراهن، قل ما يتم التطرق إليه، وهو حرية التعبير.

ومع تقديم تقرير الخمسينية للملك محمد السادس، وانتهاء أعمال هيئة الانصاف والمصالحة، وبروز مجموعة من الإشارات المشجعة على الاستمرار في الاهتمام بمناقشة إمكانية وضرورة كتابة تاريخ المغرب الراهن. تواترت اللقاءات الأكاديمية، ومنها لقاء بعنوان: “المغرب الكبير المعاصر: ثوابت وتحولات”، أشرفت عليه الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية، ما بين 30 مارس وفاتح أبريل 2006 في الرباط. ولقاء ثان حول “تاريخ المغرب الراهن” يوم 14 يوليوز 2007، من تنظيم المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، صدر في سنة 2013 ضمن منشورات المعهد تحت عنوان “المغرب والزمن الراهن”. ثم ندوة ثالثة في نونبر 2007، حول موضوع: “التاريخ الحاضر ومهام المؤرخ”، في كلية الآداب بالرباط. وتناولت عدة قضايا موضوعاتية ومنهجية تهم تاريخ الزمن الراهن كحقل اسطوغرافي جديد في بلادنا. ومن هذه القضايا: أهمية وفرص نجاح كتابة تاريخ الزمن الراهن، وصعوبات إدراج تاريخ الزمن الراهن في الحقل الأكاديمي المغربي كحقل إسطوغرافي قائم الذات، وعلاقة التاريخ بالذاكرة، ومسؤوليات المؤرخ، ثم ما يتعلق بالمقاربات والمصادر.

لقد كان على تاريخ الزمن الراهن أن يخوض نضالا طويلا في المغرب بحثا عن الشرعية العلمية داخل أسوار الجامعة المغربية. وقد ساهمت اللقاءات العلمية المتواترة في انحسار المد المعارض لكتابة التاريخ القريب، وزرعت الأمل في إمكانية كتابة تاريخ الزمن الراهن كتابة علمية تحترم الضوابط العلمية المتعارف عليها بين جماعة المؤرخين.  كما كان للعمل المؤسساتي دور مهم في هذه الدينامية، خاصة مع تصويت البرلمان المغربي في 30 نونبر سنة 2007 على القانون المتعلق بالأرشيف، وبعده تأسيس مؤسسة أرشيف المغرب التي ستناط بها مهمة صيانة التراث الأرشيفي الوطني، وتكوين أرشيف عام وحفظه وتنظيمه وتيسير الاطلاع عليه. ثم إحداث سلك الماستر في تاريخ الزمن الراهن بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط سنة 2011، وبعده تأسيس مركز الدراسات والأبحاث في تاريخ الزمن الراهن سنة 2013، الذي نشر أول إصداراته سنة 2015.

عموما يكشف هذا العمل على أن الدينامية التي عرفتها البلاد، أثرت على المؤرخين ودفعتهم إلى التعاطي معها وفق ما تمليه عليهم متطلبات منهج علم التاريخ.  فكان أن دشنوا حقلا جديدا في الدراسات التاريخية تعارف الباحثون على تسميته بتاريخ الزمن الراهن. لكن التراكم المحقق يبقى عملا محدودا ما لم يتسم بالاستمرارية في فتح نقاش معمق حول تاريخ الزمن الراهن في المغرب وواقعه وإشكالياته ومعيقاته وفرص ازدهاره. لاسيما وأن الطلب الاجتماعي المتزايد على معرفة ما جرى في العقود القليلة الأخيرة من أحداث لها تأثير كبير وعميق على الحاضر، يشجع على الانخراط في كتابة تاريخ الزمن الراهن. بيد أن هذا الطلب الاجتماعي يحمل المؤرخ مسؤوليات ثقيلة، إذ يظل هو الحامي للصرامة العلمية المبنية على النقد والمقابلة بين المصادر، في ظل الاهتمامات المتزايدة بهذه المرحلة وتعدد وسائط تناولها، وفي ظل الرهانات السياسية الكبرى.

- إبراهيم أيت إزي

باحث في التاريخ / مراكش

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.