السبت , 9 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » دراســات » ترجمة الأدب المغربي إلى الإيطالية: الوضع الراهن والتحديات

ترجمة الأدب المغربي إلى الإيطالية: الوضع الراهن والتحديات

يعطي عدد الـمُترجمين الذي يفوق الثمانين، في مقابل عدد دور النشر الذي يتجاوز الاثنين والثلاثين، الانطباع بأن الترجمة من العربية إلى الإيطالية مجال خصب يلقى اهتماماً واسعاً في إيطاليا. إلا أنه وبالرغم من التطور الملحوظ الذي عرفه إقبال إيطاليا على الأدب العربي ممثلاً بالنوع الروائي، كما تشهد على ذلك فهارس دور النشر والمجلات الأدبية، بحيث تُصنف إيطاليا ضمن البلدان الأوروبية الأكثر ترجمة من العربية بعد فرنسا وألمانيا وإسبانيا، فإننا عندما نقارن نسبة الترجمات الإيطالية من العربية، بنسبة الإصدارات العربية التي تستحق أن تُترجم وتُنشر نجدها نسبة ضئيلة؛ إذ إن نصيب العربية من الأعمال المترجمة إلى لغة دانتي سنويا لا يتجاوز سوى ٪0.11، بحسب الإحصائيات الواردة في تقريرٍ حول “البيانات الحالية لحركات الترجمة في المنطقة الأورو-متوسطية” خلال خمسٍ وعشرين سنة الماضية، في إطار ﻣﺸﺮﻭﻉ (Traduire en Méditerranée) “ﺍﻟﺘﺮﺟﻤﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺒﺤﺮ المتوسط” الذي ﺃﻃﻠﻘﺘﻪ ﻣﺠﻠﺔ ﺗﺮﺍﻧﺲ ﺃﻭﺭﻭﺑﻴﺎﻥ ﻭﻣﺆﺳﺴﺔ ﺁﻧﺎﻟﻴﻨﺪﺍ ﻷﻭﺭﻭ- ﻣﺘﻮﺳﻄﻴﺔ ﻟﻠﺤﻮﺍﺭ بين ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺎﺕ.

ويكاد إنتاج أغلب المترجمين ينحصر في العنوان الواحد الذي لا يمثل في الغالب سوى بحث تخرج المترجم في الدراسات العربية، مما ينتج عنه انعدام الألفة بين القارئ الإيطالي وبين كاتب عربي محدد يمكن أن ينتظر إصداراته أو أن يفهم أسلوبه أو توجه موضوعاته؛ فمع كل ترجمة جديدة تجد دور النشر نفسها مضطرة لأن تبذل جهداً كبيراً للتعريف بالكاتب الجديد، الشيء الذي يفوق إمكانيات الناشرين الصغار الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التعريف بالأدب العربي في إيطاليا. فالكتاب العربي المترجم يكاد لا يعلم بصدوره إلا القارئ المتخصص المتتبع الذي قد لا يجده في كل المكتبات الإيطالية، إن لم يُرسل في طلبه، نظرا لضعف التوزيع في غياب دعم مادي يُساند هؤلاء الناشرين في تغطية كُلفة الكتب العربية المُترجمة[1].

في غياب الاهتمام المطلوب بالثقافة والأدب العربيين في إيطاليا، نظراً لما عرفه التفاعل بين الثقافتين العربية والإيطالية من تأخر تاريخي راجع بالأساس إلى صعوبة عملية التفاعل بين الإيطاليين والعرب، والتي لم ينخرط فيها الطرفان بالشكل المطلوب. نرى أن الحاجة مُلحة لتسليط الضوء على هذا التفاعل الذي يرجع إلى عهد قريب، بخاصة من زاوية الترجمة الأدبية التي تستطيع أن تخلق تمثلات جديدة عن العالم العربي.

1- الأدب العربي في إيطاليا:     

أكد فرانتشيسكو سيتشيليا (Francesco Sicilia)، المدير العام للمكتب المركزي لثروة الكتب والمؤسسات الثقافية والنشر في إيطاليا، في تقديمه للكتاب الجماعي “الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية” الصادر سنة 2000 (ص. XI) أن «الثقافة الغربية معروفة في العالم العربي منذ قرون، أما ما قدّمه العالم العربي للحياة الثقافية في بلادنا فما يزال مجهولاً في إيطاليا. ويوما بعد يوم يتضح أن من يسلك سلوكاً منغلقاً يدفع الآخرين للاعتقاد بأن سلوكه هذا نتيجة رغبة في الانطواء والانزواء على النفس، وهذا يسري على كل جماعة بشرية سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية»[2].

تكمن أهمية شهادة سيتشيليا –بالنسبة لنا – في اعترافه من ناحية، بجهل إيطاليا عموماً بفضل الثقافة العربية الإسلامية عليها إلى حدود مستهل القرن الحادي والعشرين، وفي انتقاده من ناحية ثانية، لسلوكها الغريب تجاه التلاقح الثقافي العربي الايطالي. بخاصة وأن تاريخ الإمارات الإيطالية قبل توحيد البلاد تحديداً في صقلية (Sicilia) وجنوة (Genova) وفي إقليمي كامبانيا (Campagna) وبوليا (Puglia) إضافة إلى توسكانا (Toscana) يشهد بشكل جلي على التواجد العربي الفعال والمتفاعل في المجتمع الإيطالي، ويترجمه تأثير الفكر والفلسفة الإسلاميين وفن العمارة العربية الإسلامية.

وبالرغم من ظهور سلسلة من الأبحاث التي وثّقت للحضور العربي في إيطاليا، وفي مقدمتها المصنّف الذي أشرف عليه المستشرقان فرانتشِسكو غابريلي (Francesco Gabrieli) وأومبيرتو شِرّاطو (Umberto Scerrato) تحت عنوان “العرب في إيطاليا“(GliArabi in Italia : cultura, contatti e tradizioni, Garzanti, Milano, 1993)، فإن نوعية هذه المنشورات التي تُعنى بالعالم العربي ثقافة وتاريخاً وديناً تؤكد شهادة سيتشيليا بخلاف المتوقع. فإلى وقت قريب، كان ما يَصدُر حول العالم العربي من دراسات في إيطاليا، يُنتجه متخصصون «يقدمون ثمرة أبحاثهم للوسط الجامعي الضيق ولطائفة العلماء، فكانت مؤلفاتهم تُنشَر في سلاسل متخصصة بالأبحاث الجامعية ولم تكن تهتم عموماً بالوصول إلى جمهور أوسع»[3]. وهذا يعني أن مهمة التعريف بكل ما له علاقة بالعالم العربي وثقافته، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت منوطة بالأساتذة الجامعيين الذين كانت جهودهم في نقل الثقافة العربية محصورة في الفضاء الأكاديمي، بما في ذلك ترجمة الأدب التي واجهت تحديات كبيرة على رأسها الدور الكبير الذي لعبه المستشرقون الإيطاليون الأوائل في إعراض الباحثين الإيطاليين إجمالاً عن الأدب العربي بحجة أن هذا الأدب لا يرقى إلى مرتبة الأدب الغربي ولا يستحق الترجمة[4]. وقد كانت الترجمات الأولى التي تشكل استثناء لبعض الأعمال الأدبية العربية أقرب إلى الدراسات العلمية منها إلى ترجمات النصوص الإبداعية، حيث كان المتخصصون في الأدب العربي يستندون إلى الخلفية التاريخية والأدبية التي كان قد قدمها فرانتشيسكو غابرييلي في كتابه “تاريخ الأدب العربي” (Storia della letteratura araba, Milano, Academia, 1951).

نستدل على ضيق رقعة تداول الأدب العربي في إيطاليا بـ “سلسلة الأدب العربي المعاصر” (Collana di letteratura araba contemporanea) التي أشرف عليها المستشرق أومبرتو ريتسيطانو (Umberto Rizzitano) في نهاية سبعينيات القرن العشرين. فبالرغم من اندراج هذه السلسة في إطار مشروع طموح كان يسعى إلى التعريف بالأدب العربي المعاصر، فقد استهدفت الوسط الجامعي ولم يتعد إنتاجها، قبل أن تتوقف نهائياً، سوى ثلاث مختارات وجيزة: واحدة لكُتاب مصريين في سنة 1977، واثنتان في سنة 1979، واحدة للتونسي حمزاوي رشاد والأخرى للسوري زكرياء تامر.

وبالتالي، عندما يقول سيتشيليا «من يسلك سلوكاً منغلقاً يدفع الآخرين للاعتقاد بأن سلوكه هذا نتيجة رغبة في الانطواء والانزواء على النفس، وهذا يسري على كل جماعة بشرية سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية»، فهو يقصد تقصير إيطاليا في البحث عن فُرصِ التعريف بثقافات العوالم العربية وتقريبها للقارئ الإيطالي عن طريق الترجمات، ليس لأن هذا البلد منكمش على نفسه ثقافياً، بل لأنه يخص ثقافات أخرى غير عربية باهتمام أكبر. فكلماته تعبر بكل تلقائية عن لا شعورٍ جمعي يختزن فكرة الغرب الشوفينية التي تفترض أن الأدب الحق هو الأدب الغربي، والعلم الحق هو العلم الغربي؛ حيث لا تزال تسيطر على كثير من الغربيين فكرة تفوق كل ما هو غربي على ما سواه: ذلك أن «الغرب (هو) الذي يستأثر بكل التأثير، والآخرون (هم) الذين يفتقرون إلى القدرة على التأثير والتغيير»[5].

وبالفعل قد يجد الباحث في الشأن العربي في المكتبات الإيطالية عناوين تهُم مختلف المجالات المرتبطة بالفكر العربي والإسلام، إلا أنه في باب التعريف بمختلف الآداب العربية لن يعثر سوى على بعض المقالات المتناثرة في بعض المجلات القليلة التي تُعنى باللغة العربية وآدابها، وهي نفس المجلات التي أسسها المستشرقون الأوائل كمجلة “الشرق الحديث” (Oriente moderno) أو أخرى أحدثها مستعربون معاصرون ك “مجلة الأدب العربي”(La rivista di Arablit) التي تديرها المترجمة والآكاديمية إيزابيلا كاميرا دافليتو(Isabella Camera d’Afflitto). أما فيما يخص الكتب التي تُعنى بدراسة جوانب من هذا الأدب في شموليته أو في تفرعاته فنجدها شبه منعدمة.

إلا أن المستعربة والمترجمة الإيطالية إليزابيتا بارتولي (Elisabetta Bartuli) المهتمة بنشر الأدب العربي وترجمته، تُنبهنا إلى أن التقصير حاصل من الجهتين، فإذا أُريد للحوار البين- ثقافي أن يكون فعالاً ومجدياً فعلى الطرفين الغربي والعربي أن يعملا على رأب الصدع بأن يحاول كل منهما الإنصات للآخر عبر الأدب والسينما بشكل خاص، وعلى العرب – تحديداً – التوقف عن مطالبة الآخر الغربي بالاهتمام به دون بذل أي مجهود في سبيل تحقيق ذلك. فواقع الحال يُظهر أن من يدعم ترجمة وانتشار أدبه في إيطاليا وأوروبا عموماً، يفوز بتعاطف القراء ويخلق جمهوراً مسانداً لأفكاره ومشاريعه، بل وينجح في إقناعهم بالصورة التي يريدهم أن يروه بها. ويشكل أدب إسرائيل الذي يحضر بقوة في إيطاليا مثلاً وعبرة بحسب بارتولي، فهو بفضل الدعم الإسرائيلي، أكثر ترجمة وأكثر انتشاراً وأكثر تأثيراً[6]مقارنة بالأدب العربي. ولعل هذا ما دفع المستعربة والمترجمة يولاندة غواردي – المتخصصة في الأدب الجزائري – إلى التقليل من أهمية كثير من المشاكل التقنية والثقافية التي يعاني منها الأدب العربي في إيطاليا مقارنة بآداب أخرى، لتعتبر أن «المشكلة الحقيقية التي تواجِهُ ترجمة الأدب العربي هي غِياب دَوْر مؤسسات مخصّصة للدعم والترويج والتخطيط والتنظيم لعملية الترجمة في العالم العربي عموماً»[7]. ومن هنا نفهم تصريح كاميرا دافليتو: إن «العرب أبطال في إضاعة الفرص»[8]، كرد فعل على توقف سلسلة “ذاكرات المتوسط”، بعد مرور ستة أعوام فقط من انطلاقها، لعدم وجود من يدعم هذا المشروع الثقافي الطموح في غياب سياسات ثقافية حكومية عربية واضحة المعالم. فقد أُطلقت هذه المبادرة الثقافية (“ذاكرات المتوسط”) في 1994 بدعم من المؤسسة الأوروبية للثقافة بأمستردام (European Cultural Foundation)، وبفضل هذه السلسة تم إصدار ترجمات للعديد من النصوص العربية، روايات أو سيرذاتية، بشكل متزامنٍ في ثمان لغات أوروبية (الإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، والكطلانية، والسويسرية، والبولونية). وقد كانت عملية اختيار النصوص العربية مُسندة إلى مجموعة من المتخصصين الأوروبيين (من إيطاليا نجد: إيزابيلا كاميرا دافليتو). وقد كان الإنتاج المغربي حاضراً ضمن هذه السلسلة بعنوانين: “مثل صيف لن يتكرر” لمحمد برادة، و”سفر التكوين” لعبد الكريم غلاب.

تقف عوائق كثيرة، إذن، في وجه ترجمة الأدب العربي في إيطاليا. وبفضل مبادراتٍ ومجهوداتٍ فردية لأكاديميين مستعربين مشتغلين في حقل الترجمة، معززة أحياناً بعلاقات شخصية تجمعهم بالكاتب أو بالناشر، وبفضل محاولة بعض دور النشر الإيطالية مسايرة ما يروج في العالم، واقتناص ما يمكن أن يُثير القارئ الإيطالي، إضافة إلى بعض المشاريع المؤسساتية التي شرعت مؤخراً في تبني أهداف محددة ضمن خطة واضحة، في التعامل مع ترجمة الآداب العربية كسلسلة “ذاكرات المتوسط” السالفة الذكر، تكوّن في الساحة الثقافية الإيطالية رصيد من الأدب العربي المترجم إلى الإيطالية، يحتاج إلى أن يتم تناوله بالدراسة والتحليل. فمنذ 1997 وإلى حدود 2007 على سبيل التمثيل، راكمت الترجمة من العربية إلى الإيطالية حوالي مائة وسبعة وثمانين عملاً مختلفاً. فقد أمكن تصنيف إيطاليا من بين البلدان الأكثر ترجمة من العربية، رغم أن نصيب العربية من الأعمال المترجمة إلى لغة دانتي سنويا لا يتجاوز (0.11%) كما ذكرنا، مع العلم أن هناك ترجمات سابقة ولاحقة لهذه الفترة التي تغطيها الإحصائيات، بخاصة في المجال الأدبي.

وعندما نتأمل في الانتماءات الجغرافية للأدب العربي المترجم إلى الإيطالية نلاحظ بوناً شاسعاً بين ما تمت ترجمته من بلدان المشرق العربي، وبين ما ترجم من البلدان المغاربية. فبخلاف دول المشرق[9]، التي راكمت قرابة ثلاثة أرباع ما تمت ترجمته من العربية إلى الإيطالية، ويصل اليوم إلى ما يزيد عن ثلاثمائة عمل مُتَرجم، نجد أن حظ الدول المغاربية لا يزال ضئيلاً جداً، وذلك راجع لأسباب عديدة، منها أن دُورَ النشر الإيطالية لا تزال تعتبر الإنتاج الأدبي المغاربي – الروائي خصوصاً- المكتوب بالفرنسية “مرآة” تعكس ثقافات البلدان المغاربية وفكرها؛ ومن جهة أخرى لأنها تؤمن، إلى حد ما، بالفكرة التي سوق لها المستشرقون الأوائل ومفادها أن المشارقة أكثر عروبة من المغاربيين وأن المشرق هو معقل ومنشأ النهضة العربية الحديثة.

لقد ساهمت في تكون هذه الفكرة العلاقات التاريخية التي جمعت إيطاليا بمصر خصوصاً –وبمنطقة المشرق عموماً – التي اتخذت من اللغة الإيطالية لغة رسمية للبلاد في عهد حُكم “محمد علي”، كما أنها كانت أول بلد عربي يدرس هذه اللغة في جامعاته؛ ورسخها (الفكرة) حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب عام 1988. فبالرغم من أن هذه الجائزة عادت بالنفع على مختلف الآداب العربية، حيث شجعت دور النشر الغربية عموماً، على الالتفات إلى الإبداع العربي ونقله إلى اللغات الغربية؛ إلا أنها «ضربت حصاراً جديداً على الأدب العربي الحديث، يتمثل في تركيز دور النشر الغربية على الأسماء العربية الكبيرة ضمانا للربح، الشيء الذي يكرس تراتبية الإنتاج في البلدان العربية»[10]. نلمس هذه التراتبية أيضاً في الدراسات التي تتناول تطور الحركة الثقافية في المشرق والمغرب بغاية التعريف بتاريخ الأدب العربي عموماً.

وإذا كنا نعترف بأن المشرق العربي قد سبق الدول المغاربية في ولوج الزمن الحديث، وأسس للنهضة الأدبية والفنية والاجتماعية العربية، فإننا نثير الانتباه في المقابل إلى مدى قدرة مثقفي المغرب العربي على طي المسافة بينهم وبين نُظَرائهم المشارقة، حيث استطاعوا تمثل التيار النهضوي وأبدعوا في تلاقحٍ يَمتحُ من ماضيهم وتراثهم بتعدد مشاربه ويُظهِر تأثرهم بالغرب من جهة، وانفتاحهم على المشرق، من جهة أخرى، بخاصة في الميدان الأدبي. إلا أنه عندما يتم تقديم المشرق العربي، ممثلاً في مصر إضافة إلى سوريا ولبنان، على أنه «مهد النهضة العربية»[11]ومركز الإشعاع الثقافي والأدبي في العالم العربي، تقديماً عميقاً ومُسهباً في غيابٍ لدراسة واحدة مستفيضة حول مدى تَمثل بلدان المغرب العربي لثقافة النهضة، ومدى مساهمة مثَقّفيها في تطوير التيارات الأدبية في العالم العربي، تَرتسِم في ذهن القارئ الإيطالي، ملامح صورة تُرَسخ ثنائية المركز والهامش بين المشرق والمغرب العربيين: مشرق “متقدم/ رائد” ومغرب “مُتخلف/ تابع”.

وللتعريف بالنهضة الثقافية والأدبية في المغرب العربي، لا يمكن أن نكتفي بتتبع الجرائد والمنشورات الإخبارية، بل يجب التوغل في أعماق النسق الثقافي والأدبي، والوقوف عند أهم ما ميز البدايات الأولى للثقافة المغاربية الحديثة، وكيف تطورت في كل بلد مغاربي على حدة؛ حتى يتسنى للقارئ الإيطالي متخصصاً كان أم هاوياً أن يتعرف عن كثب على ما قدمته النماذج المغاربية للكتابة الأدبية العربية عموماً والكتابة الروائية خصوصاً.

2- ترجمة الرواية المغربية إلى الإيطالية:

يستوجب منا التركيز على النموذج المغربي في علاقته بالوسط الثقافي الإيطالي رصد العلاقة التي جمعت هذا القطر العربي بإيطاليا في العصر الحديث، والصورة التي كونها الإيطاليون عن المغاربة وثقافتهم بناءً على ما جاء في بعض كتُب الرحالة الذين زاروا المغرب واحتكوا بسكانه، وذلك بهدف إضاءة وضعية الترجمات الإيطالية للرواية المغربية، ومدى قدرتها في الوقت الراهن على خلق تفاعل ثقافي إيجابي والمساهمة في الدفع بعجلة المثاقفة إلى منحى التقبل واللقاء.

أ- صورة المغرب في إيطاليا:

تعود العلاقات الإيطالية المغربية إلى ما يناهز عشرين قرنا من الزمن، إذ يمكن اعتبارها – بحسب بهيجة السيمو (2003، 121) – من أقدم العلاقات التي جمعت المغرب بأوروبا، لأن التواصل الحضاري بين البلدين ظل قائماً ومستمراً في جميع المراحل التاريخية؛ كما ساهمت التجارة بين المغرب والدويلات الإيطالية منذ العصر الوسيط وإلى حدود بدايات القرن التاسع عشر في توطيد هذه العلاقة المتوسطية[12].

إلا أن نوعية حضور المغرب في مُؤلّفات بعض الكتاب الإيطاليين في العصر الوسيط تؤكد أن هذا الجزء من العالم العربي ظل شبه مجهول لدى عموم الإيطاليين من حيث عاداته وتقاليده وطبيعة سكانه وجغرافيته، فقد كان دائما يوصف بالغموض والبعد عن أوربا، وعندما يتم ذكره يكون من خلال إشارات عابرة كما هو الشأن عند دانتي أليغييري (Dante Alighieri) في “الكوميديا الإلهية” (La divina commedia) أو فرانتشيسكو بيتراركا (Francesco Petrarca) في “الكنصونييري” (Il canzoniere) أو جوفاني بوكاتشو (Giovanni Boccaccio) في “الديكامرون” (Decameron)، أو طور كواطو طاسو (Torquato Tasso) لاحقا في “القدس المحررة” (Gerusalemme liberata).

وفي الزمن الحديث والمعاصر، اتخذت العلاقات المغربية الإيطالية أبعاداً أخرى. ففي مرحلة حكم السلطان العلوي المولى الحسن، كان المغرب يعيش مرحلة ضعف سياسي وعسكري، ولتفادي السقوط في أيدي القوى الاستعمارية التي كانت تسيطر على معظم البلدان العربية (وفي مقدمتها فرنسا)، نهج سياسة تنويع العلاقات مع البلدان الأوربية، فكان أن حاول توطيد علاقات المغرب مع إيطاليا كشريك اقتصادي وعسكري، يمكن أن يساعد المغرب على تجاوز الأزمة الداخلية، في إطار حزمة من الإصلاحات التي سنها السلطان. من هنا تم تبادل البعثات السفارية والديبلوماسية مع إيطاليا، وتم تكليفها بإنشاء مشاريع حساسة على أراضيه. وقد صاحبت هذه البعثات الدبلوماسية والعسكرية شخصيات مدنية لم يكن حضورها جميعاً إلى المغرب بدافع سياسي، لكن المؤلفات التي أنتجتها حملت طابعا سياسياً تربصياً يرصد دقائق الأمور في المغرب، ويصف بعمق شديد هذا البلد الذي كان لا يزال يلفه الغموض في مختلف ربوع أوروبا.

من بين هذه النصوص التي كُتبت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نجد مؤَلفات تحيل عناوينها مباشرة على المغرب، مثل كتاب كرابير دي هامسو (Graberg De Hemso)- الذي عاش في المغرب ما بين 1815 و1822– تحت عنوان “المرآة الجغرافية والإحصائية لإمبراطورية المغرب” في 1834 (Specchiogeografico e statisticodell’impero di Marocco)، وكتاب “المغرب” (Marocco) لإدموندو دي أميتشس (Edmondo de Amicis) الصحفي الذي رافق سفارة سكوفاصو (Scovasso) إلى المغرب سنة 1875 ودون رحلته التي دامت حوالي شهرين في 1886. من الكتاب الذين استقروا، كذلك، بالمغرب مدة طويلة مكنتهم من التوغل في المجتمع المغربي والتقرب من المغاربة، نذكر لينا مادالينا تشيزوتي فيرارا (Lena Maddalena Cisotti-Ferrara) التي عاشت في فاس من 1897 إلى 1911، وألفت كتاب “بالمغرب، ذكريات شخصية لحياتي الخاصة” (Nel Marocco, Ricordipersonali di vita intima) الذي نشرته مباشرة بعد عودتها إلى إيطاليا سنة 1912.

وبما أن مرحلة ضعف المغرب تزامنت مع توحيد إيطاليا (1861) وبحثها عن سبل التوسع خارج حدودها في محاولة لاسترجاع أمجاد الإمبراطورية الرومانية، أخذ مسار هذه العلاقات يتغير ليتماشى مع خطط السياسات الأوربية الاستعمارية. من ثم شرعت إيطاليا في تغيير أهدافها من أجل الاستقرار في المغرب كقوة استعمارية على غرار فرنسا وإسبانيا، وتسخير مبعوثيها لهذا الغرض. مثلما يدل على ذلك مثلا إرسال دي أميتشيس ضمن بعثة ستيفانو سكوفاسو(Stefano Scovasso) الدبلوماسية إلى المغرب ليكشف النقاب عن هذا القطر الذي كان لا يزال مجهولاً في نظر القادة السياسيين الأوروبيين عموماً والإيطاليين تخصيصاً. فهو صحفي متمرس على كتابة الرحلة وسبق له أن كتب عن عدة بلدان زارها ضمن بعثات سابقة كفرنسا، وهولندا، وإسبانيا، وتركيا، مشهود له بالوطنية خاصة بعد صدور كتابه “الحياة العسكرية” (La vitamilitare).

جاءت مثل هذه المؤلفات، إذن، في إطار دعم مشروع التوسع الخارجي لإيطاليا في ظل وحدتها الوطنية. حيث كانت تسعى لإقناع الإيطاليين بالدور الحضاري والإنساني الملقى على عاتقهم في توعية وتثقيف شعوب الضفة الأخرى بما فيها المغرب. ذلك البلد الغامض القريب من أوروبا جغرافيا والبعيد عنها ثقافياً ودينياً، كما وصفه المستشرق جوسيبيغا بريلي في سنة 1906.

وقد لاقت هذه الكتابات، التي لم تنقل الصورة الحقيقية للمغرب بل حاولت تشويهها، لأن كل كاتب كان يصور هذا البلد من منظوره الخاص، انتشاراً واسعاً في إيطاليا وأوروبا.

ففي كتاب “المغرب”، الذي تُرجم إلى الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، وإلى غيرها من اللغات الغربية، باعتباره يصور الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمغرب آنذاك، بأسلوب أدبي جعله يكون سباقاً في هذا النوع من التأليف، اختزل دي أميتشيس المغرب في إطار جغرافي ضيق ارتبط بالأماكن والمدن التي تنقلت فيها البعثة السفارية التي كان فرداً منها، حيث كان محكوماً بتتبع الخط الرابط بين طنجة وفاس العاصمة. كما أنه تطرق بتفصيل لمواضيع يتطلب فهمها واستيعابها مدة وقرباً أكبر من الحياة المغربية، كاختلاف الأعراق وعلاقة المرأة بمحيطها، مع العلم أن فترة إقامته بالمغرب كانت قصيرة ولا تسعفه في فهم المغاربة، واستيعاب طريقة تفكيرهم والتعرف على ثقافتهم.

وبالتالي فهو لم يكن محايداً في وصفه للمغرب ولم يصوره على حقيقته بحسب الباحثة الإيطالية أنجليكا بالميجياني، حيث اعتمد على أسلوب المقارنة المبني على ثنائية الهامش والمركز في نقله لصورة المغرب والمغاربة، لأنه كان ينظر إلى هذا العالم على أساس أنه متخلف وهمجي وبعيد كل البعد عن الحضارة الغربية/الإيطالية التي ينتمي إليها الكاتب، مما يرسخ هامشية هذا القطر العربي/الإفريقي في مقابل مركزية إيطاليا كدولة أوروبية متقدمة، خاصة مع استعماله للغة تحقيرية تساهم في ترسيخ صورة سلبية عن المغرب[13].

إذا كان دي أميتشيس من موقعه كرجل أجنبي وغير مسلم، لم يتمكن من التوغل في ثنايا المجتمع المغربي آنذاك، ولم يسمح له عمله ومكان إقامته بالمغرب ومدتها، بالتعرف على هذا البلد عن كثب، حيث اكتفى بما التقطه من مشاهد وما زاره من أماكن مكملاً وصفه انطلاقا من حكايات وشهادات من كان يلتقيهم، فإن لينا مدلينا فرارا كانت أوفر حظاً في اكتشاف أسرار المغرب. بخاصة أنها كانت امرأة وتتمتع بوضع اعتباري مرموق (زوجة رئيس البعثة الإيطالية القبطان فرارا) مما مكنها من ولوج منازل الأعيان والاختلاط بالنساء المغربيات، والتعرف عن قرب على الثقافة المغربية وعادات المغاربة، فركزت على مواضيع حساسة أهمها وضعية المرأة واليهود في النسيج المجتمعي المغربي لتلك الحقبة.

وبما أنها لم توكل لها أي مهمة رسمية ضمن البعثة التي جاءت ضمنها، وعاشت في المغرب قرابة تسع سنوات اكتسبت كتابتها “مصداقية” أكثر عند القراء الإيطاليين. مع العلم أنها كتبت رحلتها بعد عودتها إلى وطنها مرتكزة على مخزون الذاكرة ومستعينة بالرسائل التي كانت تبعثها لأهلها في إيطاليا، بإيعاز من نفس الناشر ترفس (Treves) الذي أصدر كتاب دي أميتشس عن “المغرب“.

واللافت للانتباه في الصورة التي رسمتها فرارا للمغرب في كتابها، بحسب محمد مخطاري، هو طابعها الثابت، بمعنى أن الكاتبة ظلت محتفظة بنفس الانطباع السلبي عن المجتمع المغربي الذي جاءت به من نابولي إلى فاس كمجتمع متعصب يملأه التخلف والتزمت، والإنسان المغربي ليس في مستوى الإنسان الغربي، إذ تطغى عليه الغريزة الحيوانية، ويفتقد للإنسانية الغربية؛ حيث يقودها «الإحساس بالتعالي والتفوق وعدم مساءلة الذات والاكتفاء بالانزواء للأحكام المسبقة […]. وكلما عثرت […] على شيء إيجابي في المجتمع المغربي، […] عمدت إلى قلب الصورة جاهدة في البحث عما يشوش على جماليتها من تفسيرات وتشويهات»[14]. الأمر الذي يؤكد ملاحظة جوسيبي غابريلي (Giuseppe Gabrieli) والد المستعرب الإيطالي الشهير فرانتشيسكو غابريلي في بداية القرن العشرين (1906) في مقال له حول المغرب بعنوان “بعض آخر الإصدارات حول المغرب” (Alcune recenti pubblicazioni sul Marocco)؛ فرغم قرب المسافة، فإن هذا البلد يكاد يكون مجهولاً تماماً عند الأوروبيين/ الإيطاليين، لأن المشكل، في تقديره، لا يكمن في الحواجز الطبيعية، بل في حواجز دينية وسياسية.

هذه هي إذن بعض ملامح الصورة التي رسمها الرحالة الإيطاليون عن المغرب وسكانه، وهي لا تكاد تختلف في شيء عن الصورة التي شكلتها الكتابات الاستشراقية عن العالم العربي والإسلامي عموماً. وبسبب تكريس هذه الحكايات المغرضة الموروثة عن زمن ليس بالبعيد، فإن عملية ترجمة الأدب المغربي الحديث والمعاصر إلى الإيطالية تجد نفسها في تحدٍ يفرض عليها قلب وتغيير هذه النظرة السوداوية التي سكنت المخيال الجمعي الإيطالي.

ب- ترجمة الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية:

يتميز الإنتاج الروائي المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية، بحظوة خاصة وانتشار واسع في إيطاليا مقارنة بنظيره المكتوب بالعربية. فمعظم كبار الروائيين- المنحدرين من منطقة شمال إفريقيا، الذين يبدعون باللغة الفرنسية – المدعومة إيديولوجياً ومادياً وإعلامياً- ينشرون إبداعاتهم في دُورِ نشر كبيرة، توزع منشوراتها في مناطق كثيرة في أوروبا، وتربطها علاقات شراكة قوية مع كبار الناشرين في إيطاليا، وبخاصة دار لوسوي (le seuil) ودار لارماتان (L’Harmattan) التي تمتلك فرعاً في إيطاليا. استناداً إلى هذا الواقع، نجد تأثير الذوق الفرنسي قوياً في عملية اختيار النصوص المغاربية للترجمة إلى الإيطالية. إذ إن ناشرين كبار من حجم إيناودي (Einaudi) وفيلترينيلي (Feltrinelli) وبومبياني (Bompiani) ممن لا يُغامرون عادةً في التعريف بالأدب العربي، ينخرطون في نشر وتوزيع أعمال الطاهر بن جلون المترجمة إلى الإيطالية، على سبيل المثال لا الحصر. وللإشارة فأن روايات هذا الكاتب المغربي بالذات تُعتبر الأكثر ترجمة من بين الروايات المغربية – بما يزيد عن عشرين عنواناً- وهي تُحقق نسب مبيعات مُرتفعة في إيطاليا، متبوعاً بإدريس الشرايبي بما يفوق العشر روايات.

لا يخفى أن أمثال هؤلاء الكتاب المغاربة المشهورين قد يُبدعون رواياتٍ ذات قيمة فنية وجمالية عالية، إضافة إلى أنهم قد يتناولون أحداثاً وشخوصاً وأماكن عربية، إلا أن اختيار اللغة التي يُتَرجَمُ منها، له تأثير على تلقي الثقافة العربية من طرف القارئ الإيطالي وعلى تمثله لـ “الهوية العربية”، بخاصة وأن من عادة دور النشر الأوروبية اختيار روايات تستجيب لتطلعات القارئ الغربي عموماً، لأنها تستثمر في نصوصٍ «سهلة ومفهومة» بتعبير كاميرا دافليتو، باعتبارها مكتوبة بلغة أوروبية قريبة ومعروفة.

تقدم الروايات المختارة وترسخ في المجمل تلك الصور النمطية العزيزة والمحببة عند الغربيين والتي توقظ فيهم الحنين إلى مرويات أسلافهم المستشرقين عن العالم العربي الشرقي. كما يتم تصوير البيئة العربية كمسرح للعنف والتطرف الديني، حيث الطفولة البئيسة والمرأة المسلوبة الحرية والحقوق. بل إن الترجمات الإيطالية للروايات التي تزخر بهذه المشاهد، كما هو حال كثير من النصوص المغاربية، تلقى دعماً فرنكوفونياً.

نخلص مما سبق، أن الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية تعد منافساً قوياً للرواية المغربية المكتوبة بالعربية في إيطاليا، فقد أثبتت نجاحها، وحطمت أرقاماً قياسية في نسب المبيعات بسبب العوامل المذكورة وبسب الدعم الفرنسي لها. فقد لاحظت يولاندة غواردي مُستغربة أثناء تحليلها وضعية الأدب الجزائري الـمُترجم في إيطاليا كيف «أنّ بعض الترجمات نُشِرت بمساهمة وزارة الثقافة الفرنسية و/أو وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية (!) وهذا ما يعدّ نوعا من الاستعمار الثقافي»[15]. ومن بين التفسيرات التي يتم بها تعليل الدعم الفرنسي لترجمة روايات مغاربية مكتوبة بالفرنسية، هو محاولة إيهام المجتمع الدولي أن لغة الثقافة والفكر في البلدان المغاربية هي الفرنسية، وليست العربية، خصوصاً وأن مقدمات بعض الترجمات تُسوّق فكرة أن اللغة العربية لغة هامشية فُرضت بالقوة على سكان هذه البلدان.

أما فيما يخص تصنيف هذه الترجمات فيختلف باختلاف الناشر. إذ يمكن أن نجد بعض العناوين تحت مسمى الأدب المتوسطي: العالم العربي وإسرائيل، كما يمكن أن نجد عناوين أخرى باسم الأدب الإفريقي أو أدب الجنوب.

 ج- ترجمة الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية:

عندما نتحدث عن الأدب المغربي المكتوب بالعربية، نلاحظ قلة عدد الترجمات الإيطالية في ظل ندرة وشبه غياب للدراسات التي من شأنها التعريف بهذا الأدب، وإعطاء صورة واضحة عنه، ومَوضَعتُه في سياق ثقافته الأصلية؛ إذ لا يكفي أن نجد فصلاً من كتاب، أو مقالاً حول الأدب المغربي لأنه غالباً ما يكون قد نُشر بمناسبة علمية أو ربما بالصدفة، مما يجعل مثل هذه المنشورات بدون فعالية أو تأثير. ومن الغرابة بمكان أن يلُف الصمت ثقافة هذا البلد الذي تَفِد منه ثاني أكبر جالية من المهاجرين في إيطاليا. فالمغاربة، بثقافتهم وتاريخهم وهويتهم الإيطالية المغربية، أصبحوا جزءاً من النسيج المجتمعي الإيطالي: يساهمون من دون شك في بناء إيطاليا اقتصادياً، لكن حضورهم في هذا البلد الأوروبي ككيان ثقافي يكاد ينعدم. لا يعرف الإيطاليون عن المغرب وثقافة أبنائه أكثر مما تُسوِّق له المنابر الإعلامية، شأنه في ذلك شأن كثير من البلدان العربية التي تقيم جالياتها في إيطاليا، مما دفع المتخصصة في الدراسات العربية والإسلامية بيانكا ماريا سكارتشا أمورِتّي (Biancamaria Scarcia Amoretti) -في مساهمتها في الكتاب الجماعي “الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية” السالف الذكر -إلى الاستغراب من كون «وجهة نظر المعنيين بالأمر، وهم العرب المسلمون، لا تظهر إلا فيما ندر» (ص. 20).

وإذا كانت جائزة نوبل التي فاز بها نجيب محفوظ  قد عبدت الطريق نسبياً لإقبال الإيطاليين على ترجمة الأدب المشرقي، حيث يحظى هذا الأدب في إيطاليا “بنصيب الأسد” من مجموع الترجمات الإيطالية من العربية، فإن هذه الجائزة قد عادت ببعض الفائدة أيضاً على الأدب المغربي حيث تعد من بين الأسباب الكامنة وراء بداية الاهتمام الإيطالي بالأدب المغربي، فمباشرة بعد جائزة نوبل صدرت ترجمتان للمغربي محمد شكري سنة 1989: “مجنون الورد” عن العربية من إنجاز المترجم التونسي صلاح متهناني، و”الخبز الحافي” عن الفرنسية للمترجم الإيطالي ماريو فورتوناتو (Mario Fortunato). ليُسدِل القرن ستاره على ترجمة ثلاثة أعمال أخرى لشكري على يد ماريا أفينو (Maria Avino): “زمن الأخطاء” (1993) و”جان جنيه، وتينيسي وليامز في طنجة” (1995) و “السوق الداخلي” (1997).

في العشرية الأولى وبداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة رأت النور ترجمات لخمس روايات مغربية فقط، وهي: “بيضة الديك” لمحمد زفزاف (2000)، و”سفر التكوين” لعبد الكريم غلاب، متزامنة مع ترجمة “مثل صيف لن يتكرر” لمحمد برادة (2001)؛ وبعدها بست سنوات سيقع الاختيار على رواية “العلامة” لبنسالم حميش، ثم ستمر خمس سنوات أخرى لتظهر ترجمة “القوس والفراشة” لمحمد الأشعري في 2012.

يحيل ارتباط بداية اهتمام الإيطاليين بالرواية المغربية بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل إلى علاقة المستعربين الإيطاليين الذين يشكلون قلة كما أسلفنا، بالمشرق. فهم ممن تعلموا العربية في المشرق العربي، ولهم علاقات وطيدة مع المثقفين المشارقة؛ الشيء الذي ينعكس على اختياراتهم لنصوص ترجماتهم. وهذا يعني أن عملية اختيار الروايات المغربية عموما، تأتي كتكملة للمشهد، كما أنها تتسم بالصدفة وتخضع للعلاقة الشخصية التي تربط المترجم بالكاتب كما هو الشأن مع ترجمة “مجنون الورد” لمحمد شكري. وذلك في ظل حداثة اهتمام الجامعة المغربية والمثقفين المغاربة بالثقافة الإيطالية الذي يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وهو ما لم يسمح بالتعريف بالأدب المغربي والترويج له بين المثقفين الإيطاليين المهتمين بالأدب العربي، بخلاف الجامعات المصرية التي تُعتبر من بين أقدم المراكز لتدريس اللغة والأدب الإيطاليين في العالم العربي ككلية الألسن، وعين شمس على سبيل التمثيل.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن أغلب ما تمت ترجمته من الأعمال المغربية إلى الإيطالية هو عبارة عن روايات حصلت على جوائز قيمة مثل روايتي “العلامة” و “القوس والفراشة“، أو نصوص ساهمت ترجماتها إلى لغات غربية في التعريف بها كأعمال محمد شكري؛ إذ نلاحظ أن لا أحد من المترجمين الذين اختاروا ترجمة نص مغربي أعاد ترجمة كتاب آخر لنفس المؤلف أو لمؤلف آخر، باستثناء ماريا أفينو التي ترجمت ثلاثة أعمال لمحمد شكري في التسعينيات، وباولا فيفياني التي ترجمت رواية واحدة لكل من بنسالم حميش ومحمد الأشعري.

 

————————————————-

هوامش:

 

[1] -Isabella Camera D’Afflitto, « L’Italie découvre la littérature arabe: est-ce grâce à Mahfouz? » in : La recepción de la literatura árabe contemporánea en Europa, Escuela de traductores, Cuadernos número 2, Toledo, 1999, p. 22

انظر أيضا: حوار مع الفلسطيني المقيم في إيطاليا وسيم دهمش المترجم والمسؤول عن دار النشر كوQ:

Simonetta Lambertini, Intervista a Wasim Dahmash Edizioni Q, seconda parte, 20 marzo 2017.

https://invictapalestina.wordpress.com/2017/03/20/edizioniq/amp/

[2]– فرانتشيسكو سيتشيليا، تقديم الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية، مؤسسة الدولة للطباعة والصك، إعداد إيزابيلا كاميرا دافليتو، إعداد الطبعة العربية وسيم دهمش، روما 2000، ص. XI.

تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر باللغة الإيطالية بدعم من وزارة الثقافة الإيطالية، وتم تعريبه. يضم مقالات تتناول مختلف الجوانب التي أثارت اهتمام الناشرين الإيطاليين في الثقافة العربية الإسلامية. كما استأثرت النسخة الإيطالية من الكتاب، بقائمة شاملة لكل ما نشر حول العرب والإسلام في مختلف المجالات، من ترجمات ودراسات في إيطاليا إلى حدود تاريخ صدوره. انظر:

AA.VV, La presenza arabo-islamica nell’editoria italiana, a cura di Isabella Camera d’Afflitto, Istituto poligrafico e zecca dello stato, Roma, 2000.

[3] – إيزابلا كاميرا دافليتو، في تمهيدها للكتاب الجماعي الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية، مرجع سابق، ص.5.

[4]-Isabella Camera D’Afflitto,«L’Italie découvre la littérature arabe: est-ce grâce à Mahfouz? », op.cit.

[5]– كيشور مهبوباني، التلاقي العظيم.. آسيا والغرب ومنطق العالم الواحد، ترجمة: أميرة نويرة، تقديم: إسماعيل سراج الدين، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية، 2014، ص. ب.

[6]– ياسين عدنان، حوار مع المستعربة الإيطالية إليزابيتا بارتولي (أبحث عن نصوص تنصف الأدب العربي)، ضمن الشارقة الثقافية، ع. 1، 2016، ص.13-14.

[7]– يولاندة غواردي، القصة القصيرة النسوية في قطر بين الترجمة والدراسة من منظور النقد الاجتماعي، مداخلة ألقتها عن بعد ضمن سلسلة محاضرات قطر 2020. انظر: (https://youtu.be/S3g1SpGDoXo ). نشكر الأستاذة يولاندة غواردي بجامعة طورينو لأنها أمدتنا بنسخة مكتوبة لهذه المحاضرة.

[8]– حوار أجرته معها مجلة «مسارات» خلال زيارتها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، للمشاركة في الدورة الثالثة لملتقى الشارقة للرواية تحت شعار: (صورة الأنا والآخر في الرواية). انظر: (https://www.albayan.ae/paths/books/2008-08-10-1.664482).

انظر أيضا: إيزابيلا كاميرا دافليتو، “لا أحد يهتم بالأدب العربي“، أجرى الحوار وعربه عن الإيطالية: رضا بن صالح، في “الحياة الثقافية”، عدد 136، 2002.

[9]– بخاصة مصر التي أرّخت لمرور قرن من التفاعل الثقافي مع إيطاليا عن طريق الترجمة، بإصدار قائمة مُفصلة لكل ما تُرجم في المجال الأدبي من العربية في إيطاليا، وما تُرجم من الإيطالية في مصر منذ 1900 إلى 2009 (فالترجمات الأولى للروايات المشرقية تعود إلى 1944، على عكس ترجمات الروايات المغاربية التي ارتبط ظهورها في إيطاليا بتاريخ حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل). صدرت هذه القائمة على شكل كتاب يضم تعريفات بالكُتّاب المعنيين بالترجمة، إضافة إلى مُلخصات مُقتضبة للأعمال المترجمة. وقد تزامن هذا الإصدار مع مناسبة اختيار مصر كضيف شرفي في المعرض الدولي لطورينو بإيطاليا سنة 2009، كأول بلد عربي يحظى بهذا الشرف. انظر:

AA.VV, Italia-Egitto: un secolo di letteratura, a cura di Isabella Camera d’Afflitto, Centro per il libro e la lettura, Roma, 2009.

[10]– فاتحة الطايب، الترجمة في زمن الآخر: ترجمات الرواية المغربية إلى الفرنسية نموذجاً، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2010، ص. 151.

[11]-Isabella Camera d’Afflitto, Letteratura araba contemporanea. Dalla nahda a oggi, Nuova edizione, Carocci editore, Roma, 2017.

الأدب العربي المعاصر. منذ النهضة إلى اليوم“: صدر هذا الكتاب للمستعربة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو في سنة 1998 وفي سنة 2017 صدرت الطبعة السابعة منه. إنه أول ما يصادف الباحث في بيبليوغرافيا الأدب العربي في إيطاليا، وهو يعد مرجعاً أساسياً – في مجال الرواية بالخصوص-، على الأقل بالنسبة للطلبة والباحثين في ظل غيابٍ شبه تام لدراسات تُعنى بتاريخ الأدب العربي المعاصر في إيطاليا. في مجال دراسة الشعر والمسرح العربيين نجد بعض العناوين مثل:

Dahmash W. (a cura di), Marocco, poesia araba oggi, Jouvence, Roma, 2002.

Corrao, F. M, (a cura di), L’estetica nella poesia Araba, La bibblioteca di Repubblica, Roma 2004.

Ruocco Monica, Storia del teatro arabo. Dalla  Nahdah a oggi, Carocci, Roma, 2010.

[12]– بهيجة السيمو، “العلاقات المغربية الإيطالية 1869-1912“، منشورات اللجنة المغربية للتاريخ العسكري، 2003، ص. 121.

انظر أيضا: مصطفى نشاط، نصوص مترجمة ودراسات عن العلاقات الإيطالية المغربية في العصر الوسيط، مكتبة الطالب، وجدة، 2005.

[13]– أنجليكا بالميجياني، صورة المغرب في كتاب ” Marocco” لإدموندو دي أميتشس، ضمن مجلة العلوم الإنسانية، ع. 28، مج. 14، 2017، ص. 159.

[14]– محمد مخطاري، مغرب نهاية القرن 19 في عيون إيطالية: دراسة مقارنة لكتابي “المغرب” لدي أميتشيس و”في المغرب” للينا مادالينا فرارا، ضمن الرحلة والغيرية، تنسيق عبد الرحيم بنحادة وخالد شكَراوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2008، ص. 137.

[15]– يولاندة غواردي، “الأدب الجزائري في إيطاليا بين المقاربات العشوائية وشهرة القوالب النمطية“، ترجمة: مديحة عتيق، مجلة رؤى فكرية، الجزائر، ع. 7، 2018، ص. 267.

انظر أيضاً:

Anusca Ferrari, “Le letterature magrebine nelle scelte dell’editoria italiana”, in: Le letterature francofone in Italia, Francofonia, No. 46 (Primavera 2004).

- حنان البقالي

باحثة في الدراسات المقارنة- جامعة محمد الخامس، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.