Jean Marie Gustave Le Clézio, Identité nomade, Robert Laffont, Paris-France, 2024. )Version numérique)*.
ما يمكن أن يحققه الأدب، يهُم القراء بنفس القدر الذي يهم الكُتاب. فالأمر سيّان أن تكون قارئاً أو أن تكون كاتباً. إن الكُتَّابَ قُرَّاءٌ، والقُرّاءُ، بمطالعتهم للكتب، يُعيدون كتابتها ذهنياً، ويؤولونها، فالأمر إذن يتعلق بفن مشترك، إنه فن اللغة. فما الذي تستطيعه اللغة؟ ربما التسمية هي هدف اللغة، وإذا لم يكن الأمر كذلك فما فائدة الكلام؟ لا تحتاج الحيوانات إلى الكلام لأنها تعيش اللحظة، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى تسمية ما تعيشه. عندما يسمي البشر، ولأسباب أجهلها، فعلاً، أو فكرة، أو إحساساً، أو شخصاً، أو هاجساً، تصير هذه الـمُسميات مألوفة لديهم، وترفع لديهم منسوب الثقة.
ساعد الأدب أيضاً على مجابهة الزمن. لا أقول إن اللغة أبديةـ لكنها تستمر فترة أطول من المتكلمين. عمر المتكلمين قصير إلى حد ما، لكن اللغة تدوم وتتغير على مر الأجيال. أفكر في المغرب كبلد متعدد الثقافات واللغات، بل أكثر من ذلك كبلد له ذوق خاص في اللغات. حيث يتم هناك تَعَلُّم لغات مختلفة والتحدث بها. وفي جميع مستويات المجتمع وطبقاته، وليس فقط لدى الفئات الراقية. من جهة أولى أن استخدام اللغة الفرنسية في المغرب رائع، ثم إن عدداً مهماً من الكتاب مَنْ لغتهم العامية، والأم، هي العربية أو الأمازيغية، يكتبون بالفرنسية، ويكتبون بفرنسية رائعة، مليئة بالإبداع، والأفكار الجديدة.
من ناحية أخرى، عندما أذهب اليوم إلى باريس، لا أفهم ما يقوله الناس، لأني لم أواكب تطور اللغة المنطوقة هناك. أفهم عندما تكون اللكنة كنديةً، أو مغربيةً، أو لُكنةَ الجنوب الفرنسي، لكني لا أفهم اللكنة الباريسية. في مرحلة ما، حدثت لي قطيعة في مسار استمرارية وتطور اللغة (لكنة باريس)، إلى درجة أني عندما أسمع هذه اللغة، أتساءل عما يتحدثون به. إن حياتي كمتحدث أقصر من حياة اللغة. فاللغة تستمر وتتطور.
تعمل اللغة، والكتابة، والأدب، والفنون بشكل عام، على تسمية ذواتنا، وتعريفها، أي معرفتها والتعرف عليها. إني أؤمن بشدة بهذه الفكرة. فعندما تختفي لغة ما، فذلك أمر مأساوي، وليس مجرد ظاهرة بسيطة. ومن ثم فإن إحدى ميزات الأدب هي قدرته على إعادة ابتكار اللغة، وإعادة تملّكها.
الوظيفة الأخرى للغة –سواء أ كانت لغة ذات تقاليد أدبية عريقة أو لغة أكثر حيوية وشفوية- تتجلى أيضاً في عملية التهجين. وبخصوص هذا الموضوع أود الإشارة إلى بحث قمت به منذ زمن طويل، في مرحلةٍ كنت أُحضر فيها بحث الدكتوراه في الأدب الحديث بجامعة نيس. والكاتب الذي اخترته للدارسة كان هو إيزيدور دوكاس (Isidore Ducasse)، المعروف بلقب كونت دو لوتريامون (Comte de Lautréamont)، كاتب قصيدة وحيدة، عنوانها: “أناشيد مالدورور” (Les Chants de Maldoror).
كان علي أن أجد، فيما يخص لوتريامون، موضوعاً للأطروحة، وقد كنت قد اشتغلت على ميشو، وعندما نطالع هنري ميشو (Henri Michaux)، فإننا سنتجه بالضرورة نحو أحد مُلهميه، وهو لوتريامون. وقد كان لوتريامون الطالب السيئ في الأدب الفرنسي. لم يترك أي أثر بصري- ليس لدينا صوراً له. أحيانًا يُخرج الناس صورة ويقولون: “ها هو ذا، لكن لا، ليس هو، بل هي صورة عثرنا عليها في صندوق قديم، لكن لم يُكتب على ظهرها هذا هو إيزيدور دوكاس، كونت دو لوتريامون، إنها مجرد صورة”. إذن ليس لدينا صوراً للوتريامون، فقط القليل جداً من رسائله، لذلك فإننا نشكك أحياناً في وجوده. علاوة على ذلك فقد ولد في الأوروجواي، وكانت لغته الأولى هي الفرنسية الممزوجة بالإسبانية. وقد تربى على يد مربيات تحدثن إليه باللغة الإسبانية. كان شخصاً هجيناً، هجيناً بشكل تام، وبالنسبة لي، فقد كان شخصاً مثيراً للاهتمام، لأنه لم يترك آثاراً، وبإمكاني أن أضع في عمله وشخصيته كل ما أريد. وقد وضعتُ كل ما أردتُ. ولكن أعتقد أن إنجاز هذا البحث عن الأصول المتعددة للغة لوتريامون، وحول لعبة الكلمات وخلط المرجعيات، وكل الخدع والفخاخ التي نثر بها شعره، ساعدني على إدراك أن الأدب هو قبل كل شيء، فن الخلط والتهجين. وقد قال لوتريامون نفسه في مجموعته الشعرية المأثورة، القصيدتان الأولى والثانية: ” الشعر لا يمكن أن يكتبه فرد واحد، بل يكتبه الجميع”.
ولكن يبدو أن هناك شيئاً يسمى السحر. كنتُ في سفر، وقد وضعت كل بحثي على شاكلة ملحوظات على الورق في حقيبة السفر (طبعاً كان ذلك قبل زمن طويل من اختراع الحاسوب). ولقد فقدتُ هذه الحقيبة، لقد سُرقت مني، وعندما وجدتها، لم تكن تضم سوى سروالاً قديماً لم يكن حتى ملكاً لي. لذلك اعتقدت أن الأمر كان سحراً، فقد حوّل لوتريامون بحثي إلى سروال، لم يكن يريدني أن أنشر هذا البحث. ثم تخليت عن هذه الأطروحة. وأنجزت فيما بعد، بحث دكتوراه حول موضوع مختلف تماماً، كانت أطروحة باللغة الإسبانية حول أحد الشعوب الهندية في المكسيك. أطروحة لا تربطها علاقة بلوتريامون. اعتقدت أنه لم يكن يريدني أن أتفوه هراءً وحماقات… هذه نهاية قصتي!
وبما أن وقت الإجازة قد حان، أود أن أختم باقتباس مهم جداً بالنسبة لي. في سن السابعة عشرة اقتنيت من كُتُبيٍّ في مدينة لندن، الأعمال الكاملة لشكسبير والتي ما زلت أحتفظ بها. وهو مجلدٌ واحدٌ لأحد تلامذة المرحلة الإعدادية، وقد كتب هذا التلميذُ الذي كان يعيش مرحلة البراءة والمثالية، مع ميل لذوق الفصاحة والتبجح بالتأكيد، في الصفحة الأولى من المجلد: «شعاري: أن أكون صادقاً مع نفسي»، وكان قد تلقفها من قول شخصية بولونيوس في مسرحية هاملت:
(كن صادقاً مع نفسك، وإذا فعلتَ،
تلا ذلك، َكَمَا يَتْلو اللَّيْلُ النَّهَارَ،
لن تكون كاذباً مع أحد).1
أصبح هذا هو شعاري: كن صادقاً مع نفسك، كن وفياً لذاتك، واتبع النصيحة الرائعة لشكسبير العظيم. يمكننا أن نتساءل إلى ما لا نهاية حول قوة الكلمات في عالمنا المليء بالعنف والظلم. اعتقد أيضاً أن الجواب عن هذه التساؤلات، سنعثر عليه في الأدب.
هوامش:
*– هذا النص هو الفصل الأخير من آخر أعمال الكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2008، جون ماري جوستاف لوكليزيو: Identité nomade. ولد جون ماري جوستاف لوكليزيو في مدينة نيس سنة 1940. ينتمي لعائلة ذات أصول بروطونية، هاجرت إلى جزيرة موريس خلال القرن التاسع عشر. تتنوع كتاباته بين الأشعار، والحكايات، والروايات، والقصص، والتراجم، والأعمال الإثنولوجية. نشر أول رواية له سنة 1963.، تحت عنوان: “المحضر”، ونال بها جائزة “رونودو”، كما حصل سنة 1980 على الجائزة الكبرى “بول مورون”، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، عن روايته “صحراء”، ثم حاز سنة 2008 على جائزة نوبل للآداب عن مجمل أعماله. من أهم أعماله الروائية: المحضر (1963)، كتاب الهروب (1969)، الجبابرة (1973)، صحراء (1980)، الباحث عن الذهب (1985)، النجمة التائهة (1992)، السمكة الذهبية (1997)، لازمة الجوع (2008)، ألما (2017)، بيتنا، تحت سماء سيول (2018)، هوية مرتحلة (2024).
1– هذه الشذرة ترجمها عن الإنجليزية الراحل جبرا إبراهيم جبرا ضمن ترجمته لمأساة هاملت:
وليام شكسبير، مأساة هاملت، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-لبنان 1979، الطبعة الخامسة، ص. 51.