سعيد بنحمادة، سوسيولوجيا القيم وأخلاقيات المجتمع والسلطة بالأندلس والمغرب الوسيط، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2022م.
لا يجد المتتبع للبحث التاريخي بالمغرب عناء في الوقوف على التنوع والتراكم الذي حققه الدارسون، والذي طال المصطلحات والمعرفيات والمنهجيات، مما أفضى إلى تجديد في آليات صناعة الكتابة، والذي جعل الأكاديميين ينقسمون إلى تيارات متكاملة من حيث المقاربات والرؤى المعتمدة، والإشكالات المدروسة، مما يسمح بإمكانية الحديث عن “مدرسة مغربية تاريخية” متعددة الأجيال والمرجعيات والتيارات.
ونحسب أن هذه الخلفية التاريخية هي التي أطرت كتاب “سوسيولوجيا القيم وأخلاقيات المجتمع والسلطة بالأندلس والمغرب الوسيط” للباحث سعيد بنحمادة، الذي راكم، قبل إصداره هذا المؤلَّف، تجربة علمية ممتدة في مجال البحث التاريخي، قوامها التاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات[1]، وهي مجهودات لها منحى تصاعدي يعبر عن الاهتمام بقضايا تاريخ المجتمعين الأندلسي والمغربي في العصر الوسيط، وتؤسس لمنظور في دراسة القضايا التاريخية “الباردة” ذات الصلة بالمعيش اليومي، بما يشكل حقلًا معرفيًا قادرًا على الإسهام في تطوير الكتابة التاريخية، انطلاقًا من الزمن الطويل المؤطر المواكب للبنى المادية والرمزية، ليفرز قيمًا وسلوكات، ويقدم مادة قابلة للفحص والمتابعة بالرصد والتحليل، لتكوين حصيلة تاريخية مفيدة وذات هوية إشكالية.
جاء هذا العمل ليضفي الاستمرارية في مسار الدارس الموسومة بالجدة، ويزكي القيمة المضافة التي تجسّدها أعماله الأكاديمية، التي نحسب أنها تشكل جزءًا من مشروع؛ لذا فالكتاب لا ينفصل عن باقي منجزه، الذي استهله بأطروحته عن “الماء والإنسان في الأندلس خلال القرنين 7 و8 هـ/13 و14م“، التي بلور فيها معالم انشغالاته التي ما فتئت تجمع بين المجال والمجتمع والذهنيات، والتي تتجلى بوضوح في كتاب “سوسيولوجيا القيم“، مثلما تبرز في باقي مؤلفاته الأخرى، في خيط ناظم قوامه المصاهرة بين الأحداث والظرفيات والبنى المجتمعية والعقلية.
يقع المؤلف الذي نروم تقديمه في 318 صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة، وملاحق، وقائمة للمصادر والمراجع.
استهل الدارس عمله هذا بمقدمة (ص11- 18) رام فيها التأكيد على الطابع الإشكالي لموضوع القيم، الذي ينبني، في نظره، على نسق شمولي ورؤية تدمج بين العديد من المجالات المعرفية كالفقه والسياسة والأخلاق والجغرافيا والطب والآداب العامة وغيرها. وهذا النسق -في تقديره- قادر على “إنتاج” سوسيولوجيا القيم والتمثلات والتصورات والعوائد المتعلقة بالسلوك الاجتماعي.
كما أن من شأن هذه الرؤية أن تؤدي إلى التمييز بين الفطرة والمكتسب، لتتحول بذلك الأخلاق إلى ضرورة اجتماعية تتطور بتطور المجتمع. وبالمقابل فالحديث عن الترف وتحوّل القيم يدخل أيضًا في نسق وبنية متداخلة الأجزاء، ومتفاوتة الإيقاع الزمني، ومتباينة في المجال، مما يفرض استحضار سياقها وتفاعلها، وهو ما قد يسمح بفهم -وإن بدرجة معينة- الفعالية والتناغم والنجاعة في دراسة السلوك الاجتماعي، والتمثلات الذهنية والمواقع والمواقف إزاء القيم والأخلاق، وذلك في مستوى بنية المجتمع والحكم، والذي قد يظهر جليًا في أشكال العمران والنظام الغذائي ونمط العيش والخطاب الأدبي.
أقر الباحث في البداية بأهمية الموضوع وطبيعته الإشكالية. ولكي يزاوج بين المرجعية والإشكال انتقل إلى معرفة مكانة الأخلاق في الإستوغرافيا الوسيطية، كرسائل الحسبة، وكتب البِدع، ودواوين الشعراء وأدب المضحكات، والحِكم والنوادر والأمثال الشعبية والأزجال؛ فانطلق من اقتناع مفاده أن تجديد الرؤية وتكسير نمطية الموضوعات لا يتعلق فقط بإعادة النظر في مفهوم الوثيقة، بل فيما تقدمه نظرية المقاصد والمنظور الخلدوني، اللذان يُكسبان الرؤيةَ والمنهجَ الدقة والوظيفية العلمية المبتغاة، ويؤديان إلى تطوير المفاهيم والمقاربات في دراسة القيم في علاقتها بيومية المعيش ونظم السلطة وتنظيماتها.
ويبدو أن الغاية التي تحكمت في هذا المسلك هي فك الارتباط المفهومي والمعرفي والمنهجي بـ”أوثان قبيلة المؤرخين”، وفق تعبير فرانسوا سيميان، التي اتسمت بسرديات نمطية مجزئة للأحداث ومفككة للأنساق. ولذلك رام الباحث تتبع حركية القيم للوصول إلى الثوابت الكلية، والمنعطفات التاريخية بالمغرب والأندلس، تعريفًا وتفسيرًا وتركيبًا، ولإكساب الفعل التاريخي وإعادة بناء ترابطاته وانتظاماته واتجاهاته العامة. لكن السؤال القمين بالطرح يتعلق بحدود إعمال هذه الآلية وجدوى توظيفها، وما إذا كان الباحث قد وقع في “الشطط”، وهو يعمل على استثمار المعرفيات والمنهجيات وتأويلها بما ينسجم والأطر المعرفية الموظفة، مما قد يحول العمل إلى “تبشير” بأهمية المنهجية وجدواها دون الالتزام بالوقوف عند حدودها؟!
يرتبط الاختيار الذي أعلن عنه الدارس، والكامن في نظرية المقاصد والمنظور الخلدوني، بالقراءة من الداخل؛ وهي منهجية لا تنفصل عن مركزية محددة لا تتيح أكثر من التعرف على وجهة نظر معينة لتاريخها الخاص[2]. ومن ثم تتحول “العلمية المزعومة” إلى تراكم في القراءة واكتناز في حجمها لا في نوعيتها ونظرتها المختلفة، ومنها الرؤية من الخارج استنادًا إلى “انفتاح مقنع” على تخصصات علمية وفكرية مفيدة.
كما أن الرغبة العلمية الكامنة في التعرف على الثوابت الكلية، والمنعطفات التاريخية بالمغرب والأندلس، قد تصطدم بروح تبريرية أكثر منها علمية، لأنها قد تقفز على حقيقة المصادر وثغراتها، والطابع المتغاير لها؛ فكل مرجعية مصدرية هي نسيج من عدم التماسك الحافل بالثغرات[3]، فكيف يمكن الوصول إلى الهدف المتوخى أمام إشكال مصدري بهذا النوع؟ فرسائل الحسبة -مثلًا- قد تعبر عن روح عصرها، وليست بالضرورة تعبيرًا عن قاعدة يمكن اعتمادها مقياسًا على باقي المراحل التاريخية. والأمر نفسه ينسحب على كتب الجغرافيا، أو الأدب، وكتب التاريخ العام.
خاض الفصل الأول، والمعنون بسؤال القيم والكتابة التاريخية (ص 20- 104)، في المنهجية المعتمدة في الربط بين مسألة القيم وتجديد الكتابة التاريخية، أو التعبير عن الكتابة في أفقها الجديد؛ إذ تتأسس هذه المنهجية، حسب المؤلف، على رؤية تقوم على الفعالية والنسقية والعلائقية، والنجاعة المصدرية والمنهجية، والمرامي الإشكالية النائية بنفسها عن الكتابة التقليدية.
وتقوم هذه الكتابة على توظيف المناهج والمقاربات، بناء على السياق والنسق والتفاعل، الساعية كلها إلى استخلاص طبيعة البنى الاجتماعية والمؤسساتية والعقلية وتمثلاتها لدى الحاكم والمحكوم. ويفترض هذا المسعى التجسير بين كل تلك الآليات المنهجية، والمزاوجة في الوقت ذاته بين الصيرورة والسيرورة اللتين تهمّان بنية الكتابة، وتدفعانها إلى آفاق جديدة.
يستوجب هذا التجديد، المتمثل في إدماج القيم في البنية، على المؤرخ ضرورة إعادة النظر في أدوات إنتاج خطابه، بتجديد اختياراته المصدرية والمصطلحية والمنهجية ليصل إلى التركيب العلمي؛ أي إعادة بناء المعنى. وهكذا اعتمد الدارس على القيمة العلمية للتاريخ البنيوي، بوصفه آلية تساعد على معرفة الفترات الطويلة، والغوص في أغوار التوازنات والانتظامات الثابتة، والتعاقب والتزامن، مما دفعه إلى الحديث عن البنى القيمية (الممارسات وردود الأفعال، والتنشئة الاجتماعية، والمحددات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية)، المنفتحة على المتغيرات الزمنية العميقة. ومعنى ذلك كله، في نظر صاحب الكتاب، أن إشكالية القيم في البحث التاريخي لا تركن إلى المفهوم الأحادي البنية؛ إذ هي إنتاج للأبعاد المختلفة والمتداخلة، والمرتبطة أساسًا بطبائع العمران ـ
قد يسعف الاهتمام بموضوع القيم والمجتمع والسلطة في المواءمة بين سكون البنية وحركية النظم والممارسات الاجتماعية، ومعرفة جدلية العلاقة بين وظيفة القيم ورمزيتها بالأندلس والمغرب الوسيط، وهو ما حذا بالمؤلِّف إلى دراسة هذه الاشكالية وفق رؤيتين متكاملتين: الأولى داخلية، تركز على أنواع الممارسة الفردية والجماعية؛ والثانية سياقية ونسقية، تربط ذلك بالمعاش اليومي، حيث التراتب والمواقف والعوائد والرموز والعلائق.
تستند هذه الرؤية إلى المفهوم الجديد للوثيقة التاريخية، التي تَنَبَّه أصحابها إلى أهمية القيم في فاعلية تاريخ الأندلس والمغرب الوسيط[4]. وانطلاقًا من التأطير المنهجي تَتبَّع المؤلِّف تعريف الأخلاق من خلال (ابن) مسكويه والمسعودي وابن صاعد والمرادي وابن خلدون وابن الخطيب، مع التركيز على محيي الدين بن عربي في “تهذيب الأخلاق“، الذي يعد، في نظره، من أهم المصنفات في المجال الأخلاقي (ص 35- 38). وعزز صاحب الكتاب ذلك بإعمال المفهوم التركيبي للقيم، انطلاقًا من منظور شمولي كفيل بإكساب العقل الأخلاقي لدى الأندلسيين والمغاربة نجاعة وفعالية وعمقًا، ويقصد بذلك نظرية المقاصد لدى الشاطبي (ص 45- 47). أما المقاربة المصدرية التي يستند إليها الكتاب فتقوم على التنبه على العلاقة بين الجنس والمضمون المصدري، لأن المعطيات تختلف باختلاف المرجعيات، ولذلك استعرض المؤلف أنواع المصادر وكيفية حضور القيم في خطابها، بدءًا بكتب التاريخ السياسي، وكتب الحسبة، وكتب الأحكام السلطانية، وكتب الجغرافيا والمسالك، وكتب لحن العامة والأمثال الشعبية والأزجال، والمعاجم والأدب، وكتب الطبقات والرجال، وكتب الفقه والأحكام والنوازل، وكتب الطب والصيدلة.
ودعمًا لهذه الرؤية التجريبية للمصادر، استثمر الباحث خلاصات بعض الدراسات التي اهتمت بموضوع القيم، مستنتجًا أنها لم تستند إلى مقاربة موضوعية ومندمجة للموضوع، بل اقتصرت، في نظره، على الرؤية الأحادية في التنظير. وهو ما دفعه إلى إعمال المنهج التكاملي المراعي لكل الأبعاد، والذي من شأنه أن يكشف عن المنحى الاجتماعي للمعرفة والممارسة القيمية.
يدافع سعيد بنحمادة في “سوسيولوجيا القيم“، كما رصدنا ذلك في ثنايا فصول الكتاب، عن ضرورة استحضار السياق الاجتماعي والثقافي، من خلال ركيزتين معرفيتين متكاملتي الوظائف، تتمثلان في المصطلحات والمصادر. وأن توظيف المتون المصدرية، في تقديره، يجب أن يتم وفق القراءة القطاعية المتعلقة بكل جنس مصدري مستقل، والأفقية التي تدمج الأجناس والمضامين المصدرية، والتي تحقق إعادة بناء الأبعاد المؤسساتية والاجتماعية والذهنية لسؤال الأخلاق، والتي تتوقف فعاليتها المعرفية والمنهجية على المنظور الخلدوني للقيم في صلتها بطبائع العمران، والذي تؤطره قاعدتا “الاعتدال” و”الانتقال”.
خلص الباحث إلى أن التصور الخلدوني يكتنز وظيفيته من مرجعيته الواقعية، بدليل وقوفه على نماذج تكشف آثار الترف في التنشئة الاجتماعية وتداعياتها القيمية، مركزًا في ترسيخ هذا الحكم على “طوق الحمامة” لابن حزم، الذي خبر خميل المضاجع لقربه من النساء، وواقع الترف الذي تربى فيه.
إن ما يميز هذا الفصل هو الفلسفة الكامنة في بناء المرجعية المؤطرة للعمل، والتي تتوقف على قيمة التجديد الوثائقي، وأهمية التاريخ الاجتماعي، الذي اعتمده الباحث باعتباره إحدى الواجهات العلمية والعناصر المحورية القادرة على تحديث الكتابة التاريخية، وإعادة القيمة والدور للمجتمع من خلال السعي إلى فهم مكوناته ومعاشه وحَرَكِيّته وذهنيته؛ فمن شأن الاهتمام بالصور والتمثلات والرموز أن يفيد في فهم الممارسات الاجتماعية، وتحويل تلك التصورات إلى جزء من التاريخ الاجتماعي[5].
أما التجديد في الوثائق؛ فلكونه أحد مكونات “التاريخ الجديد” الذي تتقعَّدُ أسسه ليس فقط على المعرفيات والأفكار، وإنما تكتنز أيضًا من الخيال والرموز والمهمش[6]، من حيث تنويع النصوص الأدبية والفنية، والنبش في قضايا عموم الناس، […] والتحول من التاريخ الاجتماعي إلى تاريخ المجتمع؛ لأن الطبائع تحبل بالتاريخ[7].
غير أن تنويع الدارس للمرجعية الإستوغرافية جعلته يقتصر، في تقديرنا، على اختيارات محددة دون غيرها من الدراسات الأخرى، والتي تتجلى في تركيزه المطلق والأحادي على اجتهادات طه عبد الرحمن دون مناقشة أو تصويب وتعديل، في وقت تم الاعتماد على محمد عابد الجابري -مثلًا- في حالات محدودة، انتقد فيها صاحب “العقل الأخلاقي“.
كما أن “القراءة من الداخل” ظلت موجِّهَة للعمل ومضيِّقَة لآفاقه المنهجية أحيانًا، من خلال الاكتفاء في تعريف القيم وتفسيرها بالنموذج النظري لابن خلدون، بناء على طبائع العمران والانتقال بموجبها من “شظف العيش” إلى “رقة الحضارة”، وإن عزز الباحث ذلك المنظور بنظرية المقاصد للشاطبي، لكونها، في نظره، تفيد في التحليل القصدي والعاملي للممارسات الأخلاقية، وتسعى إلى الإغناء المفهومي والمنهجي لموضوع القيم في البحث التاريخي.
ويتأكد هذا النزوع في استبعاد النظرية الأنثروبولوجية لاعتبارات دينية؛ إذ يقول المؤلّف في هذا الصدد: “الظاهر أن هذا الموقف المتمادي في محاكمة الفقه ببلاد المغرب يجد تبريره في المنهج المعتمد، والمتمثل في الأنثروبولوجيا المعادية للدين عمومًا بحكم مرجعيتها الغربية” (ص 59). وعلى الرغم من أن الدارس، وارتباطًا بسياق كلامه، يتحدث عن حالة مالك شبل الذي وضعه موضع اختبار وتأمل وانتقاد، فإننا لا نوافقه تعميمه هذا، بالنظر إلى نوعية وجودة الأعمال التي أنجزها الدرس الأنثروبولوجي عامة والمغربي، من خلال كتابات عبد الله حمودي وعبد الكبير الخطيبي، وغيرهما.
وبالمثل، فإن المثير في فصول الكتاب هو الحضور اللافت لابن خلدون، وهو ما يثير تساؤلًا مركزيًا؛ هل الاعتماد على “المقدمة” هو مبرر لدعم أفكار الباحث وتصوراته وتقويتها؟ أم هو نزوع إلى “أَسْطَرَة” هذه العلاَمة المعرفية والركون إليها كلما حوصر بضعف المؤشرات في باقي المصادر؟ وقد يتأكد هذا المسعى في إطار القيمة التي تقدمها آراء ابن خلدون التي غدت مرجعية قصوى لكل التفاسير وكل القضايا، ومعه يزيد ويتقوى سؤال أكثر قيمة: ألم يحن الوقت لتقويم هذا الإرث وقراءته وتجاوزه عوض استعادته في كل الأبحاث؟
بقي أن نشير إلى ملاحظة أخرى، وهي عدم توسع الباحث في استغلال مقاربة محمد القبلي؛ إذ لم يُعمل نتائج أبحاثه إلا في حالتين، وظف خلالهما أطروحته حول “المجتمع والحكم والدين بالمغرب في نهاية العصر الوسيط“، مع ما لهذا المشروع الأكاديمي من قيمة معرفية ومنهجية مضافة للتعامل مع إشكالات مثل قضايا القيم والأخلاق!
انصب النظر في الفصل الثاني، “قيم النظافة والتجميل: نسقية الأبدان والمجال (ص 106- 150)[8]، على رصد قيم الجمال والنظافة لدى المغاربة والأندلسيين، والنابعة من البنية الثقافية للمجتمعين المغربي والأندلسي، والتي أنتجت النظام السلوكي والذهني والوجداني التي تحدث عنه المؤلف. وعلى الرغم من ذلك، يظهر التباين جليا بين المجتمعين من حيث النظافة ومعايير الجمال، قياسًا على أثر الجغرافيا التاريخية، وتعدد المكون القبلي، وتنوع الخريطة الدينية. وسعيًا إلى توضيح تلك الفروق عرض الباحث لمظاهر حضور الموضوع في المصادر، التي كان اهتمامها متباينًا، ولا سيما كتب الزينة، والطب والصيدلة، والأدب الشعبي، ودواوين الشعراء.
وترسيخًا للرؤية الموضوعاتية التي انتهجها الباحث، أبرز تجليات توظيف قيم الجمال والتجميل في المجال السياسي والاجتماعي وقدرتها على تدبير بعض الخلافات وزرع الحيوية في المعاش اليومي، ولذلك تتبع توزيع معايير الجمال عبر خريطة الجغرافيا التاريخية للأندلس والمغرب الوسيط: توطينًا ووصفًا، انطلاقًا مما توفر لديه من معطيات مصدرية. وخلص إلى أن قيم الجمال اتسمت وقتئذ بالتباين والتمايز، بناء على النماذج الجمالية التي ساقها، مثل نساء السهول الغربية، ونساء سجلماسة، والنساء المصموديات، ونساء سوس بالمغرب، ونساء الزهراء وغرناطة فيما يخص الأندلس. والأمر نفسه بالنسبة للرجال في غمارة وغرناطة. وقد تنبه المؤلف، في هذا الصدد، إلى ضرورة التمييز بين الجمال الطبيعي، وثقافة التجميل، التي اعتمدت على استعمال بعض المواد في التنظيف والاستحمام وتغيير معالم بشرة النساء.
ومن الموضوعات الجدية والجديدة التي تحدث عنها هذا الفصل، ما تعلق بنظافة البيئة وجماليتها وقواعدها وقيمها، حيث استعرض المؤلف مفهوم البيئة والمعارف المتعلقة بها في المصادر الوسيطية المتنوعة، التي جعلته يركز على تاريخ المدن وخططها، والسلوك البيئي، والأحكام الشرعية والعُرفية الضامنة لحماية البيئة؛ فتخطيط المدن خضع لمقياس يراعي ثنائية مبنية على الدمج بين المساحة العمومية (القصر والمسجد والأسواق)، والحزام السكني المخصص لخطط القبائل، في الوقت الذي تركزت فيه مظاهر اختلال البيئة في مرافق الحياة اليومية كالشوارع والأزقة والأسواق والأرباض (الميازيب، والحِرف الملوثة للجو، …)، مما جعل القضاء والحسبة والفتيا تشكل مؤسسة تشريعية، تضاف إلى الأعراف الاجتماعية المحلية، وهو ما أفرز فتاوى وأحكامًا وعوائد ذات أبعاد وظيفية وعملية ومرنة، زجرية ووقائية، غايتها التكيف والانسجام مع التحولات الحضارية واختلاف الجغرافيا التاريخية.
وكعادته طيلة هذا العمل، يقف الباحث عند المقاربة الخلدونية، لكونها، في تقديره، عاكسة للواقع البيئي للعدوتين خلال القرن 8 ه/14م، لذا تحولت -في هذه الفصل- إلى مرجعية مصدرية قوامها القواعد النظرية والتدابير العملية المتمثلة أساسًا في جلب المنافع ودرء المفاسد.
تفرض قراءة هذا الفصل الإشارة إلى طبيعته وسياق تأليفه: هل هو تنقيح وتصويب لما تم إنجازه من قبل من خلال المشاركة به في ندوة تكريم الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش؟ وإن كنا نزعم أنه جاء ليكمل مشروع “سوسيولوجيا القيم” وتقديمها في إطار عمل قائم بذاته، خاصة وأن بنية العمل ظلت دوت تغير أو تصويب، مما قد يؤشر على أن التفكير في المشروع كان سابقًا لمسألة تقديمه للاحتفاء بالأستاذ المذكور!
ومما يجب التنويه به في هذا الصدد، والذي يعبّر عن النفَس التجديدي في الكتاب، هو التوظيف البَيِّن والاحترافي للأمثال الشعبية؛ إذ أجاد الباحث في استعمالها للكشف عن قيم الفئات المهمشة، التي تشكل السواد الأعظم من المجتمع، وقد استعمل في هذا السياق المقاربة التحليلية لمضمون هذه “المصادر الدفينة” واستخراج ما يخدم الإشكال الذي انطلق منه في البداية.
ونحسب أن هذا التوظيف المتميز للخطاب الشعبي في كتابة جوانب من التاريخي الاجتماعي للأندلس والمغرب الوسيط (لَحْن العامة، والأمثال الشعبية)، كان من اللازم تعزيزه ببعض الأعمال النظرية التي تخدمه، كما هو الحال في موضوع الهدية، حيث تبرز بقوة دراسات مارسيل موس[9]، للمساءلة والمناقشة وفتح الآفاق الجديدة لخدمة التاريخ الإشكالي؛ لأن الهدية وقيم الجمال، اللتين اعتمدها المؤلف في تحليل بعض جوانب الواقع السياسي، لم تقتصرا على تدبير الخلافات السياسية فقط، وإنما كانت تهدف تيسير الانتقال السياسي من مرحلة إلى أخرى، وتقوية أواصر العلاقات الاقتصادية لتعزيز النفوذ ومجال السلطة والمُلْك، كما هو واضح في التجربة المرينية، سواء في علاقة سلاطينها مع المماليك بمصر أو مع بعض الامبراطوريات الإفريقية[10].
أما في الفصل الثالث، المعنون بـ”التخنث وتجاذب قيم الذكورة والتأنث” (ص 152- 190)، فقد استهله بتعريف إشكالي للخنث: لغة وفقهًا وطبًّا، وخلص إلى ضرورة التمييز بين الخنثى (جِبِلَّة خِلْقية= الطبيعة)، والتخنث (عوائد خُلقية مكتسبة= الثقافة). غير أن هذه المعايير الجسدية التمييزية لم تكن حائلا أمام ظهور صعوبات تؤجل الحسم في تحديد ملامح الخنثى، وعلى الرغم من ذلك اهتدى الفقهاء إلى علامة تجريبية وهي الولادة بوصفها الوظيفة الجسدية الأكثر حسمًا.
وحظي الخنثى بالقبول على الصعيد الاجتماعي بحكم تكوينه الجسدي الطبيعي، والذي مكنه من حقوق والتزامات شملت الختان، والزواج، والإرث، والنصيب من الغنائم. وبالرغم من ذلك ظهر مشكل الإرث بناء على النزاع بين الورثة حول ادعاءُ الخنثى الذكورةَ، ورفض أهل الحقوق ذلك بدعوى الميل نحو الأنوثة. وعلى خلاف ذلك لقي المخنثون رفضًا تُرجم في الألقاب التي أطلقت عليهم، واكتسى ذلك طابعًا قدحيًا فرض تدخل السلطة الدينية والزمنية لضبطها، وإن لم يكن ذلك مانعًا من حضورهم في الحياة العامة (الأعراس، والجنائز) بحكم ارتباطهم بظواهر أخرى (الزنا، واللواط، والسحاق).
وبموازاة مع ذلك، توقف الدارس عند نسقية الترف والتأنث انطلاقًا من المرجعية الخلدونية دائمًا. ولتأكيد هذا التلازم ساق العديد من النماذج في المدن، معتمدًا على كتب الحسبة في رصد حالات الزنا واللواط والفسوق والمجون، وكلها مؤشرات تنهض -في تقديره- على العلاقة السببية بين التمدن والترف والانحراف الخلقي. وقد حاول في هذا الفصل، كما في باقي الفصول، اعتماد العديد من الاستراتيجيات والأساليب، وفي طليعتها تيمة الحِجَاج التي انبرى فيها لمناقشة رؤى دارسين آخرين، وفيها أدمج التخنث في السياق القيمي العام، متجاوزًا بعض الاجتهادات التي رامت الحديث عن “الصمت المطبق” الذي ميز المصادر وعدم تناول مؤلفيها لمبحث الخنث، في وقت لم تستطع الأبحاث الأنثروبولوجية مَلْء هذا الفراغ لكونها نحت نحول الإسقاط دون مراعاة المجال والتاريخ، وهو ما جعله يعتمد على كتب الطب والفقه والتمثلات والمتخيل.
وبهذا الأسلوب ظل الباحث أمينًا في مستوى أول لمرجعيته الخلدونية والمقاصدية، وفي الوقت ذاته مسايرًا لأسلوب مدرسة الحوليات، التي انتقل فيها البحث إلى تحليل الآليات الذهنية باعتبارها محركًا للتاريخ، اعتمادًا على رؤية جديدة للمصادر والزمن والوظائف.
واستند الفصل الرابع، المخصص لـ”الإجهاض والتحول في قيم المضاجع والنطف والأرحام” (ص 192- 222)، إلى خلفية رصد أحد مكونات البنية الاجتماعية والثقافية التي ميزت الحياة اليومية للعدوتين، والتي لها ثلاثة أبعاد متداخلة: فقه المعاش، والممارسة الطبية بما فيها من نقد وتجريب وواقعية ونجاعة، والتحول القيمي الناتج عن المراحل التاريخية للمجال الأندلسي والمغربي، من خلال الترف الذي أدى إلى تبدل الأخلاق (الزنا، والخيانة الزوجية المفضيتان إلى الإجهاض، مما أثر سلبًا على الأسرة والقبيلة). ويرى المؤلف أن الفصل بين هذه المكونات مبعثه تيسير الغوص في البنية واستكناه خصوصيتها (التحول البطيء).
وأما ما يخص العامل الاجتماعي وأثره في انتشار الظاهرة، فيمكن تتبعه عبر المواقف والتمثلات؛ إذ يُعَد ترسيخ ثقافة الذكورة من جهة الرجل، والخصوبة عند المرأة، في المخيال الشعبي دليلًا على اكتمال الفحولة وسلامة التكوين الجسدي ووظيفته، والذي عضدته بنية التأليف في العصر الوسيط، ولا سيما النموذج النظري لدى ابن خلدون في “المقدمة”، الذي حدد قيمة الأخلاق ودورها تبعًا لطبائع العمران، والذي يفيد أن الترف مفض إلى الانحراف الخلقي.
نلحظ أن أسلوب صاحب الكتاب في بناء الموضوع يقوم على فقه الواقع، وتحقيق مناط المعلومات المتوفرة في المتون المصدرية، واللذين أسعفاه في فهم حركية الفعل الاجتماعي ومجهريته. ولذلك يقدم نموذجًا منهجيًا يرصد به هذا الإشكال، ويتمثل في الإطار المرجعي لـ”نظرية المجالات” التي تجاوزت الأبعاد النمطية للفاعلية التاريخية (اقتصاد، ومجتمع، وسياسة)، لصالح مجالات بديلة تعتمد الكليات والقواعد الراسخة والمؤثرة في إيقاعات التحول القيمي؛ وهكذا فالإجهاض، في تصور سعيد بنحمادة، يتجاوز السلوك الفردي نحو التحول الهيكلي الذي مس بنية القيم في مجتمع مشرف على الأفول بسبب الترف.
وبناء على هذا أمكن تعريف الإجهاض وتحديد أسبابه وتداعياته السياقية؛ فالمجتمع، وفق ذلك التصور، اتخذ مواقف مختلفة من إسقاط الأجِنَّة حسب البواعث المَرَضية التي تقتضي مراعاة حياة الأم وصحتها، في مقابل التشدد في حالات الإجهاض الناجمة عن الانحرافات الخُلقية. وهي المواقف التي تجلت في الفتوى والخبرة الطبية، وحولت حسن تدبير المضاجع والنطف إلى قيم ذات أولوية في المعاش اليومي، فحظيت برعاية مجتمعية عبر توظيف النظم الدينية والإدارية لحمايتها، وهو ما دفع صاحب العمل إلى التأكيد على بنيوية الظاهرة وعمقها في الذهنية الجمعية للأندلسيين والمغاربة.
وهكذا يكون المؤلف قد أجاد في تتبع مسألة الإجهاض في مستواها المرجعي، بما يمثّل تجديدًا في الرؤية والقراءة المتقاطعة بين جل النصوص، تحوّل معه الجسد الإسلامي إلى إنتاج لمختلف مكونات الثقافة الإسلامية، تستوي فيها الثقافة العالمة والشعبية والفلسفية والصوفية، مما يجعلنا نفترض أن أي مقاربة لظواهر اجتماعية من هذا القبيل، لن يتأتى تحقق وظيفيتها الأكاديمية، معرفيًا ومنهجيًا، إلا إذا تفاعلت الرؤى السالفة في تصور شمولي.
وخاض الفصل الخامس، الذي اتخذ عنوان “الرشوة وانحرافات السلطة ويوميات المعاش” (ص 224- 262)، في مسألة التحديد اللغوي للرشوة، والتمييز بينها وبين الهدية، ثم الرؤية الخلدونية للمسألة وربطها بالترف وفساد الأخلاق بسبب الاستبحار في العمران، ليفضي به البحث إلى أن هناك معلمين من المعالم المحددة للرشوة يهمّان الدولة والمجتمع معًا: ثقافة الترف، وأوجه تصريف المال.
وهكذا تنقسم قضايا هذه الفصل إلى محورين: الرشوة والسلطة، وتداول الرشوة في المعاش اليومي؛ ففي المظهر الأول تتّبَع العلاقة بين الرشوة والحُكْم من خلال توظيفها في الصراع السياسي، وفي النظم والتنظيمات (القضاء، والفقه، والحسبة). وفي الجانب الثاني، أي الحياة الاجتماعية، فتتداخل الهدية مع الرشوة، إلى درجة يصعب التمييز بينهما في العقود والالتزامات والمعاملات.
وحتى يجمع المؤلف بين الجانب المصدري والتأريخي، آثر أن يرسم مظاهر الارتشاء في الحياة اليومية سواء في الأسواق، أو في طلب المناصب، أو في شهادة الزور، دون القفز على آليات التصدي لهذه الآفة، والوفاء لمرجعية ابن خلدون التي أوضحت الأمر، انسجامًا وطبائع العمران، والتي لها الأثر الفعال في إفراز الانحرافات في التداول الاجتماعي للأموال، لكون “الجاه مفيد للمال”.
أما الخاتمة فقد كانت تركيبية أودعها الدارس عصارة ما انتهى إليه من خلاصات واستنتاجات، وأعقب ذلك بملاحق ذات أهمية قصوى، تعد -في تقديرنا- إحالات تزيد من قيمة العمل، وتضفي عليه طابعًا علميًا ذا دلالة خاصة.
بني الكتاب بهذه المنهجية وبهذا الفهم والتأويل، وأن ذلك لا يغري إلا بإيراد بعض الملاحظات المنهجية والمعرفية، بغرض الإغناء والإثراء، وتقوية أواصر التفاعل العلمي المنتج:
خضع العمل لتراتبية معينة في البناء والتصور؛ فإذا كان الفصل الأول مخصصًا لسؤال القيم في الكتابة التاريخية، والفصل الثاني لقيم النظافة والتجميل، والثالث للتخنث، والرابع للإجهاض، والخامس للرشوة؛ فإن قراءة متمعنة وفاحصة تدفع إلى افتراض غياب المبررات المنهجية والمعرفية لهذه الهندسة ابتداء من الفصل الثاني وإلى غاية الخامس، باستثناء الفصل الأول الذي نحسبه موجهًا وذا دلالة منهجية مفيدة من حيث بنيته النظرية والتأريخية، أي ما يتعلق بدور المقاربة الإشكالية للقيم في تجويد الكتابة التاريخية والرقي بها نحو التأصيل والعلمية. وإذا صح هذا الافتراض فإن سياقات كتابة هذه الفصول قد تبدو متباعدة، لا يربط بينها إلا خيط مرجعيتها الاجتماعية، وإطارها المعرفي والمنهجي الخلدوني ونظرية المقاصد.
وبالموازاة مع ذلك ننبه على الاعتبارات والخلفيات الكامنة وراء التأخير أو التقديم في الفصول؛ إذ كيف يمكن تفسير تقديم النظافة والجمال في المعاش اليومي (الفصل الأول) على نظافة البيئة وجماليتها (الفصل الثاني)؟ وتأخير تعريف الإجهاض على سياقه ونسقه (الفصل الرابع)؟ والأمر نفسه في الفصل الثالث الذي استهل بتحديد مفهوم الخنث والتخنث قبل الانتقال إلى نسقيته؟
كما أن سلم الأولويات يبدو مضطربًا بالنظر إلى خطورة الإجهاض مقارنة بالتخنث؛ إذ الأولى، في تقديرنا، تقديم الإجهاض على التخنث، وتقديم الرشوة عليهما معًا، إذا أخذنا بعين الرصد والتتبع سياق تشكّل الأنظمة المعرفية والحكم السياسي في الحضارة الإسلامية، ونقصد بالطبع السلطة وتوجيهها للنظامين معا[11].
أما على مستوى البنية المصدرية، فيظهر التباين الواضح وغياب التوازن بين الفصول؛ فلئن كان ابن خلدون والشاطبي وابن عربي قد هيمنا على الفصل الأول، الذي أوضح فيه الدارس رؤيته المنهجية والمعرفية لسؤال القيم، وعلاقته بالكتابة التاريخية في إطار ما سماه بنظرية المقاصد والرؤية الخلدونية؛ فإن الزجالي وابن البيطار والسقطي شكلًا سدة المصادر في الفصل الثاني، في الوقت الذي هيمن التيفاشي وابن عبدون والزجالي على الفصل الثالث، وساد ابن زهر وابن الكماد وابن سيده على الفصل الرابع، بينما كان ابن خلدون وابن عبدون والزجالي والتنبكتي عناوين بارزة في الفصل الخامس. فهل يمكن مع هذا الترتيب أن نتحدث عن “تخصص” مصدري في قضايا إشكالية محددة؟ فالدال أن هذه “النمذجة” و”التنميط” قد ترتبط بتأويل معين يجعل من المؤشرات النسبية قرائن للتقعيد وبناء الأنساق التي تتعارض مع ماهية وجوهر التاريخ بوصفه علمًا للتغير، إلا أن الخيط الناظم لها هو هيمنة ابن خلدون؛ فهل للأمر علاقة بمَعين لا ينضب تجد كل التفاسير ضالتها فيه؟ أم إن غياب تأليف متكامل في المرجعية المصدرية حَوْل سؤال القيم يجعل من “المقدمة” مرجعية نموذجية ومثلى؟ وبهذا المعنى نحن أمام مركزية جديدة قادرة على تفسير الكل، تستعيد بشكل أو بآخر التفوق الخاص دون النظر إلى حدوده وإمكاناته وسياقاته.
وبالمثل، فإن اعتراض المؤلِّف على النظرية الأنثروبولوجية لا يجب أن يقوده بالضرورة إلى رفضها كمنهج، فقد تُرفض كفلسفة غير أنها توَظَّف كنموذج نظري للتحليل، ومن ثم الاستفادة منها في توسيع الرؤية وتكسير نمطية التحليلات والمقاربات التقليدية في الكتابة التاريخية.
يحاول صاحب “سوسيولوجيا القيم” أن يتحدث عن نسق الترف في الفصل الثالث ونسق الإجهاض في الفصل الرابع، وكأننا فعلًا أمام أنساق وقواعدـ وحتى وإن صدح الدارس، وفي الكثير من مواقع هذا العمل، بوجود تحولات وتغيرات لا تستقر على وثيرة وحيدة. إلا أن الأمر مشوب بصعوبة كبيرة، حيث إن التدين والأخلاق والأعراف والقيم ليست لها ضوابط أو معايير مطلقة؛ فرغم أن الإسلام له معيارية وحقيقة مطلقة، فإن التعبد هو تعبير عن مستوى معين من الفهم في الزمن والتاريخ والمجال، ومعه نحدس، تأسيًا بإدغار موران، إلى أن العمليات التركيبية، التي اجتهد فيها المؤلِّف، في الفكر والتاريخ تتسم بالتوتر الدائم والنابع من التطلع إلى معرفة شاملة ومندمجة، وهي في الآن ذاته تعبير عن النقصان وعدم الاكتمال. ومنه فالأنساق والقواعد المعبر عنها إنما هي في الحقيقة جزئية محدودة بحدود الرؤية والمنهج والتأويل الخاص بالذات الباحثة.
لذا يظهر جليًا أن صاحب “سوسيولوجيا القيم” لم يتبن مقياسًا واحدًا في بناء القيم، سواء لدى السلطة أو المجتمع أو العامة، بالرغم من استمداد قوتها من المجتمع وأعرافه وتقاليده؛ فقد ظل الديني ماثلًا بمعياريته، وظل التاريخي معبرًا عن بعض مظاهره وتجلياته وبشكل مباين بين المجالات وروح العصر؛ فبداية الدولة ومرحلة الدعوة ليست هي مرحلة الأفول أو القوة، ورهانات يوسف بن تاشفين ليست هي رهانات ابنه، وطموح عبد المؤمن الموحدي ليس هو طموح المأمون أو المرتضى، بفعل التغيرات السياسية والمنعطفات المجالية والمجتمعية والذهنية، ولأن الأعراف والتقاليد قد لا توافق أحيانًا مستوى فهم النص الديني في العديد من المظاهر، وليس أدل على ذلك من الموضوعات التي تناولها سعيد بنحمادة في ثنايا كتابه، كالتخنث، والإجهاض، وتلوث البيئة، والارتشاء.
وحصيلة القول أن قراءة كتاب “سوسيولوجيا القيم” وفهمه لا يتمان على الوجه الأعمق إذا تم فصلهما عما نعتبره مشروعًا لسعيد بنحمادة الذي انبرى جاهدًا، وعلى وِزان الجيل الثالث من المدرسة التاريخية المغربية، لمحاولة تجديد مفهوم الوثيقة والزمن والمجال والفاعل التاريخي، ولذلك جاءت فصول هذا الكتاب ومضامينه ومضمراته منسجمة، معرفيًا ومنهجيًا، مع ما اهتدى إليه الباحث نفسه في إحدى خلاصاته، التي يرى فيها أن “كتابة تاريخ الغرب الإسلامي لا تعود إلى شح المضامين، بقدر ما تعزى إلى تطبيق المناهج الجاهزة، والقصور في اقتحام اللامفكر فيه والمسكوت عنه، وعدم القدرة على تجديد آليات صناعة الخطاب التاريخي، والتي بدأت في التقادم، وَصَدَأَ بعضها بسبب نمطية المفاهيم الضيقة للوثيقة والتحقيب والمنهج والرؤية، لذا وجب صقلها حتى تصبح الخزان الحقيقي لتعبئة الذاكرة وتأهيلها، لكتابة تاريخ موضوعي على أساس تلك الذاكرة، عوض التأريخ بالذكريات”[12]. ومن ثم فقد انتقل بنحمادة من “المنتوج” إلى “الإنتاج” ومن “الحدث المعاش” إلى “إعادة بناء الحدث” في دراسة العقل الأخلاقي بالأندلس والمغرب الوسيط.
الهوامش:
[1]– من مؤلفات سعيد بنحمادة: الماء والإنسان في الأندلس خلال القرنين 7 و8ه/13 و14م، إسهام في دراسة المجال والمجتمع والذهنيات، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2007؛ الماء والإنسان: حفريات في الطبيعة والثقافة بالأندلس، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.؛ سوسيولوجيا العقل الأمني في تاريخ الغرب الإسلامي، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.
[2]– محمد تضغوت، نحو تحديث دراسة التاريخ الإسلامي، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2004، ص 34.
[3]– بول فين، أزمة المعرفة التاريخية فوكو وثورة في المنهج، ترجمة وتقديم ابراهيم فتحي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص 39.
[4]– يؤسس الدارس رأيه هنا على رأي طه عبد الرحمن في قوله بأن ابن مسكويه هو مؤسس علم الأخلاق الإسلامي، والغزالي مجدد الفكر الأخلاقي الإسلامي، دون أن يفسر المعيار المنهجي والمعرفي لتأسيس هذا الحكم، وتبرير هذا الاختيار.
[5]– عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة أوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، ط1، 2012، ص 10، 12.
[6] – Jacques le Goff, pour un autre moyen âge, Gallimard 1977 .7.
[7]– أندري بورغيير، الأنتربولوجية التاريخية، أورده: محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي ترجمات مختارة، كلية الآداب ابن طفيل، ط1، القنيطرة، 2004، ص 27ـ. جوطار، التاريخ الشفهي، ضمن محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي ترجمات مختارة، كلية الآداب ابن طفيل، ط1، القنيطرة، 2004، ص 130.
[8]– للإشارة فهذا الفصل هو عنوان العمل الموجود ضمن كتاب: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي وتاريخ الذهنيات بالمغرب والأندلس قضايا وإشكاليات، تاريخ الذهنيات والأفكار، تنسيق محمد الشريف، الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية، ط1، 2020، ج3، ص 347- 369، وإن ورد بعنوان: “ثقافة النظافة والتجميل بمجتمع المغرب والأندلس دراسة في القيم والسلوك خلال العصر الوسيط”.
[9]– مارسيل موس، بحث في الهبة شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولدي الأحمر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ط1، 2011.
[10]– انظر مقالنا الهدية ووظيفتها السياسية في العصر المرابطي والمريني، ضمن كتب جماعي الملتقى الدولي للعلوم الاجتماعية والانسانية بين الثابت والمتغير، المركز الدولي للأبحاث والدراسات الاجتماعية والانسانية بريطانيا، جويلية 2022.