أطروحة لنيل شهادة الدسكتوراه في الدّراسات العربيّة، تخصص الدراسات المقارنة، بإشراف الأستاذين فاتحة الطايب وعبد العالي باروكي. نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ الخميس 29 فبراير 2024.
يندرج هذا البحث الموسوم بـ: “الترجمات المغربية للرواية الحديثة والمعاصرة المكتوبة باللغة الإسبانية: دراسة تأويلية مقارنة لترجمة العناصر الثقافية من خلال نماذج حول المغرب“، ضمن تكوين الدكتوراه “الدراسات المقارنة”، ويتناول بالدرس والتحليل ترجمة العناصر الثقافية من خلال نماذج من روايات حديثة ومعاصرة باللغة الإسبانية حول المغرب كتبها روائيون إسبان ومغاربة وأمريكيون لاتينيون، وترجمها إلى اللغة العربية مترجمون مغاربة، ينتمي معظمهم بالأساس إلى منطقة الشمال المغربي، نظرًا للظروف التي تربط شمال المغرب بإسبانيا. وتتمثل هذه النماذج في ست روايات وترجماتها وهي: رواية “عيطة تطاون” التي ترجمها عمر بوحاشي، ورواية “الحصن الخشبي” -التي تشكل استثناء حيث اشتغلنا على ترجمتين مختلفتين- للمترجمين المغربيين مزوار الإدريسي ومحمد أنقار، ورواية “للهواء أسماء” ترجمة فاتحة بلباه، ورواية “تحليق في سماء المغرب” ترجمة أحمد صابر، ورواية من “العرائش إلى السماء” ترجمة محمد بنخنو، ورواية “اسم ذوينا ” ترجمة أحمد رمضان.
قادنا إلى اختيار هذا الموضوع، الاستفادة من الانتعاش الذي عرفه نقد الترجمة في المشهد الأكاديمي المغربي ابتداءًا من تسعينيات القرن العشرين وخصوصًا في الألفية الثالثة، وما لاحظناه من تركيز الدراسات الجادة التي تناولت بالدرس المنجز الترجمي المغربي على الترجمة بين العربية والفرنسية، فيما ركزت أبحاث جادة أخرى تطرقت للكتابة باللغة الإسبانية وبلغات أجنبية أخرى، ما عدا بعض الاستثناءات، على تعميق البحث في الصورة الاستعمارية والتمثيلات الثقافية.
ولعل ما أثار انتباهنا ونحن نقرأ بعض هذه الأبحاث التي تطرقت إلى ترجمة العناصر الثقافية باعتبارها عنصرًا من بين عناصر أخرى كثيرة تناولتها بالدراسة، في ظل اطلاعنا على روايات مكتوبة باللغة الإسبانية حول المغرب وعلى الترجمات المغربية لهذه الروايات، هو أهمية العناصر الثقافية والصعوبات التي تطرحها أثناء الترجمة، وكذلك تركيز الباحثين على المترجمين الذين ينتمون إلى نسق مختلف عن النسق الذي انبثقت منه العناصر الثقافية موضوع الدراسة. وتكمن أهمية هذا البحث في اقتحامه تخوم نسقين لغويين ثقافيين متمايزين، وكذلك في البحث وتقصي حيثيات العملية الترجمية للعناصر الثقافية ونقلها من نسق إلى آخر.
تنطلق أطروحة هذا البحث من بديهية ترى أنّ انتماء المترجم الذي يترجم نصًا إبداعيًا، يتخذ المغرب وثقافته موضوعًا له، إلى النسق الثقافي المغربي، يقلص من حدة المشاكل التي يطرحها نقل العنصر الثقافي من لغة معينة إلى لغة أخرى مختلفة، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة مرور ترجمة العنصر الثقافي من دون عراقيل؛ فتأثير انتماء المترجم إلى الثقافة نفسها التي تشكل موضوع المتن الابداعي الذي يقوم بترجمته، تأثير هام وأكيد، لكنه لا يملك سلطة إلغاء جميع الصعوبات التي تطرحها ترجمة العنصر الثقافي.
وبناء على ذلك، طرحنا الأسئلة التالية التي تقودنا عبر مسارب هذا البحث: ماهي الاستراتيجيات التي اختارها المترجم المغربي في نقله للعناصر الثقافية؟ وما هي الحلول الترجمية المتاحة له للتعامل مع الصعوبات التي يطرحها نقل الخصوصية الثقافية؟ ثم ما طبيعة التغيير الذي طال العناصر الثقافية أثناء نقلها من نص مكتوب بلغة ثيرفانتيس إلى نص مكتوب بلغة الضاد؟
وحتى نتمكن من الإجابة عن هاته الأسئلة الجوهرية توسلنا بالمنهج التأويلي المقارن على ضوء مناقشة الدكتورة فاتحة الطايب لمسار أنطوان بيرمان (Berman Antoine) في كتابها “الترجمة في زمن الآخر ترجمات الرواية المغربية إلى الفرنسية نموذجا“، كما طعمنا هذه الدراسة بأبحاث وأطروحات منظري الترجمة في مجال ترجمة العناصر الثقافية، بالتركيز على ما قدمته الباحثة الإسبانية أمبارو أورتادو ألبير (Hurtado Amparo Albir) في كتابها “الترجمة ونظرياتها: مدخل إلى علم الترجمة“. كما استفدنا من مجموعة من الكتب في التنظير والنقد الترجمي والتمثلات الثقافية، ومن بينها على الخصوص كتاب الباحثة الإسبانية لوسيا مولينا مارتينيث (Martínez Molina Lucía) “خريف البطريق، تحليل وصفي لترجمة العناصر الثقافية”.
وعلى هذا الأساس أنجزنا هذه الدراسة وفق خطوات منهجية محددة، وتتمثل بداية في تخصيص تمهيد نظري لتحديد مفهوم العنصر الثقافي والحديث عن التحديات التي تطرحها ترجمته والاستراتيجيات الممكنة لنقله. وقد انتهينا في هذا التمهيد إلى وضع تصنيف للعناصر الثقافية بالاستفادة من تصنيف الباحثة الإسبانية لوسيا مولينا مارتينيث من أجل الكشف عن الاستراتيجيات التي توسّل بها المترجم المغربي لنقل العناصر الثقافية من النص الإسباني والأمريكي-لاتيني والمغربي المكتوب بالإسبانية إلى القارئ المغربي والعربي مع مراعاة سياق الكتابة وسياق الترجمة.
قسمنا البحث إلى بابين متكاملين: الباب الأول بعنوانـ “الترجمة الأدبية من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية في المغرب”، وقسمناه إلى فصلين: فصل بعنوان “الأدب المكتوب باللغة الإسبانية عن المغرب”، وفصل ثان بعنوان “حركة ترجمة الأدب المكتوب باللغة الإسبانية في المغرب”. خصصنا الفصل الأول لتقديم فكرة عن الأدب المكتوب باللغة الإسبانية حول المغرب، موزعًا على ثلاث قارات: القارة الأوروبية، ممثلة بإسبانيا، والقارة الأمريكية اللاتينية، ممثلة بالمكسيك، فالقارة الإفريقية، ممثلة بالمغرب، كما خصصناه لدراسة أشكال استقبال هذا الأدب وتتبع عوامل انتشاره. وقد سعينا من خلاله إلى تقديم مدونة البحث.
في الفصل الثاني قمنا بتسليط الضوء على حركة ترجمة الأدب الإسباني والأدب الأمريكي اللاتيني والأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية في المغرب، مما منحنا الفرصة لإضاءة الترجمات قيد الدرس؛ وبهذا تتمثل أهمية الباب الأول في كونه أرضية ضرورية للإحاطة بسياقات توظيف وترجمة العناصر الثقافية في المتن المدروس.
أما الباب الثاني الذي يحمل عنوان “تحديات واستراتيجيات ترجمة العناصر الثقافية إلى اللغة العربية”، فقد خصصنا الفصل الأول منه وعنوانه “وظيفة العناصر الثقافية في النصوص الموازية للترجمات” لدراسة عتبات النص المترجم بمفهومه الواسع، من أجل الوقوف على كيفية توظيف العناصر الثقافية المغربية من قبل المترجمين المغاربة ومن قبل الناشرين مغاربة وعربًا وأجانب، في حين تناولنا بالدراسة والتحليل في الفصل الثاني والأخير الموسوم ب “ترجمة العناصر الثقافية بين الائتلاف والاختلاف” استراتيجيات ترجمة العناصر الثقافية، بعد استخراج العناصر الثقافية المهيمنة و الأكثر دلالة على الثقافة المغربية في المتن المدروس وجرد مقابلاتها في الترجمة المغربية باستحضار السياق. وذيلنا البحث بخاتمة توليفيه لمجمل النتائج التي توصلنا إليها أثناء عملية المقارنة. وقد خلصنا في نهاية هذا البحث إلى مجموعة من الاستنتاجات نجملها فيما يلي:
استنادا إلى دراسة النصوص الموازية للترجمات المغربية، خارجية وداخلية، خلصنا إلى أن كثيرًا من دور النشر التي تتكلف بإصدار الترجمات لا تضع اسم المترجم على الغلاف الخارجي، وتكتفي بذكره في الصفحة الداخلية. في المقابل نلمس توظيفًا جيدًا للعناصر الثقافية من طرف دور النشر في الترجمات المدروسة. ونخلص من خلال دراستنا لخطاب مقدمات الروايات الأصلية والترجمات، إلى أن هذه المقدمات عالجت مسألة العناصر الثقافية في ارتباطها بموضوع الروايات المتمثل في المغرب. وفيما يخص العناوين الداخلية الخاصة بفصول الروايات الأصلية والترجمات، نلاحظ توظيفًا مكثفًا للعناصر الثقافية.
في المقابل استنتجنا من دراسة استراتيجيات المترجمين المغاربة، في تعاملهم مع مختلف العناصر الثقافية الموظّفة في الروايات المدروسة، تنوع التقنيات التي اعتمدوها في نقل العناصر الثقافية المغربية إلى اللغة العربية، الأمر الذي يؤكد استفادتهم من حرية اختيار الوسيلة المناسبة لإنجاح عملية النقل، وتقريب الصورة من القارئ المغربي بشكل خاص، أما القارئ المشرقي فيحضر أحيانًا بوصفه قارئًا ضمنيًا حينما يستعين المترجم بهامش يقلص به المسافة بين القارئ والنص، ويغيب أحيانًا كثيرة من حسابات المترجمين المغاربة وهم يستعيدون العناصر الثقافية إلى نسقها الأصل، كما هو الحال بالنسبة للعناصر الثقافية الآتية (شباكيه، كسال) على سبيل المثال.
ومن أهم الأساليب المهيمنة في الترجمات المدروسة، هو هيمنة تقنية الاسترداد عند جميع المترجمين، وتتمثل في استعادة العناصر الثقافية التي اقترضتها اللغة المنقول منها، وهي تقنية لجأ إليها المترجمون بغية إبراز ملامح النصوص الثقافية، وإثبات هويتها المغربية وانتمائها إلى الثقافة والنسق المغربيين، مما يدل على توجهه للقارئ المغربي بصفة خاصة. ومما لا شك فيه أن الغرابة التي يشعر بها القارئ العربي في النص المترجم، والتي يتطلب استيعابها معرفة عميقة، سببها الاختلاف في ثقافة المترجم والمتلقي. وإلى جانبها تحضر في بعض المواقع الترجمة الحرة والمضمونية المؤدية للمعنى، لأنها تحافظ على خصائص اللغة وتيسر عملية النقل بغرض خلق تواصل مع القارئ العربي. كما سعى المترجمون في بعض المواضع إلى تضمين النص الذي يضيء المعنى للقارئ، وفي هذه الحالة غالبًا ما يستحضر المترجمُ القارئَ العربي ويضيف للعنصر الثقافي ما يراه مناسبًا لإزالة اللبس وتقريب المسافة بينه وبين القارئ.
في ضوء هذه الاستنتاجات الخاصة بالاستراتيجيات المختلفة التي تبناها المترجمون المغاربة لنقل المضمون الثقافي أثناء نقلهم للروايات المدروسة من الإسبانية إلى العربية، نقدم الخلاصات الآتية:
أزلاً، إن انتماء المترجم إلى النسق الذي يشكل مرجعية المتن الروائي موضوع الدراسة لم يكن كفيلًا بالقضاء على جميع الصعوبات والتحديات التي تطرحها ترجمة العناصر الثقافية، في ارتباط بالسياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية والحضارية من جهة، وبمتلقي الترجمة من جهة أخرى، وهو ما يظهر جليًا أثناء دراستنا لكيفية نقل أكثر من مترجم لنفس العنصر الثقافي بصيغ مختلفة، حيث تتم ترجمة العنصر الثقافي الواحد بمقابلات مختلفة، سواء تعلق الأمر بالعنصر الثقافي الذي يتكرر في نفس الرواية، أم بالعنصر ذاته موظفًا في أكثر من رواية. إلا أن هذا الانتماء خفّف من هذه الصعوبات وساهم في تيسير عملية النقل.
ثانيًا، سعى المترجمون من خلال ترجماتهم إلى التأكيد على أن المترجم هو سيد القرار في عملية اختيار النصوص وأسلوب النقل.
ثالثًا، أبرزت ترجمة المغاربة التزامًا قويًا بأداء المعانى والمضامين الثقافية؛ فالمجهودات التي بذلها المترجمون في ترجمة العناصر الثقافية في الترجمات المغربية واضحة جدًا، مع التأكيد على الجرأة القوية في التعامل مع مثل هذه النصوص، التي تقدم قيمة تاريخية وثقافية وحضارية وحوارية.
رابعًا، ركزالمترجمون المغاربة على إبراز الهوية الثقافية المغربية والتعريف بها باعتبار الترجمة وسيلة للتواصل بين الثقافات المختلفة، وهو ما يفسر تغييب القارئ العربي أحيانًا كثيرة والتركيز على القارئ المغربي. ففي حين استهدف كتاب النصوص المصدر، التي تتمحور حول المغرب والثقافة المغربية، المتلقي الناطق بالإسبانية سواء في إسبانيا أو في دول أمريكا اللاتينية أو في المغرب، كاد المترجمون المغاربة يَقصُرون أفق انتظار الترجمات المغربية على المتلقي المغربي، ما عدا بعض الإضاءات والهوامش التفسيرية كما أسلفنا.