Emmanuel Todd, La défaite de l’occident, Gallimard, 2024.
صدر كتاب هزيمة الغرب لمؤلفه إيمانويل طود في 11 يناير 2024 عن دار النشر الفرنسية كاليمارد، وهو كتاب ينقسم إلى أحد عشر فصلا إضافة إلى مقدمة وخاتمة وملحق إضافي في آخر الكتاب خصص للتعليق على أحداث غزة الأخيرة. يعتبر إيمانويل طود من المفكرين الفرنسيين المتخصصين في الأنثروبولوجيا والديموغرافيا والتاريخ. وقد اشتهر بكونه أول من تنبأ بانهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه “السقوط الأخير” المنشور سنة 1976. وهي النبوءة التي تحققت بانهيار جدار برلين سنة 1989وتفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991.
خلق كتاب هزيمة الغرب جدلا واسعا في الأوساط الفكرية والعلمية الفرنسية، وقد حل طود ضيفا على مختلف المنابر الإعلامية التلفزية والإذاعية والإلكترونية في فرنسا لمناقشة خلاصات المؤلف والاستنتاجات التي توصل إليها. وقد انقسم المفكرون والإعلاميون الفرنسيون إلى فئتين: فئة دافعت عن أطروحة الكتاب ورأت فيه صرخة جديدة تنضاف إلى صرخات سابقة صدرت عن مفكرين آخرين يحذرون من المسار الذي يتبعه الغرب والذي سيؤدي حتما إلى فقدان زعامة العالم وإلى تعميق عزلته الإيديولوجية، وفئة ثانية لم تتوان عن مهاجمة الكاتب واعتباره واحدا من الأبواق المدافعة عن بوتين ونظامه. كما وجهت له هذه الفئة اتهامات عديدة تخص بالأساس عدم استناده إلى أدوات علمية من أجل الدفاع عن نظريته والاقتصار على أعمال علمية محدودة وقديمة في الغالب من أجل التأطير النظري للمفاهيم المستخدمة، وكذلك تعمد طود انتقاء مؤشرات بعينها من أجل التأكيد على بعض المعطيات وإغفال مؤشرات أخرى تنفي هذه المعطيات. لكن رغم هذا الجدال، يشكل الكتاب إضافة نوعية نظرا أولا لسمعة الكاتب، وثانيا للكم الهائل من المعطيات والأفكار الواردة فيه وثالثا لراهنيته وتزامنه مع الطفرة التاريخية التي يعيشها العالم من خلال إعادة تشكل النظام العالمي ومحاولة نشوء قوى وأقطاب عالمية جديدة وعودة نظام الحمائية وتراجع العولمة وكذا التهديد بعودة الحروب إلى القارة العجوز لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم هذا الجدال والنقاش الحاد الذي خلقه الكتاب، إلا أن قيمته تتجلى فيما صرح به أحد الصحافيين الذين حاوروا طود بأنه رغم عدم اقتناعه بمجموعة من خلاصات الكتاب، إلا أنه كتاب يجعلك تحس بعد إنهائه بأنك أكثر ذكاء[1]. من جهة أخرى، أكد طود في أكثر من مناسبة أن هذا العمل تطلب منه بذل مجهود كبير لتجميع المعطيات وتحليل الأرقام والمؤشرات والقيام بأبحاث ولقاءات كثيرة قصد التدقيق في الأحداث الراهنة والوقائع التاريخية واستثمار مجموع النظريات والأفكار التي طورها طيلة مساره العلمي، وهو ما يكشف تأكيد الكاتب على التزامه بالصرامة العلمية الواجبة وتشبثه بالموضوعية والحياد الضروريين.
تقوم الفكرة الرئيسية للكتاب على نقطتين: أولا التذكير بالمبررات التي يراها الكاتب منطقية للغزو الذي شنته روسيا على أوكرانيا مع تقديم المعطيات الدالة على قوة روسيا وقدرتها على مواصلة الحرب والانتصار فيها، وثانيا استعراض السياقات التاريخية مع الاستدلال ببعض المؤشرات والأرقام من أجل بيان تراجع الغرب ودخوله مسارا تنازليا نحو فقدان زعامة العالم وتشكل عالم جديد متعدد الأقطاب. وفي هذا الإطار، لجأ الكاتب إلى استخدام مجموعة من المفاهيم للتعبير عن مختلف التحولات التي شهدتها وتشهدها المجتمعات التي شملتها دراسته. ومن أمثلة ذلك مفهوم العدمية، مفهوم الحالة النشيطة، واللاوعي ثم درجة الصفر من التدين، ومفهوم البنية الأسرية الجمعية communautaire والجذعية souche والنووية nucléaire وكذلك الدولة النشيطة والمعطلة.
يستهل طود مؤلفه بالحديث عن المفاجآت العشر التي خلقتها الحرب الروسية-الأوكرانية. وتتجلى أهم هذه المفاجآت في ما يلي: أولا، الصمود المدهش للاقتصاد الروسي أمام العقوبات المتعددة الأوجه التي فرضها الغرب بعدما تم الترويج لقدرة هذه العقوبات على تركيع الدب الروسي وتشبيهها بالسلاح النووي الاقتصادي حسب تصريح وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير. ثانيا: قدرة أوكرانيا على المقاومة العسكرية بعدما ساد الاعتقاد على أن انهيار جيشها لن يستغرق طويلا. ثالثا: تخلي أوربا عن الدفاع عن مصالحها الحيوية وتلاشي دورها كفاعل جيو-استراتيجي مستقل من خلال الانسياق وراء الخطط التي سطرتها الولايات المتحدة والمشاركة بشكل أعمى في تنفيذ استراتيجيتها وتحقيق أهدافها. لكن بالمقابل وبشكل مفاجئ اختارت باقي دول العالم توجها مغايرا هذه المرة من خلال عدم الاصطفاف وراء الغرب والتوجه بشكل مباشر أو غير مباشر نحو دعم روسيا مما ساهم في تعميق العزلة الإيديولوجية للغرب.
وتمثل هزيمة الغرب آخر المفاجآت التي يوردها المؤلف والتي يعتبرها هزيمة مصيرية ومؤكدة، رغم كونها لازالت قيد التحقق في أرض الواقع. وإذا كان التفوق الروسي في الحرب الجارية مع أوكرانيا قد ساهم بشكل كبير في الكشف عن مدى الضعف والعزلة اللذين تعاني منهما الإيديولوجية الغربية، إلا أن روسيا ليست السبب الرئيسي والمباشر لذلك. بل يتعلق الأمر أساسا بالتدمير والتآكل الباطني للبنيات والمؤسسات التي يقوم عليها الغرب.
أولى علامات هزيمة الغرب، حسب طود، هي فشل المسؤولين الغربيين في قراءة المعطيات المتعلقة بحقيقة الوضع الاجتماعي والاقتصادي في روسيا. حيث ساد الاعتقاد في أوساط النخبة الغربية بضعف النظام الروسي وقدرة الطبقة الوسطى الناشئة على إشعال الثورة. على العكس من ذلك، يسرد المؤلف مجموعة من المؤشرات والأرقام التي تفسر صلابة وقوة روسيا. فقد سجلت المؤشرات الاجتماعية تحسنا ملحوظا من خلال انخفاض معدل وفيات الأطفال ومعدل الانتحار ومعدل الوفيات الناتجة عن استهلاك الكحول وكذا معدل الإجرام ما بين 2000 و2020. كما تضاعفت الصادرات الفلاحية الروسية ثلاث مرات وتقلصت وارداتها إلى النصف خلال الفترة الممتدة بين 2013 و2020. وساهمت العقوبات التي تم فرضها على روسيا في تعزيز قدراتها الإنتاجية من أجل ضمان وتعزيز استقلاليتها، مما جعل من هذه العقوبات هدية كبيرة للاقتصاد الروسي.
إضافة لهذا، يستشهد المؤلف بمؤشر آخر يعتبره ذا دلالة عميقة، والذي يساعد على فهم قدرة روسيا على مواصلة حربها على أوكرانيا وعدم استنزاف مخزونها من الأسلحة رغم أن ناتجها الداخلي الخام مضافا إلى ناتج بيلاروسيا (أو روسيا البيضاء) لا يمثل سوى3,3% مقارنة مع الناتج الداخلي الخام المسجل في الغرب. يتعلق الأمر بنسبة الطلبة الموجهين للدراسة في تخصص علوم الهندسة. وتصل هذه النسبة إلى 23,4% في روسيا بينما لا تتعدى 7,2% في الولايات المتحدة الأمريكية. ويؤثر هذا الفارق على المسار الذي يسلكه كل بلد حيث تسد الولايات المتحدة حاجاتها من المهندسين بتشجيع هجرة الأدمغة نحوها خاصة من ذوي الأصول الهندية والصينية مما يجعلها في تبعية دائمة للخارج، بينما تعتمد روسيا على تقوية مهارات وكفاءات أبنائها.
من ناحية أخرى، يقلل المؤلف من قيمة الآمال التي يعقدها الغربيون على إمكانية اندلاع ثورة للطبقة الوسطى الروسية على نظام بوتين بالتأكيد على وجود اختلاف كبير بين الطبقة الوسطى الروسية والغربية. ويكمن هذا الاختلاف في معطى أنثروبولوجي محض. فالبنية الأسرية السائدة في روسيا هي جماعية communautaire وأبوية. تضم الأب وأبناءه المتزوجين مما يسمح بحركية قيم السلطة (بين الأب والأبناء) والتساوي (بين الأبناء فيما بينهم). وتسمح هذه القيم الجمعية الموروثة والمتسمة بالسلطة والتساوي بتقوية الحاجة إلى ضرورة الانتماء إلى دولة مركزية قوية تحافظ على التماسك الاجتماعي. على العكس من ذلك، فالبنية الأسرية المنتشرة في الدول الانجلوساكسونية هي بنية نووية لا يسمح فيها بتقاسم المسكن إلا بين الزوج وزوجته وأبنائهما، والذين يتركون آباءهم بمجرد بلوغهم سن المراهقة، وهو نظام يشجع الأفراد على طلب الاستقلال الأسري.
بالمقابل، يؤكد الكاتب أن الاكتفاء بنقط القوة المذكورة فقط يمكن أن تؤدي إلى الاعتقاد أن بإمكان روسيا أن تصبح قوة امبريالية جديدة. لكن ثمة نقطة ضعف أساسية تعاني منها روسيا، وهي المشكل الديمغرافي وبالتحديد ضعف معدل الخصوبة الذي لا يتجاوز 1,5 سنة 2020، مما يسبب في انخفاض عدد السكان. ففي سنة 2020، بلغ تعداد سكان روسيا 146 مليون نسمة. وحسب توقعات الأمم المتحدة، سينخفض هذه العدد إلى 126 مليون نسمة بحلول سنة 2050. لهذا فالفكرة القائلة بأن روسيا ستقوم بغزو أوروبا حالما تنتهي من أوكرانيا هي مجرد وهم. فمع الانخفاض الديمغرافي وشساعة مساحتها الجغرافية، ما يشغل روسيا حقيقة هو كيفية الحفاظ على سيادة أراضيها حسب تعبير الكاتب.
ثاني علامات هزيمة الغرب هي الوصول إلى ما يسميه طود بحالة الصفر من التدين. وفي هذا الصدد، يميز المؤلف بين ثلاث مراحل لتطور الدين المسيحي بتعدد مذاهبه وتياراته: الحالة النشيطةétat actif وحالة اللاوعي état zombie ثم حالة الصفرétat zéro. ففي المرحلة النشيطة للتدين، كان طقس القداس أو الذهاب إلى الكنيسة أيام الأحد قويا ومنتظما. في مرحلة اللاوعي، اختفى هذا الطقس. لكن الطقوس المتعلقة بالولادة والزواج والوفاة بقيت مؤطرة بالإرث المسيحي مثل الاستمرار في تعميد الأطفال ورفض حرق جثث الموتى. بالمقابل، تتميز حالة الصفر من التدين بالتخلي عن تعميد الأطفال واللجوء المتزايد إلى حرق جثث الموتى وكذلك بالسماح بزواج المثليين وحرية تغيير الجنس transgenre وإمكانية تأجير الأرحام GPA : Gestation pour autrui. وقد ساهم مسلسل تقويض البروتستانتية والوصول إلى حالة الصفر من التدين في اختفاء الشعور الوطني الجمعي، وروح العمل والأخلاق الاجتماعية الموجهة لسلوك الفرد والقدرة على التضحية من أجل الجماعة. وتعتبر عملية إعادة إحياء هذه القيم الدينية الأصيلة مهمة صعبة حيث أصبح واقع هدمها وتقويضها أمرا حتميا لا رجعة فيه. في هذا الإطار، إذا كان انتشار البروتستانتية قد ساعد على ازدهار الغرب وتحقيق الإقلاع الاقتصادي من خلال تشجيع التعلم ومحاربة الأمية وتوفير قوة عاملة مكونة تكوينا عاليا وفعالا، فإن موتها سيؤدي إلى تفكك الغرب وهزيمته.
يمثل شلل الديمقراطية الليبرالية العلامة الثالثة لهزيمة الغرب. ومن أجل التعبير عن الطبيعة الحقيقية للنظم السياسية بالغرب وروسيا، عمد المؤلف إلى إعادة صياغة مفهوم الديمقراطية الليبرالية. وأكد أن هذا المفهوم يستوجب في معناه العام أربع محددات. أولا، وجود إطار الدولة الوطنية حيث يتم استخدام لغة مشتركة من أجل التواصل بين المواطنين. ثانيا، تنظيم انتخابات عبر الاقتراع المباشر. ثالثا وجود التعددية الحزبية وحرية التعبير والصحافة. ورابعا وأخيرا تطبيق قاعدة الخضوع للأغلبية مع احترام حقوق الأقلية. ففي روسيا، هناك تصويت ودعم شعبي للحكومة لكن دون حماية حقوق الأقليات، مما يستدعي استبدال كلمة الليبرالية بالسلطوية. وبذلك يصبح النظام الروسي ذا طابع ديمقراطي سلطوي. أما في الغرب، فتحكم أقلية في دواليب السلطة وتوجيهها لخدمة مصالحها الضيقة يؤدي إلى تعثر تمثيلية الأغلبية مما يفرض التخلي عن مفهوم الديمقراطية واستبدالها بالأوليغارشية. في حين يجب الإبقاء على مفهوم الليبرالية لأن هناك حماية لحقوق الأقليات. نتيجة لذلك، يمكن وصف النظام السياسي في الغرب بالأوليغارشية الليبرالية. وقد تولدت عن هذا النظام مواجهة بين تيارين إيديولوجيين: النخبوية والشعبوية. ترفض النخب نزوع الشعوب نحو اليمين المطبوع بالكراهية تجاه الأجانب. أما الشعوب فهي متوجسة من انسياق النخب نحو عولمة متوحشة. نتيجة لهذه المجابهة، أصبحت الديمقراطية التمثيلية في الغرب بدون معنى وأدت إلى تشكل نخبة ترفض تمثيل الشعب وإلى وجود شعب غير ممثل. في خضم هذه المجابهة، أصبح هم النخبة الغربية هو خدمة المصالح المادية المشتركة للطبقة الأوليغارشية بغض النظر عن آثارها على باقي الطبقات الاجتماعية. فالعقوبات الاقتصادية على روسيا تم اعتمادها كآلية حرب رغم كون المتضرر الحقيقي منها هي الطبقات الدنيا التي عانت من التضخم ومن تدهور القدرة الشرائية.
ومن علامات هزيمة الغرب كذلك الانتكاسة الاجتماعية التي باتت تعيشها معظم المجتمعات الغربية. ومن أجل فهم أعمق لأسباب هذه الانتكاسة خاصة في الولايات المتحدة، لجأ المؤلف إلى استعمال نظرية العدمية. فقد ترافق ارتفاع معدل الوفيات وخاصة وفيات الأطفال وكذا انخفاض معدل أمد الحياة مع ارتفاع النفقات المستهلكة في المجال الصحي. وتزامن توسع التفاوتات بين الطبقات مع خفض معدلات الضريبة على الطبقات الميسورة مما أدى إلى الزيادة في ثروتها. كما أن ارتفاع عدد التلاميذ المسجلين في التعليم العالي قابله انخفاض في مستوى التحصيل الدراسي ومعدل الذكاء. ونظرا لاتساع الهوة بين الطبقات، قسم المؤلف المجتمع الأمريكي إلى ثلاث طبقات: 0,1% التي تمثل ما يقارب 400 أمريكي الأكثر ثراء حسب مجلة فوربس. ثم 10% من الأشخاص المنتمين للطبقة الوسطى العليا والذين يتراوح أجرهم السنوي ما بين 400.000 و500.000 دولار حيث يخصص الجزء الأكبر منه لأداء رسوم دراسة الأطفال والتأمينات الصحية. وفي الأخير توجد الطبقة المشكلة من البقية التي تصارع من أجل البقاء. وأكد الكاتب أن الأوليغارشية الليبرالية التي تشتغل في إطار العدمية بدل إطار الديمقراطية الليبرالية، هي التي تخوض الحرب ضد الديمقراطية السلطوية الروسية.
يتجلى المشهد الآخر من مشاهد هزيمة الغرب في تفجر الاقتصاد الأمريكي. فقد سجلت الصناعة بمفهومها الكلاسيكي المتمثل في صناعة الأشياء أو المنتجات تقهقرا ملحوظا خلال العقود الأخيرة وهو ما يؤكده عدم قدرة الولايات المتحدة على سد حاجات الحرب من الأسلحة. ففي سنة 1928، كان الإنتاج الصناعي الأمريكي يمثل 44,8% من الإنتاج العالمي، لينخفض في سنة 2019 إلى 16,8%. ومس التراجع كذلك الإنتاج الفلاحي. فإذا كان الإنتاج السنوي للحبوب في روسيا ارتفع من 37 مليون طن سنة 2012 إلى 80 سنة 2022، فإن الإنتاج السنوي الأمريكي قد تقلص من 65 مليون طن سنة 1980 إلى 47 مليون طن سنة 2022. ومع التزايد الديمغرافي ستصبح الولايات المتحدة مستوردة للمنتوجات الفلاحية بعدما كانت بلدا مصدرا لها. وقد أدى عدم قدرة الصادرات الأمريكية على تغطية الواردات إلى عجز في الميزان التجاري والذي يتم تمويله بإصدار المزيد من الدولارات باعتباره وحدة التداول العالمية والذي تستعمله الطبقة الأوليغارشية العالمية في نفس الوقت من أجل تخزين ثرواتها في الجنات أو الملاذات الضريبية. وفي نفس السياق، تعرف الولايات المتحدة تنامي ظاهرة الاستحقاق غير المنتج والفاسد. فبالإضافة إلى كون 7,2% فقط من الطلبة الأمريكيين يتوجهون إلى شعب الهندسة، فإن هناك أيضا هروبا اجتماعيا داخليا للأدمغة: نحو الشعب المتعلقة بالقانون ومالية الأسواق وكذلك نحو مدراس التجارة وباقي القطاعات التي تعد بأجور أكبر بكثير من أجور الهندسة والبحث العلمي.
وأخيرا، يؤكد طود أن هزيمة الاتحاد الأوربي ستكون بالانهيار الداخلي. لم يكن اندفاع أوروبا نحو الحرب خطأ ولا حدثا عرضيا أو عشوائيا، بل يكمن سببه في حاجة القادة الأوروبيين لعدو خارجي من أجل إعطاء نفس جديد لمشروعهم الوحدوي وإعادة الروح له. غير أن الكاتب اعتبر أن الاتحاد الأوروبي أصبح عبارة عن معمل غاز غير قابل للتدبير وغير قابل للإصلاح. لهذا فيمكن اعتبار انخراطه في الحرب رغبة في الانتحار وليس حاجة لإعادة الإحياء. أما فيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية، فستكون هزيمتها بتعزيز التقارب بين روسيا وألمانيا وبسقوط الدولار كوسيلة نقد عالمية، وكذا بنهاية الواردات المؤداة بالدولار وانتشار الفقر المدقع. فرغم إصرار الولايات المتحدة على تطبيق توصيات برجينسكي بمنع أي تقارب بين روسيا وألمانيا وذلك بإضعاف روسيا من خلال توسيع حلف الناتو ليلامس حدودها وضم أوكرانيا لمعسكر الغرب واقتطاعه من المجال الحيوي الروسي، إلا أن المصالح الاقتصادية المشتركة بين القوتين الكبيرتين روسيا وألمانيا تستدعي تقوية التعاون والتكامل بينهما. وحسب طود، سيسرع الفشل الأمريكي-الأوكراني في الحرب الجارية من التقارب بين روسيا وألمانيا وتشكيل قوة أورو-أسيوية ستعمل على تهميش الولايات المتحدة.
[1] يتعلق الأمر بالصحفي فانسو رو Vincent Roux رئيس تحرير لوفيغارو مباشر. وقد قام باستضافة إيمانويل طود في وجهات نطر (Points de vue – le figaro) التي تم بثها على قناة جريدة لوفيغارو على اليوتيوب يوم 17 فبراير 2024.