عقّب عبد الله العروي على العروض المقدمة في الجلسة بمداخلة دامت ما يناهز الساعة والنصف. ونقدم فيما يلي ملخصا لهذه المداخلة أنجزه بتصرف عبد الأحد السبتي.
منطلق الكتاب يقول العروي إنه انطلق كعادته من وضع مُعايَن، لا من فكرة أو سؤال. وما هو معايَن هو أن المسلمين العرب القادرين على قراءة القرآن باللغة العربية هم الآن أقلية. ثم إن أغلبيتهم يعيشون في دول لائكية، (مثال: مسلمو الهند).
وهناك نقطة ثانية، وهي أنه من الوجهة التاريخية، يطرح سؤال هام: هل الدول التي نسميها دولا إسلامية، كان المسلمون فيها أقلية أم أغلبية؟ خلال قرون طويلة، كانوا دائما أقلية: الأندلس، لعدة قرون، نفس الأمر في المغرب لمدة طويلة، وفي الدولة العثمانية، بل حتى في الجزيرة العربية في بداية القرن الأول للهجرة. إذن، في تاريخ وفي حاضر ما نعتبره مجال الإسلام، أو دار الإسلام، الإسلام فيه أقلية.
معنى ذلك أن من يطالب بتعميم الشريعة، أو تطبيقها في الماضي، أو في الحاضر، إنما يطالب بذلك من منطلق غير منطلق الواقع، بل هو منطلق ما يجب أن يكون. إذا بدأنا نفكر فعلاً، أي لا نفكر بما يراد لنا أن نفكر به، بل نفكر بما يوحي لنا به الواقع، فمعناه أننا في بداية التفكير.
بناء على ما سبق، يعتبر العروي أن هناك موضوعين لا ينبغي الخوض فيهما من منطلق الدين، وهما:
العلم التجريبي. هناك غزو الفضاء، وأبحاث مخبرية حول أوليات الكون. فكلامُنا لا أهمية له. هل نقول إن العالم خلق منذ ستة ألاف سنة، بينما يقول العلماء الآن، إن العالم خلق منذ ملايين السنين؟
التنظيم السياسي. كيف يمكن المطالبة بتطبيق الشرع والمسلمون أقلية في دول لائكية، باستثناء العرب الذين هم أقلية بالنسبة للمجال الإسلامي؟
وبالتالي، إذا سألك أحد المسلمين الذين يعيشون في هذا الوضع، وهو وضع أغلبية المسلمين عن معنى الإسلام، وأجبته بأن الإسلام هو الشرع، فهناك مشكل كبير. هذه هي وضعية المرأة التي يحاورها العروي في الكتاب. تشتغل بالعلم، وترغب في أن لا تقطع العلاقة مع انتماء ما. فهي تريد جوابا يهم حياتها هي، لا تريد كلاما عن عمر بن الخطاب أو ابن حنبل.
منظور الكتاب
اختار العروي أن يجيب المرأة لا كفيلسوف أو عالم كلام، بل كمفكر تاريخاني، ومعناه أنه يأخذ الزمن الفعلي بجد، أي: أولوية السابق على اللاحق، في مستوى الواقع والذهن معاً. وهو ما يعبر عن التجربة الإنسانية. بينما الفيلسوف يقول بأولوية الحق مهما كان موقعه في الزمن، فيستشهد بسبينوزا ثم بسقراط.
ففي مستوى الواقع، هل القانون سابق على الشرع أم لا؟ الواقع يقول إن حمورابي سابق على موسى. ومع من يتحاور إبراهيم؟ يتحاور مع ما في السماء وما في السماء هو القانون، لأن الناس كانوا يعتبرون أن من يضمن القانون هو الأقوى، ومعناه النظام. وكما أن سقراط انقلب على الفلسفة السابقة، انقلب إبراهيم على ما سبق، وقطع العلاقات. وهنا السؤال الأساسي الذي ينبغي أن نجيب عنه، لا أن نغيره: نحكم بما نعرف على ما لا نعرف؟ فلذلك نقول هذا ما نعرف، ولكن ما لا نعرف أكثر مما نعرف.
ما هي السنة؟ هي التي تقول: نعرف كل شيء. وهذا الذي نعرف هو له الأسبقية والأولوية شرعاً على ما لا نعرف، فلذلك يمحو الفكر السني ما سبقه. ومن هنا جاء مفهوم الجاهلية. هل هي الجهل، أم التاريخ الطويل الملموس؟ هل كان هناك غياب القانون، أم كان هناك قانون قبل أن يباركه إبراهيم؟ والمباركة هي كلمة تأتي باستمرار في القرآن، تبارك ما هو موجود. إذا كان هذا هو المنطلق، إذن كل ما بين أيدينا، يعني كل ما يتعلق بالخلق، ينبغي أن لا نخوض فيه، بل نترك الأمر للعلماء.
نفس الشيء فيما يتعلق بالتنظيم الاجتماعي. هل توجد إنسانية منظمة حسب القواعد التي تضمن لها البقاء والرخاء، والعدالة بدون تشريع إلهي؟ يقول التاريخ: في الحضارات القديمة، مثل اليونان، كان في البدء عمل المشرع، ثم جاء المعبد لكي يبارك، معناه أنه بإمكان المجتمع أن ينظم نفسه على أساس بشري.
هذا هو اتجاه كتاب العروي. ويمكن لمبدأ أولوية الزمن أن يدفع إلى طرح أسئلة هامة. ففيما يخص الفقه، لماذا كانت البداية بأبي حنيفة الذي أخذ بالرأي، والنهاية بابن حنبل الذي رفض الرأي وإعمال العقل، وأخذ بالنص. وقال إن كل موضوع له حديث يناسبه. واللافت للنظر أن ابن حزم انتقد أبا حنيفة لأنه قال بالرأي، والشافعي لأنه قال بالقياس، ومالك لأنه قال بالاستحسان. وفيما يخص علم الكلام؛ لماذا كانت البداية بالجهمية، والنهاية بمقولة، “لا خوض في الكلام”، وبمنع علم الكلام في مراكش على سبيل المثال، ومنع التاريخ؟
مثل هذه الأسئلة تعبر عن اتجاه التاريخانية التي تبناها العروي منذ كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة. وهذه التاريخانية تختلف عن منحى الفلاسفة الذين يرفضون الزمن، كأرسطو و أغوستين الذي يعتبر أن الزمن خادع ولا قيمة له، وتختلف عن منحى المؤرخ الذي يقوم بالسرد التاريخي العادي وينفي التطور. يلح العروي على مسألة عداء الفلاسفة للتاريخانية. وهذه الأخيرة لا تعني بالتاريخ ما سبق، بل تعني العمل التاريخي، كما أنها لا تعطي الأولوية للبحث عن الحقيقة بل تعطيها للنجاعة والإنجاز. بينما الفيلسوف والمتكلم يقومان بالأساس بالتنسيق بين الأفكار.
تاريخية السُّنة
السنة، أي سنة، ليست هي المنبع، ليست هي الدين. السنة لا تتكون إلا برفض التطور التاريخي. وكلما أو بمجرد ما نأخذ بعين الاعتبار الأوليات الزمنية، ندخل في زمن الإصلاح. السنة هي رفض التاريخ عن حق، وليس عن باطل لأسباب، لدوافع، لدواعي تاريخية أيضاً. ولكن تدفع إلى رفض التاريخ وأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي. معنى ذلك العودة إلى االأوليات وتتبع التطور. وهذا يدخل بالضرورة في الإصلاح.
في مجتمعات كثيرة أخرى، أيضاً، كانت السنة وبعدها الإصلاح. فالكاثوليكية كانت إصلاحاً بالنسبة للأرثودوكسية، والبروتستانية كانت إصلاحاً بالنسبة للكاثوليكية. وما يسمى الآن بما بعد المسيحية post- christianisme ، هو إصلاح بالنسبة للأرثودُكسية الإصلاحية التاريخية. وعند اليهود، هناك مجموعات تميز بين الطقوس وبين العقيدة، بل بين العقيدة وبين الأخلاق. مثلاً، عند اليهود هناك من يقول: بالنسبة لنا الموسوية هي أخلاق أساسية لا تكذب، لا تضر، الخ. أما عدد من جوانب حياة موسى فهم لا يؤمنون بها، والآخرون يقبلون ذلك. وكثير من المسيحيين يشكون في وجود المسيح. وهناك من يقول إن ديني هو الطقوس، أي الصلاة وما إليها.
وتوقف عند بعض النقط بإسهاب، وهي: أولا- مسألة العقل والمذاهب الفقهية
يدعو العروي إلى تنْسيب حضور العقل في المذاهب الفقهية. فالعقل عند أبي حنيفة يعني حرية القاضي في التصرف، أي اعتبار المحيط، على أساس أن النص القرآني قابل للتأويل، وأن الأحاديث الصحيحة تغيب في كثير من القضايا. أما عن رفض مالك بن أنس لموقف الحنفي، فهو رفض لا يخلو من نعرة عربية، ونعت أحد أتباع مالك الحنفية بالأحكام الفارسية. ويرد نفس التحامل عند القاضي عياض. ومن جهة أخرى، فقد قال مالك بالاستحسان في غياب حكم سابق في كتاب الموطا. واعتبر الشافعي أن السنة هي التي تفسر القرآن، ومعناه أن أحكام القرآن لا يمكن أن تطبق إلا في نطاق الأحاديث. ثم جاء ابن حنبل ليُقرَّ بأن الكل في السنة. واعتبر العروي أن الأندلسيين تشبثوا بالمالكية لأنهم عرب. وابن رشد فيلسوف، ومالكي في المذهب، وظاهري في الفقه.
ثانيا- مسألة الأمية
قيل إن محمدا نبي الأميين، وفسروا الأمية بانعدام الثقافة، وهو تفسير يمكن أن يُرفض لكن مجموعة من الأقوال ترتبت عنه. فابن خلدون يقول: بما أن العرب كانوا أميين، فمخاطبتهم لا يمكن أن تكون إلا عن طريق العصا، لأن العقل لا يفيد فيهم. ويقول الشاطبي: بما أن قواعد الشرع مبنية على الأمية، فكل تفسير وكل تأويل يجب أن يكون في إطار الأمية، والعرب هم أصحاب تأويل، ولهم وحدهم حق التأويل، إذن كل ما ليس عربياً، بما أنه ليس عربي اللسان، فهو لا يفهم بالضرورة. ولكن هل يعني أن الإسلام والشريعة لا يدوم إلا باستدامة الأمية؟ وهل الأمية شرط دوام الشريعة؟ هدا القول خطير جداً، لكن تبين للعروي أنه من القواعد الأساسية عند الشاطبي، ووجده كذلك عند ابن حزم.
ثالثا- راهنية الطرح الاعتزالي
انطلق المعتزلة من أن المسلمين كانوا أقلية في بداية الحكم العباسي، والأغلبية من النصارى والمجوس. ولكل فرقة إمامها الخاص، أي: الإمامات الصغرى. وأراد المعتزلة أن يكون الخليفة/ رئيس الدولة خليفة سكان الخلافة، وليس فقط خليفة المسلمين، مع أنه إمام المسلمين. وكان الغرض من هذه الصفة الجامعة معارضة البيزنطيين. والنتيجة الهامة لهذا الموقف، هي القول بأن الأساس هو توحيد الخالق المتصف بالعدل، وذلك لكي يكون القبول من طرف غير المسلمين. ويضيف العروي أن المعتزلة نسوا هذا التصور في وقت لاحق، ودخلوا في قضايا فكرية أخرى.
رابعا- مقولة الإسلام دين ودولة
أكد العروي أن هذه المسألة غير واردة في القرآن، بل هي من ابتكار ابن خلدون. فحيث إن المسلمين أقلية في الأندلس، فهم يتميزون بالشريعة والطقوس الخارجية. لذلك تم إقصاء من يلح على الجانب النفسي والروحي، مثل الحسن البصري. وفي مستوى آخر، ساهم الفلاسفة في القضاء على الاعتزال، لأنهم اعتبروا أنه يشوش على الخاصة من دون أن يقنع العامة. وطرحوا ضرورة فرض الشريعة على العامة بالتخويف. واعتبروا أن النبي مشرع المسلمين، وذلك بناء على الفكرة القائلة بأن كل جماعة لا بد لها من مشرع، وهي فكرة أخذوها عن اليونانيين القدماء.
خامسا- مسألة التميز في المظهر
ربط العروي التشبث باللحية أو اللون بقضية الإلزام على التمييز في المظهر داخل مجتمعات غير إسلامية، مثلما فرض المسلمون على اليهود في السابق أن يتميزوا في الملبس. ومعلوم أن اللحية أصبحت بمثابة لب الدين عند البعض، بينما هي تجعل من الإسلام ديانة قبلية. وحتى إذا افترضنا أن البعض تمكن من فرض اللحية في المغرب أو شمال إفريقيا، فكيف سوف يفرضها في أوروبا أو أمريكا؟ وذَكََّر بمبدأ الدعوة للكافة في العقيدة.
سادسا- مسألة الإرث
اعتبر العروي أنه من الصعب الدخول في نقاش فقهي حول هذه المسألة. واقترح الانطلاق من التمييز الذي يضعه النص القرآني بين المسلمين والمؤمنين. فقد يعمل المؤمن بغير التسوية بين الابن والبنت، لأنه يعتقد أن في ذلك مخالفة للدين، بينما يفضل المسلم التسوية، وهذه المسألة لا تتعارض مع روح الإسلام. ويقترح حلاَ عملياً؛ وهو أن البرلمان كممثل للجماعة المغربية، يلزم بوضع الوصية حول الإرث من أجل إتاحة إمكانية الاختيار.
استعادة التجربة المحمدية
ماذا يبقى إذن من الظاهرة الدينية حين نترك جانبا العلم والتنظيم الاجتماعي- السياسي؟ ماذا يبقى خارج التاريخ؟ تبقى التجربة، وهي التجربة المحمدية.
يُذَكّر العروي هنا بصعوبة معرفة وقائع التجربة المحمدية (بداية الكتابة حول محمد بعد 150 سنة)، وإمكانية ظهور اكتشافات صادمة في المستقبل حول النص القرآني، حتى حول اسم الله. ثم إنه من الصعب الاعتراض على بعض اكتشافات البحث العلمي. ويرى أن المدخل إلى استعادة التجربة المحمدية هو القرآن. والتجربة مع القرآن هي تجربة نفسانية وذهنية بالأساس، وتختلف باختلاف القراء. فالحقيقة المنزلة هي الحقيقة التي أتماهى معها أنا شخصياً، فلان بن فلان، عندما أقرأ النص. هذه هي الحقيقة بالنسبة إلي، وهي حقيقة جوانية وجدانية لا فرق بينها وبين الحقيقة التي أجربها أمام عملي الفني. فالمسلم، وحتى غير المسلم، حين يدخل إلى المسجد يشعر بشيء، كذلك لمّا يسمع القرآن يرتل يحس بقشعريرة. فأي فرق بين ما تشعر به أثناء قراءة القرآن وبين ما تشعر به لما تسمع إما قطعة فنية؟ كما أن التجاوب مع النص في أي لغة، هو عبارة عن تجديد للتجربة المحمدية. وهذه الأخيرة كانت بدورها تجديداً لتجربة إبراهيم. ولا يهم هنا إبراهيم التاريخي، ولكن الذي يهم هو تجربة إبراهيم، والكشف عن هذه التجربة.
ما هي تجربة إبراهيم؟ يرى العروي أن كثيراً من الممارسات والشعائر كانت قبل الإسلام، مثل الختان، والصلاة، وشرب الخمر، وأن الإسلام كشف عنها وعبر عنها القرآن. ولذلك لما سمع العرب القرآن خفقت له قلوبهم، لأنهم وجدوا فيه ما يستجيب لتجربتهم، بخلاف النصرانية التي لم ينقادوا معها ولم يعتنقوها. ولهذا يرى العروي أن التجربة الذاتية مهمة في قراءة القرآن، لا كما قال الزمخشري، أو فلان … ويلاحظ أنه قليلاً ما يرد إبراهيم وإسحاق، في حين يأتي ذكر إبراهيم وإسماعيل كثيراً وبشكل متواتر.ويفسر ذلك بأن هناك موقفاً ،بدون شك، من هؤلاء العرب، وليس عرب عسير أو اليمن أو الربع الخالي. والقصد هنا العرب الذين كانوا قريباً من الشمال.
ويقول العروي في النهاية: كل ما كتبت عن إبراهيم، والفلسفة اليونانية، والذاكرة، فرضيات يمكن أن تُقبل أو تُرفض، وهي موجهة لغرض أساسي. فقد تحدث كروتشي (Croce)عن “ما هو حي وما هو ميت في فلسفة هيغل”، وأنا أتساءل: ما هو الحي وما هو الميت في السنة؟
يبدو لي الرجل، مع كامل الاحترام، يهذي. ليس فقط من إعداد،مفتعل أو معوّد، لمسافة مع “نص” كالقرآن (أن يكون البعاد ممن يدعي الانتماء عبارة متناقضة؟)؛ بل لهرفه واختلاطه في سجلات من كل حدب وصوب. قراءاته “التراثية”، مثلا، تبدو لي مجتزأة أو منقولة أو من مختصرات؛ بله انتقائيتها المسرفة. العود الإبراهيمي مبتذلة، كما مع كثير كتابات “خريف” العمر. التجربة المحمدية خارج التاريخ تخريف ليس من العلم الوضعي..