الإثنين , 28 أبريل, 2025
إخبــارات
الرئيسية » بإيـــجاز » قناع بلون السماء: نحو سردٍ يفكّك السّردية الاستيطانية

قناع بلون السماء: نحو سردٍ يفكّك السّردية الاستيطانية

باسم خندقجي، قناع بلون السماء، دار الآداب، بيروت، 2023.

تمكّن الروائي الفلسطيني باسم خندقجي،المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ سنة 2004، من كسر قوة رقابة الاحتلال، وإيصال صوته السردي المعبّر عن القضية الفلسطينية في صراعها مع احتلال استيطاني مركب. تتحدث الرواية المكونة من سبعة فصول عن قصة شاب لاجئ في رام الله اسمه نور الشهدي، وبحثه المتواصل لكتابة دراسة عن مريم المجدلية، غير أنه سيفشل بسبب شحّ المعلومات في كتب التاريخ الرسمي والتاريخ المسكوت عنه، فيلجأ بدلا من ذلك إلى كتابة رواية للرد على الروائيين الذين تحدثوا عنها خاصة دان براون في “شيفرة دافنتشي”. تتخذ الرواية بعد ذلك مسارين، يتتبّع الأول رحلة الكتابة عن المجدلية بالحديث عن التخطيط للعمل، والشخصيات التاريخية والتخييلية، والسياق التاريخي، والبحث في المصادر والمراجع لإنتاج عمل يعيد هذه الشخصية إلى بيئتها الفلسطينية الأصلية. ثم مسار ثان يدور حول بطاقة الهوية الزرقاء التي حصل عليها نور من جيب أحد المعاطف في سوق الملابس المستعملة. ستُسهم هذه البطاقة الإسرائيلية في تحريك الأحداث، بعد لجوء مراد إلى تزويرها، والاستفادة منها في تحركاته داخل مدن إسرائيل، ومستوطناتها. حيث سيتطوع مستفيدا من دراسته لعلم الآثار بمعهد أولبرايت للأبحاث الأثريّة بالتعاون مع سلطة الآثار الإسرائيلية للتنقيب جنوب تلّ مجدّو عن آثار الفيلق الروماني السادس، ليُظهر سياسات المحو والتلاعب بالتاريخ التي تجريها سلطة الآثار في مقابل طمس التاريخ الأصلي لفلسطين.

تبين الرواية أن الملامح تُشكّل هوية دالة حينما يتعلق الأمر بالاستعمار الاستيطاني، ف”الملامح تصنيف مسبق في تل أبيب، ولكنها ليست كذلك في أماكن أخرى”. بهذا المعنى، تُقدم الرواية أدلة على المعايير المزدوجة التي تصوغها الصهيونية الكولونيالية بناء على الاستحقاق الإلهي، والعنصرية المتأصِّلة، والتفوق المزعوم، وذلك بإقامة عالمين متضادين؛ عالم المستعِمر صاحب الامتيازات والحقوق، وعالم المستعَمر الخاضع الذي يعيش في حالة أزمة دائمة. تخلق الرواية، في هذا السياق، حوارا مزدوجا بين هويتين، وقوميتين. بين نور الفلسطيني وأور الإسرائيلي الذي تعود إليه بطاقة الهوية. ينكشف من خلال توالي الفصول ذلك التمايز بين حقوق المحتل في الحركة والاستيطان والاعتقال والاغتيال والمصادرة والتشريد، وبين حياة الفلسطينيين الذين تسلب منهم جميع الصفات الإنسانية.

تتوقف الرواية عند سجن مراد، صديق بطل الرواية،الذي اختطفته قوة من جيش الاحتلال من المخيم بعد تنكر بعض أفرادها بملابس نسائية. حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة إطلاق النار على الجنود، قضى منها الآن عشر سنوات خلف القضبان. تقضي الأم الحاجة فاطمة الموسى رحلةً لأربع ساعات في الذهاب، ومثلها في الإياب لتصل إلى سجن ‘نفحة’ الصحراوي جنوب صحراء النقب، لترى ابنها من وراء زجاج عازل لمدة لا تزيد عن خمس وأربعين دقيقة في الشهر في الظروف العادية، أما في فترة الإغلاقات التي يفرضها الاحتلال في أعياده القومية والدينية، فإن الزمن يتقلص أو يتوقف لحين انتهاء المستوطن من احتفالاته.

إن ما يميز رواية قناع بلون السماء أنها تتأسس على وعي معرفي بضرورة تفكيك الاستعمار الاستيطاني، ومواجهته معرفيا للرد على سياسات النسيان التي يمارسها في إبعاد تاريخ فلسطين وحاضرها عن ما يسميه ب”أرض إسرائيل”. لذلك، لا بد من وجود سردية مضادة تكشف زيف أطروحات الاستيطان على مستوى تمثل كل التفاصيل التي تخص “أرض فلسطين”. يبرز هذا الوعي في العمل من خلال شخصية مراد التي تُحضّر من داخل السجن دراسة بحثية تُفكّك البنية الكولونيالية، كما أنه ظل حاضرا طوال الرواية بتأثيره في شخصية نور، بتوجيهه بواسطة الرسائل المهربة إلى قراءة النصوص المؤسِّسة للنظرية الكولونيالية وما بعدها قصد فهم البنيات العميقة للاستيطان والاحتلال خاصة كتب فرانز فانون وإدوارد سعيد.

جدير بالذكر أن نشير إلى صدور الجزء الثاني من “قناع بلون السماء” الذي جاء بعنوان “سادن المحرقة” (2025)، وهو يكمّل الجزء الأول من جهة تفكيك الخطاب الاستعماري وممارساته بإعطاء الكلام لشخصية أور العبرية التي تعاني من آثار ما بعد الصدمة الحادة. وبهذا فالرواية تعالج مسألة نفسية المستعمِر الهشة، حيث نلاحظ أن أور يعاني من خوف متواصل سواء داخل البيت أو خارجه، ما يجعله يبحث عن حلول تمكنه من تجاوز أزماته بمحاولة التصالح مع ضحاياه.

استطاعت رواية “قناع بلون السماء” الحصول على جائزة البوكر العربية لسنة 2023 لما تتميز به من لغة محمّلة بالكثير من الدلالات، تمكنت من خلالها من فضح التلاعب بالذاكرة والتاريخ والواقع والسرد، وتأسيس خطاب ثقافي ونضالي جديد يتميز بالوعي العميق بالمرجعيات الثقافية لتفكيك الكولونيالية الاستيطانية، ومحاربة احتكارها للأرض والوطن.

- سعيد الفلاق

المدرسة العليا للأساتذة، تطوان

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.