عبد الله العروي، السنة والإصلاح، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008
يرشدنا عبد الله العروي نفسه إلى طريقة لقراءة السنة والإصلاح، أو جانب منه بالأحرى، حين يشير إلى أسرة المؤلفات التي ينتمي إليها كتابه أو ينتسب إليها بصفة أو بأخرى. مؤلفات – أوروبية ؟ – من جهة : اعترافات أغسطين، خاطرات باسكال الخ ؛ ومن جهة ثانية عربية : المنقذ من الضلال للغزالي، حي بن يقظان لابن طفيل…
وقد نضيف إليها شفاء السائل المنسوب لابن خلدون. ذلك أن الأمر يتعلق في السنة والإصلاح بسائلة – أو مسائلة – تود الاطلاع على القرآن، فيأتي الكتاب جوابا على تساؤلاتها وتوضيحا لما أشكل عليها. بتعبير آخر: حرر الكتاب تلبية لرغبتها.
هذا هو الإطار العام للكتاب، ومن باب الاستطراد والاستئناس، نشير بسرعة إلى كتاب آخر لعبد الله العروي، أوراق، نجد فيه نهجا شبيها إلى حد ما، وربما أكثر تعقيدا وغموضا، لأن عنصرا آخر يضاف إليه : المخطوط الذي يتم العثور عليه ويقوم السارد بترتيبه والتعليق عليه. وكما أن لهذا العنصر تاريخا )سرفانتيس، ديدرو، جوته، إدغار ألان بو… ( ، فإن للكتابة تحت الطلب عمقا تاريخيا : لا تكاد تخلو افتتاحيات الكتب القديمة من التنصيص على أن مصدر الكتاب شخص ذو سلطة )مقامات الحريري(، أو صديق )طوق الحمامة لابن حزم(، أو هاتف في المنام )مقامات الزمخشري( . في أغلب الأحيان لا يتعدى الأمر أسلوبا في القول، نهجا لا مفر من سلوكه، سنة مجبرة(topos) ، كالنسيب في مطلع القصيدة. وطبعا لكل مؤلف طريقته في الانخراط في هذه السنة وتوظيفها واستثمارها.
يبتدئ حي بن يقظان بالفقرة التالية : “سألت أيها الأخ الكريم، الصفي الحميم […] أن أبث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية” . وينتهي ب : “والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه”. في السنة والإصلاح تبدو السائلة أيضا صفية حميمة، ويخاطبها السارد ب “سيدتي الكريمة”، “سيدتي العزيزة”، “عزيزتي”… إلا أن فرقا شاسعا يوجد بين الكتابين، فابن طفيل يخاطب متلقيا ذكرا، بينما يخاطب العروي متلقية أنثى، وهنا تكمن الجدة والمهارة. لم يكن القدماء يخاطبون في افتتاحيات مصنفاتهم إلا الرجال، لم تكن المرأة سائلة ومصدر كتاب. قد نفترض أن امرأة أوعزت لمؤلف ما بتحرير كتاب، وهو أمر لم يكن مستبعدا ولا شك أنه حصل، ولكن الإعلان عن ذلك لم يتم )حسب علمي. (
لا تكتفي السيدة الكريمة بالإصغاء، كما هو حال الصفي الحميم في حي بن يقظان، بل تحاور من يحدثها وتضع شروطها :”لا تحاول أبدا إقناعي بأن العلم سراب، الديمقراطية مهزلة والمرأة أخت الشيطان. في هذه الموضوعات الثلاثة لا أقبل أي نقاش. يخاطبها السارد أيضا ب “سيدتي العالمة”، ويعدد منذ الصفحة الأولى أوصافها :”إنك امرأة، والدتك سيدة أجنبية، تلقيت تعليما علمانيا صرفا، لغتك الإنجليزية، تخصصك البيولوجيا البحرية، مطلقة من رجل شرقي حسب تعريفك له، تعيشين في محيط جد مختلط، لك ولد يقارب التاسعة تحبينه كثيرا وتشفقين على مستقبله”.
كل وصف من أوصافها الثمانية يقتضي تحليلا واسعا. لنتوقف لحظة عند الخامس. أمن الصدفة أن المسائلة متخصصة في البيولوجيا البحرية؟ أمن الصدفة أنها تقضي نصف السنة على ظهر سفينة مختبر تجري “فحوصا وتجارب دقيقة في عمق جنوب المحيط الهادي” وتطالع طبعا “للمرة العاشرة مؤلفات ستيفنسن وهرمان ملفيل”، الكاتبين المشهورين برواياتهم البحرية ؟ )في قصة ابن طفيل، يلف البحر الجزيرة التي ولد فيها حي، والجزيرة التي نشأ فيها، والجزيرة التي ينتقل إليها مع أسال ويقضي فيها مدة بهدف إصلاح الناس(.
أخيرا، ما سر وفاء المسائلة لعقيدة أبيها ولاسمه؟ “والدك الذي لم ترثي عنه إلا الاسم وكان من حقك التبرؤ منه كلية. أسجل أنك احتفظت باسمه، خلافا لعرف وطنك الجديد، وأكثر من ذك أورثته لابنك. لهذا الاختيار دلالة وله توابع. ” ونسأل نحن : لماذا احتفظ حي بن يقظان باسم أبيه مع أنه لم يسمع به قط ؟