المدرسة المغربية، عدد 1، ماي 2009.
المدرسة المغربية، عدد 2، دجنبر 2009.
حين نسمع في المغرب عن ميلاد مجلة جديدة تهتم بالشأن التعليمي، قد يكون أول رد فعل هو التساؤل عن جدوى المبادرة، مع ما حصل من تراكم في أدبيات التقارير حول أوضاع التعليم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. تقرير الخمسينية،وتقرير المجلس الأعلى للتعليم، والتقرير حول العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد تتبادر إلى الذهن أسئلة من قبيل: هل أصبح المغرب يتميز بهذا التفاوت الملحوظ بين التشخيص والإنجاز، بين خطاب الإصلاح والواقع اليومي للمدرسة والثانوية والجامعة؟ فإلى جانب خطاب التقارير، والخطاب الحكومي حول الإصلاح، يرصد الخطاب الصحفي ظواهر يومية معبرة، مثل بطالة الخريجين، والعنف داخل الوسط التعليمي، والغش في الامتحانات، والسرقة العلمية في مستوى الأبحاث الجامعية، ونجد إحدى الصحف اليومية تورد البارحة على صفحتها الأولى استمرار تكدس الأقسام بنسبة تصل أحيانا إلى 54 تلميذا في القسم الواحد انطلاقا من معطيات تهم مدينة الدار البيضاء ونواحيها.
وحين نقرأ مواد مجلة المدرسة المغربية، ونتأمل في هيكلتها ومنهجية اشتغالها من خلال عدديها الأول والثاني، فإننا نشعر بأننا أمام إضافة نوعية، فهي اختارت نقل قضية مجتمعية حيوية إلى مستوى التفكير الجماعي والانتقال من الخطاب الانطباعي إلى البحث والفهم بواسطة الأدوات التي توفرها العلوم الإنسانية. وتظهر جدية المشروع للوهلة الأولى في كثافة المنتوج، إذ مهما كان القارئ مطلعا على ما يروج حول الموضوع، فلا يمكنه استيعاب مواد المجلة في قراءة أو قراءتين أو ثلاث.
أين تتجلى جدة وجدية المجلة؟ لقد سجلت أربع مزايا :
أولا- التوثيق والرصد
هناك بعض الأبواب القارة مثل القراءات النقدية، والمختارات البيبليوغرافية. وهناك مساهمات ثمينة مثل دراسة بيبليومترية للرسائل والأطروحات التي أنجزها المغاربة فيما بين 1956 و2007 في الجامعات المغربية والأجنبية، ودراسة تقويمية للبحث المغربي في مجال العلوم الاقتصادية. ونلتقي كذلك بكرونولوجيا عامة للنظام التعليمي وإشكالية الإصلاح خلال القرن العشرين. ونتوقف عند بعض الوثائق الهامة مثل “مشروع رابطة علماء المغرب لتطوير التعليم الديني وإقرار جامعة القرويين (1961)، و”بيان من علماء ومثقفي المغرب حول سياسة التعليم والغزو اللغوي الاستعماري” (1970).
ثانيا- التفكير بأصوات متعددة
اختارت المجلة الاشتغال بصيغة الحوار والمائدة المستديرة التي توثق مختلف مداخلاتها. لكن منهجية الحوار حاضرة ضمنيا من خلال تعددية انتماء المساهمين. فهم يأتون من مختلف العلوم الإنسانية، سوسيولوجيا، اقتصاد، علوم سياسية، علم النفس، تاريخ، فلسفة. وهناك تعددية المقاربات من الوجهة المنهجية والنظرية. وإلى جانب الباحث المتخصص، نجد مساهمة بعض ذوي الخبرة الميدانية. واختارت المجلة أن تحترم اختيار لغة الاشتغال (عربية، فرنسية). ومن حيث الاطلاع على عمق التجارب المتقدمة نجد حضور المرجعية الفرنسية والأنجلوساكسونية.
ثالثا- جديد الأسئلة
اختارت المجلة أن تنقل موضوع التعليم من الدائرة الضيقة لعلوم التربية إلى حقل أرحب هو حقل العلوم الإنسانية. ومعناه أن العملية التعليمية تدرس في إيقاعها ومنطقها الداخلي، وفي تفاعلها مع المجتمع، وهي إلى حد ما صورة مصغرة للمجتمع. يحصل التفاعل على سبيل المثال في مستوى الإنتاج والارتقاء والاندماج الاجتماعي والوظائف والقيم والانتظارات والتمثلات. ومن الواضح أن عددا من الأسئلة الجديدة تتصل بواقع الفشل. أثيرت قضايا مثل الحياة اليومية للتلميذ والطالب، وسوسيولوجيا القرار السياسي في مجال التعليم. ما هي النخب التي احتكرت القرار؟ ما هي مرجعياتها الثقافية؟ ألا يعود فشل التعليم إلى استمرار التردد وغياب تصور استراتيجي، والتزام موقف الخضوع لهاجس التوافق، وعدم الوعي بخصوصيات زمن التربية الذي يختلف عن الزمن العادي ؟ لماذا لم يكن هاجس محو الأمية من أولويات الدولة المغربية بعد الاستقلال؟ ونجد كذلك فرضيات من قبيل: ألا يتجه الوضع التعليمي الراهن موضوعيا إلى إعادة إنتاج غير معلنة للنخب والتراتب الاجتماعي بعد مرحلة مغربة الأطر؟ وهناك تأكيد على أنه لا يمكن بناء جامعة حقيقية من دون صيانة حرية التفكير التي تمثل عماد الاجتهاد والابتكار.
رابعا- الانفتاح المنتج
يظهر هذا الجانب في تعريب بعض النصوص النظرية القوية، ويظهر في طرح أسئلة تربط قضايا التعليم في المغرب بمستجدات العالم المعاصر. ففيما يخص ملف “الجامعة والمجتمع” في العدد الثاني، نجد محورا يتناول “إشكالية إنتاج المعرفة في محيط تنافس المنظومات الجامعية الدولية”. ومن بين الأسئلة المطروحة، نجد: “إلى أي حد تعتبر الجامعة المغربية مؤهلة للانخراط والتفاعل في محيط دولي متميز بتوحيد المعايير الدولية للتكوين، وبوجود مراكز جامعية دولية للبحث تتوفر على إمكانات مادية كبيرة لإنتاج المعرفة؟”، و”إلى أي حد تستجيب الهيكلة البيداغوجية للجامعة المغربية لتحديات انفتاح السوق العالمية للشغل في إطار العولمة، باستقطاب أحسن الطلبة، وبتأهيل الرأسمال البشري الجيد، الذي ما أحوج تنمية البلاد إليه؟”.
وخلاصة القول، بالنسبة لمزايا المجلة، أنها توظف العلوم الإنسانية لتطوير فهمنا للقضية التعليمية، وفي آن واحد، نلاحظ أن المبادرة الجديدة تساهم في تطوير اشتغال البحث الجامعي انطلاقا من موضوع التعليم، وذلك بفضل الاهتمام بعمليات التواصل والتقييم، وهي عمليات يفتقر إليها الوسط الجامعي.
وحيث أن التثمين يقتضي إثارة الانتباه إلى بعض مواطن النقص واقتراح بعض اتجاهات التطوير، فقد بدا لي أن أركز مرة أخرى على أربع نقط.
أولا- من حيث طبيعة العلوم الإنسانية، من المفيد إضافة التحليل الدلالي وتحليل الخطاب من أجل استجلاء مكونات خطابات الدولة والطبقة السياسية والحركة النقابية حول الشأن التعليمي. وكما أن بعض المساهمات ألحت على ضرورة بناء سوسيولوجيا المدرسة والجامعة، فإن البحث التاريخي يستحق هو الآخر عناية أكبر، من منظور التاريخ الاجتماعي والثقافي، وعدم إهمال مرحلة ما قبل القرن العشرين، لأن هذه المرحلة الطويلة تساعد على فهم عدة جوانب من قبيل أولوية الذاكرة، وهيمنة الثقافة الفقهية، وتصور العلم في ثقافتنا التقليدية.
ثانيا- ينبغي تطوير باب الشهادات في عدة اتجاهات: من بينها تعميق التفكير في التجربة في مستوى الإنجاز والإخفاق والعلاقة بين تأثير الفرد وتأثير المنظومة، ومن بينها الانفتاح على مختلف أطراف العملية التعليمية، والإنصات لتجارب مبدعة خارج التعليم العمومي وخارج المؤسسة التعليمية، مثل تجربة الفعل الجمعوي. فمن باب المفارقات مثلا، أن بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص دأبت على تدريس -قبل إعلان الجامعية المغربية عن تأهبها لتدريس التاريخ القريب-، دأبت بعض مؤسسات التعليم الخاص على تدريس تلك المرحلة، وجاء إنجاز كتاب مدرسي في نفس الموضوع من طرف أساتذة باحثين مغاربة يشتغلون في سلك تعليم البعثة الفرنسية.
ثالثا- إن فهم خصوصيات المدرسة المغربية يقتضي التعرف على عدد من التجارب الأجنبية، ولا سيما تجارب بلدان الجنوب في مواجهة معضلات التطور التعليمي، من قبيل تركيا والهند وماليزيا والصين.
رابعا- إن تطور المجلة محكوم بعلاقتها الفعلية مع محيطها المفترض، وأعني بالأساس جانب المنتجين وجانب المتلقين. ففيما يخص الجانب الأول، لا يمكن للمجلة أن تستمر في طرح الأسئلة من دون أن تكون موادها صدى لأوراش حقيقية في مجالات البحث التي لامسها العددان الأولان. بيد أن واقع العلوم الإنسانية في بلدنا هو واقع لا يبعث على التفاؤل، ويعاني من قصور كبير في إنتاج الخلف la relève. ورغم بعض الخطوات المحدودة في مستوى الاعتراف بهذا الواقع والحديث عن الرغبة في تجاوزه، فإن الدولة ما زالت تربط أفق تنمية البحث بمقتضيات السوق والمردودية المباشرة، وهو ما يسمى بانفتاح الجامعة على المحيط، بينما تتطلب تنمية البحث أن نميز بين هاجس التأهيل المهني وبين هاجس الإنتاج العلمي الذي يتطلب طول النفس، وهو في مجال العلوم الإنسانية مجهود حضاري يتوخى معرفة مسارات الكيان الجماعي ومعرفة الآخر والعالم.
وفيما يخص الجانب الثاني، سوف يكون من قبيل الإحباط أن يشتغل هذا المنبر من دون قنوات تجعل منه مادة لإغناء النقاش العمومي. وتلك معضلة تهم القراءة بشكل عام. نحس بشكل عام بتغييب المعرفة وترسيخ ثقافة الإثارة، وكأن هناك توافقا ضمنيا يؤدي إلى إبعاد المجتمع عن فهم عمق قضاياه الحيوية. ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن الصحافة الوطنية أضاعت فرصة توسيع النقاش حول أوضاع العلوم الإنسانية في الربيع الفارط، واختزلت تغطية حدث تقديم التقرير المنجز حول هذا الموضوع في بعض الأرقام المثيرة التي اعتبرها البعض مجرد إدانة للأساتذة الباحثين، مما أدى بدل النقاش المعمق إلى سلسلة من الردود الدفاعية التي لا تخدم الجامعة المغربية.
والواقع أن هناك سؤالا بنيويا، وهو: كيف ينبغي احترام خصوصية اشتغال الإعلام والجامعة، وفي آن واحد، إقامة حوار منتج بين الطرفين؟ وبالتالي فإن نجاح هذه المجلة رهين بمدى تقريبها بين فضاء العلوم الإنسانية وفضاءات النقاش العمومي.
P.-S. ملحوظة: قدمت هذه القراءة النقدية خلال اللقاء التواصلي الذي نظم بفضاء المكتبة الوطنية في تاسع فبراير 2010 للتعريف بالعددين الأول والثاني من مجلة المدرسة المغربية (يصدرها المجلس الأعلى للتعليم، ويديرها عبد اللطيف المودني، ويرأس تحريرها محمد الصغير جنجار).