Arabe, 2005.
اخترت قراءة كتاب المغرب و الحسن الثاني الذي كان عبد الله العروي أصدره منذ خمس سنوات بهدف تحيين فهم الإشكالات السياسية التي ظل العروي يطرحها في جل كتاباته. إلا أن هذه الإشكالات كانت تُقدم في صيغ فكرية ذات بعد نظري وتجريدي لا تسّهل الربط بينها وبين الأجندات السياسية بشكل واضح. من جهة أخرى، وبالرغم من أن تلك الإشكالات تقدِّم مؤشرات إلى تغيُّرها في خضم التحولات التي شهدتها السياسية المغربية والدولية خلال نصف قرن من عمر الإنتاج الفكري للعروي، إلا أن ذلك يبقى مضمراو مشفرا، ولا يعترف صراحة بأي تراجعات أو نقد ذاتي. المغرب والحسن الثاني يختلف عن باقي كتابات العروي لأنه يسمح بتكوين نظرة أكثر وضوحا عن الأطروحات السياسية التي يتبناها العروي في مطلع القرن العشرين، ليس فقط لكون الكتاب يركز بشكل مباشر وواضح على أبرز شخصية سياسية لمغرب ما بعد الاستقلال، ويقدم شهادات على أحداث سياسية عاينها، ولكن وبشكل أخص، نظرا لأن الإشكالات التي يطرحها العروي تدخل في صميم النقاشات التي عرفتها الكتابات في حقل علم السياسة منذ منتصف السبعينات في الولايات المتحدة بالأساس بداية، وانتشرت عبر العالم خاصة بعد موجات انتقال الأنظمة السلطوية إلى ديمقراطيات في أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية. تهم هذه الإشكالات مسألتين أساسيتين، مسألة منهجية تتعلق بدور كل من البنيات والثقافة والفاعلين في فهم طبيعة النظام السياسي، ومسألة نظرية ترتبط بطبيعة الأنظمة غير الديمقراطية ومدى قدرتها على التغيير الذاتي والتحول إلى أنظمة ديمقراطية بدون ثورات، وهو ما اصطلح عليه بمصطلح “الانتقال”. أقرأ المغرب والحسن الثاني كمساهمة في هذه الإشكالات بدون أن يكون العروي قد هدف إلى ذلك، حسب ظني، وذلك لأنه لا يلمح إلى الجدالات النظرية المتداولة في هذا المجال، ولأن نصه يخلو تماما من المصطلحات المتداولة بشكل واسع في هذه الكتابات على غرار الفاعل، الخيار العقلاني، السلطوية، والانتقال.
تميز هاتان الخاصيتان المغرب والحسن الثاني عن مذكرات العروي التي أصدرها في سلسلة خواطر الصباح، والتي بالرغم من أنها اتسمت بوضوح أفكارها، وبارتباط مواضيعها بالأحداث السياسية، إلا أنها، وعلى عكس الكتاب قيد المراجعة هنا، تفتقد إلى أطروحة منسجمة ومتماسكة حول السياسة المغربية وبحكم أنها عبارة عن أفكار سجلت في أوقات متباعدة يحكمها السياق الآني الذي كتبت فيه. . ولا شك، أن قراءة مقارنة لهذه النصوص مجتمعة، وهو التمرين الذي لا تنجزه هذه الورقة، سيفيد في إلقاء المزيد من الضوء على العروي كمفكر في علم السياسة، الحقل الذي كان استهوى صاحبنا قبل أن ينتقل إلى معارف أخرى.
بالرغم من أن المغرب والحسن الثاني مساهمة في فهم الشأن السياسي بامتياز، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه. فهو لم يُعتمد كمرجع رئيسي في الرسائل الجامعية المغربية في هذا الحقل، ولا فيما يصدر من كتابات أكاديمية خارج المغرب حول السلطوية والمجتمع السياسي والانتقال إلى الديمقراطية، وهي كلها تشكل منذ عقدين أهم القضايا في علم السياسية. ما همَّ النقاش العمومي في الكتاب هو الحُكم الذي يصدره مؤلٍّفه على الحسن الثاني، والتوظيف السياسي لهذا الحكم، أكثر من الاهتمام بالمنهج أو بالنظرية. بالمقابل، فإن تفسيري لغياب مؤلَّف العروي من التداول فيما يكتب في حقل علم السياسة في الخارج هو أن المقترب الذي اتبعه العروي في هذا الكتاب لم يُقدَّم في إطار الصيغ والمصطلحات والمناهج المتداولة في كتابات علم السياسية. إذ أنه مزيج من التأملات والشهادات التي تُغلِّب الذاتية على الصرامة الموضوعية التي تفضلها الكتابات الأكاديمية. كما أن الكرونولوجيا المعتمدة لا ترتكز على تعاقب الأحداث الكبرى التي عرفتها فترة حكم الحسن الثاني بقدر ما هي مرتبطة بالحياة الشخصية للعروي. فهو في ترتيب فصول نصه يعتمد على حدث عاشه يقدم على ضوئه القضايا المتنوعة التي يعالجها، والتي بالرغم من أنها تشكل في مجموعها أطروحة منسجمة، إلا أنها تتطلب مجهودا في التركيب والتأويل ليقبل عليه بتلقائية وفضول، مع الأسف، عامةُ الباحثين في علم السياسة.
ستركز هذه الورقة على الإشكالات المرتبطة بتصنيف النظام السياسي الحسني، وعلى مدى قدرته على تحقيق “الانتقال”، مع طرح العوامل التي يفسر بها العروي التحولات التي عرفتها السياسة المغربية طيلة النصف الثاني للقرن العشرين.
لم تعتبر مسألة تصنيف النظام السياسي في فترة الحسن الثاني ضمن باقي الأنظمة السياسية إشكالا جوهريا في الكتابات السياسية، إذ ومع وجود استثناءات غير مؤثِّرة، اعتُبِِِر النظام السياسي نموذجا للاستبداد الذي لم يشهد تغييرات أساسية مست بالهيمنة المطلقة للملك على الشأن السياسي، وأن الحسن الثاني، الفاعل المركزي في النظام، سعى إلى منع أي تقليص لسلطاته معتمدا العنف والاحتواء والاستدراج والإقصاء وغيرها من تقنيات احتكار السلطة. وتختلف الأسباب التي قدمتها الكتابات لهذه الاستمرارية المبهرة للاستبداد الحسني ما بين ترسخ الثقافة السياسية التقليدية، والخصوصيات السوسيو-اقتصادية أو طبيعة الاستبداد السياسي نفسه الذي لا ينتج إلا الاستبداد.
يحاور العروي هذه الأطروحات وإن كان يفعل ذلك بشكل غير مباشر، وهو لا يرفض فقط أن يعتبرها من المسلَّمات، بل إن أطروحته تقدم إجابات متميزة كل التمايز عن غيرها. ليس النظام المغربي ديكتاتوريا بطبعه، حسب العروي، بل إنه عرف تحولات نوعية مهمة، وبرهن على مؤهلاته ل “الانتقال” إلى الديمقراطية عن طريق استعداده لإشراك المعارضة في السلطة طيلة فترة الاستقلال. كما أن النظام أبدى استعداده لكي يقدم تنازلات في اتجاه ملكية برلمانية تؤسس الفصل بين السلطات وتقلص سلطات الملك في مهام محدودة تهم القضايا الإستراتيجية الكبرى ولا تتدخل في الممارسات السياسية اليومية. إن ما عرقل هذا التحول حسب أطروحة العروي، ليس الشخصية الاستبدادية للحسن الثاني، ولا طبيعة النظام نفسه أو بنياته أو ثقافته التقليدية المتعارضة مع فكرة الديمقراطية، بل هو الضعف الفكري للنخبة المعارضة وعجزها عن فهم الواقع السياسي والخيارات العملية المتوفرة التي ترتكز على التاريخ والسوسيولوجيا1، وليس على تصورات جاهزة وفضفاضة وانفعالية. إن تعثر الانتقال الديمقراطي في المغرب حسب فكرة العروي وبلغة علم السياسة، ليس مرده بنيات النظام السلطوي، أو الطبيعة المحافظة للفاعلين الدولتِيِّين، ولكنه التشدد اللا-عقلاني للفاعلين المجتمعيِّين.
هذه الوضعية؛ ملك مستعد للإصلاح مقابل معارضة غير واعية وغير مقدِّرة للإمكانيات التي يسمح بها هذا الاستعداد، ظلت قائمة ومستمرة طيلة فترة الحكم الحسني، ولكن العروي مع ذلك، يتحدث عن فترتين في حكم الحسن الثاني تتمايزان منذ منتصف السبعينات.
في فترة حكمه الأولى، لم يكن الحسن الثاني حسب العروي يختلف عن بقية الدكتاتوريين، لأنه لم يكن يمارس دوره كملك محايد، يعلو فوق الصراعات السياسية، بل كان يلعب دور الزعيم، كما كان شأن غيره من الرؤساء العرب. كانت علاقته مع المعارضة متوترة. لكن ما قدمه العروي من تفسيرات لهذه المرحلة تخلق اضطرابا في فهم ضرورة هذا التحقيب، إذ يظهر مما تلى من تفسيرات أن الأسس التي أطرت النظرة السياسية للحسن الثاني لم تعرف تغييرا مهما طيلة حكمه، بل حتى في عمره السياسي كأمير. لا يرجع العروي التوتر السياسي الذي عاشه المغرب، في كلتا الفترتين، إلى الطبيعة الاستبدادية للملك، بقدر ما يعتبره يجسد الفهم الذي ظل يتبناه الحسن الثاني لجذور مشروعية الملكية والتي ترجع إلى نشأة الدولة المغربية مع الأدارسة وقت تنازل المجتمع كلية وطواعية عن سيادته لصالح الحاكم. وهذا التنازل الطوعي (الافتراضي طبعا)، الذي يقابل في قوته الرمزية أسس مشروعية العقد الاجتماعي للدولة الغربية ويتعارض معه في نفس الوقت بشكل واضح، لم يعرف أي تغيُّر يذكر منذئذ. بل إن الحماية التي كانت مؤهلة لكي تشكل تهديدا حقيقيا لأسس مشروعية الدولة المغربية، لم يكن لها أي تأثير في هذا المجال، بل اعتُبرت واحدة من الأزمات المتعددة التي واجهتها الأسرة الحاكمة، ووُظِّفت ليس لتغيير ركائز الدولة، بل لترسيخها. ذلك أن الحماية بدأت كدعوة من طرف السلطان إلى إصلاح دولته عن طريق إشراك الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وعند انتهائها، أعادت الإدارة الاستعمارية السلطة إلى صاحبها المَلِك كما كانت من قبل، أي بدون أية قيود. يرجع العروي أسباب غياب قيود على سلطة ملك ما بعد الحماية، إلى الانشقاقات التي كانت تعيشها الحركة الوطنية والتي جعلتها تركز مجهودها ليس على فرض دستور يقلص من سلطات الملك ولكن على عودته اللا-مشروطة إلى عرشه. ولذلك فعوض أن تشكل محادثات إيكس-ليبان ونهاية الحماية، فرصة لإحداث تغيير عميق في طبيعة السلطة وفي مصدر المشروعية، مكَّنت الملكية من أن تسترجع سلطتها غير منقوصة، بل ومنحتها أدوات جديدة لترسخ سلطتها بشكل أقوى على المجتمع وعلى جميع المناطق الترابية. وهذا ما يجعل من أن أساس المشروعية السياسية التي ورثها الحسن الثاني لا يختلف عن أصولها التي تمتد عشرات القرون.
لكن بالرغم من أن هذه السلطة السياسية المتوارثة كانت مطلقة، فإن العروي اعتبر أنها مع ذلك لم تكن متعارضة مع احتمالات إشراكها مع المجتمع. كانت هناك إمكانيات متنوعة لتدبيرها من طرف الفاعلين الأساسيين، أي الملك والحركة الوطنية، بشكل يسمح بأن تشارك المعارضة في الحكم بشكل فعلي، وكان للحسن الثاني استعداد للسير في ذلك الاتجاه. ماذا حدث إذن؟ يقدم العروي تفسيرات جديدة كل الجدة لهذا الموضوع تُبرز، وبشكل غير مسبوق، عدم ملاءمة الثقافة السياسية السائدة في صفوف زعماء المعارضة والتي جعلت منهم سجناء قراءات إيديولوجية مضلِّلة تضخم قوتهم وحجمهم السياسي، وتمنعهم من التقاط إمكانيات الإصلاح لدى الملك، وتوظيفها بشكل فعال في المشاركة في السلطة. يبرز بنبركة كنموذج مركزي في هذا التحليل. فالعروي يعتبر أن تصور بنبركة لقوته في الساحة السياسية مبالغ فيها، وأنه واليسار عامة، كانوا يؤمنون بحتمية تاريخية تجعل منهم الورثة الشرعيين للسلطة السياسية. يرجع العروي هذه التصورات غير الواقعية، وغير العملية، وغير الفعالة، إلى ضعف توظيف السوسيولوجيا والتاريخ من طرف المعارضة في قراءة الواقع، وفي تحديد الخيارات السياسية واتخاذ المواقف. في مقابل هذا الفقر في تحليل وفهم السياسة، كان الحسن الثاني يمتلك نظرة أكثر وضوحا لموقع المؤسسة الملكية في الواقع السياسي المغربي وفي الفترة التاريخية التي ورثها، وقد أهلته هذه النظرة لا إلى أن يدبر إرثه الثقيل فحسب، بل أيضا إلى أن يبلور تصورات استراتيجية وبراغماتية بشأن مستقبل الملكية وعلاقاتها بالمعارضة وبالقوى الخارجية، وبآفاق تغييرها.
لا يشرح الكتاب أسباب هذا الاختلاف في الثقافة السياسية لدى كل من المعارضة والحسن الثاني، ولكن العروي يصر على أن الملك لم يكن يعارض مبدئيا إشراك المعارضة في النظام السياسي، وأن الشروط التي كان يضعها لهذه المشاركة لم تكن متناقضة مع أفكار الحداثة. لقد كان الحسن الثاني محافظا، وكانت محافظته تتخذ مظاهر تقليدية، ولكن ليس التقليد الذي يجده لدى الإسلاميين والمتناقض مع العقلانية والواقعية. كان الحسن الثاني أقرب إلى المحافظة الحديثة التي تسعى إلى مواجهة تحديات التحولات الاجتماعية. كان يرغب في ضبط نمو المدن، وفي الإبقاء على التصور التقليدي للأسرة، والمحافظة على رموز الملكية والمتجلية في طقوس اللباس، والبيعة، وغيرها والتي لم يكن يرغب في تغييرها. لكن هذه الواجهة التقليدية لا تجعل من النظام الحسني نظاما فيوداليا، أو رجعيا، أو باتريمونياليا أو انقساميا، وهي التحاليل السائدة حول النظام المغربي. إن هذه التحاليل ليست دقيقة لأنها تغفل الجانب التحديثي في نظام الحسن الثاني وهي عاجزة على أن تكتشف استعداده لإشراك المعارضة في الحكم، وأن تفهم أن تشبثه بالمحافظة على السلطة لم يكن يعني الانفراد بها بقدر ما كانت تعكس إصراره على الحفاظ على المقومات المحافظة للسلطة السياسية وللدولة. ونظرا لأن المعارضة لم تستوعب هذه الخاصية لدى الحسن الثاني ولم توظف التاريخ والسوسيولوجيا لاكتشافها، فإنها تبنت ما يعتبره العروي قراءات خاطئة للواقع السياسي واعتمدت على أطروحات واهية بشأنه انبنت على سوء الفهم والشعارات والتصورات الفضفاضة.
يجب أن أشير هنا إلى أن النصوص الرئيسية في العلوم الاجتماعية حول المغرب، المؤلفة من طرف مغاربة أو أجانب، لم تكن تقدم قراءات مختلفة عن تلك التي كانت تتبناها المعارضة. وبدون الدخول في الجدل الصعب حول مدى كون أن تلك النصوص أثرت في تصورات المعارضة، أم أن مواقف المعارضة أثرت على اجتهادات المنَظِّرين، فإن هذه المسألة كانت تتطلب إجابة من طرف أطروحة العروي.
يُرجِع تحليل العروي الأسباب العميقة لكل مظاهر المواجهة بين القصر والمعارضة التي برزت بشكل خاص منذ بداية حكم الحسن الثاني إلى سوء فهم المعارضة للسياسة الملكية. في مواجهة ملك يحمل مشاريع وتصورات رجل دولة ذات آفاق استراتيجية، وجد العروي معارَضة مُضلَّلَة ومشتتة وبالتالي غير فعالة وغير مؤثرة. لم تكن المواجهة إذن متساوية منذ البداية. إلا أن العروي، وعلى عكس كل التحاليل السابقة لهذا الموضوع، يكاد لا يشير إلى وسائل العنف التي توفرت للملك وإلى اللجوء المتكرر من طرف الملك لممارسته على معارضيه كأحد المظاهر البارزة لللا-تكافؤ الذي طبع العلاقة بين القصر والمعارضة. إن أبرز خاصيات هذا اللا-تكفاؤ حسب العروي ليس احتكار وسائل العنف من طرف الدولة، ولكنه عقلانية فعالة لدى الملك مقابل لاعقلانية سياسية عقيمة لدى المعارضة. ولذلك، فإن العروي لم يول أية أهمية للعنف الذي مارسه الحسن الثاني في مواجهة المعارضة طيلة السنوات الأولى لحكمه. لم يتحدث العروي عن أحداث الريف، ولا عن اعتقالات 1963. وهو يقدم شهادته بخصوص أحداث الدار البيضاء يوم 23 مارس 1965 التي صادفت أنه كان يتجول بشوارعها يوم المواجهة، ويقول بأن لا شيء حدث مما سجلته المعارضة أو الصحافة عن شراسة القمع يومها والتي ظل الناس يتحدثون عنها فيما بعد. إن عنف أحداث الدار البيضاء سنة 1965، يقول العروي، رادا بشكل غير مباشر كعادته على ما قالته المعارضة والصحافة الدولية، لم يكن بالدرجة المتداولة في الذاكرة السياسية للمغرب. ليس هناك من مبرر مقنع لهذا الإغفال المتعمد للجانب العنيف لحكم الحسن الثاني من طرف العروي إلا إصراره على تأكيد أطروحته في كون أن المواجهة بين القصر والمعارضة لم تكن مواجهة مادية أو بنيوية أو طبقية بقدر ما كانت مواجهة على مستوى التصورات والاستراتيجيات الفكرية، وأن تفوق الملك على معارضيه كان تفوقا على هذا المستوى الأخير بالأساس.
لاشيء تغير في عمق هذه الوضعية، إلا أن العروي مع ذلك يتحدث عن تحولات مهمة عرفها حكم الحسن الثاني ظهرت في منتصف السبعينيات مع الانقلاب في موقف الملك من مسألة الصحراء. يقرأ العروي أن تدبير الحسن الثاني لمسألة الصحراء تؤكد أطروحته حول الحسابات الإستراتيجية للملك مقابل انعدامها لدى المعارضة. لم تكن سياسة الصحراء التي اتبعها الملك مرتبطة بتحقيق أهداف آنية ومحدودة على خلاف ما تقدمه العديد من الكتابات حول الموضوع واعتبارها تكتيكا سعى عن طريقه لاستعادة مشروعيته المهتزة بعد المحاولات الانقلابية، أو لإبعاد الجيش عن العاصمة وإلهائه في الصحراء، أو لتحويل اهتمام الناس عن الأزمات الداخلية. إن الحسن الثاني فهم حسابات الصحراء كما يجب أن تفهم حسب العروي، أي عن طريق التاريخ والسوسيولوجيا، كمواجهة استراتيجية مصيرية بالنسبة للمغرب مع جارته العنيدة الجزائر تمتد جذورها إلى ما قبل 1975. قبل ذلك، لم تكن المعارضة في شخص أبرز زعمائها، المهدي بنبركة، تستوعب عمق هذا البعد، فارتكبت خطأ جسيما عندما تحالفت مع الجزائر في حرب الرمال سنة 1963. هذا التحالف اللا-عقلاني من منظور العروي، يؤكد أطروحته بشأن طغيان الانفعال في قرارات المعارضة، وغياب التصورات الإستراتيجية لديها.
لا يولي العروي اهتماما كبيرا للتحولات التي عرفتها حسابات المعارضة بعد 1975، ولا يقدم تفسيرا لتأييدها لخيارات الملك بشأن الصحراء، بل هو يغفل تماما تاريخ موقف حزب الاستقلال من مسألة الصحراء قبل 1975، إلا أنه يستمر في إبراز ما يعتبره أخطاء إستراتيجية في مواقف المعارضة من دستور 1992، أو من رفض الكتلة في شخص قطبها امحمد بوستة المشاركة في حكومة تحتفظ كوزيرها للداخلية بإدريس البصري، الشخصية التي كثيرا ما أزعجت المعارضة. لقد انبنى ذلك الرفض حسب العروي على رد فعل انفعالي يفتقد لفهم استراتيجي لحسابات الملك.
في الوقت الذي أهمل فيه العروي التحولات التي عرفتها المعارضة في مرحلة ما بعد المسيرة الخضراء، فإنه بالمقابل ظل يعدد القرارات التي اتخذها الملك، والتي تؤكد كلها الأطروحة الرئيسية للكتاب، وهو الطابع غير الاستبدادي للحسن الثاني، واستعداده المبدئي لإشراك المعارضة في الحكم وهو الأمر الذي تأكد بتعيين حكومة اليوسفي، والبعد الاستراتيجي لخياراته السياسية سواء ما تعلق منها بالمستوى الوطني أو الجهوي أو الدولي، ثم الإصلاحات السوسيو-اقتصادية التي لم يكن الملك يجد صعوبة في الدفاع عنها. أمام تعدد النماذج التي يقدمها العروي نحس كما لو أنه يقدم درسا في الحكمة الإستراتيجية للحسن الثاني التي أبهرت مؤلِّفنا. لا تقتصر هذه الحكمة على الصحراء، بل تشمل أيضا تدبير مشكلة حقوق الإنسان الشائكة، ابتداء من تأسيس المجلس الاستشاري الحقوق الإنسان سنة 1990، وما تلاه من إصلاحات في هذا المجال.
لا ينظر العروي إلى مسألة حقوق الإنسان كشأن سياسي داخلي بل هو يربطها برهاناتها الإستراتيجية الدولية. وبرزت هذه الرهانات لديه على إثر انتخاب فرانسوا ميتران رئيسا لفرنسا سنة 1981، ومساندة السيدة دانييل زوجة الرئيس للانفصال في الصحراء المغربية، وصدور كتاب جيل بيرو سنة 1990 الذي كان يشكل محاكمة بالغة القسوة والسلبية لنظام الحسن الثاني2. اعتبر الملك أن كل ذلك مناورات مدبَّرة تستهدف إضعاف المغرب وتهدد مصالحه الإستراتيجية، فاختار أن يكون رده صارما تجاه فرنسا يضعها أمام خيارات العداء للمغرب أو التحالف معه. وشكلت هذه السياسة الملكية التي تغلِّب الجانب الوطني المدافع عن السيادة المغربية السياق الذي شارك في إطاره عبد الله العروي في الحملات الدبلوماسية الرسمية التي نظمها القصر. ساهمت هذه المشاركة من داخل المؤسسة الرسمية من طرف العروي في ترسيخ أطروحته حول العمق الاستراتيجي للخيارات الملكية، لكنها بالإضافة إلى ذلك، جعلته يغلِّب أهمية البعد الوطني في هذه الخيارات، ويعي أكثر من السابق، ربما، التحديات التي واجهت السيادة المغربية، وبضرورة الدفاع عنها كأولية إستراتيجية. ولذلك فهو في مجال عرضه لإنجازات الحسن الثاني في مجال لحقوق الإنسان، يعطي الأهمية للمسار المؤسساتي لهذه الإنجازات بشكل أكبر من محتوى الإنجازات نفسها. بالنسبة له، إن القيمة السياسية لإطلاق سراح معتقلي تازمامارت لا تكمن في تسريح السجناء، ولكن في كون أن هذه العملية نُفِّذت عبر مؤسسة وطنية هي المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ولم تكن استجابة للضغوطات التي مورست على المغرب من طرف هيئات فرنسية، والتي يعتبرها متعارضة مع السيادة المغربية، بل تمت بموازاة مع مراسلات رسمية حول الموضوع بين الحكومتين المغربية والأمريكية.
عند نهاية حكم الحسن الثاني، يكون الملك بالنسبة للعروي قد وصل إلى مبتغاه: تحقيق المعالم الرئيسية لإستراتيجيته السياسية، المعارضة تشارك في السلطة، وقضايا حقوق الإنسان تعالَج مؤسساتيا، والتنمية السوسيو-اقتصادية لا تتوقف. لقد حقق الحسن الثاني تصوراته الإستراتيجية بنجاح يكاد يكون شبه تام. ماذا تبقى إذن لكي يكون مغرب الحسن الثاني هو مغرب العروي، أي المغرب الذي يعكس التصورات والطموحات السياسية لكاتبنا؟
يعطي النص الإحساس بأن مغرب الحسن الثاني هو بالتأكيد أفضل حالا مما لو كان “مغرب الحركة الوطنية.” كان هذا الأخير سيكون مغربا متخبطا في متاهات الانفعالات وضبابية فقر الفكر الاستراتيجي. وإذا كان دور الحركة الوطنية في مغرب الحسن الثاني بعيدا عن المركزية التي كان زعماء المعارضة يطمحون لها، فالأمر لا يعود إلى مخطط صممه الملك، بل يرجع بالأساس إلى الضعف الفكري لهذه الحركة. ليس الحسن الثاني من أضعف الحركة الوطنية، بل إن مسؤولية ضعفها تتحملها هي، في الوقت الذي كان الملك يرغب في أن تكون مشاركتها في تدبير الشأن العام أكبر وأهم منذ بداية حكمه.
وفي نهاية هذا الحكم، وبالرغم من أن المشاركة لم تتم في ظل دستور يقنن تقسيم السلط بشكل صريح، إلا أن العروي لا يعتبر هذه المسألة شرطا مسبقا لتقييم قيمة المشاركة في السلطة. بالرغم من أن النص الدستوري لم يغير من سلطة الملك، يرى العروي أن قوة الدساتير لا تكمن في نصها المكتوب، بل في الواقع العملي لممارسة السلطة. وواقع مغرب الحسن الثاني في هذا المجال يتفوق على دستوره.
تبقى نقطة الضعف البارزة في مغرب الحسن الثاني حسب العروي هي مسألة التعليم التي يعترف العروي بفشله في تدبيرها. كيف يمكن تفسير ذلك من خلال أطروحة العروي؟ هل تعود لاضطراب في التصور الاستراتيجي لدى الملك حول التعليم وأنه وبحسن نية، أغفل أهميته بالنسبة لمغرب المستقبل؟ أم أن هذا الجانب يكشف ما ظلت تنفيه أطروحة العروي: العمق التقليدي المتنافي مع الحداثة والمتعارض معها للمغرب الذي رعاه الحسن الثاني؟
سواء تعلق الأمر بالتعليم، الحلقة الضعيفة في نظام الحسن الثاني، أو ما حققه من إنجازات، فإن الأهمية الأكبر لمؤلَّف العروي لا تكمن في أحكام القيمة التي يصدرها بشأن التدبير السياسي للملك، ولكن في الإشكالات الفكرية والنظرية التي يطرحها، أو التي يقحمنا فيها ما قدمه العروي من إجابات منسجمة تشكل في رأيي مساهمة ذات قيمة في فهم الاستبداد ومنطقه وآفاق تغيره كنظام وكبنية من جهة، ومن جهة أخرى كنتاج خيارات وقرارات فاعل سياسي (الحسن الثاني طبعا) اتخذها في السياق التاريخي لمغرب النصف الثاني من القرن العشرين.
في الصفحة الأولى لكتابه، يطرح العروي السؤال الفكري المركزي لكتابه: هل الحسن الثاني هو الذي صنع النظام الذي نعيش في ظله أم أنه لم يكن هو نفسه إلا نتاجا لهذا النظام وضحيته القنوعة، كحالنا جميعا؟
في غمرة الجدل القائم بين الذين يفسرون السياسة انطلاقا من البنيات، المادية منها والثقافية، مغيبين في ذلك دور الفرد، وبين الذين يعتبرونها فعل فاعل، يقدم العروي جوابا مركبا لكنه لا يخفي تجاوبا مع المقترب الثاني، أظنه جديدا على العروي، وأعتبره السبب في تخلي العروي في نصه هذا عن مصطلح التاريخانية، الذي لا يمكن عزله بسهولة عن سياقه الملتصق بالبنيات وبالحتميات.
عند وصوله للحكم، ورث الحسن الثاني تصورا عن المشروعية السياسية للملكية المغربية تمتد 13 قرنا، ببنياتها وثقافتها، تمنحه سلطة غير مشروطة لم تنتقص منها الحمايةُ شيئا يذكر، والتي عاين الحسن كأمير نصف عمرها. وما كان على الحسن كملك، وعلى غرار سابقيه، إلا أن يعمل على المحافظة على هذا الإرث. ورث أيضا مغربا أقحمته الحماية في العصر الصناعي الحديث، ولكنها، وكأي مشروع استعماري، وجّهت ثمار الحداثة إلى المستعمرين وحرمت منها السكان المحليين، والذين شكلوا شعب الحسن الثاني، مجتمع فقير وأمي، وفي نفس الوقت ذو طموحات ومطالب. وورث بالإضافة إلى ذلك، معارضة لم يخل منها المغرب في السابق. لكن، إذا كان هذا الإرث شكَّل البنيات التي حددت خيارات الحسن الثاني، وقيَّدته بمسؤولياتها، فإنه لم يكن أسيرها القنوع، بل إنه وظّف تلك البنيات وأوّل ثقافتها لما يخدم فهمه لواقع مُلكه وللتحديات التي يواجهها كنظام سياسي، ولتصوراته عن المسار الذي اختار أن يتبعه نظامه، كأفق استراتيجي استعمل في سبيل تحقيقه كل مؤهلاته الفكرية والسياسية، التي يظهر من شهادة العروي وغيره أنها كانت وافرة ومتنوعة.
إن الإجابات التي يقدمها العروي للسؤال الذي طرحه، ومن خلال فصول الكتاب وتعدد النماذج التي عالجها، تلتقي في كون أن الحسن الثاني كان أبعد ما يكون عن الفاعل الغائب الذي تبتلعه البنيات وتصهره كجزء من آلة، من نظام، لا يتحكم فيه إلا منطق النظام نفسه. وعلى عكسه تماما، فإن المعارضة، بدت للعروي أسيرة البنيات الثقافية التي ورثتها، وما أفرزته هذه الثقافة من مواقف سياسية تبنتها المعارضة تفتقد إلى البعد الاستراتيجي، وتعيد إنتاج موقعها الهامشي وغير المؤثر في مسار النظام السياسي. إن المعارضة، وليس الحسن الثاني، هي التي تبدو الأسيرة الطيٍّعة لبنيات النظام السياسي. لكن العروي يسجل ذلك بمرارة، لأنه لا يعتبر هذه الوضعية حتمية بنيوية، بقدر ما هي نتاج لخيارات خاطئة ظلت تتبناها المعارضة كنخبة من الفاعلين السياسيين.
إن هذه المقارنة بين حالة الملك كفاعل مؤثر في البنيات الموروثة، والمعارضة، كأسيرة لنفس البنيات، هي التي تُبرز بوضوح ميل العروي لمقاربة الفاعل على حساب مقاربة البنيات. لكن أطروحة العروي لا تقدم لنا تفسيرا للأسباب التي أدت إلى الاختلافات بين خيارات الفاعلين. إنه يؤكد أن ما يميز الملك عن المعارضة هو أنه تبنى تصورات استراتيجية بينما افتقدت المعارضة إلى قراءة للواقع تنبني على السوسيولوجيا والتاريخ، لكنه يتوقف عند هذا المستوى، ولا يتساءل عن سبب هذه الوضعية المحيِّرة، والتي هي في نفس الوقت حاسمة في فهم السياسة المغربية، والنظام السياسي، ومنطق خيارات الفاعلين، وتسمح بالتالي بتوقع آفاق وإمكانيات التغيير السياسي.
أمام تلكؤ العروي الخوض في هذا الموضوع، نقدم بعض الأجوبة المحتملة انطلاقا من منطق أطروحة الكتاب. إذا كانت هذه الأطروحة تركز على افتقار قرارات المعارضة إلى السوسيولوجيا والتاريخ فإنها بالمقابل، لا تقدمها بوضوح كتفسير للتصورات الإستراتيجية لدى الملك. لو أنها توفرت، لكان من المتوقع أن تثير فضول العروي، ليس فقط لكون المسألة ترتبط بشكل مباشر بحرفته كمؤرخ، ولكن لكونها تشكل ركنا أساسيا في أطروحته. نبقى إذن أمام احتمالين لتفسير بعد النظر الاستراتيجي للحسن الثاني، كون أنه انبنى على معرفة للتاريخ والسوسيولوجيا اكتسبها بشكل غير موثق بالقدر الكافي، من خلال شغفه بقراءة هاوية للتاريخ ولقاءاته مع مفكرين ومؤرخين. في هذه الحالة، سيكون من المفيد أن نسلط الضوء على هذا الجانب الذي سيجعلنا نفهم مصادر المعرفة التاريخية والسوسيولوجية التي شكلت أرضية الخبرة الاستراتيجية التي اكتسبها الحسن الثاني. الاحتمال الثاني، والذي أميل إلى اعتباره الأقوى لدى العروي بالرغم من أنه لا يصرح به، هو أن البعد الاستراتيجي في خيارات الحسن الثاني لم تنبني على معرفة عالمة بالتاريخ ولكن على الفطرة والحدس. لكننا سنكون آنذاك مطالبين بالبحث في أسرار مصادر هذه المعرفة الإستراتيجية التلقائية، والتي لا يمكننا إلا أن نتعجب للنجاحات التي حققتها. لكن حصر العروي لمجهوده على الحسن الثاني، وعدم اهتمامه بطرح إشكاليات مقارنة ضيّق الآفاق التنظيرية للمؤلَّف ومنعه من أن يساهم بشكل أوضح في النقاشات الدائرة حول موضوع الاستبداد على المستوى العالمي. إن مقارنات نجاحات الحسن الثاني بسابقيه من السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم قبله، أو بزعماء لدول أخرى ستخرج الموضوع من نطاقه المحلي، وستوضح بشكل أكبر عناصر خبرة الحسن الثاني الاستراتيجية، التي تبقى في نص العروي محفوفة بالأسرار والغموض. يبقى هذا المجال إذن موضوعا يدعو لمتابعة التفكير والبحث والتوثيق.
ترتبط مسألة مدى حضور التصور الاستراتيجي وغيابه لدى الفاعلين السياسيين ذات صلة وثيقة بموضوع الخيار العقلاني لدى الفاعل السياسي وهو فصل هام في علم السياسة يُطرح منذ مدة كعنصر رئيسي في فهم السلطوية السياسية وآفاق انتقالها إلى نظام ديمقراطي. يساهم المغرب والحسن الثاني في إلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع الذي ظل مهملا كمدخل للفهم الأكاديمي للسياسة المغربية. إذا ما أعدنا صياغة أطروحة العروي بلغة هذا المدخل فسيكون النظام السياسي في عهد الحسن الثاني، وعلى نقيض جل الأطروحات حوله، نتاج خيارات فاعلين، وليس المخارج outputs التي يفرزها منطق النظام نفسه بغض النظر عن حسابات صناع القرار كأفراد. سيكون الحسن الثاني واجه قائمة من القرارات المحتملة والممكنة، ولكنه اختار كفاعل من قلب الدولة مسار الإصلاح والسعي الصبور إلى الانفتاح على المعارضة، وسيميزه هذا التوجه الإصلاحي على غيره من الفاعلين الدولتيين المتشددين، وسيكون مصير الإصلاح ليس مرتبطا بحتمية نظام أحادي مغلق ولكن ما أفرزته خلاصات التجاذب في صفوف الدولة بين إصلاحيين ومتشددين، وسيكون نجاح التوجه الإصلاحي مؤشرا ليس على استبداد الحسن الثاني وانفراده بالسلطة، بقدر ما هو دليل لقدرته على الدفع بخياراته والتأثير على مساعديه، ومستشاريه، ووزرائه، وإدارييه، وعساكره، والذين لا يشاطرونه جميعهم بالضرورة و دائما نفس التوجهات. تبرز هذه الوضعية لنظام الحسن الثاني التي تطبعها التعددية في الخيارات، و التقاطبات ضمن الموالين المحسوبين على الدولة، وتنوع الخيارات الممكنة، ثم اتخاذ الملك لخيار دون غيره، في النموذج الذي قدمه العروي والمتعلق بالجدل حول اعتماد التعريف العالمي لحقوق الإنسان في ديباجة الدستور، والذي شهده المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وعاينه العروي من الداخل كشاهد بصفته عضوا في المجلس. من هذا المنظور، فإن الإصلاحات السياسية، بما فيها الانتقال الديمقراطي، من الممكن أن يظهر من قلب الدولة، وأن يعرف طريقه إلى التفعيل. ما يبقى ناقصا في نص العروي، هو المزيد من النماذج الموثقة لهذه الدينامية، وللوسائل والمناهج التي اتبعها الحسن الثاني في الدفع بخياراته من داخل الدولة.
لا تقتصر كتابات الانتقال على الفاعلين الدولتين في متابعة مسارات التغيير السياسي، بل هي تولي نفس الاهتمام للفاعلين المجتمعيين. والفاعلون المجتمعيون في أطروحة العروي، والذين تمثلهم المعارضة، لم يشهدوا دينامية مشابهة للدينامية الدولتية، ولا تعددية خلاقة، بل ظل الموقف الغالب لدى المعارضين حسب العروي، هو موقف المتشددين الرافضين للقبول بتحالف مع الحسن الثاني بصفته رائد الإصلاحيين الدولتيين. يساهم العروي في فهم التشدد حين يرجعه إلى لا-عقلانية الانفعالات وأوهام الإيديولوجيا. إننا نجد انسجاما كبيرا بين أطروحة العروي وأطروحات الانتقال في تفسير مآل الدمقرطة انطلاقا بالأساس من حسابات الفاعلين، وهي تدعو إلى الاستمرار في تجريبها اعتمادا على حالات متعددة وعلى فاعلين متنوعين وانطلاقا من معطيات جديدة.
يشكل هذا الجانب والمتمثل في النقص الكمي للحالات التي يعتمدها العروي في تأسيس أطروحته، وفي ندرة المعطيات الموثقة بشأنها، نقطة ضعف واحدة في الكتاب. نقطة الضعف الثانية هي التعامل البالغ التسامح في تفسير مواقف الحسن الثاني وتقييمها، وبالمقابل، الصرامة والتشدد اللتان تصلان أحيانا إلى القسوة، مع مواقف المعارضة، والتي مع المحتمل أن تكون مبنية ليس على تعامل موضوعي محايد مع الأحداث والمادة قيد التأمل، بقدر ما تفضح خيبات الأمل الذاتية للمؤلف من معارضة كان العروي جزءا منها، كفاعل، وإن لم يكن مركزيا، وكمنظر، مركزي في هذا الحالة، لخيارات التغيير والقطيعة التي كانت تتبناها المعارضة. لذلك، فإن كتاب العروي، بقدر ما يفتح نافذة منهجية على آفاق جديدة في فهم مغرب ما بعد الاستقلال بصفة خاصة، وظاهرة الاستبداد السياسي بصفة أعم، بقدر ما يعتبر مادة خام لفهم الفكر السياسي للعروي وللتحولات التي عرفها هذا الفكر ولإعادة قراءة أطروحاته على ضوء هذه التحولات من جهة، وعلى ضوء ما ينتجه الفكر السياسي على المستوى العالمي.
الهوامش:
1- فضل العروي وبدون أي تبرير عبارة التاريخ والسوسيولوجيا عوض التاريخانية، بالرغم من أن هذا المصطلح الأخير كان مركزيا في كتاباته السابقة، وبالرغم من أن المقصود بالمصطلحين في هذا النص يبدو هو نفسه، أي فهم للواقع يعتمد ليس على الإيديولوجيا والعواطف، ولكن على معرفة بالسياقات التاريخية للأحداث وبالأدوار التي يمكن للفاعلين أن يلعبوها بشكل لا تكون متعارضة مع الاحتمالات الممكنة والمحتملة للتطور التاريخي
2- Gilles Perrault, Notre ami le roi, Paris, Editions Gallimard, 1990.