حورية الخمليشي،الشعر المنثور والتحديث الشعري،دار الأمان، الرباط. – منشورات الاختلاف، الجزائر- الدار العربية للعلوم ناشرون شوم,ل، بيروت، 2010.
I. عرض وصفي
صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ودار الأمان، ومنشورات الاختلاف، كتاب حورية الخمليشي الشعر المنثور والتحديث الشعري في طبعته الأولى سنة 2010، وقد بنته الناقدة على ثلاثة فصول وزعتها كما يلي: 1 ـ الشعر المنثور، تحديدات مصطلحية. 2 ـ الشعر المنثور، أعلامه ونماذجه . 3 ـ الشعر المنثور والتحديث الشعري.
أشارت المؤلفة في المقدمة إلى قلة الاهتمام بموضوع الشعر المنثور، وهو ما شكل عصب الاهتمام به من حيث إعادة النظر في قضاياه وخصائصه، وعلى هذا الأساس كان العمل لديها مبنيا على رصد تطوره ابتداء من 1905 كزمن يؤرخ لمرحلة تأسيس أمين الريحاني لهذا الجنس الأدبي في العالم العربي تنظيرا وممارسة. وفي ضوء هذه المقاربة النسقية التي تعتمد الممارسة النصية فعلاً تاريخياً، ترتسم معالم مفهوم الشعر المنثور الذي اكتنفه الغموض والاضطراب. ولكي تحدد الصيغ الممكنة لمثل هذا البحث الاصطلاحي والمفهومي، عملت المؤلفة على استنبات الإشكال وفق أسئلة متناسلة تبيِّنُ التفكير النسقي الذي هيَّـأَ للكتاب علاقته بالتنظير والممارسة في آن واحد ؛ ومن بين أهم تلك الأسئلة ما يلي: كيف يمكن للنص أن يكون شعراً ونثراً في الآن نفسه؟ ولماذا البحث عن قالب مختلف للشعر خارج الشعر؟ وهل الشعر المنثور خرق للحدود الأجناسية؟
رأت الباحثة في هذه الأسئلة وغيرها موجهاتٍ ضروريةً لاختيار الموضوع المدروس، ساعدتها على بناء افتراضٍ يقترب من قناعة أولية تتمثل في اعتبار الشعر المنثور لوناً شعرياً غير بديل للقصيدة العمودية، غير أنه جنس شعري أثبت حضوره الخاص. ومما لاشك فيه أن تتبع هذه المقاربة كان مشفوعاً بجملة من العوائق التي مست الخطاب النقدي النظري، فانتبهت الباحثة إلى غياب إطار نظري يحدد مفهوم هذا الشعر، وقد أدى هذا الغياب إلى الغموض والتداخل في الاستعمال والتداول الاصطلاحيين، إذ استُخدِمَ الشعر المنثور ـ في العالم العربي ـ لتسمية أجناس أدبية متعددة كالشعر المرسل والشعر الحر تبعاً لعائق الترجمة لدى النقاد أو لدى الشعراء أنفسهم.
وارتباطاً بالتأطير النظري الذي شكل بؤرة الكتاب، ارتبطت المؤلفة في الفصل الأول بمفهومي الشعر والنثر في مجالي اللغة والأدب، فانتقلت بموجب ذلك إلى توضيح الفرق بينهما لدى العرب القدماء الذين كان وعيهم الشعري مقترناً بمنجز النثر القرآني كممارسة غير أجناسية، فغاب عنهم الفرق أو لم ينتبهوا إليه. وعلى اختلاف في تقدير التفريق بين النقاد القدامى، كالنواجي والجاحظ وقدامة بن جعفر، كان اللقاء مع هذه التصورات رصداً لتعدد المرجعيات التي أطرت مسير الشعرية العربية القديمة في مستوى تصور وبناء النوع الأدبي. وقد خلص الكتاب، في رصده للمتشابه والمختلف قديماً وحديثاً، إلى وجود ناظم مهيمن يتمثل في قدرة الشعر والنثر على بلوغ الجمال الفني.
أما الفصل الثاني فقد تناول أعلام الشعر المنثور ونماذجه، ابتداء من أمين الريحاني كأول شاعر اهتم بهذا اللون أو النوع، مروراً بالحركات التجديدية التي راهنت عليه مثل جماعة أبولو مع زكي أبي شادي، وجماعة الرابطة القلمية مع جبران خليل جبران؛ غير أن التركيز على الريحاني كان لافتاً للنظر، من حيث دقة المعلومات ذات الصلة بتنظيراته وآرائه في مختلف المجلات والكتب والصحف، ومن حيث النصوص التي لم تكن معروفة على أغلب المهتمين بشعر المرحلة. وفي ضوء هذه المعلومات ناقشت الباحثة تصوره وطرق تحليله لقضية الشعر المنثور، سواء من جهة المفهوم أو من جهة الاختبار النصي ذي الصبغة المعيارية، موضحةً الاختلافات التي اعتمدها بعض النقاد في قراءة تجربة الشعر المنثور، أمثال أنيس المقدسي الذي صنف الدواوين التي تبنت هذا الشعر وفق منظوره.
وحينما ناقشت تجربة أبي شادي، خلصت إلى أهم عنصر في خطابه : وهو ضرورة الترجمة من أجل تطعيم الأدب العربي؛ ولذلك جاءت بردود متباينة بين أبي شادي والحطيم لكي تبين مدى أهمية الموضوع في زمنه من جهة، وفي امتداده ضمن خطاب الشعرية الحديثة اليوم من جهة أخرى. وتبدو أهمية هذا النقاش في الموقف من المعيارية الصارمة التي كانت عائقاً أمام اختيار الجنس كممارسة نصية حرة وفق رؤية منفتحة، وهو ما دفع “زكي أبو شادي” إلى وضع خطاطة لمقومات الشعر المنثور باعتبارها تصوراً تجديدياً؛ ومن بينها: اعتبار الشعر المنثور شعراً غير مجرد من الموسيقى رغم استقلاله عن الوزن، ثم اعتباره شعراً عالميا معترفاً به.
وفي وضعية جبران كانت تسمية الخطاب الإبداعي موسومة لدى النقاد بالحيرة النوعية، رغم تمييز أنيس المقدسي بين النثر الشعري والشعر المنثور، وانتصار سلمى الجيوسي للنثر عند جبران، ثم اختيار منيف موسى تسمية الديوان النثري داخل منظومة الشعر العربي. فالموقف الذي عبر فيه جبران عن الاختيار المختلف لمسألة اللغة والوزن في أعماله، يعد تنويعاً جديداً لموضوع الجنس الشعري في ضوء مشروع الحداثة الشعرية. ولذلك اعتبر محمد بنيس نصه عن اللغة والكتابة بمثابة “البيان الملغى”.
أما في المغرب ،فقد اختار التصنيف الشاعر محمد الصباغ ممثلاً لهذا الجنس، ورغم تأخره في هذا البلد فقد مارسه الصباغ منذ ،1953 سنة صدور ديوانه العير الملتهب، ثم ديوان شجرة النار وغيرهما من الأعمال التي شهدت إقبالاً في المشرق بحكم تتبع الصباغ لخطوات أمين الريحاني على حد قول أنور الجندي.
وفي مستوى تحليل النماذج النصية، أثبتت المؤلفة ثمانية عشر نصاً معتمدة فيها على “القيمة المهيمنة” مقياساً منهجياً، وأداة إجرائية للنظر في مدى فاعلية المقومات الشعرية، ولإثبات حضور الشعر المنثور في تاريخ الشعرية العربية واستمراره رغم تجدد أشكاله الشعرية والنثرية. وعلى هذا الأساس رأت في نموذج الريحاني هتاف الأودية غموضاً في الصور، وبناء بصريا يعتمد نظام الأسطر القائم على التقفية، وأسلوبا يطغى عليه السرد. أما في نموذج أبي شادي قصيدة الرؤيا، فقد عدَّت لغتَها ضعيفةً من حيث توظيفُ الصور الشعرية والخيال، إضافة إلى غياب التقفية والوزن والتفعيلة مقارنةً مع باقي قصائده.
وتعزو اختلاف النقاد في تصنيف نصي جبران جمال الموت ومناحة في الحقل إلى التصوير الفني الجميل الذي استمد استعاراته وتشبيهاته من الكتاب المقدس؛ يضاف إلى ذلك استخدامه إيقاع النثر تعويضاً عن غياب الوزن من خلال العناية بموسيقى الكلمة سجعاً وتوازياً بين الألفاظ والعبارات. أما نص الوطن لأحمد شوقي، فتميز في نظرها بالجمع بين خصائص النثر والشعر من حيث ارتباطه بالموروث العربي وغناه تخييلاً ولغةً وإيقاعاً.
واللافت للنظر في اختيار المؤلفة للنماذج، عودتها إلى النصوص العربية القديمة كنص الجاحظ من كتابه البيان والتبيين الذي جمع بين خاصية النظم والنثر؛ ثم نص أبي الفرج الببغا، باعتباره نثراً مسجوعاً رغم ما فيه من تكلف، وكذلك نص المقامة الحلوانية للهمداني الذي بناه على السرد القصصي، وعلى جمل موزونة. ونجد أيضاً نصاً لابن عربي، رأت في ملمحه الصوفي عالماًً شعريا كونياًً ذا طريقة خاصة في البناء الداخلي لغةً وصوراً وخيالاً. وفي ضوء الاختيار القديم أثبتت نصاً من الكتاب المقدس وهو نشيد الأناشيد لتبين “ما كان من تأثير للترجمة العربية للإنجيل، خاصة على الشعراء العرب في سوريا ولبنان والمهاجر الأمريكية، وهو شعر منثور تأثر الشعراء بأسلوبه البسيط وصوره الشعرية، وإيقاعاته المميزة التي تحققها أنظمة الجمل والعبارات وقوالب التعبير”.(ص.112)
وفي وضعية النص المعاصر نجد ثلاثة نصوص: نص أنسي الحاج ماذا صنعت بالذهب ماذا صنعت بالوردة؟ الذي لم تجد الناقدة في لغته توتراً ولا في صوره عمقاً رغم غناه بالتشبيه؛ ثم نص محمد بنيس من كتابه شطحات لمنتصف النهار الذي عدته نوعاً من الكتابة الإبداعية الراقية، من حيث استعمال بنيس لكلمة “نصوص” كمحاولة تجنيسية لسرد سيرته، ومن حيث خاصية الشعر الماثلة في مستوى التركيب والصور والخيال؛ ثم نص محمود درويش حضرة الغياب الذي تلمس فيه جدلية الغياب والحضور، وتلمس فيه شعرية نثرية منبثقة عن إيحاءات الاستعارة والمجاز.
وبعد تحليل مختلف الخصائص البنائية لكل هذه النصوص، خلص الكتاب إلى ما يلي:
1. اعتبار الشعر المنثور ملمحاً من ملامح الحداثة الشعرية، وجنساً شعرياً بديلاً في خريطة الأجناس الأدبية.
2. تتأتى شعرية هذا الجنس من تأثير محمولات الحداثة الفنية والفكرية.
3. تحمل كل نصوص الشعر المنثور شكل النثر، فلا ينتظمها وزن ولا قافية، بل تمتاز بإيقاع منسجم يهيمن فيها التخييل والصور الشعرية وحضور الذات.
4. لا تخلو نصوص الشعر المنثور من خاصيات الخطاب الشعري التخييلي.
5. تعتمد في التشكيلات الإيقاعية على توازن الجمل، والسجع، والتكرار.
6. مازال الشاعر العربي يشتغل، في بنائه النصي، بمتخيل القصيدة التقليدية، رغم رغبته الملحة في التخلص من الوزن والقافية.
7. أثبتت “القيمة المهيمنة” خطأ أمين الريحاني في ترجمة الشعر المنثور ذي الجذور المتأصلة في الثقافة العربية.
8. غياب إطار نظري يُعرف الشعر المنثور كجنس شعري مستقل بذاته، أدى إلى إشكالات نظرية ونصية.
وقد أكدت الباحثة في الفصل الثالث أن الحداثة حركة إبداعية مواكبة للحياة في تطورها، لا تقتصر على زمن دون آخر؛ ومن هنا اختلاف النظر إلى محتويات هذه الحداثة، وعلاقتها بالإبداع والفن من حيث الانفتاح على السؤال والتجريب في الممارسات الكتابية بتعددها وتنوعها. ومع هذا التعدد في التصور والبناء الذهني، اتخذ الكتاب وجهة مفهومية أولى، اعتمدت استشكال مصطلح الحداثة في الوعيين العربي والغربي لغةً واستبطاناً لتاريخ الأبنية الذهنية من أجل تمييز محتوياتها الجوهرية وتمييز مستويات استعمالها أو الاشتغال بها. وقد اعتمدت الناقدة على عدد من التعريفات والتصورات ـ من بينها تعريف جبرا ابراهيم جبرا، وأدونيس، ومحمد بنيس ـ في ضوء علاقتها بالتاريخ والفكر قديما وحديثاً، لتخلص إلى أن الحداثة الشعرية، باعتبارها تجربةً إبداعية وممارسة للكتابة، هي حداثة لازمنية بحكم المقاربات التي ستعرضها للغموض والالتباس، بالنظر إلى تصور الحداثة في الغرب. ولهذا بقي الخطاب الشعري رهين الصراعات المتعددة التي تناولت مفهوم الحداثة ومستويات اشتغاله في الفكر والأدب.
وارتباطاً بنسق الموضوع، كان سؤال العلاقة بين الشعر المنثور والحداثة الشعرية العالمية موسوماً بإشكال جوهري يتمثل في ما إذا كان هذا الشعر نموذجاً حداثوياً في العالم العربي، نتج بفعل عامل الاحتكاك بالثقافة الأوروبية، أم أنه كان مرتبطاً في جذوره بالثقافة العربية. فمن الوجهة الأولى، نعثر على نموذج أمين الريحاني في تقليده لوالت ويتمان، حيث أدخل النثر وسيلةً للتعبير الشعري، وجعل له وزناً مخصوصاً. وفي السياق نفسه، كان نموذج الرومانسية العربية آتياً من خارج بنية الشعر العربي من الوجهة الثانية. لكن الناقدة ترى أن “الحداثة ليست تمرداً كلياً على الأساليب الشعرية الموروثة ولا خضوعاً تاماً لها”، (ص.137) وهو ما يبرر في نظرها حضور الموروث بأشكال وأبعاد متفاوتة في الشعر الحديث، قد تغيب عن الوعي النظري في لحظات أو فترات تاريخية، أو يتم تجاهلها وغض الطرف عن بناء إطار نظري يسندها.
ومن سياق نظام العلاقات النصية المنجزة، ناقشت الناقدة علاقة الشعر المنثور بالنثر الشعري، وبالشعر المرسل، وبالشعر الحر وبقصيدة النثر. واعتبرت النثر الشعري من أكثر المصطلحات التي وظفها النقاد في إحالتهم على الشعر المنثور فخلطوا بينهما. ولذلك عرفت النثر الشعري بكونه “كتابة نثرية تستخدم الأسلوب الشعري مع صور شعرية وشيء من العاطفة العالية. لذا فهو يختلف عن الشعر المنثور في أسلوبه. فأسلوب النثر الشعري قد يشبه أسلوب المقالة المعتادة من حيث نظام الفقرات وإمكان ورود الجمل الطويلة، وقد يمكن استخدامه في رواية كاملة”.(ص.148) أما الشعر المرسل فهو الشعر الذي يتحرر فيه الشاعر من القافية أو يلغيها، ويرسل الشعر إرسالاً. ومن النماذج التي ساقها الكتاب، بهذا الصدد، نموذج شكسبير في الشعر الإنجليزي، ونموذج أبي شادي، وبولس شحادة، ونيقولا فياض في العربية، على اختلافهم في أنماط الكتابة. وخلصت إلى أن الشعر المرسل هو الشعر الذي لا يتقيد بقافية واحدة وإن تقيد في بعض الأحيان ببحر واحد. وفي ما يتعلق بالشعر الحر، رأت المؤلفة أنه مصطلح أحدث التباساً وغموضاً لدى القراء. ويرجع ذلك إلى الخلط يين ما يحيل على الوزن التفعيلي وبين ما يحيل على الشعر المنثور الخالي من الوزن العروضي. ولم يميز الشعراء والنقاد بينهما لعدم استيعابهم مدلول المصطلح لا بمفهومه عند أبي شادي، ولا عند نازك الملائكة، أو غيرهم من الشعراء بسبب ما أوهمت به كلمة “الحر”.
ولرفع الالتباس عن سياق قصيدة النثر، فقد بيَّن الكتاب أنها ظهرت في العالم العربي بعد الشعر المنثور عكس ظهورها في الغرب. ومن ممثليها في الأربعينيات حسين عفيف وألبير أديب، إذ كانت محاولاتهما تتنفس في أجواء الشعر المنثور مثل كتابات جبران وأمين الريحاني. وفي رأي بعض النقاد الذين استشهد بهم الكتاب، أن الشاعر خير الدين الأسدي يمثل قفزة نوعية من الشعر المنثور إلى قصيدة النثر. أما محمد بنيس فيؤكد التباس المصطلح بين قصيدة “النثر” والشعر المنثور إلى جانب وجود إنتاجات شعرية بديلة تحمل نفس مواصفات هذه الأجناس كالشعر الحر. وفي رأي أنسي الحاج أن قصيدة النثر هي أرقى ما توصل إليه الشاعر العربي الحديث، وخلافاً لذلك يرى أدونيس عدم الانحصار في طبيعة شكل القصيدة، والدعوة إلى تحديث الشعر العربي. وقد خلصت الناقدة، بعد رصد مختلف الأفكار والممارسات النصية، إلى قصيدة النثر “لم تنجح إلى يومنا هذا في أن تكون تياراً شعرياً وجنساً أدبياً مستقلاًً ” (ص.166) وذلك لأسباب فكرية وتاريخية وحضارية حدَّت من فاعليتها.
وعن علاقة الكتابة بهدم الحدود بين الأجناس، رصد الكتاب تجربتين هامتين في الشعر المعاصر: تجربة الكتابة الجديدة لأدونيس، باعتبارها إعلاناً عن الانتقال من القصيدة إلى الكتابة. ولتأسيسها في الثقافة العربية القديمة، حدد أدونيس ثلاثة نماذج، وهي القرآن، وشعر أبي تمام ، ثم الكتابة الصوفية للنفري. أما التجربة الثانية فيمثلها الشاعر المغربي محمد بنيس، من خلال “بيان الكتابة”، الذي وضع أربعة قواعد لإعادة بناء مفهوم الكتابة وهي: لا بداية ولا نهاية للمغامرة، النقد أساس الإبداع، لا كتابة خارج التجربة والممارسة، لا معنى للنقد والتجربة والممارسة إن هي لم تكن متجهة نحو التحرر.
وفي خاتمة الكتاب وضعت الناقدة جملة من الخلاصات نوجزها في ما يلي:
1. تعرف العرب على الشعر المنثور عبر الترجمة، وبتعدد الممارسات كان تقريب الشعر من النثر أكثر غنى.
2. غياب إطار نظري يحدد مفهوم الشعر المنثور.
3. أعطت حداثة الشعر المنثور مكانة رفيعة للشعر العربي بتجاوز الواقع، وتحويل طرق التعبير، والتخلص من الأساليب القديمة.
4. ضرورة مراجعة مصطلح الشعر المنثور من خلال تواصل الشعراء والنقاد فيما بينهم.
5. الشعر المنثور قول شعري وليس شعراً.
6.الشعر العربي الحديث يعيش تجربة الأجناس برؤية منفتحة، والشعر المنثور إعادة نظر في القصيدة، وبعث، وتجديد، وإعادة بناء.
II. إشكال الجنس المركب
عندما آمنت الحداثة بالتجريب، في الأدب خاصة، تخلت عن مفهوم صفاء الجنس وهويته وجوهره؛ وبذلك أرخت لمرحلة جديدة من الخطابات النظرية والنصية، تنحو كلها إلى عدم الارتباط بالمعيارية، كيفما كانت صِيَغُها وأهدافها. وقد اتخذ التجريب دلالاتٍ متنوعة، كالتوليف، والمزج، والتداخل، والاقتراب، والتهجين، والاستنبات، والتركيب … وغيرها من الدلالات التي تسند التجريب كمعطى قائم في الوعي الأدبي من جهة، و كمبدأ شمولي في فهم و لفهم الحداثة وأشكالها من جهة أخرى.
ويبدو لي أن التجريب الذي مارسه الشعراء في المراحل الأولى من التحديث، لم يكن مفهوماً محدداً لديهم، ولم يمارسوه بوعي نقدي، وإنما كان اختياراً شخصياً وفق مخزون ومقروء ومستوى علاقة كل واحد منهم بالموروث الثقافي العربي وباللغات الأجنبية. لكن هاجس تطوير القصيدة العربية هيأ لمعطى التجريب عدداً من الاختبارات النصية التي ظلت رهينة النسق، دون أن تختبر صلته بالممكن من داخل الشعرية العربية. وبهذه الصورة تم تداول المنجز الشعري الحديث على أساس القيمة الارتجاعية والعودة إلى قدامة الشعر ،كلما ظهرت تجربة تحاول الخروج أو التجاوز أو التخطي.
يأتي اختياري لمدخل “تداول النسق” ضمن آلية اشتغال هذا الكتاب ورؤيته النسقية لمقتضيات وضعية الشعر المنثور في تاريخ الشعر العربي الحديث؛ وما يبرر منطق التداول في هذا النسق هو الإشكال النظري لتاريخية الشعر وبنياته: تصورا وممارسة وتأريخاً، ولذلك وضعتُ في هذه المقاربة افتراضاً مبدئياً يقوم على ربط التداول، من حيث هو فعل واع يستوعبُ شرائط التراكم النصيِّ للشعر المنثور، بالنسق الذي يحدثه هذا التراكم في عمليات التنظير باختلاف أطرها ومستويات التجريب المفهومي الذي أنجزته. وعلى هذا الأساس تتحدد قيمة هذا التجريب من محتوى النظر إليه الآن: أي بعد تحقق بنيات الشعر الحديث ورسوخها في التشكل الذهني العربي سلباً أو إيجاباً.
تتمثلُ أولُ سمة موضوعاتية لهذا النسق في عودة المؤلفة إلى “الشعر المنثور” وفق إجراء ذي بعد نقدي متكامل، يحدد تعيُّنَهُ داخل سؤال التحديث الشعري بما هو سؤال مفتوح على الذات والمجتمع والأدب، ولم يكن تحيينُ الإجراء النقدي مفصولاً عن تعدد مستويات صلات هذا الشعر بذاته ، وعن تعدد هجراته وعبوره بين اللغات.
وبتتبعنا لأهداف الكتاب، نلمس الإصرار على تمثل نسق الشعر المنثور في الشعرية العربية من خلال “رصد تطوره ابتداء من 1905 ” كتأمل في المنجز النصي، ثم صياغة العلاقة بينه وبين زمنه الشعري الذي تلتبس فيه وضعيتان: الحداثة الشعرية العالمية والذاكرة الشعرية العربية، وفي مقام آخر معرفة تداول النموذج التحديثي للشعر المنثور باعتباره “إعادةَ نظر في القصيدة، وكتابة مغايرة، وتسميةً جديدة “. وما يلفت الانتباه في هذه الاستراتيجية التي تتعمق أكثر في فصول الكتاب، هو الطريقة التي تمكنت بها المؤلفة من نقل الشعر المنثور من وضعية نصية إلى وضعية مفهومية نظرية؛ وتأكيدُها على عدم اعتباره بديلاً للقصيدة العمودية، هو ما يجعل إجراءها النقدي والتحليلي موسوماً بالبنائية القائمة على توزيع النسق إلى موجهات زمنية كشفتْ بها اختلافَ التداول وتعدُّدَهُ.
أما السمة الثانية فتتسمُ بالوقوف على الانفلات الاصطلاحي الذي هيأ لنصوص الشعر المنثور احتماءً داخل الحرية والاختلاف، بما راكمه هذا الشعار من عوائق التجريب وتناقضات الانفتاح على الشعريات العالمية، وصعوباتِ التصنيف وبناء المعايير الممكنة في حدودها الدنيا. كانت العودة إلى قدامة الشعر ونقده ضرورةً منهجية للكتاب، خاصة وأنه يراهن على استقراء المعيارية التي أنتجت في الذاكرة النقدية معانيَ الانتقاء والإجادة والصواب والخطأ والاحتراز وغيرها من الدلالات التي أصبحت هي المعايير بدل العمل ذاتِه. في ضوء الاستقراء المفاهيمي والاصطلاحي كشفت الناقدة عن الحدود القائمة بين الشعر والنثر لدى الشاعريين القدامى بمرجعياتهم الفلسفية والفقهية واللغوية، لتنفتح على تمثلات غربية بهدف معرفة المشترك والممكن في الأبنية النقدية التي تقرأ الشعر من زاوية نظرية. لاشك أن أهم صعوبة واجهتها المؤلفة أثناء البحث عن النسق هي العثور على نصوص إبداعية يهيمن فيها الشعر والنثر، وقد تحمل تسميات بديلة، للنظر في خاصيات الخطاب الشعري .
يبدو أن استعمال مصطلح “الخطاب” في مقام تداول الشعري والنثري، ذو دلالة حاسمة لإعادة ترتيب نظام العلاقة بين التاريخ وأشكال القول أو الكلام. ويعني ذلك أن الناقدة أدركت أن الشعر لم يخضع لمتعاليات الشعرية العربية بالقدر الذي خضعت له التنظيرات القديمة، ووسمته بعد ذلك بمنطوقها النقدي. ولذلك يشتغل الخطاب في هذا الكتاب من حيث هو ممارسة متبدلة ومستمرة لأشكال التعبير في مختلف النصوص. وبانتباهها إلى وضعية النسق في التاريخ الشعر ، عملت على إشراطه بقياس تداولي آخر ترى فيه أن العرب كلما اتصلوا بالشعر الأروبي بحثوا عن وسائط جديدة تمكنهم من الخروج بالقصيدة العربية إلى أشكال فنية حديثة، لهذا تعددت مصطلحات الشعر بتعدد تصنيفاته، فوجد النقاد أنفسهم أمام مصطلحات متعددة تحيل على جنس شعري واحد وهو الشعر المنثور .
وعندما يتقدم التحليل في اتجاه النصوص يلقي الكتاب وضعية جديدة تهم الشعراء وعلاقتهم بأشكال الكتابة لديهم، ومعنى ذلك أن تداول التسمية أو المصطلح نابع من اختيار المرجع أو الوسيط، ومن مستوى التبيئة التي تكفل تاريخية الشعر العربي في التسمية. ومن هنا امتنع مصطلح الخطاب أن يسم كلمات النقاد والشعراء على السواء حينما يتعلق الأمر بالتنظير، وما يدل على ذلك هو اختيار المؤلفة لمصطلح الإطار بدل الخطاب. ولعل عدم إيجاد إطار نظري محدد للشعر المنثور، وقيامَه على إيقاع النثر بعد تجرده من الإيقاع المنتظم، أدى إلى غموض المصطلح والتباسه.
يرى الكتاب أن الشعر المنثور نسق في خطابه، أي في مجموع أبنيته المنتظمة ودواله اللغوية وغير اللغوية؛ غير أن التنوع الذي يطال إشكال التجنيس لم يأت من تلك العناصر البانية، بل من سلطة الاختيار النظري كي يتاح للممارسة النصية أن تجد لنفسها المكان الشعري بالقياس إلى حركات الشعر في العالم. فحينما تجرد المؤلفة عدداً من المصطلحات : القصيدة المنثورة، الشعر المنطلق، الشعر الجديد، النثر الموقع، قصيدة النثر، الشعر المرسل… تضعنا أمام سؤال الخاصية الشعرية للقصيدة أو النص، ولو نظرنا في كل هذه التسميات للاحظنا هيمنة كلمة قصيدة أو كلمة شعر عليها جميعاً؛ فالقاعدة التجنيسية موجودة في الاسم والمسمى، وعلى هذا الأساس يبنى تداول النسق على الفرع لا على الأصل، وهو ما نعتُه بالنسق الموهوم. وبالنظر إلى الخاصية التي عُدَّتْ الفاصل بين التسميات وهي الإيقاع، فيمكن القول إن التداول الذي التبس لدى الشعراء المنظرين والنقاد يكمن في عدم النظر إلى الإيقاع بشمولية أوسع وبقي محصوراً في البناء العروضي والوزني، وهو ما أسميتُه النسقَ المعزول.
تمكن الكتاب من إعادة قراءة نماذج الشعر المنثور انطلاقاً من حوار نقدي مع النصوص ومع التصورات التي رافقتها في مراحل مختلفة من تشكلات الشعرية العربية في المشرق والمغرب، بهدف توسيع دائرة التلقي الأجناسي من داخل الخطاب الشعري. ويبدو أن أهم خطاب معرفي يلقيه هذا العمل هو ضرورة الانتباه إلى الأوهام النظرية التي أرخت للشعر العربي الحديث، والبحث عن المعرفة الحفرية ذات الصلة بالإبستمولوجيا. وفي هذا الأفق المعرفي يتمكن الكتاب من رسم معالم نصوص الشعر المنثور من حيث التوثيق العلمي، ومن حيث استنطاق موازياتِها لدى الشعراء خاصة. ومع اتساع الحوار استقراءً واستنباطاً، بدا لي في هذا العمل الرصين مسكوتٌ عنهُ لا يفصح عن نفسه إلا عبر مؤشرات تثوي بين الفصول، وهو في نظري عصبُ البناء المعرفي للموضوع وإشكالُه. ويمكن أن أصوغَه في شكل جملة استدلالية: إذا كان الشعر المنثور ظاهرةً في تاريخ الشعر الحديث، فإن التحديث الشعري مشروعُ قطيعةٍ مع ثقافةٍ شعريةٍ بكاملها بشروط مغايرة، وإذا كان الشعر المنثور خاصيةً لهذا التحديث وحالةً من حالاته، فإن الشعر الحديث هو صورةٌ أو مظهرٌ للقاءِ الماضي والحاضر والمستقبل كلما دعت الضرورة إلى مشروع جديد، وإلا فكيف نفسر استمرار التقليدية والرومانسية في مختلف الجغرافيات الشعرية العربية الآن؟
قد نصوغ هذه الجملة بطرق متعددة؛ ومن بين الصياغات التي وضعتها المؤلفة أثناء تحليلها للنصوص، جمعُها لتجارب قديمة وحديثة دون أن تشترط علاقتها بالزمن الشعري، أو بالمرجعيات المؤطرة لها. ولم يكن هذا الجمع سوى إعادة قراءة المتون وفق عملية البناء النصي، بهدف التعرف على الاختيارات التي مثلت المختلف والمتغير أو التي ارتهنت إلى المقارنة في خطابها. ولو نظرنا إلى نص الريحاني، فسنلاحظ أن بناءَ السطر هو العنصرُ المتميزُ الذي يُشغل الخطابَ كلَّه ويُنظمه، فيما يتخذُ البناءُ القَصصيُّ، في نص أبي شادي، السمةَ الدالةَ على إحداث المتغير. أما في نص جبران، فإن التركيب الإيقاعي المبني على العلاقات بين الكلمات هو ما يحدث الفارقَ في تسمية شعرية النثر لديه؛ لكن نص شوقي، رغم التقائه مع جبران في البعد الإيقاعي، ينحو في اتجاه الغنائية ذات الصلة بالصنعة لا بالصناعة. وفي مستوى آخر من النسق البنائي، نلاحظ سمة التحويل الأجناسي في نص خليل مطران، خاصة وأنه ترجمة لمسرحية عطيل، حكمت عليه الناقدة بالضعف من حيث شاعريته مقابل ترجمة أخرى اعتمدت اللقاء الأجناسي فكانت أكثر شاعرية من الأولى. وإذا تأملنا كل هذه السمات البنائية، فسنرى مدى التصاقها بنسق أجناسي يعود، مهما اختلفت صيغ وطرق الكتابة، إلى بنية القصيدة التقليدية التي تظل حاسمة ومؤثرة في وعي و لاوعي كل ممارسة بدرجات متفاوتة من حيث الاقتراب أو الابتعاد عنها؛ ولذلك نلمس تداولَ النسق نفسه، وإعادةَ تركيبه بسمات مختلفة في التجارب كلها. لكن الأمر يختلف نسبياً مع المقامة الحلوانية للهمداني ورسالته، ومع قصيدة أنسي الحاج ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة؟. والسبب في ذلك أن الجنس مبني مسبقاً في الوعي وفي التشكيل الذهني، فالمقامة والرسالة معنيتان بسمة التشكيل الأجناسي بحكم قدرتهما على استيعاب الشعر والحوار والسرد والأمثال وغيرها من العناصر البانية لأجناس أخرى، من غير أن يحدث ذلك خللاً في عملية التلقي. أما قصيدة أنسي الحاج فقد اعتمدت الاقتراب الأجناسي الذي يمكنك من التمييز بين الشعر والنثر داخل النص الواحد.
وبعد هذه النماذج نعثر على نصوص مختلفة لمحمد بنيس، ومحمود درويش، وابن عربي؛ وكلها تنتمي إلى “الكتابة” التي يتداخل فيها الشعري والنثري مهما اختلفت طرائق البناء النصي، وكيفما انتظم الخطابُ: لُغةً ، تشكيلاً إيقاعياً، مكاناً نصياً. ولكن اللافت للنظر في نموذجي بنيس ودرويش، كونهما “نصين” مثبتين بهذه الصفة؛ ومعنى ذلك أن الشاعرين يدركان دلالة التسمية عبر الكتابة نفسها: عبر خصيصة الإبدال التي تتأصل في التعدد والمحو لدى بنيس، وفي التماس بين الحدود لدى درويش. أما نص ابن عربي، فمن الصعب الجزم بأفق الإبدال فيه، لأن منطق الكتابة لدى المتصوفة مرتبط بمحتوى التجربة الذهنية القائمة على برهان الباطن. ومما لاشك فيه أن صياغة الجملة في كتابة ابن عربي مسكونة بمعنى الحرف والكلمة، حيث تغدو “حقيقة الكتابة” ضرباً من التجلي ومرقى من البرزخية إزاء النفَس الروحاني؛ ففي هذا المرقى تنعدم الوصلات بين الأشياء والكلمات والحروف، ولا تبقى إلا “كتابة الحقيقة” التي كانت منذ الأزل. وما يصدق على نصوصه النثرية يعمم على أشعاره أيضاً.
لم تكن هذه الصياغات التي أوردتُها ،بصدد المسكوت عنه، إلا افتراضات ضمن ما أنتجه الكتاب حول الخطاب التجنيسي الذي سمَّى الشعر المنثور وسعى به نحو الإلزام البنائي داخل النصوص. ولهذا السبب كانت قراءتي محاورة لأطروحة الناقدة، وتوسيعاً لأفق استيعاب الإشكال من زوايا مختلفة.
وأود أن أشير في الأخير إلى أن الكتاب لامس وضعية الشعر المنثور بعمق وبتدرج منهجيين، أدركت بهما الناقدة خطورة مسألة التنظير في الشعرية العربية الحديثة، فمزجت بين البعد التوثيقي وبين السؤال المعرفي بهدف إعادة النظر في محتويات الخطابات التي ظن تاريخ النقد الحديث أنها من المسلمات. ولم تكن العودة إلى هذا الموضوع من قبيل الترف أو إعادة الإنتاج، بل كانت صياغة لأسئلة جديدة تمكننا من فهم علاقتنا بثقافتنا وبتراكماتها النظرية والنصية.
صدركتابان عن قصيدة النثر هما كتاب أحمد بزون قصيدة النثر العربية عام 1996.وكتاب اشكالات قصيدة النثر لعزالدين المناصرة عام 1998 وقد أشار المناصرة بوضوح الى أهمية كتاب هتاف الاودية لامين الريحاني