ماريانا سالفيولي مستعربة وباحثة إيطالية في الأدب المعاصر والأدب المقارن بمعهد العلوم الإنسانية بنابولي- فلورانسا، وبالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس. تتجه عنايتها في البحث والكتابة إلى الأدب العربي والفرنسي والأمريكي والترجمة الأدبية وظواهر التعدد الثقافي واللساني. نشرت العديد من الدراسات وترجمت سنة 2009 إلى الإيطالية، ديوان الشاعرة السورية مرام المصري أنظر إليك.
ويبدو أن عشقا خاصا للعالم العربي قادها إلى المغرب وإلى البحث في الأدب المغربي وبالخصوص في السيرة الذاتية. في سياق بحثها الأكاديمي (وهي الحاصلة على دكتوراه في الأدب المقارن)، وقضائها سنة دراسية كاملة في المغرب، نشرت قبل شهور كتابا بعنوان:
أصوات من طنجة.
يهدف هذا الكتاب إلى ملء الفراغ الذي يحدثه غياب الدراسات المفصلة حول الأدب المكتوب بالعربية والفرنسية، وحول تلقيه في الغرب، وحول الأدب الخاص بمدينة طنجة في مجال النشر الإيطالي. لقد أرادت ماريانا سالفيولي بخبرتها في المجالات اللسانية والأدبية المختلفة أن ترفع الغطاء عن كثير من القوالب والأحكام الجاهزة عن المغرب وعن ثقافته، حيث يجد القارئ العاشق للأدب العربي حول طنجة وحول أساطيرها الأدبية من بول بولز إلى محمد شكري ضالته في هذا الكتاب. يحتل المغرب الآن مكانة أساسية في الأفق الثقافي الإيطالي، وبذلك يتجه الكتاب إلى كل قارئ يدفعه الفضول إلى اكتشاف هذا الفضاء وبالخصوص إلى من يود استعادة جذوره المنغرسة في المغرب ويتعرف عليها من خلال الأدب.
يرتكز هذا الكتاب على العمل الأوتوبيوغرافي الخبز الحافي الذي كتبه محمد شكري (1935-2003) قبل عقود من الزمن، من أجل وضع الإشكالات وإيضاح المرامي وبسط الفرضيات وتحديد الأفكار والقضايا الأساسية للأدب المغربي.
في فصله الأول نجد عرضا وافيا لهذا الأدب من المرحلة القديمة إلى يومنا هذا، وذلك بالتطرق إلى قضايا متصلة بالاستعمار والهوية الوطنية والمقاومة والتعدد اللساني. أما في فصله الثاني فيتم تحليل الإنتاج الأدبي في طنجة حيث يمثل محمد شكري صوته الأكثر بروزا وتمثيلا. يذكر الكتاب بالخصوصية التاريخية والاقتصادية والتاريخية لهذه المدينة، وبالخصوص الحقبة التي كانت فيها طنجة -مسقط رأس الرحالة ابن بطوطة- مدينة دولية إلى درجة أنها استقطبت جموعا من المغامرين والشعراء والفنانين والكتاب الغربيين. يتداخل التاريخ إذن بالأسطورة حيث تتم إعادة البناء انطلاقا من بعض النصوص الأدبية الفرنسية والأمريكية ذات القيمة المعتبرة. تحلل المؤلفة بتفصيل مرحلة من هذا الاكتشاف الأدبي لطنجة. يتعلق الأمر بحركة beat generation الممثلة بالخصوص في كتابات williams Burroughs، إضافة إلى أعمال المؤلفين الهامشيين بطنجة: محمد شكري، ادريس الشرادي، محمد امرابط، أحمد اليعقوبي، عبد السلام بولعيش، والذين نشأت نصوصهم وتأسست على أنقاض الميثوغرافيا الغربية، وساهمت كذلك في تحديد وتمييز الخصوصية الجهوية لأدب هذه المدينة.
ينتقل هذا الكتاب إذن من تقديم الأدب الوطني إلى دراسة الأدب الجهوي ممثلا في أدب مدينة طنجة الذي يمثل بالفعل أنماط كتابة وموضوعات نوعية مثل: الجوع والفقر والتهميش. وبتغيير زاوية النظر، ستنبثق ربما صورة أكثر صدقا عن طنجة في مواجهة تلك التي تنبعث من أعمال المترجمين بالفرنسية (الطاهر بنجلون) والانجليزية (بول بولز) لكتاب الخبز الحافي. هكذا يصل الكتاب إلى لب الدراسة في فصله الثالث، والمخصص لعمل لمحمد شكري الأكثر شهرة، وهو الكاتب المعرب الذي ظل أميا إلى أن بلغ سن العشرين، والذي يمكن اعتباره نتاج هذه المدينة ورمزها المشع. يتطرق الكتاب إذن ل”حالة شكري” كما تسميها المؤلفة، الذي ذاع صيته بفضل الترجمة الانجليزية (1973)، والترجمة الفرنسية (1980) لمخطوط الكتاب الذي لم ينشر بالعربية إلا سنة 1982 ثم منع بعد ذلك بسنة وإلى حدود سنة 2000 تاريخ رفع الحظر عن نشر الكتاب وعن تداوله. يقارن كتاب أصوات من طنجة بين النسخة الأصلية للخبز الحافي وبين النسخ الفرنسية والإنجليزية، ويحلل العلاقة بين اللغات الناقلة وانتشار الآداب المسماة صاعدة أو في طريق البروز، وذلك على خلفية السجال بين الطاهر بنجلون وبول بولز ثم انخراط محمد شكري نفسه في هذا السجال. ومن ناحية أخرى يعمق الكتاب التفكير في مسألة وضع الكاتب، وفي العلاقة بين الشفاهية والكتابة في تحليل النصوص الشفوية بالعامية المغربية لكتاب طنجة الآخرين، والتي تم نقلها وترجمتها إلى الانجليزية من طرف بول بولز.
يتموضع هذا الكتاب في مجال الدراسة الأدبية المقارنة لسببين اثنين: مركزية الإشكالات التي تخص الترجمة، والعلاقات بين الأدب الأوربي، أو بالأحرى الغربي وبين الآداب الأخرى. بين العنصرين ترابط وثيق، ذلك أنه يُنظَر إلى الترجمة بحسب المكتسبات الحديثة لعلم الترجمة باعتباره وسيلة للتواصل والتداخل الثقافيين.
تختص هذه الدراسة إذن بمنطقة تصير على مدار الزمن أكثر أهمية في المجال المقارني، ألا وهي المتوسط، ملتقى الشعوب واللغات والثقافات. إنها دراسة تسعى إلى أن تتغلب وتتجنب حدود النظرة الاستشراقية التمييزية للمثقف الفلسطيني إدوارد سعيد، كما أنها تسعى إلى إعادة التقويم والاعتبار للأدب المغربي، الذي يبدو معزولا إلى الخلف وإلى الهامش من قبل المعربين أنفسهم، والذين يميلون أكثر إلى جعل الشرق الأوسط محور العناية والأفضلية.
تميزت المنهجية المعتمدة في هذا الكتاب بنوع من الانتقائية الواعية، حيث استلهمت دراسات ما بعد الكولونيالية والسوسيولوجيا الأدبية والتاريخ الأدبي وجمالية التلقي وعلم الترجمة والبنيوية واللسانيات في مقاربة ظاهرة أدبية متميزة جمعت داخل فضاء جغرافي-ثقافي واحد بين البلد (المغرب)، والمدينة (طنجة) والنوع (السيرة الذاتية) والعَلَم الثقافي (محمد شكري) على وجه الخصوص.
يمكن اعتبار كتاب أصوات من طنجة مساهمة قوية في النقاش الفكري حول الثقافة المغربية إجمالا وحول أدبها الشفوي والمكتوب على وجه الخصوص، فهو يسائل الأدب العربي في المغرب ويستحضر الذاكرة السوسيوثقافية الشاملة لمدينة طنجة من منظور يستوعب كما ذكرنا أنماطا من العلوم مع عناية خاصة بمناهج التحليل السردي والأسلوبي ووعي بأهمية السياق وأشكال التناص وإشكالات التجنيس الأدبي التي تساهم في رسم الخصائص المميزة لمجموع الكتاب الآتين من أصول ولغات متنوعة.
مارينا سالفيولي كما يقول صاحب التقديم الخاص بكتابها Luc Deheuvels، “تستعيد وتسائل الخصائص لما يمكن أن يكون عليه الأدب الوطني في المغرب وتبين بوضوح كيف يجمع النقاش حول وضع وهوية هذا الأدب، منذ العصور القديمة إلى المراحل الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، بين القضايا الايديولوجية والهوياتية والسوسيوتاريخية واللسانية.”
إن التأمل في المجال الثقافي المغربي يبين درجة التعقيد التي يعرفها الأدب العربي في المغرب داخل فضاء من التعدد اللساني والتعدد الثقافي، وهو ما يجعل المؤلفة تؤشر بقوة على أهمية الدور الذي لعبته مجلة أنفاس في فترة ما من التاريخ الثقافي والسياسي للمغرب الحديث.
لقد اقترحت ماريانا سالفيولي تحليلا عميقا ومتأنيا للسياق المباشر لكتابة عمل شكري السير ذاتي، حيث تمت استعادة تاريخ النص بدقة في مختلف المراحل التي عرف فيها العمل شهرته وصيته الواسعين من خلال الترجمات التي أنجزت له كما تم ذكر ذلك. تجدر الإشارة هنا أن ترجمة إيطالية عرفها نص شكري انطلاقا من الفرنسية حتى قبل أن يجرؤ أي ناشر عربي على المغامرة بإصداره باللغة التي كتب فيها. وبذلك يشكل هذا الكتاب حالة خاصة، إن في كتابته أو في تلقيه، في مجال الكتابة السير ذاتية في المغرب. وهي حالة يميزها عمق القضايا التي سردها الكتاب بكل جرأة وشفافية (الخمر والجنس والمخدرات وتفاصيل الحياة في الفضاء السفلي من حياة المجتمع الطنجي). كل أنماط الخرق تم إبرازها داخل تساؤل يسمح بوضع الخبز الحافي في قلب عالمية مدينة طنجة وفي قلب الإشعاع الذي ميزها في حقبة ما من تاريخ المغرب الحديث.