الإثنين , 20 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » صناعة الترجمة

صناعة الترجمة

حسن بحراوي، أبراج بابل: شعرية الترجمة من التاريخ إلى النظرية،الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2010.

1- تقديم:

kiraat_10.12كتب الناقد والشاعر الانجليزي درايدن ذات مرة، في مقدمة ترجمته لإليادة فيرجل: “نظل عبيداً يعملون في حقل إنسان آخر،

نزرع العنب ولكن النبيذ لصاحب الأرض”1 . وهي إشارة واضحة إلى ما يلتصق بالمترجم وبالفعل الترجمي من نظرة دونية ومن هامشية، رغم ما تحتله الترجمة في الواقع من مكانة غاية في الأهمية والخطورة، إذ لا نجد في غالب الأحوال نهضة ثقافية وحضارية لأمة من الأمم دون حضور الترجمة كنشاط استراتيجي لدى تلك الأمة، وهذه الحقيقة، وقضايا أخرى، مؤكدة في المولود الجديد للباحث المغربي حسن بحراوي الذي آثر أن يكون بحثه الجديد في موضوع الترجمة من خلال تناول تحقيبي للممارسة والنظرية الترجميتين منذ فجر التاريخ البشري إلى العصر الحديث.

2- موضوع الكتاب:

يتناول الكتاب موضوع الترجمة من زاوية تحقيبية كرونولوجية تحاول تتبع مراحل الترجمة، ممارسة وتنظيراً، من خلال ثلاثة فصول يتناول كل واحد منها مرحلة تاريخية من مراحل السيرورة الترجمية:

أ‌- ما قبل تاريخ الترجمة: وتمتد زمنياً من الألفية الخامسة قبل الميلاد إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، مع (قدماء المصريين/الحثيين/السومريين/الرومان)، حيث كانت الترجمة في هذه المرحلة حدسية ومرتبطة بأغراض نفعية أو تواصلية أو دينية، دون حصول أي تأمل نظري.

ب‌- تاريخ ما قبل النظرية: تمتد ما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلادي، وترتبط بظهور “بيت الحمكة” في الخلافة العباسية، والذي ساهم مترجموه في نقل التراث العلمي والفلسفي اليوناني والفارسي والهندي والتعليق عليه، وبـ”مدرسة طليطلة” في الأندلس، والتي أعادت النقول العربية والعبرية إلى اللاتينية والقشتالية، واضعة بذلك جسراً للانتقال نحو عصر النهضة في أوروبا، بعد سبات العصور الوسطى .

ج- تاريخ نظرية الترجمة: وتمتد هذه المرحلة من القرن الثاني قبل الميلاد إلى العصر الحديث، وتبدأ مع خطباء الرومان وتتدرج نحو مترجمي العصر الوسيط في أوروبا ومترجمي عصر النهضة والعصر الحديث، ثم الجهود العربية خلال القرن التاسع عشر، بالخصوص مع مدرسة الألسن في مصر، وقد كان النقاش الكبير هنا والذي ساد طوال عصور عديدة هو نقاش الترجمة الحرفية، بالخصوص في النصوص المقدسة، والترجمة الحرة أو ما عرف “بالجميلات الخائنات”، حتى القرن العشرين حيث ظهرت ابدلات معرفية جديدة (اللسانيات/السيميائيات/جماليات التلقي…) انتقل معها منظرو الترجمة لمقاربة قضايا جديدة وأكثر عمقاً كموقع المتلقي في العملية الترجمية ومفهوم الأصل الخ…

3- أهمية الكتاب:

تكمن أهمية الكتاب فيما يلي:

أ‌- فرادة الموضوع:

تتمثل أهمية هذا المؤلف في كونه من البحوث القليلة في العالم العربي، التي تتناول موضوع الترجمة من زاوية تحقيبية، تلاحق الترجمة منذ خطواتها الأولى في تاريخ البشرية كممارسة حدسية، إلى مراحل تشكل نظريتها مع التأملات الأولى خلال العصر الروماني، إلى نضجها في العصر الحديث، مع التحول المهم الذي عرفته الترجمة خلال بداية القرن العشرين مع مقال والتر بنيامين (1923) “مهمة المترجم” (la tache du traducteur) والذي قام بتثوير هذا المجال بحديثه المؤسس عن ضرورة المساواة بين النص المصدر والترجمة، وبضرورة محو تراتبية (مؤلف/مترجم) ودعوته إلى تطلع كل النصوص (مصادر وترجمات) إلى “لغة خالصة” تتعالى عن الاختلافات اللسنية، وتطمح لاستعادة الأصل.

ب- موسوعية الكتاب:

تكمن أهمية هذا الكتاب أيضاً في موسوعيته، وقدرة صاحبه على الإلمام بشتات التاريخ الترجمي سواء في أوروبا أو في العالم الإسلامي، وهذه المسالة تتطلب بالضرورة معرفة لغات أخرى غير العربية، كما يتطلب العمل بهذه الطريقة مجهود كبير من أجل كشف التحولات المركزية في السيرورة التاريخية الطويلة للترجمة. كما أن موسوعية الكتاب بإمكانها فتح آفاق كبيرة للباحثين في موضوع الترجمة عبر إرشادهم إلى (مواضيع/ مؤلفات/مؤلفين/إشكالات).

ج- أهمية الترجمة:

لعل الأهمية الكبرى لهذه الدراسة التاريخية هو إشارتها إلى مدى أهمية واستراتجية الفعل الترجمي الممأسس بالنسبة لنهضة الأمم والشعوب في الشرق والغرب، فالكتاب يشير إلى أن الترجمة أفضت في كل التجارب الترجمية الممنهجة والممأسسة عبر التاريخ، إلى نهضة وتقدم الشعوب التي راهنت على هذا المشروع الفعال والاستراتيجي.

4- أهداف الكتاب:

أ‌- يهدف هذا الكتاب إلى تسطير تاريخ للترجمة سيمكن من إلقاء نظرة على تاريخ الممارسة والنظرية معاً، ومن إدراك الطفرات والمنعطفات الكبرى في ذلك التاريخ، والتي ستؤدي إلى إعادة اكتشاف هذه الشبكة الثقافية البالغة التعقيد والتغير التي تخوض فيها الترجمة بين مرحلة وأخرى، كما سيمكّن من جعل المعرفة التاريخية سبيلاً للانفتاح على الحاضر، ولاكتشاف تعالقات تاريخ الترجمة مع تواريخ اللغات والآداب والثقافات والديانات والأمم.

ب‌- السعي إلى جعل المقاربة التاريخية وسيلة لاستجلاء مظاهر نظرية الترجمة منذ إرهاصاتها الأولى، ومتابعة نشوء التفكير الترجمي حتى ظهر بمظهر التأمل الوجيه والناجع وغادر منطقة المحاولة والتجريب إلى لحظة النضج والاستقرار، عبر محاولة الإمساك بأفكار وآراء مترجمي الماضي، قصد رصد حصيلة المواجهات بين التصورات المتباينة لقضايا الترجمة وتفكيك الاوليات التي تحكمت في إنتاجها، وصولاً إلى تشكيل فكرة تقريبية عن الكيفية التي تنجب فيها السيرورة التاريخية تأملاً نظرياً من أي نوع.

ج- الوقوف على درجة التعالق القائم بين التاريخ والنظرية، أي بين المسار الدياكروني والسؤال الإشكالي، وذلك على نحو يبدو معه هذا التاريخ كما لو كان تاريخاً للنظرية تحديداً.

د- المساهمة في منح الترجمة وممارستها طابعها النوعي، لنجعل منها مبحثاً، وليس علماً، لأن هذه الكلمة غير ملائمة،. أي، مجالاً محدداً للاكتشاف، له أدواته ومصطلحاته الخاصة،؛ مبحث يكون له نفس استقلال اللسانيات والأدب، هذان القطبان اللذان لم تنجح الترجمة حتى الآن من الإفلات منهما.

5- منهج الكتاب:

يستعين المؤلف في عرض وتحليل مواد البحث، بالمنهج التاريخي، عبر استعراض تلك المواد بطريقة التتابع الزمني (كرونولوجي) تعتمد التقسيمات التاريخية المتداولة (العصور القديمة/العصر الوسيط/عصر النهضة/القرن السابع عشر/القرن الثامن عشر الخ…)، لكن هذه التقسيمات ليست ثابتة في الواقع، إذ لايتوافق الجانب التحقيبي أحياناً مع الجانب الموضوعاتي في المؤلف، حيث نجد “تاريخ نظرية الترجمة” يبدأ في مرحلة القرن الثاني قبل الميلاد مع الخطباء الرومان، بينما يبدأ “تاريخ ماقبل النظرية”، الذي يأتي في ترتيب الكتاب قبل “تاريخ نظرية الترجمة”، في القرن العاشر الميلادي مع “بيت الحكمة” خلال العصر العباسي، ومع “مدرسة طليطلة الأندلسية” في القرن العاشر الميلادي، وهذا معناه أن تاريخ الممارسة والنظرية الترجميتين متداخل في المرحلة الواقعة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والعصر الحديث، ولا يخضع لتراتبية (ممارسة/نظرية) من الناحية الزمنية، باستشناء تاريخ “ما قبل تاريخ الترجمة”.

6- خلاصات الكتاب:

خلص الباحث إلى أن الترجمة قد عرفت في سيرورتها اتساعاً أفقياً لم يجد، بشكل دائم، ما يواكبه من العمق النظري والاستقصاء المنهجي الناجع لقضايا وإشكالات الترجمة للأسباب التالية:

أ- محدودية مصادر التنظير للترجمة التي لم تكن تخرج عبر تاريخها عن ثلاثة آفاق هي الفصاحة والشعر والدين. ولهذا السبب، تأخر النظر إلى الترجمة من زاوية علمية أو أدبية جمالية إلى القرن العشرين الذي شهد انخراط طائفة من المفكرين والكتاب في معالجة قضايا الترجمة بما هي ظاهرة لغوية وتواصلية في المقام الأول.

ب- ازدهار نوع من التأمل الشخصي الصادر في أغلب الأحيان عن المترجمين أنفسهم، والذي لم يكن يتجاوز دائرة الانطباع الذاتي المستمد من الممارسة العملية تحديداً. وقد تقوت هذه الظاهرة مع شيوع تقليد المقدمات التي كان المترجمون يصدرون بها ترجماتهم رغبة في تبرير طرائق عملهم أو الإقناع بصحة اختياراتهم.

ج- الالتباس والإبهام الذي ظل يخيم على المفاهيم والمصطلحات المستعملة من طرف الخائضين في موضوع الترجمة، بسبب ظاهرة استجلاب تلك التصورات والمفاهيم من حقول معرفية متباينة وبعيدة عن المجال كاللسانيات والمنطق وعلم النفس والسيميائيات وعلوم التربية والأدب المقارن… كما أن استعمال تلك المفاهيم، بشكل عشوائي غالباً، جعلها تقف حاجزاً أمام تطور البحث في الترجمة وحائلاً دون استقلاله.

د- الطابع التجريبي والحدسي تقريباً الذي تنطوي عليه كثير من تأملات المنظرين والممارسين، وهو المسؤول عن غياب الانسجام والوضوح وبالتالي عن سيادة الأفكار المستعجلة والتصورات المشوشة. ويمكن إرجاع ذلك عند الأوائل إلى اكتناز مقترحاتهم بالتعقيد الإبستمولوجي والالتواء المنهجي والافتقار إلى التجربة الميدانية، وعند الأواخر إلى نقصان الوعي بالإشكالات النظرية والاقتصار على النظرة الفطرية التي تفتقد إلى المصداقية..

الهوامش

1- ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 2005.

- خاليد مجاد

باحث في الدراسات السردية / الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.