السبت , 25 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » إخبــــارات » رحيل الروائي العربي الكبير الطيب صالح

رحيل الروائي العربي الكبير الطيب صالح

برحيل الروائي السوداني العربي الكبير الطيب صالح في 17 فبراير 2009، تكون الرواية العربية قد فقدت أحد أهم أعلامها في القرن العشرين، وأبرز من رسخ هذا الفن في الأدب العربي الحديث، بل ومن دفع به إلى مجالات أرحب وأوسع.

kitab-wa-hadath_10.1ولد الطيب صالح في صيف سنة 1929 في قرية “كرمكول” في شمال السودان، في منطقة تتداخل فيها عدة قبائل عربية. ولد في بيئة فلاحية وتأثر بحياة الفلاحين وبساطتهم وقناعتهم، وظل يحمل في قلبه هذا العالم القروي الفلاحي الذي شحن ذاكرته ووجدانه، بل سيكون معيناً يمتح منه باستمرار في تجربته الإبداعية. ويعبر عن ذلك عندما يتحدث عن قريته التي عاش فيها في صغره بقوله: “كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة. أراها بعين خيالي أينما التفت. أتذكر أحياناً في الصيف في لندن، إثر هطلة مطر، وكأنني أشم روائح الحقول في تلك القرية البعيدة … في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، ورغم أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك، ولكن أثر البيئة ما يزال راسخاً في أعماقي. وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة. حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة إلي فردوساً عشت خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء الله. وأعتقد أنه كان عالماً جميلاً… ذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ، وأحسست فيه بسعادة كاملة. وما حدث لي لاحقاً كان كله مشوباً بالتوتر…كانت قريتي مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولا شك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي.”(1)

وفي المرحلة المتوسطة سيلتقي الطيب صالح باللغة الإنجليزية، فيرتبط بها هي الأخرى، ويحبها ويتفوق فيها منذ صغره. ثم بعد ذلك توجه إلى العاصمة أم درمان لمتابعة دراسته الثانوية.وبعدها التحق بالجامعة في الخرطوم سنة 1949 لدراسة الزراعة، ولكنه غادرها بعد سنة، ليعود إليها حين انتقل إلى لندن سنة 1952 ليعمل في هيئة الإذاعة البريطانية لمدة طويلة، منذ سنة 1959. ويبدو أن الطيب صالح بقي يحمل معه عالمه الذي تركه في السودان وهو في لندن عندما يقول: “جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه لأعمل عملاً هو كذلك ليست لي رغبة فيه… تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة، برودتها لا تطاق، في بلد غريب بين قوم غرباء”.(2)

تقلب الطيب صالح في مناصب إعلامية وثقافية في العالم العربي، كما ظل وفياً للكتابة في المجال القصصي والروائي، وكذا في المجال السياسي والفكري والاجتماعي. وقد ترك لنا الطيب صالح روائعه الروائية والقصصية؛ أهمها: عرس الزين، 1962. وهي أولى رواياته. تحولت إلى فيلم سينمائي في السبعينيات من القرن العشرين، على يد المخرج الكويتي، خالد الصديق. وتتعرض هذه الرواية إلى أسطورة شخص غريب الأطوار، يدعى “زين”، في علاقة مع فتاة تدعى “نعمة”. وتضم هذه الرواية مشاهد جريئة ومثيرة لم يألفها القارئ العربي من قبل؛ تتعلق بخفاض/ختان الفتاة، والآلام التي تعانيها من جراء ذلك. وفي هذه الرواية بدت ملامح الكتابة الرواية الجديدة والجريئة عند الطيب صالح، والتي ستنكشف أكثر فيما بعد. ثم رواية بندر شاه، في جزئيها؛ ضو البيت، ومريود، 1969. وفيها يتعرض الطيب صالح إلى موضوع الصراع بين القديم والجديد. ومن أعماله القصصية البديعة، دومة ود حامد. يعالج فيها صراع أهل القرية مع الحكومة، ويبرز فيها ملامح الطفولة، وكذا البراءة المتجذرة في أهل شمال السودان.

ولعل أهم ما نحفظه للطيب صالح هو صنيعه الأدبي في المجال الروائي العربي بخاصة. فقد فرض مكانته على النقاد والقراء العرب، وفي الآداب الإنسانية الأخرى كذلك، بفضل روايته الرائدة موسم الهجرة إلى الشمال التي كتبها في لندن ونشرها في مجلة حوار سنة 1966، وظهرت طبعتها الأولى سنة 1967. وتوالت طبعاتها منذ ذلك الوقت إلى الآن. وقد خلخلت هذه الرواية الصورة النمطية التي كان القارئ العربي متعوداً عليها في السرد العربي إلى ذلك الوقت؛ فتعرضت لعمق العلاقة المعقدة بين الذات العربية ونفسها وبين الآخر /الغرب. وكشفت عن عمق التناقضات التي تسكن الإنسان العربي في تعامله مع العوالم المختلفة، المحلية والأجنبية. ولأمر ما تعرضت للمنع أحياناً من طرف الذين يؤمنون بالانسجام الذاتي الدائم، وعدم مواجهة الذات والعالم بكل مكوناته المتناقضة أحياناً.

كانت رواية موسم الهجرة إلى الشمال إيذاناً بميلاد رواية عربية جديدة، وبسرد للحياة العربية بطريقة جديدة مختلفة، تقوم على الخلخلة للذات وليقينياتها وانسجامها المتوهم. فكشفت عن العوالم المسكوت عنها في الذات العربية ومحيطها، وعن جماليات منسية أو مهملة في عمق الفضاء العربي المحلي، والبسيط أحياناً. ولعل التشبع القوي بالبلد/السودان وعوالمه الدفينة والعريقة منذ الطفولة، هو الذي جعل من الطيب صالح ذلك الروائي الكبير الذي كشف لنا عن العمق المحلي في فضاءاته الغنية بالطبيعة والناس والأشياء والممارسات والعادات، وكذا الطبقات التراثية المتنوعة الدفينة في اللغة والطقوس والرموز والأشياء؛ تلك المحملة بالمختلف والمؤتلف، والجميل والمعيق في نفس الوقت. إن هذه الرواية في النهاية نوع من الأركيولوجيا السردية في الذات العربية.

تكمن قوة هذه الرواية في قدرتها على إدراك روح مرحلة الستينيات من القرن العشرين، مرحلة ما بعد الاستقلال، في العالم العربي. وفي التقاط انتظارات تلك المرحلة، وصياغة كل ذلك في قالب سردي روائي جديد، يقوم على الرؤية العميقة والجريئة لعالم الذات وعوالمها الأخرى. ثم إنها كتبت بلغة مشبعة بالدلالات والرموز الموحية التي تتجاوب وما تعيشه الذات العربية من أنواع العنف التاريخي والسياسي، بل والعنف الذاتي العميق. وتميزت هذه الرواية أكثر، مثل الروايات العالمية الكبرى، بخلق نموذج شخصية مصطفى سعيد الذي يختزل كثيراً من السمات العربية المركبة التي عالجتها الرواية. بالإضافة إلى تقنيتها السردية المركبة، مما جعلها تتمتع بقدر كبير من الجمالية والفنية التي نبهت النقد الأدبي العربي، فالتقطها أثناء ظهورها، نظراً لتميزها عما كان سائداً من سرد إل ذلك الوقت. كما أن هذه الرواية قد دفعت النقد الأدبي أيضاً إلى إعادة النظر في تصوراته ومناهجه وطرق تحليله ولغته الواصفة، لأن نص موسم الهجرة إلى الشمال لا يستجيب بسهولة للقراءات النقدية التقليدية السائدة وقتئذ، وهي قراءات لا تقوى على الكشف عن العوالم السردية الجديدة التي كتبت بها الرواية. وبذلك تكون هذه الرواية قد ساهمت في خلق دينامية روائية ونقدية في نفس الوقت، في الأدب العربي الحديثذ.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

هـوامـش

1- طلحة جبريل، جريدة أخبار اليوم، المغرب، ع.4، 5/03/2009، ص. 15.

2- نفس المرجع.

 

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.