أولا، تعقد عملية تأصيل التراث، من حيث تنوع هذا التراث، من مواقع ثقافية وطبيعية، وأشكال التعبير الثقافي، وأساليب حمايته، وتعدد الفاعلين، من سياسيين واقتصاديين وباحثين، والرهانات الدولية المحيطة به. وكلها عوامل تسبب “نهما تراثيا” يبدو وكأنه يمسك بتلابيب البشرية.
ثانيا، إعادة بناء المجال الاجتماعي والبيئي الناجمة عن الجاذبية السياحية الدولية، كما يتضح مثلا من خلال مدينة مراكش. فقد شهدت المدينة العتيقة، في العشرين سنة الأخيرة، عقب إدراج معالمها التاريخية تراثا عالميا لليونيسكو عام 1985، وساحتها، جامع الفنا، تراثا شفهيا للإنسانية، تغيرات عمرانية كبيرة خاصة مع تحول البيوت التقليدية أو ما يسمى بالرْياضات، وما يحيط بها من محلات كالمطاعم ومحلات الصناعة التقليدية، إلى مواقع سياحية ذات وظائف اقتصادية وسكنية جديدة، مما يدمجها، من داخل الزقاق، في السياحة الدولية. ومن جهة أخرى، أصبح المجال الطبيعي، في المناطق الجبلية الناطقة بالأمازيغية، يكتسي أهمية بالغة في سياق تنامي السياحة الإيكولوجية. ويتبين هذا الأمر من خلال الأكدال الذي يحتل مكانة مركزية في حياة أهل الجبل وفي ذاكرتهم الجماعية، والذي أصبح يدخل هو الآخر في صيرورة التأصيل، ويندمج في مسلسل المحافظة على الغابة والتنوع البيولوجي، وذلك ضمن سياسة جديدة تنهجها الدولة بغرض تسخير هذا التراث ليكون أداة من أدوات الثقافة الوطنية ورهانا للتنمية السياحية.
ثالثا، ثنائية البلدي/الرومي كتصور مغربي للإنتاج الثقافي. لقد لامست هذا الموضوع مساهمة تخص نموذجا محددا يتصل بمفهوم المنتوج المحلي من خلال آيت باعمران في منطقة سيدي إفني، كفضاء إثنوغرافي، لكنها تنفتح ضمنيا على مفهوم أكثر سعة، ذي صلة بالتفاعل الحاصل بين المنتوج المحلي والمنتوج الأجنبي. ويبرز هذا التصور في ممارسة الناس لحياتهم اليومية على مستوى الأكل واللباس والسكن، إذ تتقاطع فيه ممارسات تقليدية ننعتها بـِ “البلدي”، عبر مسار من الإحياء والحماية والتأصيل، وممارسات عصرية، ننعتها بـِ “الرومي”، من خلال الانفتاح على الثقافة الغربية، عبر مسار من التطويع والتملك.
لقد فتح هذا العدد الخاص نافذة كبيرة على موضوع هام جدا، يشكل ملتقى لمعارف عديدة، نظرية وميدانية، ومهن كثيرة ذات صلة بالصناعات التقليدية والحديثة على السواء، مع ما يطرحه هذا التعدد من رهانات ومشكلات على مستوى السياسات العامة. ونختم هذه الورقة بما قاله الجغرافي محمد الناصري في مساهمة تحت عنوان “التراث وامتداداته كمجال عام”، وهو يتحدث عن المفارقة التي يعيشها وضع التراث في المغرب: “كلما تكاثر الخطاب حول أهمية التراث وإعادة الاعتبار لكل موروث حضاري في المدن والبوادي، كقصور الواحات مثلا، إلا واتسعت رقعة المسافة الفاصلة بين القول والفعل. فعلى الرغم من كثرة الدراسات وتوالي الخبراء واقتراحات التمويل وهيكلة مؤسسات الإنقاذ لم تتوفر إرادة حازمة للشروع في إعادة الاعتبار للمصالح الحضرية والمعمارية كمنظومة شمولية”.