صدر كتاب مدارات حزينة ((Tristes tropiques لكلود ليفي ستروس سنة 1955، أي بعد أزيد من ربع قرن من صدور مقالته الأولى بمجلة اشتراكية بلجيكية حول براكوس غراكوس بابوف، وهو أحد المساهمين في الثورة الفرنسية، كان قد أُعدم سنة 1797. كما قام الباحث، قبل صدور هذا المؤلف، بنشر أطروحته التكميلية “الحياة الاجتماعية والعائلية لهنود نامبيكوارا” سنة 1948، ثم أطروحته الرئيسية “البنيات الأولية للقرابة” سنة بعد ذلك. وقد أكسبته هذه الأخيرة شهرة لدى جمهور المختصين. وتميزت سنة 1952 بصدور مؤلف: العرق والتاريخ، ما يعني أن كتابة مدارات حزينة حدثت في مرحلة النضج. وأكتفي في هذه القراءة بالوقوف عند الأثر الذي خلفه استقرار ليفي ستروس لفترة من الزمن بأمريكا في مسيرته الفكرية، وذلك انطلاقا مما هو متضمن في الكتاب فقط.
تم تأليف الكتاب باقتراح من جون مالوري، وهو مدير سلسلة الأرض البشرية التابعة لدار النشر بلون الفرنسية. فنشر الكتب في الدول الغربية مرتبط بمؤسسات لها قوة اقتراحية، لأن لها القدرة على تمثل حاجة السوق والقراء. إن ما يميز الكتاب هو بنيته، إذ نمر من السيرة الفكرية إلى الخاطرة، ثم إلى البحث الأكاديمي المحض. نقرأ صفحات طويلة عن مسار رحلة ليفي ستروس وما صاحبها من مغامرات، وتأسرنا لغة الكتاب الجميلة والأخاذة. لكن ما أن نلبث نمر إلى التفكر والتأمل في حال الإنسانية وما تسببت فيه الحضارة الغربية من مآسي لبقية بلدان العالم. ثم يحيلنا المؤلف على البحث العلمي الرصين المرتبط بدراسة قبائل الهنود بالبرازيل. ويشكل هذا الجزء نصف الكتاب، وهو يتطلب منا قراءة متأنية وتركيزا. ويتضمن الكتاب في مجموعه تسعة أقسام وأربعين فصلا. لقد جمع ليفي ستروس أطيافا كثيرة من الكتابة في مؤلف واحد، ذلك أنه عادة ما يخصص كبار الباحثين كتابا مفردا للحديث عن مسيرتهم الفكرية، لكنه لم يفعل ذلك.
يعبر ليفي ستروس في الجزء الأول المعنون نهاية الأسفار عن مقته الدفين للأسفار. قد يبدو الأمر غريبا لباحث في حقل الأنثروبولوجيا الذي يعتمد على التنقل والدراسة الميدانية، لكن سرعان ما نفهم النوع الممقوت من الأسفار، إنه ذلك الذي يميز كتب الرحلات المليئة بالمغامرات وبما هو غرائبي، والتي تعطي صورة نمطية وكاريكاتورية عن الآخر. إنها الصورة التي تسعى عادة إلى إرضاء السياح وتضليل القراء. فالسفر لا يعدو أن يكون إحدى متع الحياة الأكثر حزنا، لأنه يحيل إلى استعلاء رجل الغرب على الآخر. ثم ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الحديث عن سيرته الفكرية، وعن انتقاله من دراسة الفلسفة إلى الإثنولوجيا، وعن أسفاره واكتشافه للبرازيل. ويخصص الأجزاء الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة للقائه بالقبائل الهندية. وفي الجزء التاسع والأخير يستحضر ذكرياته عن الغرب، ويتحدث عن طبيعة البحث الإثنولوجي وأهدافه، وعن المشاكل التي تعترض مساره. ويختم عمله بالحديث عن البوذية والمسيحية والإسلام، إذ يرى أن البوذية تتميز بالتسامح، والمسيحية برغبتها في الحوار، بيد أن الإسلام يميل إلى العنف واللاتسامح.
يصعب تقديم قراءة لكتاب متشعب ومتعدد المشارب، لذلك أركز مداخلتي على الكيفية التي أثَّرت بها أمريكا في ليفي ستروس، وأثْرت مسيرته الفكرية، وذلك انطلاقا مما هو متضمن في مدارات حزينة. ففي سنة 1934 حصل المؤلِّف على منصب أستاذ في علم الاجتماع بجامعة ساو باولو بالبرازيل، وبقي بها حتى سنة 1939. كما اضطر نتيجة قوانين حكومة فيشي إلى التوجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1941، حيث تمكن من الحصول على منصب في “المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية” بنيويورك، حيث مكث حتى سنة 1947. ونلمس هذا الإثراء الأمريكي على مستويين: أولا، تأثره بكبار الباحثين الأمريكيين في حقل الأنثروبولوجيا، وفي طليعتهم فرانز بواس (Franz Boas)، وألفريد لويس كروبر ((Alfred Louis Kroeber، وروبرت لووي (Robert Lowie)، وهؤلاء هم الباحثون الثلاثة الذين ذكرهم ليفي ستروس بالاسم في مؤلفه. ثانيا، ما أتاحته له أمريكا في لحظة تاريخية محددة من إمكانية القيام بدراسات ميدانية لكثير من قبائل الهنود بالبرازيل، وهي فرصة لم تكن لتتكرر نظرا للوضع المتردي الذي أصبحت تعيشه كثير من هذه القبائل التي عانت من ويلات الحضارة الغربية، فقد انخفض عدد البورورو إلى حوالي 1000 نسمة سنة 1997، وهو ما يوازي عدد نامبيكوارا. إن قراءة بين السطور توضح ما يدين به ليفي ستروس للأنثروبولوجيين الأمريكيين. فكثير من الأفكار المتضمنة في كتاب مدارات حزينة تحيلنا إلى الإرث الفكري الذي خلفه هؤلاء. فقد وقف ليفي ستروس في وجه المركزية الغربية والعرقية، وهي نزعة تدفع الإنسان إلى الرفع من قدر قومه على حساب بقية الأمم، وإلى اعتماد معايير ذاتية للحكم على الآخر وثقافته، ورفض منطق تعدد الثقافات. ويشير الكاتب في مؤلفه العرق والتاريخ إلى أن العرقية ترتكز على أسس ثلاثة:
رفض الثقافات الأخرى جملة وتفصيلا.
رفض الثقافات الأخرى بدمجها في الثقافة المحلية
مفهوم الثقافة في ثقافة المتكلم.
ويؤدي هذا الفهم الضيق للثقافة إلى انبثاق العنصرية والأحكام المسبقة كما حدث إبان الحرب العالمية الثانية مع النازية التي رتبت الثقافات والأعراق من الأعلى نحو الأسفل، فيما يرى ليفي ستروس أن تطور البشرية حدث نتيجة تنوع ثقافاتها وتمازجها واستفادتها من بعضها البعض. لقد نبه الباحث إلى ضرورة التخلي عن المقارنة انطلاقا من الأنا واعتمادا على معايير اجتماعية وثقافية. وإذا كان الغرب متقدما من الناحية التقنية، فإن ثقافات أخرى أظهرت تفوقا في نواحي أخرى، كما هو حال المنظومة القضائية لدى الهنود والتي تعتمد على الإدماج لا الإقصاء1.
إن الخلفية الفلسفية لكتاب مدارات حزينة، والمعبر عنها بشكل صريح في كتاب العرق والتاريخ، مستمدة من الأنثروبولوجيين الأمريكيين. ويأتي على رأسهم فرانز بواس (1858-1942) رائد المدرسة الانتشارية. كان فرانز بواس سبّاقا إلى تقديم الدلالات الأنثروبولوجية المعاصرة للفظة ثقافة. كما اهتم بقضايا ذات صلة بالمفهوم الأنثروبولوجي المعاصر للثقافة كالنسبية والتعددية والتكامل. وانطلاقا من سنة 1930 دعا فرانز بواس إلى ضرورة دراسة الثقافات كوحدات عضوية وكأنظمة متكاملة تعبر عن ذاتها عبر اللغة والمعتقدات والأفكار والتقاليد والقيم والفنون والرموز. وقد تسلحت المدرسة الانتشارية بمفهوم نسبية الثقافات، والتي تنفي وجود سلم مطلق لتصنيف كل الثقافات. فكل الثقافات متساوية، إذ ليس هناك ثقافة عليا وأخرى دنيا. وينبغي أن تتم دراسة مختلف الثقافات بطريقة محايدة وليس انطلاقا من الخلفية الثقافية للباحث. ومن أجل توخي الموضوعية على الباحث الأنثروبولوجي أن يأخذ مسافة اتجاه الموضوع قيد الدرس، وأن يتخلى عن أناه ومعتقداته حتى يتمكن من دراسة الآخر دون تحيز وانزلاق. ومن هنا وضع فرانز بواس الأسس الأولى لما عرف بالملاحظة-المشاركة. وإذا كانت مقاربة المدرسة التطورية تقتضي البحث عن الأسباب المفسرة للتفاوت القائم بين الثقافات، وترى في اختلاف هذه الثقافات دلالة على تفاوتها، فإن المدرسة الانتشارية سعت إلى استيعاب وفهم صيغ الانتشار من ثقافة إلى أخرى، مما يعني أنها أدخلت عنصر الزمن في منهجها. فكل ثقافة هي ثمرة مسار تاريخي أوحد. وقف فرانز بواس في وجه التفاسير الجامعة التي تدعي إمكانية دراسة كل المجتمعات بنفس الطريقة، وأكد أن لكل ثقافة خصوصيتها ونادى بنسبية الثقافات، كما رفض التفسيرات العرقية للاختلاف، ذلك أن الثقافة هي التي تشكل الإنسان وليس العرق، والناس يصبحون ما هم عليه نتيجة للإطار الثقافي التاريخي الذي يحيون فيه. كما أكد فرانز بواس أن كل المجتمعات تمتلك نفس القدرة على التطور والتغيير. واعتبارا لاختلاف الثقافات ونسبيتها ركز فرانز بواس على البحث الميداني، والوصف الدقيق، وتدوين كل الملاحظات2.
قام فرانز بواس بدراسة ظاهرة البوتلاتش، وهي صيغة للتبادل كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر في فانكوفر في كولومبيا البريطانية غرب كندا. ويمثل البوتلاتش أحد أصناف الهبة. فمعلوم أن هذه الأخيرة تمثل ترابطا لالتزامات ثلاثة هي العطاء والقبول والرد. كانت القبائل الهندية تجتمع في فصل الخريف، وتمارس البوتلاتش في إطار احتفالي. وخلال هذه الاحتفالات تلتقي عدة عشائر ممثلة بزعمائها. وكان على هؤلاء الزعماء أن يظهروا كرمهم، وذلك بتقديمهم لهبات بقدر سخي تجعل الزعيم الخصم غير قادر على رد هبات ذات قيمة مماثلة على الأقل. ويسعى الواهب إلى الإعلاء من شأنه، ذلك أنه كلما طالت مدة الرد ارتفعت قيمة الهبة. بل قد يصل الوضع عند قبائل الكواكيوتل إلى إتلاف الزعيم لممتلكاته ليؤكد زعامته أمام متحديه الذي إن أراد أن يواجهه كان عليه أن يفوته في عملية الإتلاف هذه. إنه صراع على الحظوة بين الوجهاء. وقد دافع فرانز بواس عن مؤسسة البوتلاتش أمام منتقديها، وأوضح أن الأمر لا يختلف عن القرض البنكي، أي أن الزعيم وهو يحرق ممتلكاته يقوم بنوع من الاستثمار الذي سيعود عليه بالربح لاحقا. وبذلك وضع أسس النسبية الثقافية، إذ علينا أن نفهم منطق البوتلاتش كما يفهمه الهنود أنفسهم لا كما نفهمه نحن. لقد شكلت نسبية الثقافات والدفاع عن ظاهرة البوتلاتش ركيزة لضرب الفلسفة التطورية التي تنبني عليها المركزية الغربية، وكذا الأنثروبولوجية التطورية3.
وقد أشار ألفرد كروبر (1876-1960) المختص في دراسة هنود كاليفورنيا، والذي دافع عنهم من أجل الحصول على حقوقهم الترابية، إلى أسس النسبية الثقافية وهي اعتبار كل الناس متحضرين، وأنه ليس ثمة ثقافة أرقى من أخرى. وأكد روبرت لووي (1883-1957)، وهو من أشد تلامذة فرانز بواس تأثرا بأفكاره، على ضرورة تعويض الحتمية البيولوجية بالحتمية الثقافية. ورأى أن النزعة التطورية للويس مورغان لا ترتكز على أسس علمية. وكما هو الشأن بالنسبة لأستاذه فرانز بواس، تحدث روبرت لووي عن ثقافات وليس عن ثقافة في صيغة المفرد، وأوضح أن الثقافة شيء فريد لا ينبغي تفسيره إلا من ذاته4.
لقد تشرب ليفي ستروس الفكر الأنثروبولوجي الأمريكي. ونلمس في ثنايا كتابه دعوة للوقوف في وجه المركزية الغربية والتطورية واعتماد النسبية الثقافية. ويوضح ليفي ستروس في معرض حديثه عن مفهوم الغنى عند قبائل البورورو أنه لا يرتكز على أسس مادية بحثة كما هو الحال في الثقافة الغربية، بل يرتبط بامتلاك رصيد من الأساطير والتقاليد والرقصات والوظائف الاجتماعية والدينية5. وكما أثرت أمريكا في ليفي ستروس عن طريق مفكريها، فقد شكلت مختبرا لبلورة كثير من المقاربات والنظريات التي ميزت أعماله كمسألة التبادل (réciprocité). لقد قال في تقديمه لكتاب مارسيل موس السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا إن التبادل هو العنصر الأساس لكل الظواهر التي درسها مارسيل موس. فمنح الهبة وقبولها والرد عليها يمثل حقيقة واحدة هي المبادلة. وحسب ليفي ستروس، كل ما هو اجتماعي هو عبارة عن تبادل أو مجموعة من التبادلات: تبادل النساء (القرابة)، وتبادل الأشياء (الاقتصاد)، وتبادل الكلمات (الثقافة). لقد ساهمت أمريكا في التقعيد لهذه النظريات وتوضيح الدور الهام الذي تضطلع به قضية التبادل في حياة الناس. ففي ذات السياق أوضح ليفي ستروس كيف أن قبائل البورورو تعتمد على هذا المبدأ. فالزعيم يحصل على خدمات من كل العشائر في شكل طعام أو أشياء مصنوعة. لكنه، على غرار الصيرفي، تمر الثروات بين يديه ولا يكاد يحتفظ بها لنفسه. فما كاد الزعيم يحصل على بعض الأشياء من ليفي ستروس مقابل هدايا حتى قام بإعادة توزيعها بين أفراد القبيلة6.
لقد فتح ليفي ستروس، بتركيزه على ظاهرة التبادل، الباب أمام باحثين آخرين من أجل تعميق دراسة الظاهرة. فقد ركز مارشال سالينز في كتابه العصر الحجري، عصر الوفرة على الجانب الاقتصادي لظاهرة التبادل لدى المجتمعات البدائية. فكل قبيلة لا يمكن أن تعيش على الاكتفاء الذاتي لاعتمادها على مبدأ التخصص، مما يعني أنها لا تحتاج إلى كل ما تنتج، ولا تنتج كل ما هي في حاجة إليه، وهذا يضطرها إلى تصريف بعض منتجاتها وتصريف أخرى. ولا يتحقق هذا الأمر إلا بفضل التبادل الذي يساعد على تقوية آصرة المحبة والتعاضد بين أفراد القبيلة الواحدة، بل يحقق السلم بين قبائل مختلفة كانت ستلجأ، لولا التبادل، إلى السلب والنهب. أما بيار كلاستر فاهتم في مؤلفه المجتمع ضد الدولة بالجانب السياسي. ويرى الباحث أن انعدام السلطة القسرية لدى المجتمعات الهندية، وعدم توفر زعيم القبيلة على سلطة للردع مرتبط بمسألة التبادل. فقضية الزعامة هذه ليست إلا وجها من أوجه التبادل بين الزعيم وأعضاء القبيلة مما يضمن التوازن بين المؤسسة السياسية والبنية الاجتماعية7. وأوضح ليفي ستروس بعد ذلك أنه يصعب فهم طبيعة المجتمعات الهندية إذا أُغفل البعد الديني. فقبائل البورورو كانت تتوفر على منظومة ميتافيزيقة متطورة. بل إن المعتقدات تكاد تختلط بالعادات اليومية. وتساعد بنية القبيلة على ضمان العلاقة بين الإنسان والكون، وبين المجتمع والعالم الفوق طبيعي، وبين الأحياء والأموات. وما يميز فكر هذه القبيلة هو التعارض القائم بين الطبيعة والثقافة. فعندما يموت أحد الأفراد تحس كل القبيلة بتعرضها للأذى. وهذا الضرر الذي تتسبب فيه الطبيعة هو دين يجب استخلاصه من الطبيعة. لذلك يجب تنظيم صيد جماعي ضد هذه الأخيرة. ولا نستطيع أن نقارب الحياة الدينية دون الكلام عن الساحر أي الباري، وهو صنف خاص لا ينتمي لا إلى العالم المادي ولا إلى المجتمع، أو سيد طريق الأرواح. ويُطلق على هذا الشخص في مناطق أخرى من أمريكا الشامان. لقد لاحظ الأوربيون نجاعة طرق العلاج المتبعة من طرف الشامانات. وقد خلص ليفي ستروس في كتابه الأنثروبولوجية البنيوية إلى أن نجاعة بعض الإجراءات السحرية مرتبطة بميكانيزمات نفسية وفيزيولوجية، ذلك أن فعالية السحر تقتضي أمورا ثلاثة: إيمان الساحر بجدوى التقنيات التي يستعملها، ثم ثقة المريض المعالج أو الضحية المعتدى عليها بوجود سلطة حقيقية عند الساحر، وأخيرا الثقة الممنوحة من طرف الرأي العام للساحر والتي تحدد علاقة هذا الأخير بالمسحورين.
ووقف الباحث عند أوجه التشابه والاختلاف بين المعالجة عن طريق السحر والطب النفسي. إذ يسعى كل من الشامان والطبيب النفسي إلى إخراج انفعالات المريض وتوتراته من اللاوعي إلى الوعي، وهو ما يعرف في الطب النفسي بإزالة العقد (Abréaction)، أي تصريف الطاقة الانفعالية المكبوتة التي تؤدي إلى ظهور الاضطرابات النفسية والعصبية، وذلك بعد تمثل وعودة إلى الحالة الأولى التي كانت سببا في ظهور المرض. ولا يتم إشفاء المريض إلا بعد إعادة إحياء تجربة ماضية بشكل منتظم يتم من خلالها استحضار ميكانيزمات ظلت خارجة عن سيطرة المريض. كما أن الطبيب النفسي يسعى، عبر نفس المسار أي حل العقد، إلى إعطاء تفسير وإيجاد حل لوضعية ظلت غامضة ومبهمة. لكن ثمة أوجه اختلاف. فهدف الطبيب النفسي هو معالجة مرض نفسي ليس إلا، بينما يسعى الشامان إلى معالجة الأمراض النفسية والعضوية في ذات الوقت. وإذا كان الطبيب النفسي يهدف عبر العودة إلى الماضي أن يستمد أسس العلاج من التجربة الشخصية للمريض، فإن الشامان يعتمد على تجربة المجتمع. ويكتفي الطبيب النفسي في أسلوب علاجه بالإنصات إلى المريض، بينما يتكلم الشامان بدلا عن المريض ويمنح للحاضرين عرضا يسعى من خلاله إلى أن يعيش أحداثا سابقة في أصالتها وقوتها وعنفها، ليعود في نهاية العرض إلى حالته الطبيعية8.
وعموما يحيلنا الكتاب إلى كيفية تشكل مسار كبار الباحثين الذي قد يأتي كثمرة لقراءة كتاب أو الاتصال بمفكر آخر أو نتيجة التعرف على مجالات ثقافية موازية. لقد كان لسفر كلود ليفي ستروس إلى أمريكا الأثر الحاسم في رسم مساره الفكري، فقد فتحت قراءة أعمال كبار الأنثروبولوجيين الأمريكيين عينيه على مفاهيم ظلت غائبة عن العقل الأوربي كالنسبية الثقافية. ويكفي أن نطلع على المراجع المعتمدة في مؤلفاته لنلمس هذا التأثير. كما كان لاحتكاكه بهنود أمريكا دور أساس في بلورة نظرية التبادل كعنصر هام لفهم الحقيقة الاجتماعية.
الهوامش:
1 Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale deux, Paris, Plon, 1973, pp. 377-87.
2 A. L. Kroeber and Clyde Kluckhohn, Culture : A Critical Review of Concepts and Definition, Cambridge, Massachusetts, Papers of the Peabody Museum, Harvard University, Vol. 47, N° I, 1952, p. 49 ; Franz Boas, « The Limits of Comparative Method of Anthropology », Science, N° 4, pp. 901-8.
3 J. Van Baal, Reciprocity and the Position of Women. Anthrooligical Papers, Amesterdam, the Netherlands, Van Goreum, Assen, 1975, p. 25 ; Marie Mauzé, « L’invention du potlatch », in Le Nouveau Monde. Mondes Nouveaux. L’expérience américaine, sous la direction de Serge Gruzinski et Nathan Wachtel, Paris, Editions de recherche sur les Civilisations, Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, 1996, p. 699-702 ; Philip Drucker, « The potlatch », in Tribal and Peasant Economies. Readings in Economic Anthropology, edited by George Dalton, New York, the Natural History Press, 1997, p. 481.
4 Alfred Kroeber, « Eighteen Professions », American Anthropologist, n° 17, p. 283-8 ; Robert H. Lowie, Culture and Ethnology, New York, McMurtrie, 1917, p. 66.
5 Claude Lévi-Strauss, Tristes tropiques, Paris, Plon, 1971, p. 254-5.
6 C. Lévi-Strauss, « Introduction de Mauss » in Marcel Mauss, Sociologie et anthropologie, Paris, PUF, Quadrige, 1989, 3e édition ; Jean Cazeneuve, Sociologie de Marcel Mauss, Paris, PUF, 1968, p. 110-21.
7 Marshall Sahlins, Age de pierre, âge d’abondance. L’économie des sociétés primitives, Paris, Gallimard, 1984, p. 126-7, 139-40 ; Pierre Clastres, La société contre l’Etat. Recherches d’anthropologie politique, Paris, éd. de Minuit, 1974, p. 20-1, 27, 29, 33-42, 133-5.
8 Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, tome 1, Paris, Plon, 1974, p. 183-8, 199-201, 218-20.