دانييل شروتر، يَهُودِيُّ السلطان المغرب وعالم اليهود السِّفَرَد، تعريب: خالد بن الصغير، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2011.
مقدمــة
مهد أمامي اکتشاف البروفسور جوزيف شتريت(Joseph Chetrit) ، غير المتوقع، لمجموعة وثائقية خاصة في باريس سنة 1985، سبل الاهتمام بالمشروع الذي أفضى إلى تأليف هذا الکتاب. وليس المکان الذي تحقق فيه هذا الاکتشاف الوثائقي المثير کما يمکن أن يتصوره البعض، إذ لم يتعلق الأمر أبدا، في الحالة التي تعنينا هنا، لا بقصر من القصور المنزوية في ضاحية راقية في ملکية أحد المنحدرين من سلالة أرستقراطية، ولا بإقامة باريسية فخمة في حوزة أسرة برجوازية مرموقة، بقدر ما يتعلق الأمر بشقة بسيطة تقع على ربوة عالية في أحد الأحياء الباريسية الهامشية المتواضعة. إن صاحب هذه المجموعة الوثائقية هو المدعو صاموئيل ليڤي قرقوز (Samuel Lévi-Corcos)، الذي کان وقتئذ في العقد التاسع من عمره، ويعاني من اعتلال جسدي واضح، فارق الحياة على إثره. وتمکن هذا الرجل المسن من الحفاظ، بکثير من الحرص، على حصيلة تراثية فريدة من المستندات المخطوطة والصور والمذکرات ذات الصلة بعائلته، والتي تمتد زمنيا لتغطي جزءاً من تاريخ مدينة الصويرة، حيث مسقط رأسه.
وتحتوي المجموعة الوثائقية المذکورة، على سجل کامل لأفراد عائلة مقنين وأحفادهم. وکان آل مقنين من بين أکثر الأسر التجارية اليهودية شهرة في المغرب، عند أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وينتسبون في الأصل إلى مدينة مراکش، فکانوا من بين الأسر التجارية الأولى ذات الأهمية، التي استقرت في مدينة الصويرة الحديثة الإنشاء، خلال سنوات العقد السابع من القرن الثامن عشر. وحين قرر السلطان العلوي محمد بن عبد الله أن يتخذ في سنة 1764 من المدينة المذکورة مرسى سلطانيا بحريا تتمرکز فيه کل المبادلات التجارية بين المغرب وأوروبا، زادت المدينة الجديدة في تعزيز دور الوساطة التقليدي، الذي کانت تقوم به الأسر التجارية اليهودية المراکشية، بين المغرب وأوروبا. وعلى الرغم من جهلنا لکل شيء عن الکيفية التي أصبح آل مقنين يتبوءون بموجبها المکانة المرموقة، سواء في مراکش أم في الصويرة خلال السنوات اللاحقة، فإنه من الواضح جدا أنهم استفادوا من السياسة التي نهجها العديد من السلاطين، في الاعتماد على اليهود لتمتين الأواصر بين بلدهم المغرب والعالم المسيحي. وبکل تأکيد، کانت تلک هي حالة مايير مقنين بصفته أبرز أفراد الأسرة شهرة ومکانة.
کان مايير مقنين على امتداد فترات عديدة أکثر الوسطاء أهمية ومکانة بين جهاز المخزن المرکزي والدول الأوروبية، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، أي أيام حکم السلطان المولى سليمان. استهل إقامة أولى طويلة الأمد في لندن سنة 1800، في وقت کان فيه وباء الطاعون الکبير يجتاح أراضي المغرب. وقبل انطلاقه في رحلته الأولى إلى لندن بأکثر من عقد من الزمن، کانت علاقات مقنين متينة جدا – فيما يبدو- بعامل الصويرة ، لأن الأوروبيين کانوا يشيرون إليه بعبارة: “يهودي العامل”. وأثناء مدة إقامته في لندن، کان مقنين يتلقى بين الفينة والأخرى التفويض للقيام ببعض المهمات بصفته وکيلا للسلطان. واعتاد تقديم أوراق اعتماده بصفته ممثلا دبلوماسيا مغربيا، کما تمت الإشارة إليه في مراسلات السلطان المولى سليمان مع الدول الأجنبية بعبارة: “يَهُودِيُّنا”.
وأثناء العقدين الأولين من القرن التاسع عشر، أولى مقنين اهتمامه بممارسة التجارة لحسابه الخاص، ولفائدة السلطان المولى سليمان في الوقت نفسه. واشتهر مقنين في أوساط التجار الأوربيين، الذين کانت لهم معاملات تجارية مع المغرب بأنه إنسان وغد وسيء السمعة لا تليق عشرته، وبأن الديون الثقيلة تراکمت عليه تباعا في المراکز المالية الأوروبية، من جراء عمليات غير سليمة قام بها بتواطؤ محکم مع أخيه ومع زمرة من المتعاونين من التجار اليهود المقيمين في الصويرة. وأثناء الحروب النابليونية، شهدت لندن ازدهارا قويا باعتبارها مرکزا ماليا، ارتفعت فيه حدة المضاربات التجارية إلى درجات قصوى. وعلى الرغم من سمعته السيئة الذائعة الصيت في أوروبا، ظل مقنين قادرا على عقد الصفقات مع التجار الذين اعتبروه شرا لابد منه بصفته منفذا ضروريا لا يمکن الاستغناء عنه، لبلوغ مراکز السلطة وأصحاب القرار في الوسط المخزني بالمغرب.
وبحکم هيمنته الاحتکارية شبه المطلقة على التجارة، کان مقنين هو الوسيط الذي لا غنى عنه بين المغرب وبريطانيا. وفي بعض الأحيان التي کان يقوم فيها بمهمة وکيل السلطان في لندن، نجده يعقد الصفقات لتزويد المغرب بالمراکب والأسلحة والذخيرة العسکرية. وحاول وقتئذ جاهدا أن يؤمن لنفسه صورة لامعة في البلاط الملکي البريطاني، وذلک بتقديم الهدايا الغريبة والمثيرة للانتباه، کالأسود المغربية التي کان يبعثها السلطان إلى عاهل إنکلترا.
وکان مايير مقنين ذکيا، أو ربما محظوظا في نسج علاقات قوية، مع السلطان المولى عبد الرحمن الذي خلف المولى سليمان. وبعد وفاة المولى سليمان سنة 1822، عاد مقنين إلى المغرب، فحصل على عدة “کنطردات”، خولت له حق الانفراد بامتيازات لاحتکار تصدير عدة مواد إلى الخارج، فضلا عن تخويله حق المراقبة المالية لجل مراسي المغرب البحرية. وموازاة مع ذلک، أصبح مقنين کبير الوسطاء بين بلاط السلطان والممثلين القنصليين المعتمدين في طنجة. وفي سنة 1827، تم إرساله سفيرا بصلاحيات مطلقة إلى أوربا، غير أن البريطانيين رفضوا قبول أوراق اعتماده، نظرا لما شاع عنه من فضائح مخزية، تتعلق بديونه الثقيلة هنا وهناک. وبناء عليه، تلقى تهديدا بالسجن لو وطِئت قدماه البر البريطاني. لکن الأيام القليلة اللاحقة، أثبتت عدم جدية هذا التهديد، لأنه تمکن من الاستقرار مرة ثانية في لندن لمدة زمنية معينة. وعاد إلى المغرب حوالي سنة 1833، ثم توفي في مسقط رأسه مراکش سنة 1835.
وعلى الرغم من الأهمية التي اکتساها شخص مايير مقنين بالنسبة للدولة المغربية، فقد استحال علينا إيجاد أثر له في الأرشيف المخزني. وربما يعود ذلک الغياب جزئيا إلى الحالة التي کان عليها تنظيم الأرشيف في الخزانة الحسنية التابعة للقصر حينما کنت بصدد إنجاز بحثي في الرباط. غير أن السبب الأکثر أهمية هو أن المجموعات الوثائقية الخاصة بالسنوات السابقة لسنة 1830 کانت في الحقيقة ضئيلة إلى حد بعيد. والوثائق المتعلقة بفترة حکم السلطان المولى سليمان التي سلمت من الضياع والاندثار قليلة جدا، وهذا أمر يمکن تعليله جزئيا بمحدودية الإمکانات البيروقراطية الموجودة وقتئذ في حوزة جهاز المخزن المرکزي. وکان السبب الرئيس في ذلک هو أن الطاعون الذي اجتاح البلاد ما بين 1799 و 1800 وخلال سنة 1817، قد أودى بحياة عدد لا يستهان به، من وزراء السلطان وکتابه ورجال حاشيته. وعلى الرغم من ذلک، فإن مکانة مقنين وأهميته تعکسها بوضوح جلي، مجموعة المراسلات والظهائر السلطانية المحفوظة ضمن أرشيف العائلة، إلى جانب المراسلات العديدة المتبادلة بين الدبلوماسيين الأوروبيين والمخزن، في شأن مقنين، وهي محفوظة في أرشيفات الخارجية البريطانية والفرنسية.
وفي أوساط اليهود المغاربة، فإن اسم عائلة آل مقنين وذريتهم قد انمحى تقريبا من الذاکرة. وحينما کنت في المراحل الأولى لإنجاز هذا البحث، لم يتردد العديد من اليهود المغاربة، وکذا بعض المتخصصين في موضوع اليهود بالمغرب، في مساءلتي للتأکد من مدى صحة اعتقادي، فقد أکون خاطئا، وأنني ربما أخلط بين اسم العائلة المعنية وبين وَقْنينْ، وهو اسم يهودي کان معروفا وأکثر رواجا في الوسط العبراني بالمغرب. أما عن أعضاء الطائفة اليهودية في بريطانيا، وعلى الأقل بالنسبة لأولئک الذين لهم بعض الاهتمامات بالماضي، فإن اسم مقنين يظل رسمه حاضرا في الذاکرة التاريخية، ويتکرر ذکره في محطات مختلفة من الفصول التاريخية للطائفة. وظهر اسم مقنين في يوميات اللاَّيْدِي مُونْتِفْيُورِي(Lady Montefiore) ، زوجة کبير الطائفة اليهودية، وأبرز روادها على الإطلاق في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر. وعثرت على أول إشارة “تاريخية” مکتوبة تخص آل مقنين عند ا. هـ. ليندو (E. H. Lindo) ، في 1838 مع تحيين لها بتاريخ 1860، ويتعلق الأمر بيومية للتقويم العبري. ويحتوي هذا المکتوب القصير، على لوائح خاصة بالتقويم العبري، وعلى “لوحة کرونولوجية تمثل مختصرا لتاريخ اليهود منذ الطوفان إلى الزمن الحاضر”. وجاء في إحدى المواد المتعلقة بسنة 1813 ما يلي: “مسعود ک. مقنين المحترم، المبعوث المخصوص من المولى سليمان إمبراطور المغرب إلى الحکومة البريطانية”. وکتب في واحدة من ثلاثة مواد تخص سنة 1827 ما يأتي: “مايير مقنين المحترم، المبعوث المخصوص من إمبراطور المغرب مولاي عبد الرحمن إلى بلاط حضرة سانت جيمس”. ولم ترد أي إشارة إلى إخفاق مقنين في الحظوة باستقبال رسمي من عاهل بريطانيا، ولا إلى ازدراء وزارة الخارجية البريطانية بشخصه. وربما کانت تلک الأمور غير معروفة لدى محرر تلک السطور، إذ کان يکفي لأعضاء الطائفة اليهودية في بريطانيا، افتتانهم ببلوغ اليهود الدرجات العلى في حقل السياسة.
ونظرا للأهمية الواضحة لشخص مايير مقنين ومحدودية النصوص الوثائقية المتعلقة به، فإن الاکتشاف الذي حققه جوزيف شتريت (Joseph Chetrit)، حول وثائق آل مقنين ليعتبر بحق صيدا ثمينا وبالغ الأهمية. وکان ليڤي قرقوز على بينة، بأن أسلافه قد احتلوا مکانتهم الخاصة، ضمن النخبة التجارية النشيطة في الصويرة، مما جعله يفتخر بتاريخه ويعتز به، فبدا لنا مشبعا بالغرور والکبرياء من جراء الاهتمام الذي أوليناه لعائلته. وعليه، فإننا تفهمنا جيدا حرصه الشديد، على عدم السماح لنا بإخراج وثائقه العائلية، من البيت الذي کان يقيم فيه من أجل استنساخها. غير أنه لم يبد أي اعتراض على أخذنا لصور فوتوغرافية للوثائق نفسها، بل کان على العکس من ذلک سعيدا بالاستمتاع بمؤانستنا له في بيته. وعلى امتداد حوالي أسبوعين، ترددنا على بيته المتواضع، کل يوم تقريبا لتصوير المستندات، فکشف لنا النقاب عن کل ما کان يعرفه بخصوص أسرته، وحکى لنا عن فصول حياته في المغرب قبل مغادرته إلى فرنسا. وقبل وفاته بعام واحد في سنة 1989، سمح ليفي قرقوز لجوزيف شتريت باستنساخ المجموعة الکاملة لوثائقه العائلية.
وسبق لي أن صادفت مايير مقنين، في أرشيفات وزارة الخارجية البريطانية بدار المحفوظات البريطانية في لندن (Public Record Office)، [وقد تغير اسمها مؤخرا إلى الأرشيف الوطني، (National Archives)] وأيضا في أرشيفات وزارة الخارجية الفرنسية بباريز، وذلک قبل اکتشافنا لمجموعة ليفي قرقوز المشار إليها أعلاه. واکتفيت وقتئذ بالاهتمام بأخذ بعض رؤوس الأقلام، وبتسجيل نقط عابرة وأفکار متناثرة هنا وهناک، تخص مايير مقنين. وأوحى لي اکتشاف وثائق العائلة المذکورة بمدى أهمية خوض المغامرة في محاولة لإحياء بعض الملامح التاريخية من خلال إعادة بناء جوانب من قصة حياة مقنين. ومضت إلى الآن سنوات افتتنت خلالها بشخصية مقنين، إلى درجة ربما وصفها البعض بالهوس، أو بالاستحواذ الکلي على تفکيري. ثم عاودت السفر من جديد إلى دور الأرشيف البريطانية والفرنسية، في محاولات للحصول على معطيات إضافية أخرى، عسى أن أتمکن بواسطتها من استکمال الصورة، عن حياة الرجل المثيرة والمليئة بالمتناقضات. وعلى الرغم من استنفاذي لکل الجهود، ظل شخص مايير مقنين عبارة عن لغز محير للغاية. وسواء تعلق الأمر بمجموعة وثائق ليڤي قرقوز أم ببقية المجموعات الوثائقية المتنوعة التي تمکنت من الاطلاع عليها، فإنه من الناذر جدا أن نجد فيها صدى، ولو خافتا، لصوت مقنين. وتتوافر في حوزتنا نماذج کثيرة من العقود العدلية، ذات الصلة بالتجارة والعقارات، ومن المراسلات الموجهة إليه من جانب المخزن. کما تقدم لنا الأرشيفات الأوروبية معلومات دقيقة ومفصلة عن علاقات مقنين بالأوربيين بصفته تاجرا أو وکيلا للسلطان. وبصفة عامة، تشير المراسلات الدبلوماسية إلى الديون التي لم يلتزم مقنين بتسديدها، وإلى ما تصفه السجلات الحسابية الأوروبية بالصفقات المشبوهة والعمليات التجارية غير المشرفة.
وفي غياب أي مذکرات، أو على الأقل مراسلات شخصية، لن يکون في الإمکان سوى القيام ببعض التخمينات القمينة بوضع صورة تقريبية لشخصية مقنين الحقيقية. وبما أن الرجل کان نادرا ما يتکلم في الوثائق والمستندات، فإن مقنين يظل هو نفسه مصدري المخترع للأخبار، والذي أحاول أن أتخيل من حوله العالم الذي عاش بين أحضانه. وعلى مستوى السطح، تبدو حياته وکأنها تفصح عن ذلک النموذج السلبي المبسط، والکثير التواتر في موضوع اليهودي والشرقي: فهو يمثل في الآن نفسه ذلک الإنسان الجوال الکوزمُوبُّولِيتَاني، الذي يتقن التحدث بعدة لغات؛ والوغد النذل الخبير في حبک الدسائس وتدبير المکائد، والفاسد المستعد للإرشاء والتلاعب بثروات الآخرين وممتلکاتهم، والساعي إلى تحقيق الثروة وإدراک الجاه وبلوغ الأبهة. وبالنسبة للتجار الأوروبيين والممثلين القنصليين المعتمدين في المغرب، يبدو مقنين في أعينهم شخصاً يجمع في الآن نفسه بين الاستقامة الفردية المتعجرفة لليهود، والفساد الأخلاقي السائد في الغرب بکل مکوناته. وعلى الرغم من شهرته وتاريخه الطويل الشائع حول ديونه غير المستوفاة، ظل مقنين قادرا على مواصلة نشاطه، وعلى إحباط مناورات خصومه، مستغلا في ذلک، وبطريقة لا تخلو من التباهي، وضعيته المشکوک فيها أحيانا بصفته وکيلا يهوديا لسلطان المغرب.
إن وثائق أسرة مقنين لا تسعفنا في فهم شخصية مايير مقنين، فضلا عن أنها لا تحتوي في طياتها على ما من شأنه أن يقلب الصورة السلبية الملتصقة به في الأرشيفات الأجنبية. وعلى أية حال، تعتبر الشهادات والرسوم العدلية الکثيرة، المحفوظة ضمن أرشيفات العائلة، والمتعلق أغلبها بانتقال ملکية العقارات، حججا دامغة وعناصر إثبات لا يرقى إليها الشک، من شأنها أن تکذب مزاعم مايير مقنين، ومزاعم المخزن بخصوص عجز العائلة المعنية عن أداء ما تراکم في ذمة مايير مقنين من الديون الثقيلة. غير أن وثائق آل مقنين تقدم لنا معطيات کثيرة تمکن من تسليط الضوء، بما يکفي من الوضوح، على الوسط الذي عاش فيه کبراء التجار اليهود المغاربة. وتتسم الصورة المنبثقة من هذا الأرشيف العائلي بدرجة کبيرة من التعقيد، کما أنها تثير جملة من الأسئلة ذات الأهمية البالغة في موضوع المغاربة اليهود، وعالم السفراديين، في ظرفية تاريخية حرجة للغاية. وتعکس قصة مايير مقنين في تنقلاته ذهابا وإيابا بين المغرب وبريطانيا، ملامح حقبة متميزة دخلت فيها العلاقات بين مختلف مکونات العالم اليهودي، في تحولات سريعة. وتغطي وثائق ليفي قرقوز السنوات اللاحقة لوفاة مايير مقنين، مخترقة بذلک حياة ذريته وأحفاده أيضا إلى حدود القرن العشرين. ويشکل تحول الطائفة اليهودية المغربية، موضوعا آخر لمشروع بحث مشترک في طور الإنجاز، بيني وبين جوزيف شتريت يعتمد جزئيا على الأرشيف نفسه، وننوي إصداره في کتاب جديد. ويعتبر هذا الکتاب الذي بين أيدينا: يَهُودِيُّ السُّلطَان، مجرد الجزء الأول من القصة.
وحاولت جاهدا في هذا الکتاب تفادي الوقوع في التجزييئية البسيطة، وذلک بالحرص على مد الجسور بين حقول معرفية شتى، غالبا ما وقع تناولها تناولا منفصلا. ويعکس هذا المجهود الهادف إلى تحقيق هذه التواصلات، الأرضية الفکرية والتجربة الشخصية التي اکتسبتها في حقل الدراسات الشرقية، ومن خلال تدريسي للتاريخ اليهودي. کما يعکس في الوقت نفسه موقفي وردَّة فعلي تجاه الحدود المؤسساتية الاصطناعية المفروضة أکاديميا في غالب الأحيان بين مختلف حقول الدراسات ومجالاتها. إن منطقة المغارب (وتشمل بوجه عام دول المغرب والجزائر وتونس وليبيا)، غالبا ما تسقط بين تلک الانکسارات والتصدعات الموجودة بين تاريخ إفريقيا والشرق الأوسط. وعلاوة على ذلک، أصبح من الأمور المعتادة اليوم أو من قبيل الموضة، رفض مجال الدراسات جملة وتفصيلا، وخاصة حين يتعلق المجال المعني بالدراسة، بالأراضي الخاضعة سابقا للنظام الکولونيالي. وکان التاريخ اليهودي من جهته أيضا، خاضعا لهيمنة التقاليد الجرمانية للإستوغرافية اليهودية التي تعود في الأصل إلى القرن التاسع عشر. وبينما حظي اليهود خلال مراحل الإسلام الکلاسيکية وفي بلاد الأندلس أيام الحکم الإسلامي بعناية المؤرخين الفائقة، ظلت الفترات الحديثة تعتبر غير صالحة کمجال للبحث، ولم يحدث بعض التطور النسبي الإيجابي في هذا الاتجاه، إلا في السنوات القليلة الماضية. وغالبا ما تأثر العديد من الدارسين للتاريخ الحديث في منطقتي الشرق الأوسط والشمال الإفريقي، بأنماط التأويل ونماذجه السائدة في الغرب الأوروبي، والتي ترکز على المسار المعهود للتاريخ اليهودي الحديث: بين التحرر والاندماج، أو بين المعاداة للسامية والصهيونية. وهکذا، أصبح اليهود غير الغربيين يوصفون سلفا ومنذ القرن التاسع عشر بأنهم “شرقيون”. وإذا کان من الضروري دراسة تاريخهم في مجمله، فإنه لابد من أن يکون تاريخا قد اتخذ شکله وصورته بتأثير من الغرب، أي أن الأسئلة والقضايا المتعلقة بيهود الغرب الأوروبي يُعاد طرحها أيضا على الطوائف اليهودية “الشرقية”، التي مرت في تجربة تاريخية مختلفة جد الاختلاف.
وتکون نتيجة هذا النوع من التجزيء والتهميش، هي أن جوانب کثيرة من التفاعل الثقافي المتبادل، قد تغيب وتحتجب فلا يشملها التأويل التاريخي. وأود في هذا الکتاب أن أقدم تحليلا موسعا للتفاعل الثقافي المتبادل، لمجالات غالبا ما وقع تحليلها تحليلا منفصلا على هذا النحو: اليهودي والمسلم، الأشکنازيون والسفراديون، الشرق-أوسطيون والأوروبيون. وربما تکتسي قصة حياة مايير مقنين، صبغة معاصرة خاصة ومثيرة للمشاعر: إذ بصفته جزءاً من ثقافة الشتات، وبصفته رحالة جال بين مختلف البلدان والأوساط الثقافية، فإنه يظهر بوضوح العمق التاريخي للعالم المتعدد الثقافات الذي نعيش فيه جميعنا اليوم.
ملحوظة: صدر مؤخرا كتاب يهودي السلطان عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط- أكدال والنص الذي بين أيدينا هو مقدمة الكتاب بقلم المؤلف.
اشكر الاستاذ والباحث خالد بن الصغير على هذا الموضوع الشيق ,واضح ان جانبا كبيرا من تاريخ المغرب يضل مجهولا ولابد من بدل الجهود المضنية من اجل الكشف عنه بشتى الطرق ,وماالمجهود الدي بدله استاذنا الاخير دليل على ذالك ما جعله بحق اكبر متخصص في التاريخ اليهودي بالمغرب المعاصر ,انه ليس من السهل القيام بمغامرة الكتابة التاريخية وفق متطلبات العصر بدون تحدي الصعاب ,الوثائقية والصعاب البيروقراطية اضافة الى تحديات اخرى,,,يبقى تاريخ اليهود في المغرب جانبا مفتوحا في وجه الكتابة التاريخية المغربية ,بل واصبح يثير جملة من الاسئلة التاريخية التي يواكب عليها عددا من الباحثين في الاونة الاخيرة ,فمند كتاب البرفسور شروثرحول تجار الصويرة ترجمة خالد بن الصغير تقاطرت الكتابات والتاليف ومازالت الابحاث مفتوحة امام الجديد وهذا ان ذل على شيئ فانما يدل على دينامية الكتابة التاريخية في المغرب رغم كل التحديات….لهذا فالمرجوا توفير النسخ حول الكتاب قصد تعميم الفائدة التاريخية بين الطلبة والباحثين…..