Ibn Tumlus (Alhagiag Bin Thamlus), Le livre de la Rhétorique, Introduction générale, édition critique du texte arabe, traduction française et tables par Maroun Aouad, Paris: Vrin, 2006.
يواصل الباحث والمحقق مارون عواد نشر ثمرات مجهوداته العلمية الجادة. فبعد أن أخرج لنا عام 2002 تلخيص كتاب الخطابة لللفيلسوف الأندلسي المغربي أبي الوليد بن رشد (ت. 1198م) في ثلاثة مجلدات تتضمن النص محققا ومترجما إلى الفرنسية بمقدماته وتعليقاته1، نراه يُقدم عام 2006 على نشر عمل من نفس المستوى للطبيب والمنطقي الأندلسي الحجاج بن طملوس (حوالي 1164-1223 م)، موسوم بكتاب الخطابة2.
لعل مسألة علاقة ابن طملوس بابن رشد، ومقدمته لكتابه المعروف في أوساط الباحثين بـالمدخل لصناعة المنطق هما السبب في شهرة ابن طملوس على نحو امتد إلى تقاليد معرفية خارج مجالي المنطق والفلسفة. وهذا الكتاب الأخير الذي عادة ما يرجعُ إلى مقدمتِه الباحثون عند كلامهم في المسألة الأولى (مسألة العلاقة بأبي الوليد) كان قد نُشر قسم منه مرتين واحدة في بداية القرن الماضي (1916)، على يد المستعرب الاسباني أسين بلاثيوس، وفي بداية هذا القرن (2006)، أُعيد طبع الكتاب في نشرة مغربية لا تليق في الحقيقة بمقام ابن طملوس. فالأخطاء المطبعية وغير المطبعية يَعجّ بها النص، والهوامش التي كتبها الناشر تعليقا على النص صارت عامل تضليل للقارئ عن معانيه بدل أن تعينه عليها.
أما أهمية منجز مارون عواد فتأتي في نظرنا من تحقيق (ونقل لأول مرة إلى الفرنسية) لكتاب قليل الذكر عند الباحثين أو يكاد يكون عديمه، خاصة إذا قارناه بشهرة الجزء المنشور الذي يحتوي على كتابي المقولات والعبارة، فضلا عن المقدمة طبعا. وكما يظهر فالكتاب، أعني كتاب الخطابة، هو أيضا جزء من المدخل لصناعة المنطق، الذي يحوي أجزاء أخرى تنتظر النشر.
حقق عواد نص الخطابة لابن طملوس اعتمادا على المخطوط الوحيد لكتاب المدخل لصناعة المنطق المحفوظ بمكتبة الأسكوريال في مدريد (المسجل تحت رقم 649)، لكنه استعان أيضا بنص تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد، وهو أمر له كبير دلالة في هذا السياق.
ولابد من الإشارة أن نشر عواد لكتاب الخطابة ليس أمرا عارضا في حياته العلمية بل هو داخل في سياق انشغالاته الفكرية، فالرجل يعد أحد المتخصصين في صناعة الخطابة بحثا وتحقيقا. وهذا ما عكسه المدخل الذي قدم به للكتاب، إذ جاء غنيا بالمسائل التي يعود الفضل في تبلورها، كما قلنا، إلى انشغالاته بالمتن الخطابي لابن رشد وللسابقين عنه. وبهذا المعنى، فقد تمكن مارون عواد من فك العزلة الثقافية عن كتاب ابن طملوس، بحيث وضعه في سياقه العام كاستئناف للقول المنطقي والخطابي في الأندلس وتفاعل معه. وهكذا أظهر لنا من خلال هذا السياق قيمة المنجز الطملسي وكذا حدوده بالكشف عن قاعدة البيانات التي تقف وراء خصوبة نص كتاب الخطابة. فابن طملوس لم يتعلم المنطق وباقي الصنائع على طريقة حي بن يقظان، بل اطلع على تقليد أو تقاليد منطقية وعلمية كانت إمكانية الإطلاع عليها متاحة له. فكان أن أغنى ثقافته المنطقية والفلسفية بقراءة النصوص الفارابية والسينوية والرشدية، كما أخصب ثقافته الطبية والعلمية بنصوص ابن سينا وابن رشد. أما تصريحه بمصادره في هذا التكوين وبمعلميه فتبقى مسألة لها دواعي أخرى، لعلها هي التي جعلته يَطْمَس بعضها ويُظْهر البعض الآخر في تلك المقدمة المشهورة لكتاب المدخل لصناعة المنطق. فالتلمذة شيء والتصريح بها شيء آخر في زمنه.
ومن هنا فأهمية نشر كتاب الخطابة في نظرنا تقوم في انتظام الكتاب في سياق إشكالية العلاقة بين صاحبه وأستاذه المفترض أبي الوليد. فقد عدّ مارون عواد الكتاب حلقة جديدة في سلسلة الحجج التي تسعى إلى إثبات وجود هذه العلاقة. وقد خصص فقرات وعقد مقارنات لأجل إثبات أن ابن طملوس في كتاب الخطابة كان تلميذا لفيلسوف قرطبة، عكس ما تقوله المقدمة التي ألمحنا إليها آخر الفقرة السابقة. فكتاب الخطابة الذي هو جزء من هذا المدخل يكاد يكون شرحا لتلخيص كتاب الخطابة لابن رشد. ويضع مارون عواد هذه الحجة النصية التي يقدمها للقارئ إلى جانب ما كان قد أثبته الباحثان عبد العلي جمال العمراني ومحمد عروة في دراستين مستقلتين تكشفان عن تلمذة ابن طملوس لابن رشد.
فقد تبين لنا من خلال عرض عواد أن ابن طملوس لم يستعمل مباشرة كتاب الخطابة لأرسطو ولا ترجمته العربية، بل كانت بين يديه وسائط أخرى استعملها كمدخل إلى كتاب المعلم الأول؛ ولا شيء يشير إلى أن الشرح الكبير لكتاب الخطابة للفارابي كان أحد هذه الوسائط؛ بينما كان تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد هو الوسيط الرئيسي بينه وبين كتابالخطابة. ووجود أجزاء من جمل التلخيص على طول كتاب الخطابة لابن طملوس تشهد لذلك.
لكن هذا لا يعني أن الرجل كان يقف عند سقف تلخيص كتاب الخطابة، فقد استعمل شروحا أخرى عربية على كتابالخطابة لأرسطو من قبيل كتاب الخطابة للفارابي (وهو غير الكتاب المفقود الذي ألمحنا إليه) وكتاب الخطابة من موسوعة الشفاء لابن سينا، فضلا عن مختصر الخطابة لابن رشد.
ومن هنا فاستعمال ابن طملوس تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد يظهر جيدا أن الأول كان تلميذا للثاني، إلا أن رجوعه إلى شروح أخرى وضعها سابقون عن أبي الوليد يوحي أيضا بأنه لم يكن مجرد مقلد أعمى épigone servile، كما سنشير بسرعة:
كتاب الخطابة لابن طملوس مدخل لصناعة الخطابة، إنه توطئة لمن يريد تعلم صناعة الخطابة على “التمام والكمال”. من هنا فالغرض من الكتاب هو أن يرشد وينبه. أو بعبارة أخرى إن كتاب الخطابة هو إعداد وتوطئة لدراسة صناعة الخطابة على نحو أكمل وأكثر تقدما. إلا أن هذا الإعداد يجب أن يستوفي النظر في مختلف أجزاء هذه الصناعة.
لكن غرضين آخرين كشف عنهما مارون عواد من خلال التحليل المذهبي لنص كتاب الخطابة، يظهران جدة منجز ابن طملوس وخروجه عن الخط الرشدي في النظر الى الخطابة:
أولا: تقويمه للطرق والإجراءات الإقناعية بحسب المعايير المعمول بها في علوم الشريعة والعقيدة الإسلاميين.
ثانيا: فك الارتباط بين السياسة وصناعة الخطابة، وهو أمر مخالف لما جرت عليه الشروح العربية السابقة لكتابالخطابة، من قبيل التلخيص الذي أنجزه ابن رشد. وهذا التحييد السياسي جعل من هذه الصناعة لا تخدم السياسة بالقصد الأول بل تخدم مجموع الصنائع، كأن نقول صناعة الطب مثلا، أو بالأحرى مخاطبة الطبيب لمرضاه أو لغير الأطباء؛ وتنفع أيضا في تعليم الحقائق الميتافيزيقية للعامة…وغيرها من الأغراض التي تتوافق، في نظرنا، مع العملية التي قام بها الشراح العرب عندما أقدموا (بتأثير من التقليد السكندري) على إدخال الخطابة والشعر ضمن الصنائع المنطقية.
جملة القول أن نشر كتاب الخطابة لابن طملوس ووضعه بين أيدي الباحثين يعدان مناسبة حقيقية لمراجعة بعض الأحكام السائرة حول بقاء كتب ابن رشد المنطقية كتبا منعزلة عن الثقافة الإسلامية المنتشرة غير مندمجة فيها، وحول انقلاب وتنكر الرجل لأستاذه ابن رشد لحساب الغزالي؛ وأخيرا لإنزال ابن طملوس المنزلة التي تليق به كامتداد متجدد للفكر الأندلسي عامة وللفكر الرشدي خاصة.
الهوامش:
1- Averroès (Ibn Rušd), Commentaire moyen à la Rhétorique d’Aristote, (3 volumes) Introduction générale, édition critique, traduction et commentaire de Maroun Aouad, Paris: Vrin, 2002.
2- Ibn Tumlus (Alhagiag Bin Thamlus), Le livre de la Rhétorique, Introduction générale, édition critique du texte arabe, traduction française et tables par Maroun Aouad, Paris: Vrin, 2006.