إميل كيرن، رحلة خبير صحي إلى المغرب، ترجمة بوشعيب الساوري، منشورات القلم المغربي، 2011.
عن منشورات القلم المغربي صدرت هذه السنة ترجمة لكتاب “إميل كيرن”M. Émile Kern رحلة مراقب صحي إلى المغرب 1911م، ترجمه وقدّمه الكاتب المغربي بوشعيب الساوري. كتاب نادر، انتظرنا مئة عام كي يُترجم إلى اللغة العربية. لا نتوفر على معطيات دقيقة وكافية حول الكاتب باستثناء ما جاء على الصفحة الأولى من غلاف رحلته كما يِؤكد المترجم؛ وتتمثل في كونه مراقباً صحياً ومهندساً مدنياً ونائباً لرئيس جمعية الطب العمومي والهندسة الصحية، سافر من فرنسا عبر باخرة أجنبية إلى طنجة قبيل الحماية، ومنها تجوّل في عدد من المدن المغربية بغرض إنجاز تقرير عن الوضع الصحي بالمغرب. لذلك كانت رحلته أقرب إلى التقرير منها إلى أدب الرحلات. يقول كيرن: “بدل استعراض متتابع لكل المدن والأماكن التي أتيحت لي زيارتها بالمغرب، سأتحدث عن الحالة الاجتماعية للشعب المغربي، والظروف الصحية التي عاينتها هناك”؛ لذلك جاء تقريره مختصراً بلا حشو ولا إطناب. واضح جدا أن مهمة المراقب كانت دقيقة وذات أهداف محددة؛ حيث اقتصرت على مدن بعينها كطنجة والدار البيضاء ومازاغان وآسفي لتكون نماذج وعيّنات من خلالها سيُكوّن من يهمهم أمر التقرير نظرة كافية عن الوضع الصحي والاجتماعي للمغرب آنذاك، وعلى ما يبدو فإن فرنسا الاستعمارية كانت على عجلة من أمرها في 1911، سنة قبل الحماية. من يدري؟ ربما كان التقرير الصحي آخر ما كانت تحتاجه قبل إحكام قبضتها على هذا البلد.
يعتقد بوشعيب الساوري أن كتاب إميل كيرن هو “أول نص رحلي يجعل اهتمامه المركزي هو المسألة الصحية بالمغرب”، وأن الرحلة “تمّت في سياق الخدمات الصحية التي مهدت للاستعمار الفرنسي ما بين سنتي 1860 و1912، بهدف كسب ثقة المغاربة، وتحقيق التغلغل السلمي بأقل التكاليف”. أمر تكشف عنه إشارات عديدة في الكتاب التقرير سواء من خلال إشادته بعدد من المستوطنين الفرنسيين الذين صادفهم الكاتب خلال رحلته ، وبتضحياتهم الكبيرة من أجل “صحة ورفاهية” المغاربة، أو من خلال ما صاغه في خاتمة الكتاب ؛ “يمكنني القول الآن كخاتمة، إن لفرنسا مهمة ثقيلة تضطلع بها بالمغرب، تتمثل في التعهد بإعداد بعثة للتجديد والحضارة، ستستفيد منها كل الشعوب، وبالدرجة الأولى الشعب المغربي”.
يحتوي الكتاب على سبعة فصول وهي؛ “الماء الصالح للشرب” و”المياه المستعملة” و”الإدارة” و”المراحيض” و”الكنس والقمامة” و”السكن وظروف العيش” و”الأمراض والأطباء”. وتكمن أهميته، إضافة إلى تطرقه إلى جانب مهم من حياة المغاربة قلّما اهتمت به الدراسات المختلفة، في كونه يعرّي واقعاً مغربياً مثيراً للشفقة حيث “مئات من الكائنات البشرية تعيش بدون مأوى، تنام على الأرض، تعذّبها كل أنواع الأمراض وتقرضها الحشرات الطفيلية.”؛ مغرب تنعدم فيه قنوات الماء الصالح للشرب (ص25)، وتُلقى فيه القمامة في مدينة كآسفي “من أعلى جرف إلى البحر مباشرة” بعدما كانت قبل 1911 “تُحمل خارج المدينة”، ” وتُلاحظ في كل مكان نفس القذارة، نفس الأكواخ البئيسة، نفس الحرمان، وتصادف هناك نفس الأمراض”. و لعلّ الصفحات الخاصة بالإدارة ستسترعي انتباه القارئ، وتجعله يتساءل عن جوهر الإدارة المغربية ومدى تطورها طيلة المائة عام المنصرمة. يقول كيرن في 1911: “تعاني الإدارة المغربية من تقصير كبير، يتمثل في التهاون والسلطوية، والاتهامات الخطيرة المحيطة بها. وأخطر هذه التهم ما يقال في كل مكان إن المناصب تُمنح لمن يدفع أكثر.”
لا يخفى على أحد أن تقرير كيرن، وإن كان يحمل بين طياته بعضاً من الحقيقة، قد كان محكوماً بنوايا فرنسا الاستعمارية، ونظرة موظفيها الاستعلائية. فكلامه يفضحه حين يقرّ أن مواطني فرنسا الشجعان صنعوا “الاختراق السلمي، عبر أعمال الخير التي قاموا بها حولهم. وبتمكنهم من لغة البلد والتكلم بها، ومعرفة عاداته وتقاليده، كسبوا ثقة من عالجوهم”؛ هي ممارسات تثير التساؤل حول ما إذا ما كانت فعلاً قد انتهت مع نهاية الاستعمار.
لكن فرنسا الاستعمارية لم تكن في أحسن أحوالها وقتئذ؛ فدون قصد منه على ما أظن، سيعرّي الرحالة أيضاً بعضاً من غسيل بلاده الداخلي. يقول في بداية رحلته وهو يستقلّ باخرة غير فرنسية: “عند الانطلاق من محطة مرسيليا، كان لزاماً علينا عبور طريق طويلة، واجتياز أزقة في حالة سيئة، وأحياء متسخة، بُغية الوصول إلى رصيف لابينيد.” ويضيف مخاطباً رؤساءه: “أنا آسف إذ أجد نفسي مضطراً أن أقول إن هذه البواخر الأجنبية، مثل الهولندية والانجليزية، هي المفضلة لدى المسافرين، لما توفّره من راحة ونظافة دقيقة بين جنباتها”. وبعد ثمانية وأربعين ساعة من السفر وصلت الباخرة إلى طنجة، غير أن مفتشاً صحياً إسبانيّاً أخبر أفراد الباخرة برفضه الترخيص لهم بالرسو”بسبب الكوليرا المتفشية في مرسيليا”. “وكان من الطبيعي أن يحتج كل المسافرين المتوجهين إلى المغرب على هذه الطريقة في التعامل والتي لا تخلو من عنف”، وطوال ثلاث ساعات، “وبعد فحص كلي، رخّص لنا الطبيب بالنزول من السفينة.” هكذا بعد قرن من الزمان عانى أبناء الجنوب من نفس”الطريقة في التعامل والتي لا تخلو من عنف”، وهم يغادرون سفنهم وقواربهم في البحر الأبيض المتوسط في هجرة معاكسة، لكن لأغراض أخرى غير التي جاء من أجلها إميل كيرن وأبناؤه وحفدته.
حسناً فعل الباحث بوشعيب الساوري بترجمته لهذا الكتاب القيّم، وبإلحاق الرحلة الفرنسية به حتى يتمكن قراء لغة موليير من الاطلاع على النسخة الأصل، وبتقديمه الكتاب في عشر صفحات أضاءت ما غمض فيه، ومنحت الكاتب المغربي الغيور على بلده هامشاً للتعليق على بعض أفكار صاحب الرحلة.