Frédéric Martel. Mainstream: Enquête sur cette culture qui plait à tout le monde, Paris, Flammarion, 2010.
مؤلِّف الكتاب قيد المراجعة، فريدريك مارطيل، أستاذ في المدرسة العليا للدراسات التجارية بباريس المشهورة (HEC) ، كما أنه صحفي منشط المجلة الإذاعية عن صناعات الإ
بداع والتواصل التي تبثها فرانس كولتورfrance culture ، إحدى أهم الإذاعات الثقافية على المستوى العالمي. استغرق تهييء الكتاب خمس سنوات جاب خلالها الكاتب ثلاثين بلدا في القارات الخمس أنجز فيها ما يناهز 1250 استجوابا مع شخصيات نافذة في مجال الصناعات المبدعةles industries créatives (هو يفضل هذا المصطلح على الصناعات الثقافية) والتي تشمل ثلاثة عشر قطاعا على رأسها الإعلام والسينما والموسيقى والنشر والألعاب الالكترونية. بالإضافة إلى الصفحات الأربع مائة والستون التي يحتوي عليها الكتاب يحيل المؤلف على موقع الكتروني (يحمل عنوان الكتاب) يعرض ملاحق مطولة تحتوى على الخصوص على الإحالات وبيبليوغرافيا يصل حجمها إلى أكثر من ألف مرجع. نحن إذن أمام مشروع ضخم تلقى الكاتب من أجل تحقيقه الدعم من مؤسسات وشخصيات مشهورة يشكرها في نهاية النص همَّت المديرة العامة لدار النشر الفرنسية الكبرىFlammarion وهي الدار التي نشرت الكتاب، ومدير المعهد الوطني السمعي البصري Institut national de l’audiovisuel، وبرنارد كوشنير وزير الخارجية الفرنسية وقت إعداد المشروع، ومركز التحليل والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية le centre d’analyse et de prévision du Quai d’Orsay. (وفي لقاء مع الكاتب، خلال تقديم كتابه في المركز الفرنسي في الرباط في 22 نوفمبر 2011، أخبرني أنه كان يشتغل خلال فترة إعداد الكتاب ملحقا ثقافيا للقنصلية الفرنسية في مدينة بوسطون بالولايات المتحدة. وهو اختار، بدون أن يقدم سببا لذلك، ألا يشير إلى هذه المعلومة في كتابه.)
بالرغم من تعدد المصادر والقضايا المعروضة إلا أن الفكرة الرئيسية للكتاب واضحة ألخصها كما يلي: تحتل الولايات المتحدة الأمريكية مركز الصدارة في إنتاج وتوزيع الثقافة الجماهيرية ومن المتوقع أن تحافظ على مركزها مستقبلا، وذلك بالرغم من المنافسة التي أصبحت تواجهها من مراكز لتجمعات ثقافية-جغرافية ناشئة في كل من الهند والبرازيل واليابان والمكسيك وتركيا والشرق الأوسط العربي. لا تشكل هذه المراكز الجديدة تهديدا للثقافة الجماهيرية الأمريكية بالرغم من أن حجمها يزداد نموا، وذلك لأنها لا تمثل بديلا لثقافة الماينستريم بقدر ما أنها تسعى لمحاكاتها. إن الثقافة الناشئة لا تمثل إلا نموذجا إقليميا يحمل ملامح ثقافة محلية للثقافة الجماهيرية. وفي نفس الوقت، فإن الماينستريم الأمريكي يعمل على أن يستفيد من نمو الهوامش ويوسع نفوذه في هذه المناطق من خلال توظيف إمكانيته التقنية وخبراته الفنية.
المنطقة التي بقيت محصنة ضد النفوذ الأمريكي هي الصين، والتي فشلت كبريات الشركات العالمية في اختراقها على غرار شركات موردوخ وكبريات شركات هوليود التي خسرت الملايين من الدولارات في محاولاتها الفاشلة للاستثمار في الصين بالرغم من التنازلات غير المسبوقة التي قدمتها سواء على المستوى المادي أو السياسي، كالالتزام باحترام إجراءات الرقابة الصينية. يقدم مارطيل تفسيرا متميزا للسياسة الحمائية الصينية باعتبار أن البعد الأساسي فيها ليس هو جانب الرقابة السياسية، بقدر ما أن الرقابة نفسها تتحول إلى أداة لحماية الاحتكار الاقتصادي الذي تتمتع به رؤوس الأموال الصينية. لكن، إذا كانت الصين نجحت فعلا لحد الآن في صيانة سوقها الضخم، وفي أن يتوسع نفوذها الاقتصادي ليغزو أسواق العالم، إلا أنها على المستوى الثقافى تفتقد لطموحات التوسع وللإمكانيات التي تخولها لتنافس الولايات المتحدة في هذا المجال على الصعيد الدولي. ولذلك، تبقى الصين ثقافيا محصورة في حدودها الوطنية، لا تمثل أي تهديد لثقافة الماينستريم. يقدم الكتاب الهند باعتبارها الخيار الثاني الذي لجأت إليه الشركات العالمية مرغمة بعد فشلها الصيني، وأصبحت سوق المليار ومائتي مليون هندي بديل سوق المليار وثلاثة مليون صيني الذي حُرمت منه شركات الماينستريم.
لكن المنطقة التي تحظى بالعطف والحسرة معا من طرف الكاتب هي أوربا. فهو يوثق لغيابها على المسرح الدولي كقوة في مجال الثقافة الجماهيرية بالرغم من حضورها الوازن تاريخيا في إنتاج ثقافة النخبة، الثقافة العالمة، وبالرغم من حجمها الديموغرافي (500 مليون أوربي) الذي تتفوق فيه على الولايات المتحدة. لا يفسر مارطيل هذا الغياب بافتقاد أوربا للانسجام اللغوي وهو بعد مركزي في إنتاج الثقافة، بل بكون أن أوربا تفتقد إلى وعي بقدراتها الثقافية الهائلة ورغبتها في أن تصبح قوة فعالة في ثقافة الماينستريم، عوض الاقتصار على اتخاذ مواقف رافضة ومنتقدة لهذه الثقافة.
يعتبر هذا الجانب من أطروحة الكتاب الأقل إقناعا في الوقت الذي ظل يشكل الخلفية المركزية لهذا المشروع الضخم. فالكتاب ينطلق من وجود وحدة ثقافية أوربية كمُسَلَّمة، بالرغم من أنها تمثل مجموعة من الدول ذات خصائص لغوية وثقافية وتاريخية متميزة عن بعضها البعض، وغير متكافئة في حجمها ومجالات نفوذها على المستوى القاري. ولعل حماس الكاتب الواضح لأوربا الموحدة منعه من أن ينهج نفس المقاربة التي اتبعها في معالجته للمراكز الإقليمية الصاعدة خارج أوربا، فهو اعتبر أن هذه المراكز لا تعبر عن وحدة ثقافية منسجمه، بقدر ما تُبرز صعود شركات قوية في مجال الثقافة ذات انتماء وطني بالأساس، تستفيد مما توفره لها إمكانيات دولها الوطنية، وتوظِّف في نفس الوقت الخصائص الثقافية لقاراتها وجهاتها من أجل انتشارها خارج هذه الحدود. وعلى عكس تجاهله للاختلافات التي تميز واقع أوربا، فهو أثار الانتباه بالنسبة للمراكز الجديدة لإنتاج الماينستريم في كل من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا إلى العراقيل التي تواجهها هذه الصناعات الثقافية الصاعدة بسبب مواقف الدول القطرية في حماية خصائصها المتميزة، وبسبب التوترات المتوارثة تاريخيا بين هذه الدول على المستوى الثقافي.
يبرز من خلال فصول الكتاب أن قوة ثقافة الماينستريم الأمريكية تكمن بالأساس في قدرتها على أن تتخطى هذه الحسابات القومية والوطنية والجهوية، وأن تظهر كثقافة مشتركة لعالم متنوع الأعراق والأديان والجنسيات، أي كثقافة لعالم معولم فعلا، وأن الشركات الأمريكية توظف لإنجاز هذا الغرض، بالإضافة إلى إمكانياتها المادية والتكنولوجية الضخمة، التنوع العرقي والثقافي لمواطني الولايات المتحدة الذين يهاجرون إليها من مختلف بلدان العالم. يتجنب مارطيل تقديم قراءة نقدية لهذا الموضوع، بالرغم مما يظهر من نقد مبطن للوضعية القائمة. فهو في الوقت الذي لا يخفي إعجابه بالمنجزات المبهرة لثقافة الماينستريم الأمريكية في قدرتها على أن تصبح كونية، وثقته في قدرتها على أن تحافظ على هذا الموقف المتميز في المستقبل، يصر على الدفاع عن ضرورة أن تلعب أوربا دورها في هذا المجال. ولا يبدو أن هذا الإصرار يعبر عن انتقاد لنقص ما يكمن في ثقافة الماينستريم باعتبار مثلا أنها غير تعددية كما تدعي، أو أنها تغيِّب أوربا كمكون للثقافة الكونية، بقدر ما هو تعبير عن حسرة لكون أن الشركات الثقافية الأوربية تبقى محرومة من نصيبها من كعكعة سوق ثقافة الماينستريم هاته. تدفعني لهذا الاستنتاج إشارة الكاتب في مقدمة مؤلفه إلى اللقاء المقتضب الذي جمعه في نادي جامعة هارفارد بهانتغتون، صاحب أطروحة صراع الثقافات. في رده على هذه الأطروحة التي تنطلق من أن ثقافات العالم تعيش في حالة صراع واصطدام، يعتبر مارطيل أن الماينستريم تمثل مزيجا مقبولا من حضارات متنوعة تتعايش في انسجام سواء كان مصدرها أمريكا أو المراكز الناشئة المقلدة لأمريكا. إن الماينستريم الذي نعيشه كواقع هو النقيض للصراع الذي تصوره هانتغتون من برجه العاجي بجامعة هارفارد، وبدون أن يقوم بالبحث الميداني الذي يُظهر حسب مارطيل، واقع تعايش الثقافات والحضارات.
لا يقتحم مارطيل محتوى هذه الثقافة ولا يسعى إلى أن يتعمق في تحليلها. ستكون المهمة تعجيزية إن نحن طالبناه بتطبيقها على الكم الغزير من إنتاج الماينستريم على المستوى العالمي الذي يصفه الكتاب. لكننا يمكننا الإحالة على أطروحات متضاربة في مقاربتها للموضوع. إحداها، أطروحة الامبريالية الثقافية، والتي تعتبر أن الماينستريم لا تمثل ثقافة التنوع الحضاري العالمي بقدر ما تعكس الهيمنة الاقتصادية للشركات الأمريكية على المستوى العالمي، وتسخيرها للثقافة كأداة إيديولوجية في خدمة هذه الهيمنة وإعادة إنتاجها. يشير مارطيل باقتضاب إلى هذه الأطروحة، ولكنه يستبعدها بسرعة وبدون نقاش، ويعتبرها، كما فعل مع أطروحة هانتغتون، لا تعكس الواقع الميداني. هناك أيضا الأطروحات التي أبرزت كون أن ثقافة الماينستريم لا تقدم خلطة منسجمة من ثقافات العالم تتعايش بسلام، ولكنها كما هو الأمر في حالات صورة العرب في هوليود مثلا، تنسج صورا مشوهة لا تستجيب لخدمة السوق، بقدر ما أنها توظف لخدمة مشاريع سياسية بل وحتى عسكرية.
لا يغيِّب مارطيل البعد السياسي تماما، بل هو يشير إليه في معرض حديثه عن فكرة القوة الناعمة لصاحبها جوزيف ناي، عالم السياسة الأمريكي، والتي تعتبر أن قوة ثقافة الماينستريم الأمريكية، المكون الأساسي للقوة الناعمة، تشكل أداة أكثر فاعلية في خدمة المصالح الأمريكية من القوة الصلبة، قوة السلاح. لا يناقش مارطيل هذه الأطروحة بالرغم من أنها في حاجة إلى التدقيق. إذ من جهة، ليس هناك اختلاف في نجاح القوة الناعمة الأمريكية على المستوى التجاري، والتي بالرغم من أنها تكون معرض انتقادات شديدة اللهجة على مستوى الخطاب في بضع مناطق العالم خلال فترة الحروب والأزمات كما هو الأمر بالنسبة للمنطقة العربية، إلا أن مبيعاتها لا تتأثر سلبيا بذلك. يظهر ذلك بشكل واضح في محدودية حملات مقاطعة البضائع الأمريكية في المنطقة العربية التي تنتشر بين الفينة والأخرى، والتي تكون قصيرة الأمد وتعجز في أن يكون لها أي مفعول تجاري يذكر. لكن من جهة أخرى، فإن هذا النجاح التجاري لا يضمن موقفا سياسيا إيجابيا من السياسة الأمريكية، بل إن الوضع يبدو كما لو أن هناك استقلالية بين البعدين، القبول باستهلاك الثقافة الأمريكية، المادية منها والإبداعية، والحفاظ مع ذلك على موقف التنديد والشجب والمعارضة للسياسة على مستوى القناعات المبدئية.
إن قضايا الكتاب بالرغم من أنه حديث الصدور، 2010، إلا أنها تظهر اليوم كما لو أنها تعيش سياقا مختلفا، في خضم الأزمات المالية التي يعيشها العالم بصفة عامة، والاتحاد الأوربي بصفة خاصة. تبدو الآن الوحدة الثقافية الأوربية التي يدعو إليها مارطيل بحماس، أبعد عن التحقق من أي وقت مضى. بل إن الأزمة الحالية عرَّت عن خلافات ثقافية وتاريخية بين البلدان الأوربية ظل المتحمسون للوحدة يستبعدونها ويضحون بالخوض فيها في سبيل الإسراع بتحقيق الوحدة. ولعل التصور السائد كان (ولا يزال) هو أن التقدم الاقتصادي الذي وعدت به فكرة الوحدة الاقتصادية وما بشَّرت به من عائدات مادية سيجنيها الأوروبيون الموحَّدون، سيكون هو ثمن التضحية بحماية خصوصيات الدول القطرية الأوربية. يطرح السياق الجديد تحدِّيا معقدا على طموح مارطيل في تشكُّل مركز أوربي موحد أو منسجم لإنتاج ثقافة الماينستريم. إن الأزمة القائمة الآن تبرز من جهة أن تعثر الوحدة الأوروبية في توفير النمو الاقتصادي والشغل قادر على أن يهدد مصير هذه الوحدة. تبرز من جهة ثانية أن البعد الثقافي في هذه الوحدة لا يشكل إلا عاملا ثانويا لا يستطيع الصمود لوحده في غياب المنجزات الاقتصادية.
إن هذه الملاحظة تبرز الواقع الذي فضل مارطيل تجنبه، هو حصر البعد الثقافي الأوربي وأيضا عملية تبلور مراكز ماينستريم على مستوى الأقطار الأوربية بشكل يبدو حقيقة معاشة أكثر من تصور لمستقبل قوة ثقافية أوروبية على مستوى قاري موحد. هذا التصور الحلم، الذي يصر مارطيل عليه، يبدو بعيدا عن الواقع الذي يعرفه العالم، والذي نعاينه من موقعنا في المغرب كنموذج مثالي للدول الغائبة عن الساحة الثقافية الدولية. إذ أن ما نعاينه في فضاءاتنا الثقافية ليس حضورا ثقافيا أوربيا موحدا بقدر ما هو برامج ثقافية ولغوية تسعى لدعم المصالح الإستراتيجية لكل دولة قطرية على حدة. يبرز فيه العالم الفرانكوفوني كمجال جغرافي متميز عن فضاء أوربا السبع والعشرون، والتي ليس لمعظمها أي وجود يذكر في واقعنا الثقافي المعاش.
أختم بملاحظة كشاهد ينتمي لهذه الدولة الغائبة. إنني أفاجئ لكون أنني، ولعل غيري كثر، على دراية بنماذج ثقافة الماينستريم في مجال السينما والموسيقى بالخصوص التي يحيل إليها مارطيل. لكن بالمقابل، فإن حضور الثقافة المغربية في الخارج يكاد يكون منعدما، وهو يقتصر في أكثر الحالات تألقا على اختيار فيلم مغربي للمشاركة في مهرجان دولي، أو دعوة مغربي أو مغربية للغناء بجانب نجم دولي، أو نشر كتاب لمؤلفين مغاربة نادرين من طرف دار نشر عالمية. إن كتاب مارطيل يساعدنا أن نفهم هذا الواقع الثقافي العالمي الذي نستهلكه بدون أن نساهم فيه، كما أنه يدعونا، وكما فعل بالنسبة لأوربا، أن نطرح الأسئلة التي لم نطرحها بعد، على الخيارات الممكنة لتحديد موقعنا ودورنا الثقافي في عالم يبقى قطريا، بالرغم من تراجع الحدود السياسية التي تحمي الخصائص الثقافية للدول التي تشكله.