هانس كوكلر، العدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق: عدالة عالمية أم انتقام شامل؟ ترجمة: محمد جليد. الدار البيضاء: طوب إديسيون، 2011.
يتمحور التأمل الفلسفي الذي يقدمه لنا الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر، في كتابالعدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق: عدالة عالمية أم انتقام شامل، حول مفاهيم تكتسي أهمية بالغة اليوم مثل مفهوم القضاء العالمي، وسيادة القانون على الصعيد الدولي والعدالة الجنائية الدولية، الخ. وبالقدر ذاته، يتناول الرهانات والتحديات التي تواجه النظرية القانونية أثناء معالجة قضايا الصراعات العسكرية والجرائم الدولية والإرهاب الدولي. ذلك أن اهتمام الكاتب يتركز، في المقام الأول، حول التفكير في الأسس القانونية والفلسفية للعدالة الجنائية الدولية، وكيفية تطبيقها في سياق دولي يتسم، في واقع الأمر، بطغيان موازين القوة، وتغليب المصلحة السياسية والاقتصادية على تعايش الشعوب والاحترام المتبادل بينها. إذ يغدو الطرح الإشكالي، في هذا الكتاب، مصوغا على الطريقة الآتية: هل يمكن تطبيق القضاء العالمي عموما، وفكرة العدالة الجنائية الدولية خصوصا، في سياق دولي تطغى عليه سياسة القوى والمعايير المزدوجة؟ وما هي إمكانيات سيادة القانون على الصعيد الدولي في ظل تشبث المجتمع الدولي بمفهوم سيادة الدولة وإعطاء الأولوية للمسؤولية الفردية، وكذا رفض الفصل التام بين السلط؟
قبل الإجابة عن هذا الإشكال العريض لا بد من الإشارة، باقتضاب شديد، إلى المقاربة المنهجية التي اعتمدها كوكلر في هذا الكتاب. لقد تأسست هذه المقاربة على شقين أساسيين: اقتضى الشق الأول الاعتماد، أساسا، على تقنية الوصف. إذ تروم هذه التقنية، من جهة أولى، عرض المراحل التاريخية التي شهدها تطور الموضوع المبحوث؛ أي تقديم وصف شامل لمسارات القانون الدولي العام، وليس العدالة الجنائية الدولية فحسب، منذ أول محاولة مباشرة لتطبيق العدالة على الصعيد الدولي، أي غداة الحرب العالمية الثانية، مع تجربة محكمتي ‘نورنبورغ’ و’طوكيو’. كما تسعى، من جهة ثانية، إلى التعريف بالمراجع والمصادر والوثائق الأساسية، التي تتشكل من الترسانة القانونية، وخطابات السياسيين، ومراسلات القضاة والمحامين والمحللين، والتي اعتمدها الكاتب خلال تحليل موضوعه.
أما الشق الثاني من هذه المقاربة، الذي يمكن أن نطلق عليه ‘تقنية التحليل’، فيقوم أساسا على تحليل مختلف القراءات المنجزة، سواء في المتن القانوني الخاص بهذا الموضوع، أو في جهازه المفاهيمي المخصوص، وعلى تأويل الأحكام والأقوال وردود الأفعال والقراءات والتفسيرات والانتقادات الناتجة عن مختلف تجارب العدالة الجنائية الدولية، بدءًا بالمحاكم العسكرية ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرورا بمحكمة ‘لوكربي’، وانتهاء بمحكمتي يوغوسلافيا ورواندا. كما يتأسس هذا الشق المنهجي الثاني على طرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية، سنتطرق لجزء كبير منها في هذا العرض، وهي تشكل خاتمة مبحث أو مستهل مبحث آخر. من هنا، يسعى الكاتب، وهو يتناول هذا الموضوع الشائك، باعتماد هذه المنهجية، إلى وصف واقع عالمي أساسه العدالة الجنائية، وتحليل تطبيقاتها على أرض هذا الواقع، بحيث تكون الغاية من هذا العمل الفلسفي كشف مكامن الزيف والادعاء فيها من خلال مقارعة المصلحة السياسية والاقتصادية بالحجة القانونية والفلسفية.
لنعد الآن إلى الإشكال العام الذي يطرحه الكاتب: كيف يمكن تخطي مصالح الدولة لإحقاق العدل في قضايا جنائية دولية شائكة؟ أو كيف يمكن إقامة “توازن خالص بين مطالب متنافسة”، على حد تعبير ‘جون رولز’، بعيدا عن تأثيرات سيادة الدولة، وعن اعتباراتها السياسية والإيديولوجية، وبمعزل عما يسميه المؤلف بـ’سياسات القوى’؟ للإجابة عن هذا الطرح الإشكالي يدعونا ‘هانس كوكلر’، منذ البداية، إلى ضرورة الوعي بالعلاقة الشائكة بين القانون والسياسة. وهنا يغدو الإشكال مباشرا، حيث يتحول السؤال إلى صيغة أكثر بساطة، لكن أكثر عمقا: ما السبيل إلى تكريس القانون بعيدا عن مناورات السياسة ومصالحها الحيوية؟
يقتضي التأمل الفلسفي في حقائق القضاء العالمي، وتجاربه التاريخية، طرح أسئلة فرعية تتمحور حول الأسس القانونية والمقتضيات العرفية، التي ستساعد على إرساء تصور عام للقضاء العالمي قابل للتطبيق، مع حفظ السيادة الوطنية، وفي ظل وجود سياسة القوى، التي يبدو أنها لن تندثر، على الأقل في الأفق المنظور، من ساحة الفعل السياسي العالمي. هكذا، فإن الأسئلة التي يصوغها ‘كوكلر’ حول هذه الوضعية الشائكة تأتي كما يلي: كيف يكون فصل السلط- وهو المبدأ الضروري ليؤدي النظام القضائي وظيفته بطريقة مثلى- ممكنا في سياق دولي يستدعي حفظ السيادة الوطنية؟ وكيف يمكن صون استقلال القضاء العالمي في ظروف تحظى فيها سيادة الدولة بمنزلة سامية؟ وهل تعتبر الدولة العالمية، في نهاية المطاف، الإطار الوحيد الممكن لنظام قضائي عالمي قادر على أداء وظيفته بشكل تام؟ وكيف يمكن حل مشكلة التمييز في تطبيق القانون الدولي عندما تتأثر مصالح الدول تأثرا مباشرا بسبب التأكيد على الإجراءات القضائية؟
في إجابته عن هذه الأسئلة، يتوقف ‘هانس كوكلر’ عند مختلف تجارب العدالة الجنائية الدولية، حيث يرصد مظاهر ليّ عنق القانون الدولي، التي تفرضها تحولات السياسة العالمية، خاصة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي. إذ إن ما يحول دون سيادة القانون على الصعيد الدولي عموما، حسب رأي ‘كوكلر’، هو القرب البنيوي لملفات قضائية تهم، على الخصوص، جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية من مصالح الدولة العليا، أو من المصالح الشخصية لقادة بعض الدول. ومن هنا، يشكل عدم الفصل التام بين المقتضيات القضائية والحساسيات السياسية المأزق الحقيقي والخطير، الذي يواجه العدالة الجنائية الدولية.
يكمن المثال الأبرز لهذا المأزق، وهذا التنافر بين المقتضيات القانونية وسياسات الهيمنة الدولية وانعكاساتها الوخيمة على سيادة القانون على الصعيد الدولي، وعلى الديمقراطية الدولية عموما، في سوء التدبير المقصود لقضية تفجير طائرة ‘بانام 103’ فوق مدينة ‘لوكربي’ الاسكتلندية سنة 1988، وهي القضية التي شهد الكاتب فصولها القضائية، بوصفه ملاحظا دوليا فيها، وأفرز لها الحيز الأكبر من كتابه. إذ يبني الكاتب، على ضوء هذه القضية الشائكة، نظرته في فلسفة القانون إلى الثنائية المتنافرة (قانون- سياسة)؛ ذلك أن الحكم النهائي في ‘قضية لوكربي’ بني، كما يقول ‘كوكلر’، على حجة ضعيفة وغير منسجمة، مفادها أن المتهمين نقلوا حقيبة محملة بقنبلة من مطار مالطا، عبر فرانكفورت، إلى مطار لندن، ومنه إلى الطائرة المستهدفة. ودون الغوص في تفاصيل عملية التفجير، يعتبر الكاتب أن المحاكمة أديرت مثلما تدار عملية استخباراتية، حيث حضرت في جلساتها أطراف من الحكومات المتنازعة، إما إلى جانب الادعاء العام، أو إلى جانب هيأة الدفاع. وانتهت نتيجة هذا التمرين المعقد في العدالة الجنائية الدولية بين ثلاثة دول هي ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى إدانة مسؤول ليبي، يعتبره الكاتب كبش فداء تمت التضحية به في جريمة لم تتضح معالمها خلال المحاكمة نفسها.
ينبغي أن ننتبه هنا أن الكاتب لا يصدر حكما يدين هذا أو ذاك، وإنما يصدر عن النصوص القانونية، وينطلق من مقارعة الحجة بالحجة، ليثبت ما أطلقنا عليه آنفا ليّ ذراع القانون من أجل حماية المصالح الذاتية، أو الحفاظ على مصالح الحلفاء. وما يهمنا هنا، من حالة ‘لوكربي’، ومن باقي الحالات القضائية مثل محكمة يوغوسلافيا أو رواندا، أو الغرف الاستثنائية لمحاكمة الخمير الحمر، أو المحاكم العسكرية أو الخاصة الأخرى، هو أن صك الاتهام يقوم دائما، حسب رأي ‘كوكلر’، على حجة ظرفية، أو على أقوال شهود مشكوك في مصداقيتهم، مثلما هو الأمر في حالة ‘لوكربي’ التي قامت فيها الحجة على نظرية انتقال حقيبة من دون صاحبها عبر ثلاثة مطارات دولية، وعلى شهادة تاجر مالطي تلقى ثلاثة ملايين دولار أمريكي من وكالة استخبارات أجنبية.
ويرصد الكاتب مظاهر إملاءات سياسات القوى الدولية في التجارب القضائية، التي تلت محاكمة ‘لوكربي’، خصوصا في المحكمة الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن في يوغوسلافيا. إذ يخلص ‘كوكلر’ إلى أن مشكلة القضاء العالمي تظل قائمة، حتى في ممارسة مجلس الأمن، باعتبار أنه أدخل، بتأسيسه هذه المحاكم في حالات معينة ورفضه ذلك في حالات أخرى، نوعا “من الاعتباطية والفوضى القانونية في نظام العلاقات الدولية. كما قوض المجلس القضاء العالمي، بمحاولته ممارسة نوع من المراقبة السياسية- وإن كانت بطريقة غير مباشرة- على المحاكم الخاصة التي تأسست من خلال قرارات صادرة بموجب الفصل السابع [من ميثاق الأمم المتحدة]”(ص187). هكذا، عندما تصرف مجلس الأمن باعتباره ضامنا وحاميا للعدالة، وكمنشئ محاكم جنائية خاصة، فإنه عرض مشروعية قضايا العدالة الجنائية الدولية للخطر، لأنها لا تخضع، في واقع الأمر، للمقتضيات القانونية، وإنما للعامل السياسي والمصلحة الوطنية الخاصة بالأعضاء الدائمين في المجلس.
في هذا السياق، يعتبر هانس كوكلر إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ثورة حقيقية في نظام القانون الدولي المعاصر عموما، وخطوة نوعية مهمة في تاريخ العدالة الجنائية الدولية خصوصا، مقارنة بالتجارب القضائية السابقة لها، وبالنظر إلى النواقص الخطيرة، التي تعيب ممارساتها. إذ نشأت، لأول مرة في تاريخ القانون الدولي، هيأة قضائية دائمة ومستقلة تعنى، من الناحية النظرية على الأقل، بممارسة القضاء العالمي بعيدا عن القيود التقليدية، التي كانت مفروضة على المحاكم الوطنية، أو الدولية الخاصة. لكن السؤال الجوهري المطروح في هذا الباب يظل هو: هل تشكل هذه المحكمة الدولية تحولا أنموذجيا في القانون الجنائي الدولي؟ وهل تستطيع هذه المحكمة أن تتجاوز مفهوم السيادة الوطنية وعناصر المصالح نحو اختصاص قضائي فَوْقوطني؛ أي أن تزاول اختصاصها بمعزل عن إملاءات سياسات القوى؟
هنا يتوقف المؤلف أيضا، ليرصد أسباب عجز المحكمة عن القيام بدورها القضائي، بعد أن يستعرض مختلف مسائل الاختصاص، اعتمادا على بنود قانون روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية الموقع سنة 1998، والذي دخل حيز التنفيذ خلال سنة 2002، إذ يعتبر ‘كوكلر’ أن حصول المحكمة على الحجة الكافية لإجراء المحاكمات القضائية، وكذا السماح لها بإجراء تحقيقات قضائية، يعتمد بالأساس على قرارات سياسية، أي ارتهان المحكمة بمفهوم السيادة. بل إن المحكمة تصير رهينة سياسات القوى، طالما أن قانون روما يفرض عليها اللجوء إلى مجلس الأمن، أو جمعية الدول الأطراف، في حالة عدم التعاون معها. وهو ما يجعل سلطة المحكمة رهينة سياسات القوى داخل مجلس الأمن، أو رهينة اعتبارات السياسة الخارجية للدول الأطراف في المحكمة.
ورغم أن الكاتب يعترف أن المحكمة واقعة، لا محالة، في هذا المأزق القانوني، الذي يفرض تناول السلطة على أساس الإحالة إلى مجلس الأمن أو جمعية الدول الأطراف فيها، إلا أنه يعتبرها “الاختيار الأفضل لممارسة القضاء العالمي، حيث لا مناص من توافقات سياسات القوى داخل نظام تحدده دول- أمم ذات سيادة، تنتظم بشكل مفكك داخل منظمة الأمم المتحدة.”(ص205). وعلى الرغم من هذه القيود التي يفرضها قانون روما على المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه يبقى، في نظر ‘كوكلر، “الشكل الأقرب إلى سيادة القانون على الصعيد الدولي”(ص206)، لأنه بخلاف القوانين المنظمة للمحاكم العسكرية والخاصة السابقة، نابع من اتفاق رسمي بين حكومات متعددة، ولأنه يجعل المحكمة تعتمد قراراتها بشكل ديمقراطي بين أطراف متساوية لا تخضع لسلطة حق ‘الفيتو’، الذي يتمتع به الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن. فضلا عن هذا، يمنع هذا القانون مجلس الأمن، من الناحية النظرية على الأقل، تأسيس محاكم خاصة أخرى، مثلما يمنع بعض المحاكم الوطنية، كالمحكمة البلجيكية أو الإسبانية، من مزاولة الاختصاص القضائي العالمي.
غير أن هذا الحافز القانوني يطرح تحديا كبيرا على المحكمة الجنائية الدولية، خاصة فيما يتعلق بقدرتها على إصدار أحكام تختلف عما يسميه الكاتب بـ’عدالة المنتصرين’، وعلى ممارسة اختصاصها القضائي، دون أن يكون لذلك انعكاسات على الاستقرار السياسي في بلد ما، أو في ظروفه الأمنية، أو على استقرار المنطقة المحيطة به. هذا التحدي يكمن أساسا في إشكالية التغلب على ما يسميه المؤلف بـ’التنازع البنيوي’ بين سياسات القوى القائمة على سيادة الدولة، والقضاء العالمي الذي يطالب بعدالة غير انتقائية. من هنا، يتمحور السؤال الجوهري، في المقام الأول، حول إمكانيات مزاولة الاختصاص: فهل يستطيع مسؤولو المحكمة تحدي الحكومات الوطنية، وبالخصوص حكومات الدول غير الأطراف أثناء ممارسة القضاء؟ وكيف يمكن للمحكمة تأكيد سلطتها القضائية في قضايا النزاعات المسلحة باستقلالية دون انتقائية أو تحيز؟
للإجابة عن هذا الإشكال، لا بد من الاعتراف بأن المسألة لا ترتبط بأبعاد نظرية في القانون الدولي، لكنها تتصل، في الدرجة الأولى، بأبعاد نفسية وأخلاقية تفترض في المسؤولين عن المحكمة كفاءة علمية عالية، وأخلاقا حميدة، وشخصية مستقيمة تنأى بنفسها عن الرغبة في الانتقام، أو الارتشاء، أو التحيز والانتقائية، أو الظلم والجور، الخ. لا بد كذلك من التأكيد على ضرورة تحقيق تعددية داخل تركيبة المحكمة تسمح بتوفر تمثيلية جغرافية وثقافية متوازنة، مثلما تسمح بوجود سلوك مستقل بين موظفي المحكمة قد يدرأ التقاضي على أساس انتقائي، ويمحو الخط الفاصل بين المنتصر والمنهزم، ويتجاوز ‘الحقائق الميدانية’، التي تخلقها المواجهات العسكرية، إلى ‘الحجة الدامغة’، أو ‘الدليل القاطع’ الذي يقطع الشك باليقين في الجريمة الدولية. كل هذه الأبعاد النفسية والأخلاقية تساهم، إلى جانب الأبعاد القانونية، في قيام القضاء العالمي على أسس الموضوعية والنزاهة والشفافية والعدل.
ومع ذلك، فإن مزاولة الاختصاص القضائي العالمي يصطدم، خصوصا في مجال الجريمة الدولية، بعوائق تعريف بعض المفاهيم الأساسية مثل ‘جرائم الحرب’، ‘جرائم الإبادة’، ‘الجرائم ضد الإنسانية’، ‘جريمة العدوان’، ‘الإرهاب’، الخ. فبالرغم من أن معاهدات ‘جنيف’ وملحقاتها وبروتوكولاتها تقدم تعريفات واضحة في هذا المجال تتفق عليها أغلب الدول الأطراف، إلا أن مشكلات التعريف هذه ما تزال تؤرق المهتمين بالقضاء العالمي، باعتبار أن تطور تكنولوجيا الأسلحة والمناهج الحربية، وظهور الحروب النووية جعلا القيود المفروضة على استعمال القوة مثلا عتيقة ومتقادمة. ذلك أن الواقع اقتضى، كما تقول ‘آنا أريندت’، “أن يعرف الجميع مع نهاية الحرب العالمية الثانية أن التطورات التقنية الحاصلة في وسائل العنف جعلت اعتماد حرب ‘جنائية’ لا مناص منها. إن التمييز بين الجندي والمدني، والجيش والساكنة المحلية، والأهداف العسكرية والمدن المكشوفة، الذي قامت عليه تعريفات معاهدة لاهاي لجرائم الحرب، هو الذي أصبح متقادما.”1
للخروج من هذه المعضلة، كان على ‘كوكلر’ أن يتساءل أيضا: هل ينبغي أن تكيف أعراف القانون الجنائي الدولي مع المستجدات التي يخلقها تطور تكنولوجيا الأسلحة، وكذا حقائق الحرب على ساحة القتال؟ أم لا بد من التوفيق بين المبادئ الإنسانية، لتخدم حاجات عسكرية تنشأ عن تكنولوجيا الأسلحة الجديدة؟ أم ينبغي أن يحصل العكس؛ أي أن تكيف تعريفات الجرائم الدولية بطريقة تدمج مناهج وتقنيات حربية جديدة؟ ألن يكون مشروع المحكمة الجنائية الدولية فارغا من محتواه القانوني والقضائي إذا لم تشمل تعريفات الجرائم استعمال أسلحة الدمار الشامل- كالأسلحة النووية الأكثر فتكا بالإنسانية؟
تشكل هذه الأسئلة المقلقة، حسب رأي ‘كوكلر’، المحك الحقيقي الذي يختبر مصداقية مشروع القضاء العالمي برمته. ذلك أن استثناء استعمال أسلحة الدمار الشامل من ‘أركان الجرائم” سيعرض مشروعية المحكمة الجنائية الدولية للخطر، كما سيجعلها غير مجدية، وغير ذات معنى. إن هذه الأسئلة مشروعة، كما يقول ‘كوكلر’، بحيث أن القانون لا يكتسي أيّ معنى إلا إذا كان يدعم أعرافا كونية غايتها تقويم سلوك الإنسان، لا العكس.
وإذا صرفنا النظر عن هذا العائق النصي/ الذاتي المتخفي بين بنود قانون ‘روما’ المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، فإننا سنجد أن ثمة عائقا موضوعيا يتمثل في التعارض البيّن بين المصالح الوطنية للدول النووية وغير النووية، الذي دفع العديد من الدول إلى عدم التوقيع والمصادقة على قانون المحكمة. وهو تعارض تجسد في الاختلاف حول تأويل بنود القانون المذكور، بين من يتحفظ على الإشارة الصريحة إلى استعمال الأسلحة النووية ضمن ‘أركان الجرائم’، مثل فرنسا التي قدمت تحفظا ضمنيا في صيغة ‘إعلان تأويلي’، وبين من يصر على تضمين القانون تجريم استعمال الأسلحة النووية خلال النزاعات المسلحة، مثل مصر التي أصدرت ‘إعلانا’ حول ضرورة ورود استعمال أسلحة الدمار الشامل ضمن تعريفات المادة الثامنة من قانون ‘روما’.
إلى جانب هذا التعارض، يمثل قانون حماية الجنود الأمريكيين (الصادر سنة 2002) عقبة أخرى أمام المحكمة الجنائية الدولية أثناء مزاولة الاختصاص القضائي. ذلك أن هذا القانون يروم حماية الجنود الأمريكيين من أية متابعة قضائية، أو أي شكل من أشكال التقاضي الأخرى، سواء خلال إدارة العمليات العسكرية خارج الحدود الأمريكية أو حتى بعد انتهاء الحرب. هكذا، يشكل هذا القانون، حسب رأي ‘كوكلر’، تناقضا صارخا مع المبادئ القضائية السامية، التي يروم المجتمع الدولي تحقيق الإجماع حولها؛ سواء تلك التي ينص عليها قانون ‘روما’، أو تلك التي تضمنتها المعاهدات والاتفاقات السابقة له. لا بد من الاعتراف هنا أن ‘كوكلر’ يجعلنا نقف عند أكبر الفضائح الأخلاقية في السياسة العسكرية الأمريكية، حيث يجدر بنا أن نذكر بعض جوانبها من خلال الإشارات المقتضبة الآتية:
- 1.يحرم قانون حماية الجنود الأمريكيين تقديم الدعم العسكري لكل الدول التي وقعت على قانون ‘روما’ المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، باستثناء الأعضاء في حلف الشمال الأطلسي وباقي الحلفاء من خارج الحلف مثل تايوان. ولا يرفع هذا المنع إلا إذا قرر الرئيس الأمريكي أن المصلحة الأمريكية تقتضي ذلك.
- 2.لا تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في مهمات حفظ السلام إلا إذا حصلت من مجلس الأمن على التزام بعدم متابعة الجنود الأمريكيين أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو في حالة لم تكن الدول المشاركة في هذه المهمات غير موقعة على قانون ‘روما’، أو أطرافا في المحكمة.
- 3.يمنع قانون حماية الجنود الأمريكيين المحاكم الأمريكية من كافة أشكال التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. ويمنع تسليم أي أمريكي للمحكمة الجنائية الدولية، مثلما يمنع إجراء جميع أصناف التحقيقات لصالح هذه المحكمة فوق الأراضي الأمريكية.
- 4.يتيح قانون حماية الجنود الأمريكيين للرئيس الأمريكي صلاحية ‘استعمال كل الوسائل الضرورية والمناسبة’ لإطلاق سراح الجنود الأمريكيين، أو الأفراد المعتقلين من عناصر الحلفاء، المسجونين بطلب من المحكمة الجنائية أو نيابة عنها.
- 5.فضلا عن أشكال المنع هذه، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجبار مجموعة من الدول على إبرام مجموعة من الاتفاقيات الثنائية تروم عدم تسليم الجنود الأمريكيين المتورطين في جرائم جنائية دولية إلى المحكمة الجنائية الدولية.
أمام هذا الواقع الذي يروم تحصين الجيش الأمريكي من أية متابعة قضائية، تتقلص حظوظ نجاح المحكمة الجنائية الدولية التي لا تعترف بأي شكل من أشكال الحصانة لفائدة رؤساء الدول والموظفين العسكريين، خاصة عندما لا تلتزم أقوى دولة الحياد، بل إنها تحشد اللوبيات، وتوقع الاتفاقيات الثنائية قصد عرقلة سيادة القانون على الصعيد الدولي. إذ يكمن التحدي التاريخي المطروح على المحكمة في الوقت الراهن في ترويض سياسات القوى، التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الكبرى. لكن حدّة هذا التحدي قد تخفّ، إذا استغلت المحكمة الجنائية الدولية الرغبة الجماعية، التي تعبر عنها مصادقة عدد كبير من الدول (90 دولة إلى حدود ماي 2003) على قانونها الأساسي.
من هنا يجب التساؤل مع ‘هانس كوكلر’ عن الإجراءات العملية التي ينبغي أن تتخذ قصد القضاء على مظاهر تسييس العدالة الجنائية الدولية، خاصة التدخل السياسي في التحقيقات والمحاكمات، أو الحد منها على الأقل. تتبادر إلى الذهن، في هذا الباب، مجالات وتطبيقات وسياقات تنظيمية تطورت على مدى العقدين الأخيرين، من شأنها أن تساعد على تجاوز المشكلات البنيوية، التي تعوق ممارسة القانون الدولي عموما، والعدالة الجنائية الدولية خصوصا:
- على مجلس الأمن أن يتوقف عن إنشاء المحاكم الخاصة في المستقبل. إذ يجب على هذا المجلس، باعتباره الهيأة التنفيذية بالأمم المتحدة، ألا يزعم أنه الأجدر والأقدر على تدبير العدالة؛ ذلك أن العدالة الجنائية لا يمكن أن تزاول كوسيلة أمن جماعي بموجب ما تمليه أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بينما ترد إجراءات العدالة الجنائية في المادتين 41 و42 من الميثاق ذاته.
- يجب إنشاء مؤسسة كونية ودائمة غايتها تدبير العدالة الجنائية الدولية، حيث لا تشكل المحكمة الجنائية الدولية الحالية، في نظر المؤلف، سوى نموذجا صوريا لهذه المؤسسة. إذ ثمة خاصيتين تكتسيان أهمية بالغة هما: أولا، يجعل غياب العضوية الكونية الشاملة المحكمة عرضة للتدخل السياسي، بحيث أن مسؤوليها قد يتفادون، أثناء مزاولة ولاياتهم القضائية، تهميش المرشحين المحتملين لنيل العضوية فيها، أو إحراج الدول القوية الأطراف. ثانيا، ثمة مشكلة تنظيمية يتضمنها قانون ‘روما’ تكمن في ربط مزاولة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بسلطة مجلس الأمن الذي يكبل قدرة المحكمة على ممارسة اختصاصها القضائي بطريقة تساوي بين جميع الدول.
- لا بد من إعادة النظر في الإجراءات العملية الخاصة بالنزاهة والحياد والاستقلالية القضائية إذا كان يجب تحقيق غاية الحد من الأثر السياسي في الممارسة القضائية الدولية. إذ يجب ألا تمول كل عملية في مجال العدالة الجنائية الدولية، أو داخل المحاكم، إلا من مصادر تشرف عليها الدول الأطراف، التي أنشأت الإطار القانوني، أو ساهمت في إنشاء المحكمة، لا من مصادر خاصة، أو من دول معنية بمصلحة ما، أو من كيانات ذات انتماءات حكومية متعددة. كما يجب ألا ينحدر قضاة المحكمة ومسؤولوها من الدول المنخرطة أو المعنية بالنزاعات العسكرية، أو الصراعات السياسية.
- ينبغي على الدول، كبلجيكا مثلا، أن تتخلى عن ممارسة الاختصاص العالمي. ذلك أن المحاكمات الدولية في المحاكم المحلية تبقى دائما عرضة للتدخل السياسي، لأنها تتعارض مع مسار السياسة الخارجية والمصالح الحيوية للدولة/ أو الدول المعنية بالصراع/ أو التقاضي.
- أخيرا، وفيما يتعلق بمقتضيات فك الارتباط بين القضاء والسياسة، تبدو الضمانات القانونية والدستورية الخاصة بالاستقلالية القضائية (التي ينبغي أن يتمتع بها القضاة والنواب العامون) غير جديرة بالاهتمام إذا كان المسؤولون محكومون بالخوف من نتائج سير واجباتهم المهنية في عالم تحكمه سياسات القوى الدولية، وكذا المصالح الاستخباراتية، واللوبيات السياسية، والمجموعات المصلحية، التي تتداخل مع عملهم.
خلاصة القول، إن الجهود التي تروم التخلص من التأثير السياسي في مجال العدالة الجنائية الدولية، يعوقها كذلك عدم الانسجام الحاصل في مجال تأويل القواعد والضوابط الخاصة بالاختصاص. هذا الجانب يتمحور حول تأويل وتطبيق الاختصاص القضائي داخل مجال نظام قانون دولي يشدد على المساواة في السيادة وعدم التدخل، وكذا المبادئ التي يجسدها ميثاق الأمم المتحدة. إذ ثمة مفارقة غريبة، كما يقول ‘هانس كوكلر’، عندما يتعلق الأمر بمزاولة حقوق التحقيق والمحاكمة المرتبطة بالجرائم الدولية.
إن الدول الفردية قد تأخذ على عاتقها تنفيذ مبدأ التقاضي على الصعيد الدولي، الذي لا يعترف بوجود الحدود في السلطة القضائية في حالات الجرائم الدولية، لكن ذلك قد يشكل خرقا لمبدأ السيادة بين الدول، وقد يسبب توترات ونزاعات دبلوماسية. إذ لا محيد عن القول إن ‘الفوضى القضائية’ الناشئة عن ممارسة الدول الاختصاص العالمي، على حساب الإنسانية، تلغي مقاضاة الجرائم الدولية في المحاكم الدولية. لا شك أن الشروط الخمسة التي يقترحها الكاتب أعلاه للحد من الامتداد السياسي في مجال القضاء العالمي، تتعارض مع واقع الهيمنة الإمبريالية في الظروف الراهنة على الأقل. فهي تقوم على مقولات تتناقض مع مصالح الماسكين بزمام السلطة التنفيذية، خاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. يجب أن تكون العدالة العالمية، لا الانتقام الشامل، بمثابة الخيط الناظم في كل الجهود التي تروم الحفاظ على السلام العالمي وقيام الديمقراطية العالمية، بناءً على سيادة القانون على الصعيد الدولي. وما لم يكن هذا هو الشرط الرئيس للعدالة الجنائية الدولية، كما يرى ‘هانس كوكلر’، فإن ممارسة الاختصاص القضائي العالمي ستبقى رهينة سياسات القوى الدولية.
الهوامش:
1- آنا أريندت، أيخمان في القدس: تقرير في ابتذال الشر. نيويورك