من أين ألج إلى رياض القوس والفراشة؟. من أي العتبات أتسلل؟. ثم ما الذي تحجبه؟. هل ثمة أشباح يحيلها عقل الأشعري على مملكة الصمت؟. مبعث هذه الأسئلة هو أن هذا الأثر الأدبي يمتاز بسماكة فنية رفيعة وسعة في المضامين وتنوع في العوالم المعرفية التي ينهل منها. فبراعة الحبكة وبهاء اللغة والقدرة على تطويع الزمن وسحر دفق السرد، مقومات جمالية تتعاضد مع غنى الإشكالات التي يثيرها. في بهوها تترنح الذوات الجريحة وتستعر الصراعات وتنزف الدلالات. تمتزج في صلبها روائح الموت بأريج حيوات شبقة1 وتنميقات العمران بركام الخراب وأنين النفوس المنكسرة بزئير النفوس الجشعة و أقبية الماضي بأرق وألق الحاضر. وفي طياتها تتواشج أنساغ الأدب و أوزار التاريخ و فضاءات الجغرافيا و التواءات السياسة وحيل الاقتصاد وعتمات النفس البشرية. ومن رحم الجمال تتخلق أسئلة مزعجة مضمخة بعبق ألم تجوهره نفحات الأمل. ثمة حرص على الموازنة بين العمق الذي تمليه الأطروحة وجمالية الكتابة أو فنيات الصياغة التي تقتضيها التجربة الروائية. فلا صبيب السرد يطفح ليلتهم المضامين السياسية والثقافية والإيديولوجية أو يخرس أصواتها، ولا الرؤى السياسية والإيديولوجية تخنق أنفاس السرد وتشوش على ترنيماته أو تغير هوية الأثر أو تهجنه.
وبحكم أن حيز المساهمة لا يسمح بالإحاطة بكل جوانب ثراء الرواية والدلف من الإشكالات المختلفة التي تستثيرها والكشف عن مكنونات صفائحها الدفينة، أركز على موضوعات ثلاث. تحاول الورقة في مستوى أول، تعقب أنساغ ونسائم الحياة في الرواية، من خلال رصد مسارات حيوات بعض شخوصها. وتسعى من خلال ذلك، إلى إبراز كيف أن أنوات منهكة لا تعدم حيل المقاومةترويض الخرائب واستعادة لذة الحياة. فالرواية تستلقي على خلفية جمالية أخاذة تمتزج فيها أمشاج الألم بنشوة المقاومة، ومرارة الانكسارات بشهوة التعلق بأهذاب الحياة، ويتواشج فيها الإحساس برشقات العجز، بإرادة الانتصار على الاستحالة وطرد جيوش الشك. تلتقط صورا بديعة عن شخصيات ترمم الخرائب وتروض المحن، وتأتزر إباءها لعبور مسالك حيوات وعرة تنقع الأوجاع، وتسرج أحلامها لوكز غيوم علها تسح بهجة. وتعكف في مستوى آخر، على رصد بعض تمثلات الهوية في الرواية والعلاقة بين الأنا والآخر وكيفية انبناء الذات. وتجنح الورقة ضمن الموضوعة الثالثة، إلى إبراز أعطاب السياسة وتمزقات المجتمع. افلرواية تشخص بعض أعراض وأمراض الحاضر، حنق السلطة تجاه الآخر المختلف وهيمنة منطق السوق واستشراء الرشوة والفساد وسطوة الشبكات المصلحية وهشاشة الحقل السياسي وتفاهات المجتمع الإعلامي، وهي إحدى المهام التي أناطها فوكو بالمثقف، ومن خلال ذلك محاولة رصد الفهوم المختلفة التي نسجت عن السياسة. هل ترتبط السياسة بالقوة والعنف، أم أنها أخلاق وتواصل وبحث عن الفضائل؟.
أنطلق من أن لكل نص حقيقتان، حقيقة ظاهرة وحقيقة باطنة أو متوارية. وإذا كانت القراءة التحتية تخترق حجب النص وتكشف إمكاناته الخلاقة وتنصت للأصوات المخرسة، فإن القراءة الفوقية رجع للصدى وطمس للمكنون. إنها تكتفي باعتلاء صهوة الفوق وتعيد إنتاج النص وتقدس المعنى الواحد وتتمترس خلفه وتؤبد انطمار المعاني الدفينة في تضاعيف الرواية. منزعي المنهجي في مطارحة الموضوعات الثلاث، هو المزاوجة بين تحليل التشكيلة الخطابية والانجازات اللفظية في الرواية، وبين التسلل إلى صفائحها الباطنية، للإنصات إلى همس احتكاكاتها وتحسس نزيف الدلالات الراقدة فيها والتقاط قسمات المعاني المبعثرة في أغوارها لنسج شجرة دلالية . فلا معنى لقراءة تستكين أمام سلطة النص ولا تستنفر آلية التأويل والتفكيك “بحثا عن الأغوار والمكنونات”. فالتأويل يسهم في تخصيب الأثر وإغناءه وتوليد معاني جديدة واجتراح زوايا نظرمختلفة وإنطاق الأصوات المخرسة وبعث الحيوات المرجأة. والتفكيك”» إعادة إحياء «ما هو متواري في مقبرة النص أو الذاكرة”2. على أن القراءة المخصبة، مشروطة بنوعية النص. فاكتناز النص هو الذي يتيح للقارئ تخصيبه واكتشاف معاني جديدة فيه وفضح ما ينفيه العقل. بينما تنتفي إمكانات اكتشاف الجديد الممتع في أثر عقيم ونص يباب.
قد يقول قائل إن للقراءة أصولا ومسالك وضوابط يتعين احترامها. لكن بقدر ما تشكل الضوابط أدوات قراءة يستنفرها المختص للانطلاق من داخل النص و تفيد في تشريحه، بالقدر نفسه تسهم في إفقاره، بحيث نكون أمام تمرين مدرسي أو بيداغوجي يهتم أكثر بتجريب بعض الملاقيط المنهجية أو المفاهيم التي استجدت في عالم النقد الروائي. نتيجة هذا المسلك، هي إضفاء طابع تقني على القراءة، وهو أمر يفضي إلى تجفيف منابع الخصب في الأثر و تحنيطه. فالدارس يتوسل في دراسته إلى أدوات مفاهيمية وإجرائية تحول الرواية إلى أثر أصم. على أن هذه الإشارة لا تستبطن تبخيسا لمجهود النقد الروائي أو الفتوحات التي دشنها، بقدر ما تتغيى لفت الانتباه إلى وجود إمكانات أو مسالك أخرى يمكن استثمارها بشكل يسمح بمداعبة الرواية وملاعبتها كي تنقاد، فيكون الالتحام بين القارئ والأثر شاعريا يتيح احتلام الدلالات. تندرج محاولتي في إطار مداعبات تروم تحسس نزيف المعاني وبعث بعض الرؤى المبثوثة في طيات الرواية.
أولا- أنساغ الحياة و جدائل الأمل في رواية القوس والفراشة
تنضح عوالم القوس والفراشة، السردية وأزمنتها الملتوية وشخوصها بانفعالات وتوترات مختلفة. أنصت في تضاعيفها لهدير ألم يخرم ذوات متعبة، وأشتم عبير الأمل في رماد انكسارات و هزائم صغرى. تنغمر الشخوص في مسارات متقلبة، تتقاذفها ديناميات التيه و السكينة و التهويم و الاستواء و الترهل و النضارة و الزهد و اللهفة والجفاء والرقة. لكن الملفت في خضم هذه المدارات، هو أن الرواية تحتفي بإرادة الحياة و تنتصر للعشق و الأمل. فمن بين مخالب الموت تتبرعم الحيوات و من رماد الاحتراق تنبعث فراشات الأمل. نلمس لدى كثير من شخوصها جلدا و إصرارا على عدم الاستسلام للديناميات التي ترشق النفوس بالذبول و تطوق الأجسام و تكلس العقول. إنها تصارع جاهدة للانفكاك من ذيول الخيبات التي تجرها و تستقوي على النزغات و الهلوسات التي تداهمها بالصبر و التعطش للحياة. و حين يعييها المسير في دروب الحياة الملتوية و القاسية، تسرج صهوة الحلم لاستعادة طعم الحياة أو تستنجد بمخزون الذكريات الجميلة وبرقة الحب و عذوبة الإحساس الشبقي، أو تخفف من أحمالها بتحاشي التجديف ضد التيار و تسليم القياد لأهواء المدينة و عجلة الزمن لحين استجماع القوى، أو تبتكر فلسفة أو نظرية أو تفر إلى سماء الملاحم و البطولات الأسطورية فتؤبد المجد وتشن حروبا كبرى و تنجز بطولات تقتص من التاريخ، أو تأتزر تفاؤلها، أو تجدد أنفاسها بالاقتران بزوج جديد و استخلاف مولود جديد، أو تفوض للزمن مسؤولية محو مراراته لاستعادة طعم الحياة ، أو تشق عباب بحر الحياة بمركب الحرية و الأنس برفقة الذات.
تقدم الرواية صورا للحيرة التي تنقض على الأفراد في خضم لجة الحياة، و تنقع من خلالها أسئلة عميقة. كيف للفرد أن يرقط الزمن الرمادي برذاذ وردي؟. كيف يمكن إعادة بناء ذات متشظية؟. كيف نستعيد ملامح ذات هاربة؟. كيف ندغدغ حياة هرمة لاستيلاد طاقة شبقة؟. كيف نقاوم الإعاقات المختلفة؟. كيف يمكن للمجتمع أن ينهض من تحت أنقاض الخراب و يكسر أغلال العجز و يبدد وهم الهزيمة الأبدية؟. و كيف نضفي المعنى على حياة تبدو بلا طعم؟. كيف تنبت الأزهار في بيئة تنفث الجذب، كيف تتحدى بقاماتها المنتصبة زفير رياح عاصفة؟. يعكف هذا المقطع على رصد نماذج من التوترات الإنسانية و التناقضات الحياتية و انكسارات و تمزقات الجسد و استيهامات الروح و كيفية رأب الصدع و تحدي الإعاقات لاستعادة طعم الحياة، و من خلال ذلك استجلاء الفرضية التي ينافح عنها النص.
يوسف: حكمة عبور الصحراء و لذة لثم ضرع الحياة
تعرضت حياة يوسف لعواصف عاتية. غير أن روحه الصامدة لم تستسلم لقصفها المسترسل، بل ظلت تعاند الأعطاب و تمتص مرارات المحن مستعينة بفلسفة خاصة. كان فيض الحنق تجاه أبيه محمد الفرسيوي أولى أطوار عذاباته. فقد تعلق بيقين أنه تسبب في مقتل أمه ديوتيما، وهو ما أيقظ فيه رغبة التنكر للدم الريفي الذي لوث الرأسمال الجيني الألماني الموروث عن أمه. لم يهنأ له المقام بأرض أبيه بعد ذلك المصاب الجلل، فشد رحاله إلى إحدى مؤسسات الرعاية ببلاد الجرمان التي بترت ثلاث سنوات من شبابه، وهناك انضم إلى مجموعة يسارية متطرفة ثم إلى جماعة يسارية مغربية. و قد تحمل عناء الارتحال من درك التطرف إلى ضفة الاعتدال، مع ما يخلفه ذلك من وجع التردد و يتطلبه من مشقة المراجعات. لم يعثر، رغم فراره، على حضن دافء يمده بنسغ الحياة. و بعد أن طردت السنين نزوة الكره من قلبه و بددت وهم التفوق الجيني الذي اعتنقه و عاد إلى بلده “ممتلئا بفيض من التسامح تجاه الفرسيوي وتجاه زوجته الجديدة” و ارتمى في حضن مهنة تلثمه ألوانا من المتاعب و خاض غمار السياسة، تلقفته أيدي السلطة، فتجرع مرارة الاعتقال الأعمى في درب مولاي الشريف و ذاق عذاب المحاكمة الصورية و محنة السجن. و بينما اقتحم لجة السياسة و تحمل أوزارها و أدى كلفة التزامه السياسي، حرم نفسه من لذة مغامرة غرامية. و قد طفحت مرارة تفويت تلك الفرصة على لسانه. “و بينما ارتمى جل أصدقائي في حكايات غرامية باهرة اكتفيت ذات يوم و أنا أتحدث إلى زميلة في الجامعة، باختتام حديثنا المقتضب متسائلا: – هل يمكنك أن تتزوجيني؟ ! فقالت بعصبية واضحة: – لم لا؟ ما دمت تطلب ذلك دون حتى أن تبتسم !؟ “(ص 18). إن المقارنة التي أجراها يوسف بين اختيار أصدقائه و منهجه في الزواج تبرز حجم المرارة التي تشربها. و لعل فعل “اكتفيت”يختزن أحاسيس الندم و الحسرة. فالاكتفاء من شيم الفاشل أو القنوع العاجز. تأوجت المرارة بعد أن تبدد وهم “التوافق التام” و اكتشاف حقيقة استحالة تشكل أنوية الحب في رحم التطابق التقني المربك و تبرعم العشق في غياب أمشاج الاختلاف.
ظل يوسف رغم هذه المحن ماسكا بأزمة أموره. لذلك لم يعتبرها رجات تشوش على انسيابية إيقاع حياته. ” عشت حتى الآن حياة هادئة إلى حد ما، فباستثناء علاقتي المعقدة مع والدي، و رحيل والدتي التراجيدي، و سنوات السجن التي قضيتها بالسجن المركزي بالقنيطرة دون أن أعرف لماذا، كانت حياتي عبارة عن حلقات متصلة يفضي بعضها إلى بعض“(ص17). تبدو تلك المشاكل الشديدة الإيلام محنا صغرى لم تنل من عزيمة يوسف بحكم قوة شكيمته. غير أن قراءة رسالة الإخبار بانتحار ابنه ياسين ثم سماع تأكيد ذلك الخبر من طرف مجهول، كان حدثا صاعقا قصم حياته و بعثر حلقاتها. “اختلت حياتي لهذا الحد، عندا قرر ابني الوحيد … أن يذهب إلى أفغانستان و يجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله. وقد لقيه فعلا،“(ص15). يشكو يوسف من أعطاب فيزيولوجية و نفسية شديدة جراء ذلك القصف. ثار غضبه و ارتعد جسمه ثم انتفضت الأسئلة: “لماذا يفعل بي هذا الشيء القبيح…؟ !“، “لماذا يدفعني في الهوة..؟، ثم متى حصل ذلك،..؟“(ص ص16-17). تخطفت الصاعقة شخص يوسف ” كنت قد أصبحت شخصا آخر يخطو لأول مرة في أرض خلاء “. تعطلت أحاسيسه من هول ما قرأ و سمع. انقطع الصوت و تجمدت و تبلدت المشاعر و تعطلت حاسة الشم. “بدأت أستقبل الأشياء بنوع من اللاإحساس“. ” أحسست فجأة أن جدارا قد ارتفع بيني و بين العالم، وعندما دققت في الأمر أدركت أنني فقدت بشكل كامل حاسة الشم.“(ص9). و يبدو أن تعطل حاسة الشم ينطوي على رمزية كبيرة. فالشم يشعل نار العشق و الصبابة و ينسج صلات خفية مع الأشياء و الأشخاص. و من تم يفضي العطب الذي يلحق هذه الحاسة إلى تأويج المعاناة. إن استحكام هذه الأعطاب كرس عزلة يوسف و مفارقته للواقع. لقد أوصدت عليه الفجيعة نافذة الواقع لتشرع أمامه باب الاستيهام. كانت حياة يوسف خلال تلك الفترة تنضبط لقاموس غني من الأعراض المرضية، نوبات الإكتئاب و الإغماء و الإنهاك و اليأس و الوساوس. و بينما تعطل الإحساس بالألم و اللذة و الجمال، استفاق إحساسه المارد بالفشل. ” لا يمكن أن يحدث لي ما حدث إلا إذا كنت كل هذا العمر في وجهة مغلوطة “(ص17). و تزداد معاناته بسبب إحساسه بالعجز عن تصحيح وجهته المغلوطة. لم تكن الأسرة لتسلم بدورها من لظى تلك الأهوال. فقد طفق أوار الاشتباكات بينه و بين زوجته بهية يشتد بشكل يهدد وشائج العلاقة الزوجية. ” عندما قتل ياسين تسارعت وتيرة انهيار العلاقة، مع ما صاحب ذلك من احتداد و عراك و رغبة في القتل، و شعور بالذنب “(ص18). إن عدم استيعاب بهية للأحوال التي تعتري يوسف، ولد لديها بذرة الشك في عدم تأثر الأب بوفاة الابن ياسين. ” كانت بداية هذا التدهور الجديد هو انتباهها إلى أنني لم أتألم إطلاقا لهذا الفقدان المفجع “(ص18)؟ و من أمارات اتساع الفجوة بينهما، رد بهية الحانق على يوسف عقب اقتراحه بناء قبر لياسين. “ينبغي أن يبني كلانا قبرا للآخر، و يدفنه فيه حيا، و يهيل عليه كل تراب الدنيا. هذا هو الذي يستطيع أن يجمعنا، هل فهمت؟ !.“(ص20).
حاول يوسف التنفيس عن الحنق الذي بسط سدوله عليه وتلمس الاستواء بعد أن استبد به الاضطراب و التيه و سعى للتخفيف من وخز الفجائع و إد الإحساس بالعجز، باللجوء إلى ميكانيزمات مختلفة3. في غمرة تعطل إحساسه، تذوق يوسف النبيذ و الأطعمة و تعطر وضاجع النساء. و تعلق بأهذاب الإيهام للتعويض عن انعطاب الإحساس الفطري باستيلاد متع متوهمة. لقد ابتكر لنفسه فلسفة “إدمان الإيهام” بالإحساس بأدق المتع (ص13). كما استنجد باللمس و التخيل و الذوق المصقول و البصر و السمع لتجديد الصلات بالواقع. ” أما الآن فيتحتم علي وضعي الجديد أن استعمل يدي لأتعرف على هذه التفاصيل“(ص 12). “أنا أيضا أتخيل الروائح و أشمها، بل أستطيع أن أشم، الروائح في التلفزيون، و في السينما !“(ص26). “أحيانا يتهيأ إلي أن الحرمان بمعناه العميق و الكامل هو هذه الاستحالة، فأسعى إلى استنفار حواس أخرى للتغلب عليه“(ص26). إن الفجيعة التي أقبرت حساسيته تجاه المتعة، جعلته يتعقب روائحها في أشياء مروحنة. و هكذا أمسى يوسف يستمع إلى الموسيقى التي لم تكن من هواياته، و صقل ذوقه، بحيث يتجاوز الأثر الحسي للذة ليسترق المتعة من تركيبة مروحنة.
إن تمزق يوسف لم يدفعه إلى إدمان الهروب من الذات و الارتماء في أشطان الخوف من استعادة توازنه و قدرته على الفعل و التأثير. لم يكف عن مصارعة الأعطال و ارتياد مسالك غير معهودة سعيا إلى لملمة شظايا الجسد و استعادة ملكة الاستمتاع الطبيعي و الإفلات من آسار الهلوسات. و يبدو أن الرضا بالمصاب، كان من ضمن الميكانيزمات التعويضية التي تخفف من وطأة الألم و الشعور بالحرمان “ثم وطنت نفسي على قبول ما حصل لي كنوع من الموت الجزئي“(ص14). غير أن هذه العبارة لا تعبر عن روح انهزامية، لأن قبول التعايش مع العطب مقترن برغبة جامحة لتجاوزه. ” و علي أن أقبل بما تبقى مني حتى ألحق به، و عند ذلك سنعود كما كنا، شخصا واحدا عادت عقاربه إلى دورتها العادية“(ص14). صحيح أن الموت الذي داهمه عاصف، لكنه موت جزئي و عارض لا يلبث أن ينقشع. إن كثافة الوجع النفسي و المادي المتولد عن الإحساس بالعجز صقلته، فطفق يهمي نضجا و حكمة. اجترح يوسف لنفسه فلسفة تلقائية عميقة، القبول بالأمر الواقع مؤقتا و الاقتناع بعدم جدوى التجديف الأعمى لمقاومة تيار جارف.” لذلك لم أقاوم، و لم أبحث عن علاج. كل ما فعلته هو أنني رتبت نفسي وفق ما أتوقعه لرجل يحب الحياة و أدرت دفة هذا الوجود المصادر“(ص14). فالتجديف غير الفعال و المقاومة المتنطعة لا يفضيان إلا إلى تغذية الأوهام تجاه الخسائر، الأمر الذي يعقد إمكانية التحرر الهادئ. إن عدم المقاومة و البحث عن العلاج لا يعكسان باعتقادي سلوكا مرضيا يتلذذ بالألم و يتمسح به، بقدر ما يرمزان إلى منهج أو فلسفة في المقاومة. بمعنى أن يوسف يجترح نمطا خاصا من المقاومة، على نحو ما عبر عنه في موضع آخر. فلأجل قهر وضعيات تتطلب جهدا استثنائيا، ابتكر بمعية ليلى نظرية المصفاة في المدخل الروحي للذوات(ص82). إنه يخفف من أحماله من خلال الانقياد و الشعور بالرضا4. إن الإشارة إلى عدم المقاومة و العلاج تنطوي على رمزية قوية تنسجم مع المرامي البعيدة للرواية. لذا، بدا لي أن الأنسب حمل معنياهما على وجه آخر غير المعني اللغوي المباشر. فالظاهر أن الرواية تميل إلى لفت الانتباه إلى أهمية الشغف بالحياة و التعلق بها لقهر الصعاب و تجاوز الأعطاب. فحب الحياة كفيل بمدنا بقوة ابتداع فلسفة تتناسب و الظروف التي نعيشها. بمعنى أن قدرة يوسف من الإفلات من شرنقة المصائب و الآلام، لا يفسر باعتقادي بامتلاكه لقوى خارقة أو نباهة استثنائية أو وصفة علاجية أو بانضباطه برنامج مقاومة تقني و محكم التخطيط، و إنما بتوكئه على رصيد الجلد و المكابرة الذي يمتح من حبه للحياة و من الخيال المبدع. ففي نسغ الحياة، لا نلفي جرثومة الاستحالة التي تأوج الحرمان. ” أحيانا يتهيأ إلي أن الحرمان بمعناه العميق و الكامل هو هذه الاستحالة“(ص26). هذا الحب هو الذي يوسع المدى، فتتناسل الإمكانات و الاختيارات. هو الطاقة التي تدفعنا للفعل وهو البلسم لداء العجز.” الخسارة ليست ما نفقده، و لكن ما يتبقى في نفوسنا من شعور بالعجز عن فعل شيء لم نفعله“(ص21). و لئن كانت “الحياة أيضا لعبة خطيرة !“(ص149)، فإن الشغف بها يروينا النسغ الحيوي لقهر مخاطرها و اجتياز اختباراتها و محنها و إبدال علقم الشقاوات برحيق الحياة الممتع. صحيح أن الموت قد ينقض على الحياة في أية لحظة من دون أن نملك القوة أو الحيل لثنيه، لكن ” لا شيء أفظع من الهزيمة أمام الحياة“.
لم يكن يوسف ليبتكر تلك الفلسفة التلقائية إلا بعد مجاهدة. ” لكنني انتبهت فيما بعد إلى أن الأشياء القاسية التي مرت بي جعلتني أتحرر من أجزاء كثيرة من نفسي دون أن اخطط للأمر أو أعبئ له جهدا استثنائيا لذلك صرت أراقب ما يحدث لي كأنه يحدث لشخص آخر، و صارت هذه المسافة تمنحني قدرة دائمة على سخاء مريح لا أفهمه على وجه الدقة إلا عندما ألمس آثاره البهيجة على محيطي” (ص276). إنها تشكل الحكمة التي نقعها مسلسل الإحساس بالحرمان و الألم، بدليل أنه كان في بداية عهده بتعطل إحساسه باللذة يجهد نفسه لمقاومة العطل بتكلف الإيهام بالإحساس باللذة. لقد أعياه تعقبه الدؤوب للواضح و البسيط في حياة تشي بالغموض و التعقد. و بعد أن اكتشف أن الغموض و التعقيد يضفيان السحر على الحياة و استطاع نسج خيوط فلسفته، تفتحت شهيته للحياة و استعاد منسوب السكينة و قدرته على عبور الفلاة. “كنت أجد هنا ما يساعدني على طي المسافة بين الأشياء،…. . هنا أستطيع أن أقطع مسافات شاسعة دون أن أحس بعياء عميق.” (ص131). إنه موقن بأن الخلاص ممكن. “ هناك صحراء أعبرها و أعرف أن الفردوس يوجد في منعطف ما من هذه الشساعة”(ص ص276–277). تقترن الشساعة إذن بالتيه و الضياع. فالحياة ليست أرضا منبسطة و ممتدة. إنها مليئة بشعاب ملتوية و مسالك وعرة. يبدو الفردوس عصي المنال، فلا يكفي أن نطوي أرضا منبسطة كي نلج أعتابه. إنه متمنع، قابع في منعطف يعن بلوغه على من كان رطب العود. و يستعين يوسف في مصارعته للرزايا بالتفكير المكثف الذي يمتح نسغه من فعل القراءة. لا يكف عن طرح أسئلةعميقة. “كنت مشغولا بالتساؤل عما إذا لم نكن جميعا في حاجة إلى إعادة كتابة حياتنا، و إخراجها من عنف القراءة الواحدة“. “كنت أفكر في ما كانت ستكون عليه قصتي لو لم أفقد ياسين“(ص42). إن خبرته الحياتية و مهماز التفكير الذي يشهره، يساعدانه على بلورة نظريات خاصة في مواضيع مختلفة، مثلما يتيحان ارتقائه من درك الشك إلى شرفة الإدراك. “و صرت أدرك بسهولة أن الخسارة ليست ما نفقده و لكن ما يتبقى في نفوسنا من شعور بالعجز عن فعل شيء لم نفعله، و قد قرأت…“( ص21).
لم يشحذ يوسف عناده للانفكاك من آسار محنته ليرتمي بعدها في عطانة حياة مبتذلة و يضيع وسط الحشد و يستلذ العيش بين الحفر، بل سرج إبائه للبحث و الإبداع و فضح وجود زائف و واقع موبوء. لم يستسلم لقوى الضياع أو يتخلى عن حريته، بل ظل مصرا على انتزاع الحياة من أتون الموت و متشبتا بحقه في الفعل و الاختيار، دون أن يستغرق في الحاضر . فلا غرابة إذا كانت حكمته تؤتي أكلها كل حين. وفرة في الإنتاج في سماء الإبداع و الأدب و التحقيق و استعادة العلاقة مع الناس و الأمكنة و العودة إلى الآن بعد الارتماء القسري في شباك الماضي و حبال الهلوسات و المواضبة على الرياضة. ” و يجب أن أعترف بأن هذه الحياة الجديدة كانت بعثا حقيقيا جعلني أعود لنفسي و اهتم بها، و أستعيد صداقاتي القديمة، و أزرع حدا أدنى من النظام و الصرامة في حياتي المهنية، و في حياتي الخاصة” (ص14). فالغالية و أحمد مجد و ليلى و ابنتها و البيت الكبير “مرفأ” يهدأ فيه يوسف ” من عواصف الدنيا” (ص ص202- 203). كما استعاد يوسف إحساسه الطبيعي بالمتعة يعفيه مشقة و مهانة الانتشاء الاصطناعي الذي أدمنه لمدة. فبعد أن كان يقاوم إعاقته “باستعراض نوع من القدرة على الانجاز التقني الكامل و المصفى” (ص13) يمني النفس على ما حل بها من عطل مفجع، أضحت شهوته عارمة وغامرة و فياضة. إنها بصحة جيدة و بكارة شفافة تتهيج لكل المثيرات. فالضوء الناعم و الفضاء الفارغ و الكلام الناعم و الدنو و الطعم و سحر الوجه ونعومة النهود و جمال الأطراف و شذى الأنفاس و المناوبة بين الالتحام الناعم و الاقتحام الشبقي و غنج و تموجات الجسد، عناصر وقود تشعل اللوعة و تنبت الرعشات و تملأ الجسد صهيلا. (ص ص279 – 280). من أمارات تحسن يوسف أيضا، سخاءه في العطاء“ووهبت مكتبتي لجمعية يعقوب المنصور بالرباط، و تنازلت عن أثاث البيت لأول صديق قديم قبل بذلك” (ص ص 277-278)، و ثقته في النفس وثباته على الموقف “…لكن لا أحد أحب بيتي على الإطلاق. …. و مع ذلك صمدت في موقفي” (ص278). يدلل هذا الإصرار على استعادة الثقة في نفسه و اختياراته. فاختياره لأن تكون شقته الجديدة خاوية و بأقل ما يمكن من الجدران و الأثاث و توضيبها على نحو يستجيب لرغبة شبابية دفينة، لم يرق لحبيبته ليلى و لأصدقائه. و مع ذلك، عض على اختياره بالنواجد.
و رغم بلوغ يوسف لمرفإ التحسن الذي يعصمه نسبيا من العواصف(حالة نفسية و جسدية جيدة و رفقة ليلى الحبيبة التي أصبحت إمكانا مجسدا لا غنى عنه)، فإن الأخطار قد تداهمه في أية لحظة وبأي ربع. فعدم استحسان اختيار يوسف المتعلق بهندسة و محتويات شقته من قبل ليلى و أصدقائه، شكل اختبارا حقيقيا لمدى تعافيه ” …لكن لا أحد أحب بيتي على الإطلاق. …. و مع ذلك صمدت في موقفي مخافة أن أصاب بانتكاسة نفسية إذا رجعت إلى الوراء” (ص 278). إن حرصه على الإنصات لرغباته الدفينة و ترجمتها و وفائه لاختياره، يعكسان يقظة كبيرة تنم بدورها عن استواءه و تعافيه و تقديره لحجم و طبيعة المخاطر التي تتهدده، مثلما تعبر عن استعداده الدائم لخوض غمار الحياة. على أن مسلسل المحن و الانكسارات التي عاشها يوسف و تواتر المواقف الحياتية التي تشكل محكا لاختبار مدى قدرته على خوض غمار الحياة بعد تعافيه، جعلته يضمر الخوف من أن تداهمه النوبات فتنطفئ حواسه من جديد و يمسك عن الحياة. يزوره هذا الإحساس المزعج و هو في غمرة انغماسه في حياة شبه عائلية، شراء منزل و معاشرة متحررة من القيود الأسرية التقليدية و انخراطه في حياة اجتماعية تشي ببعض أمارات التوازن و استمتاعه بحرارة الجسد و جمال الطبيعة. “و أنا أيضا كنت أخاف أن تداهمني النوبة و أنا معها“(ص276). و إذا كان مسار يوسف الحياتي تتهدده احتمالات السقوط المؤلم، فإن ذلك لا يعني البتة تجمده عند نقطة الهزيمة. كما لا يعكس استبطانه الخوف من الوقوع في شراك الاختلال، عجزه عن الاستمرار في عبور صحراء الحياة. إن إشارة الرواية إلى تواتر الخطر المحدق بيوسف يتغيى باعتقادي، لفت الانتباه إلى طبيعة الحياة كتجربة حمالة بالأسرار وبالسحر و المفاجئات، و إلى وجوب التسلح برصيد الأمل و الشغف و الجلد الكافي لعبور عقباتها. ومن الإيماءات اللماحة التي تدعم هذه الغاية، مغالبة يوسف لسديم الخواء الذي أخرسه بعد عودته من عطلة نهاية الأسبوع في مراكش بمعية ليلى “بلا مراكش ..إلى الجحيم بالبهجة(…)معك حق هذه مدينة لا تصلح لقصتنا، إنها عبارة عن زخرف كثيف، و طلاءات متراكبة، أما نحن، فنعيش حكاية بيضاء” (ص203). فبينما ضم ليلى إلى صدره و أيقن أنها امرأة حياته و هم بأن يصدع لها بحبه الدفين، بعد أن أقنعته بلا جدوى الزيارة المتكررة لمدينة مراكش، انخرس لسانه. ” لكن الخواء الذي يسكنني عاد من جديد ليقتل البذرة في مهدها” (ص203). و إذا كان الخواء قد تخطف بذرة الحب من لسان يوسف، فإن جوارحه و نظراته تجهر به. إنها سمكته المحبوبة و المرأة التي تنازل لها عن عرش مراكش و قرأ رواية سارماغو خمس مرات لأجلها. إن سهام الحب التي انطلقت من قوس حبه، وقرت في فؤاد بهية من دون أن يلهج به لسانه. “كانت ليلى تعرف أيضا أنني أحبها … أنني أجري وراء وجهها الغائب …، أنها أصبحت إمكانا لا يتجزء منذ اليوم الأول“(ص 276 ). و من مؤشرات حبه المفرط أن تعطل حاسة إحساسه لم تستطع وأد حبه لليلى.تدرك هذه الأخيرة كما يظهر حوار يوسف الداخلي مقدار ذلك الحب ” سأقول لليلى …إنني أحبها، …، و لكنني لم أقلها لك أبدا، قالت، بلى قلتها مليون مرة من دون أن تنطق بها“(ص275).
من ذلك أيضا تغلبه على الخوف الدائم الذي يحضنه، وذلك بنجاحه في اجتياز اختبار النوبة التي داهمته. لم يستسلم لمصابه، بل استنفر خبرته بأحواله النفسية و أعطابه الجسدية و استعان بمرفئه الإنساني، ليلى، في طور أول، لتحسس قدوم الأزمة، ثم في مرحلة ثانية، لعبورها قبل أن تندفن بذور حبه التي تبرعمت، فتعصف بعلاقاته الاجتماعية التي أزهرت، و يلوي مجددا إلى هلوساته و غربته. ” .. إلى أن حدثت (النوبة) ذات يوم، فرجوتها أن تستمر في التحدث معي، ليس في شيء محدد، بل فقط بكلمات مسترسلة كأنني سأتنفس بهذه الكلمات.. ففعلت ذلك ببراعة مذهلة (…)، كانت تعرف أن النوبة قادمة قبل أن أحس بها، و كانت تمسك بيدي و تعبر بي تلك اللحظة المعتمة، كأنها توصلني إلى مقعد مريح.” (ص276). فبعد أن كانت النوبات تتخطفه و تتعطل أحاسيسه فينخرط في مسلسل من الألم و الغربة و الإيهام، استطاع الحديث المجنح و اللمسة الحنونة أن ينفثا الراحة في أوصاله.
إن سهام الشك تطرق بابه بين الفينة و الأخرى، مشرعة ساحة الاستيهام و مشعلة حس التذكر. فما أن تصفو سماء حياته بفضل اعتصامه بجلده و تعلقه بالحياة، حتى تنقض عليها سحب جهام. فظهور الشاب الذي يشبه ياسين، كان حدثا صاعقا غذى توتره. فتعلق الشاب باحتمال أن يكون الشبه نتيجة رابطة الأبوة، زاد من ارتباكه و اضطرابه. و قد تأوجت حيرته نتيجة لمز الشاب. “لا تخف، لن أحاصرك، لا أريد أبا يتوجب علي أن أقتله لأعيش“(ص281). إن ذكر الشاب لحكاية أمه العازبة لتعضيد ذلك الاحتمال، زج بيوسف في دوامة التذكر المؤلم. “لم يكن يعرف أي قنبلة يلقيها في حياتي“(ص281). لكن يبدو أن يوسف اكتسب خبرة في امتصاص الصدمات. فرغم شعوره بأنه “أقرب إلى السكينة في الفجيعة التي جسدها ياسين” منه في حكايته مع الابن المحتمل، فإنه لم يرتم في حجر اليأس. صحيح أن وطأة الصدمة كانت قوية، غير أن عمرها كان قصيرا. “عشت بضعة أسابيع في دوامة هذا الاكتشاف الصاعق“(ص282). لم يستسلم للمفاجاة، بل شحذ قوته للخروج من “مياه ضحلة”(ص283). فبمجرد أن تلبدت سماءه، سارع إلى إخبار حبيبته ليلى و صديقته فاطمة “الاكتشاف الصاعق الذي أخبرت به ليلى“، “أما فاطمة فقد طلبت مني أن أتريث قليلا“. و اهتدى بتفكيره إلى فهم كنه الصاعقة التي أصابته. إنه ” احتمال من احتمالات أخرى“(ص283) التي تفاجئنا بها الحياة. و لئن كان الإفضاء إلى الأغيار مؤشر استواء يوسع شبكة الاختيارات5 (من ضمن تلك الاختيارات عدم التشبت بفكرة إمكان وجود آصرة الأبوة لمجرد مضاجعة امرأة، و أيضا التريث و سؤال الشاب عن اسم أمه)، فإن تعاضد جهود الذات المفردة المفكرة و الذات الجماعية المستشارة يساعد الأنا على تجاوز محنها و استعادة توازنها. إن يوسف ماض في انهمامه بخوض تفاصيل الحياة. ولعل “مي” الطفلة بالتبني، تعتبر احتمالا جديدا ينضاف إلى طيف الاحتمالات التي تناسلت على مدار حياته.
تأبط يوسف عصا العناد يهش بها على صروف الأيام. يشهرها كلما استبد به التيه. يوكز بها أمداء الخواء علها تسح ندى المعني. إن الهلوسات التي اعترته و نسيان الأسماء و عناوين الأشخاص و عدم تذكر اللقاءات مع النسوة و فقدان حاسة الشم و سماع الأصوات و انقطاعه عن المجتمع، قد تكون أمارات اغتراب. لكن يبدو أن تلك التمظهرات أشبه بما يسميه هيغل الاغتراب الإيجابي المقبول، إشارة إلى “المراحل المختلفة التي تجتازها الروح للوصول إلى المعرفة الكاملة”. و كأن ما اعتراه كان ضروريا ليصل إلى ضفة الإدراك العميق و الكامل بأن الحياة احتمالات لامتناهية و بأن ثمة فردوسا أو مرفأ ما في منعطف من صحراء شاسعة، و بأن ثمة لحظات “ينفصل (فيها) الإنسان عن مساره و يصبح ورقة معلقة في الفراغ“(ص50)، و بأن الأفظع هو الانهزام أمام الحياة و ليس أمام الموت، و بأن ثمة إمكانيات لعبور مسافات طوال بجهد مقتصد و غيرها من الحكم و المعارف العميقة. إن تمزق يوسف، والذي يعكسه حديثه عن “القبل” و “الآن” و عن وجوب التعامل مع ما تبقى منه في انتظار اللحاق بالجزء الآخر الذي توفي قبله، لا يؤشر إلى غربة سلبية و إنما إلى التخارج، إشارة إلى ” العملية التي يفقد الإنسان من خلالها جزءا من ذاته في الوجود الخارجي. و في هذا الفقد إما أن تعثر الذات على نفسها في العالم الذي أنتجته (…)، و إلا أن يكون العالم الذي أنتجته غريبا عنها فنتحدث عن الغربة السلبية”6. فإذا كان فقد الإحساس باللذة قد جعله يبتكر عالما بنواميس خاصة تنقع متعة متصورة و تشحذ إحساسه بالجمال، فإن ذلك لم يفض إلى غربته. لقد كان سلوكه التخارجي سبيلا للقبض على الجزء الهارب أو المفقود و مطية للتعلق بأهذاب الحياة.
لكن ثمة أمر مزعج في هذا المشهد الحياتي الذي تلتحم فيه التراجيديا بالعبث و الألم باللذة. فكيف لمن خاض نضالات سياسية و أشهر قلمه لفضح ممارسات معطوبة و خبر الحياة و تعلق بها، أن يلوذ إلى التردد في التعبير عن موقفه من فعل يسفه الحياة، تفجير ياسين لنفسه. ثم، كيف لذات ترصد الرواية ملامح تنورها، أن تحس بالنجاة من شراك لقاءه بشاب يوقن7 أنه يحمل دمه؟. ألا يوحي إدمان يوسف الشعور بالمآسي عقب انتحار الابن و لقاء الشاب بتضخم أناه، بحيث لا ينشغل إلا بنفسه؟. هل يكفي الاستيهام و نوبات اليأس و قوة الصدمة، لتفسير إيغاله في الشرود و برود تعاطيه مع أحداث قوية. سأرجئ الخوض في الافتراضات التي يثيرها السؤال الأول إلى المقطع الخاص بياسين. و سأكتفي في هذا الموضع بالإشارة إلى الإزعاج الذي يغذيه تعاطي يوسف مع الشاب. إن مصدر الإزعاج هو أن لقاء يوسف مع الشاب حصل بعد أن قطع أشواطا هامة في مسلسل تعافيه و استوائه. من هذا المنطلق يفترض أن يشكل تعامله مع الشاب و احتضانه له تتويجا لشفاءه و علامة على استرداد كامل حريته. و على النقيض من ذلك، قد يكون توقيت ظهور الشاب، مؤشرا يفسر ذهول يوسف و ارتباكه. ذلك أن ظهوره أيقظ نوبات يوسف و بعثر حياته و قلب مواجعه. “عشت بضعة أسابيع في دوامة هذا الاكتشاف الصاعق” (ص282). غير أن وقع الصعق لم يشل ملكاته. إنه ماض في مسيرته. ” وفي الطريق إلى البيت فكرت مليا في ما يحدث لي، وقلت هذا احتمال من احتمالات أخرى” (283). فإذا كان ذلك اللقاء اختبارا حقيقيا لمدى تعافيه، فإن تفكير يوسف في دلالته يعد مؤشرا على قدرته على التماسك والصمود في وجه هذا الاكتشاف، و يعكس أن تأثير الصعق كان محدودا في الزمن. لكن المثير هو أن التفكير لم يثمر سلوكا عمليا. فإذا كان الشك يساور يوسف في أن زليخة هي التي ضاعت منه، فلماذا يضيع ابنها من جديد؟. لا أخال أن إيقاع السرد في الرواية مثلما فلسفتها و رؤيتها للحياة، أمور تقتضي ارتكاسه من جديد إلى التيه و الاستيهام. إن غموض مشاعره تجاه الشاب و مخالطة الإحساس بالفرح الغامر بالنجاة لشعوره بالخيبة عقب افتراقهما، يعاندان المنطق الطبيعي المتمثل في أن يفضي توتر السرد إلى إحتلام تفيض معه فلسفة الرواية و تبرأ أسقام يوسف. إنني، بهذه الملاحظة، لا أرمي إلى تشكيل الشخصيات وفقا لأهوائي أو إلى نسج خيوط نهاية مفرحة. فللأشعري مطلق الحرية و السلطة لنفخ الروح في حيوات شخصياته و تحريكها كيفما شاء، لكن من حقي أن أشير إلى الأمور التي تزعج و تربك المنطق الذي اجترحه، و تحرف إيقاع السرد عن الوجهة التي رسمها . فلا تسوغ فلسفة الرواية تجاه الحياة أن ينتصر في معاركه الضارية ضد اليأس و السلطة، لينهزم في معركة صغيرة. كما لا يعكس إحساسه بالنجاة من ورطة الشاب و تضخيم مآسيه، ثقافته و نضاله. هذا التشويش يدفع بفرضية الانفصام بين العقلانية على صعيد الخطابات و اللاعقلانية من حيث الممارسات، و يومئ إلى ان يوسف ورث جرثومة تضخم الأنا عن أبيه.
محمد: امتطاء صهوة الأسطورة لتأبيد الحياة و إعادة نسج خيوط التاريخ
بعد أن هيأ محمد الفرسيوي أسباب القوة و المبارزة و بدأ ينتشي بفتوحاته و رجه لموازين القوى بزرهون و يتلذذ بمغامراته و تربع على عرش إمبراطورية ضخمة مهدت لحياكة أساطير مبهرة، أخذت المصائب تجرف إنجازاته بسرعة خاطفة و تزج به في مهاوي سحيقة.”أنا الدولة الوحيدة التي رآها مؤسسها ورشا و أطلالا في نفس العهد“.(ص 178).لم يكن رحيل ديوتيما المفجع سوى رجة ضمن سلسلة محن مريرة. “إذ بعد ما تتالت خساراته المدوية انحدر إلى ظلمات الإفلاس و الشماتة قبل أن يغرق في ظلمة مطبقة“(ص66). ذاق مرارة شك ابنه يوسف، المزمن، في أنه يعتبر قاتل أمه، و تحمل وزر انفصاله عنه. كما تحمل عذاب الاستنطاق و التنكيل به، و تجرع ذل السجن لمدة ستة أشهر، و تجشم عناء مواجهة أحد رجال السلطة دفاعا عن فندقه، و خاض حربا شرسة حول الدور الخربة و توجت مقاوماته بإغلاق الفندق. مرغ الإفلاس كبريائه في تربة الأشراف، خدامه السابقين. لقد انهارت صروح نجاحاته الباهرة. بالأمس كان إمبراطورا منتشيا، يأمر و ينهى، قاهرا لخصومه، جوادا على أهله، ثم غدا حارس أطلال صماء. و بينما يأنس بألمانية رقيقة مصبوغة الشفاه و عارية الساقين (ص58)، أمست خرائب وليلي مصدر سلوته و تسليته. و بعد أن كان قوي البنية، حاد النظرة، أضحى أعمى يمشي في الظلمات.
بيد أن موجات المحن التي غمرته و أفضت إلى ارتحاله القسري من مملكة العمران إلى مملكة الخراب، لم تكسر شوكة إبائه أو تستنفد رصيده من العناد أو تنهك قوته و تضعف قدرته على التحمل. ما زال محمد ذاك الجندي الشغوف بالحروب و المواجهات. يحمل أثقاله على كتفه محتفظا بانتصاب قامته و مشهرا كبرياءه. و رغم أن محمد كان على بينة من أن ” كل شيء يبدأ من المدافن و ينتهي إليها” (ص166)، فإنه بقي متعطشا للحياة. “”. طبعا ..طبعا، من يستطيع الإفلات من الحياة؟ ! لا يمكنك أن ترجع إلى الوراء و لا يمكنك أن تهرب إلى الأمام، الحياة كما تعرف يا ولدي ورطة حقيقية“. ما أريد التنبيه إليه هو أن هذه الحكمة التي نقعتها المحن، تدلل على فهم عميق للحياة. إنها لعبة أو حرب تتطلب الجلد و المبادرة و النفس الطويل. قد تتخللها انكسارات و هزائم، لكن لا ينبغي الاستسلام.
إن عناده يشحذ إصراره و مقاومته للسيل الجارف. ” و كنت أرى البناء يقع، فأسارع إلى ترقيع الشقوق و ترميم التصدعات” (ص191). صحيح أنه أظهر تحسرا على إشاحته بوجهه عن حكمة ديوتيما التي تقضي بالرحيل الفوري عند بدء تهاوي البناء. ” آه كم ندمت على عنادي مع ديوتيما !… . كانت تقول إذا بدأ بناء ما في التهاوي فيجب أن تخرج منه فورا، و إلا وقع عليك و على أحلامك“191)). لكن يبدو أن ذلك الإحساس بالندم تولد بعد انصرام أمد على بداية تصدع البناء و بعد تواتر انقصافه بوابل من الحوادث. فتقدير محمد لمدى و جاهة اختياره من عدمها، لم ينجلي إلا بعد انصرام أمد بعيد يكفي لتسلل التعب و القلق إليه . إن توقيت إيثاره ترقيع الشقوق بدل الهرب، يدلل إذن، على أن اختياره مؤشر إصرار على المقاومة و عدم الاستسلام. بعبارة أخرى، إن قراره يعتبر دليل قوة بمقياس زمن اتخاذه. ” ثم ثقلت علي فكرة المغادرة حتى أصبحت مثل ضريح أحمله على ظهري، و اختلطت في نفسي مشاعر الخوف و رفض الهزيمة و النفور من الشماتة و الأمل في انتصار وشيك ” (ص191). فهذه البواعث الطبيعية النبيلة و تقديره أن سهام التصدعات لا تخطئ أي مبنى، شكلت شرارات أذكت حماسته. “فأسارع إلى ترقيع الشقوق…، زاعما أن كل بناء لا يخلو من تصدع !“(ص191).
يدرك محمد جيدا أن فضاء وليلي موحش يخنق الأنفاس. ” تبحث في نبرات أصواتهم(زوار وليلي) عن لهفة تستأنس بها، بينما لا شيء من حياتهم يتسلل إليك، و لا شيء من حياتك ينفذ إليهم“ (ص183). لكنه يتخطف السعادة من أتون الوحشة و يظهر قدرا كبيرا من الامتلاء بالأنس. “الآن لا أملك سوى الأطلال و لكني سعيد بذلك، سعيد أن أنافس خرائب وليلي“(ص185). إن تمرس محمد على الحروب و توفره على عدة الكبرياء و المكر و العناد و الصلابة (ص185)، عوامل أهلته لترويض الخرائب. “سوف ترى يا يوسف أينا أقدر على ترويض الخراب؟ !“(ص197). فهو الذي جمع صنوف الخرائب و سرج صهوات المغامرات و صنع الملاحم و خاض حروبا صغيرة و أخرى كبيرة. و قد اعترف يوسف ذات مرة بذلك حين “أحس بمزيج من إحساس بالظلم و الغضب و المرارة و المحبة لهذا الرجل الذي يقاوم بقامته العمياء وحدها، عناء تراجيديا“(ص204). جمع محمد من الغنائم ما لم يجمعه أحد. و حين انسدلت عليه برود النكبات، قاوم جيوش العجز و الموت. فالعجز، في قاموسه ، صنو الموت. لا يرضى محمد بالهزائم. فإذا تأملنا بعض الحوادث التي توحي بانكسار شوكته، للمسنا قدرته الهائلة على تحويل الهزائم إلى نصر رمزي باهر. فقد ينظر إلى مشهد تسليمه للفسيفساء الرومانية التي جمعها باعتباره إحدى حلقات تداعي إمبراطوريته و علامة استسلامه، لكنه وضب مشهد التسليم وفق خطة توحي بفيلق حرب مزهو بنشوة النصر. ذهب محمد في موكب من أهل الريف تقدمه “حمار عظيم” يحمل على ظهره الفسيفساء. خطب فيهم كقائد حرب فذ و زعيم لا يقهر، فلبوا نداءه. “كأنه موكب النصر العائد من حرب وضعت أوزارها.“(ص ص253- 254). و إذا كان محمد قد أقر بأن حضارته آيلة للزوال مقتفية آثار الحضارات الكبرى، و يلعن في إحدى لحظات طفح غضبه دولته المهزومة، فإنه لم يرض بأن تشيع من قبل أعدائه أو نفر من رعاع الريف، بل كانت الجنازة في أبهى صور الشاعرية. “إلى الجحيم أيتها الدولة المهزومة تشيعك ابتسامة ديوتيما في مرقدها الأخير” (ص255). لم تكن الجنازة الرمزية لحظة تفجر البكاء و العويل، بل كانت حدثا تشرق فيه الابتسامة لتزف الدولة المهزومة إلى فرقدها. بل إنني أميل إلى اعتناق فكرة أن الابتسامة تزف فكرة الهزيمة إلى قبرها. أخال أنه حين كان محمد يلعن دولته، إنما يلعن الهزيمة التي حلت بها. فهو لا يرضى إلا أن تكون دولته عظيمة. و لعلي ألفي في كلام محمد ما يبعث على تبني هذا الافتراض. ” الدولة التي جعلت منكم أيها الرعاع الملقطين من قبائل منسية شعبا يحسب له ألف حساب، دولة الفرسيوي العظيمة، ها هي تقوم اليوم بآخر نشاط رسمي لها في هذه البقاع، يتقدمها حمار عظيم يحمل على ظهره كيس حضارة أخرى و دولة أخرى” (ص255). يبدو لي من خلال هذا المقطع أن انتهاء عمل دولة الفرسيوي مقترن بفضاء جغرافي محدد و هو بقاع زرهون و البلدات المحاذية. و هي إشارة إلى إمكان مواصلة عملها بفضاء آخر و بفلسفة أخرى. كما أن النشاط المنتهي هو نشاطها الرسمي، و هو ما يوحي بوجود احتمال أن يأخذ العمل صيغا أخرى غير رسمية بشكل يجعل دولته تعتاص على الهزيمة. و تزيد فصول مشهد تسليم الفسيفساء من جرعات وجاهة هذا الافتراض. يبدو ذلك المشهد مكتنزا بالدلالات. فهو يظهر من جهة، رغبة محمد في الظهور بمظهر القوي الأمين و الذكي. قوي بإرادته وكبريائه و حاشيته المنقادة استجابة لندائه أو لهاثا وراء رائحة ماله. و أمين بقيامه بأداء واجب رد جزء من تراث عظيم فرطت فيه الدولة المغربية. و ذكي بإشهاده لجمهرة من أهل الريف على قيامه بالواجب، و في نفس الوقت بهزله و غمزه و تهكمه على دولة لا تأبه بتراثها. و تدلل خاتمته من جهة أخرى، على روح محمد المجنحة التي تعشق التحليق و لا ترضى بالخنوع . فهو لم يستسلم أو يرضخ لأمر الاعتقال الذي أعقب التسليم الرسمي للفسيفساء، بل “ذاب الرجل في الجبل الأزرق “(ص256) ليحط رحل دولته العظيمة في بقاع أخرى و ينشغل بمسؤوليات أضخم و آلام أكبر. و لعله بذلك الارتحال وفى بنصيحة أو حكمة زوجته ديوتيما. “كما عرفت كيف تجيء، يجب أن تعرف كيف تذهب و متى تذهب. لو تأخرت ساعة واحدة فستبقى هنا إلى الأبد، سيمسك العجز عن الذهاب بتلابيبك، و ستغوص قدماك في الأرض السبخة للانتظار و التردد. و كلما تأخرت ماتت بعض شرايينك“(ص191). فبعد أن آثر البقاء و استصعب المغادرة خلال بداية انهيارات نجاحاته، أكدت له صروف الدهر قيمة حكمة نصيحة زوجته. فمن الحكمة إتقان المناورة و التحديد الدقيق لتوقيت الإقبال و الإدبار، و معرفة الثلمات التي يمكن التسلل منها لمغادرة ساحة المعركة إذا لم تجد المواجهة على جبهة معينة، و تغيير المواقع تمهيدا لكسب الحرب. إن تشييع ابتسامة ديوتيما للدولة الفرسيوية المهزومة، كان إيذانا للانتقال إلى جبهة أخرى و لا يبدو مؤشر هزيمة تقصم ظهر تلك الدولة. ربما تنتهي حضارة الفرسيوي في “عتمات بلا قعر” في بقاع زرهون، مثلما انتهت “الحضارات العظيمة المشرقة بأشكالها و ألوانها و جمالها في عتمات أولاد الكلب..“(ص255). لكنها قد تزهر في عتمات مضيئة بوليلي، فتتأبد إشراقتها بلمسات خيال مبدع يمد أنساغ الحياة بين تلك الحضارات، و يوثق العرى بين عبد الكريم الخطابي و هيلاس من خلال لعبة تبادل الأدوار، و بينه و بين إدريس الأول، و يمتح من عذابات ميدوز و أورفي، و يحول العمى من عطب فيزيولوجي و معنوي كبير، إلى قوة تضمن له الخلود و التأبيد و تنتشله من وحشة العتمة و منطق الفناء لتلقيه في يم الحياة. “ ففي هذه العتمة التي تبتلعني، تشكل الفسيفساء بصرا داخليا يعج بالألوان و الحركة. العمى ساعدني لكي أصبح إلى الأبد قطعة من فسيفساء عظيمة، و كلما فكرت في هذا الأمر ارتفعت معنوياتي، و أحسست أنني قريب من منطق الحياة“(ص179). صحيح أن الانتقال كان اضطراريا، و أن رؤيته لكثير من القضايا، كالنسل و الآخر المختلف و تعلقه بالأطلال، تنم عن فهم منغلق ومتحجر للهوية، لكن الانتقال لم يكن قرارا انهزاميا، مثلما لم تفض تلك الرؤية إلى وأد أمشاج الحياة في قلبه و استنبات أجنة الفناء على أنقاض رفاتها. لم يفقد همته في محطته الجديدة، و لم تفتر شهوته للحياة و لم يرتم بين مخالب الموت انتقاما من “أيام مجده“(ص52) و من خيانة الأقدار و عناد بلاد الإشراف و بوار أرض بقاع زرهون و جهل كثير من أهل المنطقة، ولم يندب حظه أو يستكين أمام قرار الاعتقال، بل استطاع أن يهزم العجز و يؤبد الحياة و يبصم التاريخ بلعبه.
عمد محمد في مسعاه لرأب التصدع الذي مس بنيانه إلى سلوكات تعويضية مختلفة. لم تثنه إرادته الممتلئة بروح التحدي و الطافحة بالرغبة في الانتصار عن إشهار أسلحة التهكم و الدعابة و الروي الممتع و اللعب و الحكمة المطروزة بإتقان. يستل محمد سلاح التهكم و التعليق اللاذع من غمده. فطقس تسليم الفسيفساء لم يكن جديا. ذلك أن مشهد تقدم الحمار العظيم للموكب، يطفح بكثير من اللمز و الغمز و التهكم من دولة فرطت في حضارة الرومان العظيمة و غضت الطرف عن اللصوص، و من قبل ما “فرطت في مملكة جوبا“(ص254). وأثناء مقامه بوليلي، استغل فرصة مرافقته للسياح ليطلق العنان لنقده اللاذع. “يحشر في شروحه تعليقات لاذعة عن المدينة التي أسلمته لهذه الخرائب“(ص52). و يتهكم من أرض تجحد بنعمه و أفضاله. “عشت عشرين سنة في ألمانيا، و اشتغلت بها و ترددت على جامعاتها الليلية لأكثر من عشر سنوات، و بنيت فيها و هدمت، كما يليق برجل يحب ألمانيا، و جمعت منها أموالا كثيرة خسرتها في هذه الأرض التي لا ينبت فيها بشكل جيد سوى الزيتون و الخروب و الأحاجي “(ص163). و لأنها أرض يباب و جاحدة، شد محمد رحاله إلى خرائب يعتلي فيها صهوات المجد و الأسطورة. و إذا كانت زوابع الحياة قد أطاحت بعرشه في زرهون و عصفت بمجده و حرمته من التسيد على الأشراف، فإنه يشبع نهمه إلى المجد بالتسيد على أفواج السياح. لم يشأ محمد أن يكون مجرد دليل أعمى يستجدي عطف السياح، بل تتضخم أناه و كأنه إمبراطور روماني متربع على أنقاض مدينة رومانية. ” أنا محمد الفرسيوي دليلكم في هذه الزيارة… عشت…، و اشتغلت…وترددت…، و بنيت … و هدمت، .. و جمعت..“. لا يكتفي بالتماهي مع العظماء، بل يعتبر “كل إنسان هرقلا صغيرا أو كبيرا” (ص177). و حين يتملكه الضجر من حراسة الأساطير، يكيل اللعنات للرومان و تنتصب أناه مزهوة. “سأنتظر زبنائي في هذا القفر الذي لا ظل فيه إلا ظلي. أنا الشجرة و الرجل الذي يرتاح في ظلها.“(ص179). صحيح أن وليلي مملكة للخرائب، لكنها”أعظم مدينة رومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط “، و لا يتقن المشي في مساربها الملتوية و المعتمة إلا العميان. يبدو محمد حارسا أسطوريا لمدينة أسطورية إسمها وليلي. غير أن انبهاره بالمدينة الرومانية لم يصل حد الذهول المعطل لملكاته. فهو حريص على إضفاء لمسته على أسطورة الرومان. إن معرفته بالأسرار المطمورة تحت أنقاض وليلي تؤهله لتفسير و تأويل التاريخ و فك الرموز (الدلفين و أورفي و باخوس و الذكر المنحوت…). و في كل مرة يحاول أن يفتح ثلمة في مسام التاريخ لإبراز أمجاد أجداده الأمازيغ. فقد سبق لجوبا الثاني الأمازيغي أن تربع على عرش المدينة الأسطورة. و إذا كان ليوطي، “الثعلب الماكر“، قد استقدم الأسرى الألمان لإخراج وليلي من تحت الأنقاض، فإن محمد الفرسيوي يعتبر، متهكما، أن فضل استخراج الملامح الأولى للمدينة يرجع إلى لعب أطفال بلدة فرطاسة.
من ميكانيزمات التنفيس و المقاومة التي يوظفها محمد سعيا إلى التسامي على آلامه، الروي الممتع. يحكي بإمتاع عن أساطير أورفي وأوريسيد و كاتون و باخوس و أريان ابنة الملك مينوس و تيتيزي و عن الأشكال الهندسية للدلافين ومنزل البهلوان و تمثال الفتى الجميل و الذكر المنحوت(ص ص 163-182). يرتحل من رواية إلى أخرى، و تتناسل الروايات ليحلق محمد و المتحلقون حوله في سماء الأساطير8 الرحبة، و كأن تراجيديا محمد لا تختلف كثيرا عن تراجيديا تلك الشخصيات الأسطورية. و يمزج محمد رويه بالدعابة. فقد نصح السائحات بأن يحكمن القبضة على القضيب المنحوت إن وجدنه و يتمنين شيئا له علاقة بالجنس(ص169). “ماذا يا سيدتي؟ وجدت ذكرا عظيما؟ بالصحة و العافية، لن يكون الأول و الأخير في رحلتنا“(ص172). و لأن الدنيا كلها لعب كما يقول محمد ، فإنه لم يحرم نفسه المكلومة من اللعب. ففي مشهد تسليم الفسيفساء، كثير من اللعب اللماح. كما نلمس جرعات لعب طافحة في فسيفساء فندق الزيتون. يتغيى لعب محمد نقش اسمه على جبين التاريخ رغبة في تأبيد الحياة و ثأرا من أمجاد ضائعة و إذلالا لسلالة الأندلسيين. لقد رصع بهو فندقه بفسيفساء “حديثة بروح رومانية“، و استعاض عن هندسة المربعات التي دأب عليها الأندلسيون “بتكعيبية ساخرة” أنجزها رسام استقدمه من أصيلة. إن إرادة التفوق هي التي تحرك لمساته لإعادة توضيب التراث الروماني. “لكن يجب أن تعترفوا بأن مسار الفسيفساء الذي ابتكرته هو أجمل المسارات على الإطلاق“(ص179). قد تتخلل زمن الروي ومضات تفكير يغالب بها مصائبه الشخصية. ” إذا تأخروا في الحمامات سأضطر للانشغال عنهم بالتفكير في مصائبي“(ص179).
يشكل الكذب لعبة ممتعة في إطار مسلسل الحروب و أشواط اللعب بالنسبة لمحمد الفرسيوي. فقد اختلق رواية سرقة تمثال باخوس . ” تأخر به الزمان ليصبح حجرا يحمله الفرسيوي على ظهره و يقطع به المسالك الوعرة بحثا عن باحة جامع مهجور دفنه فيها“(ص177).استغل شكوك الناس و رجال السلطة في تردده الكثير على موقع وليلي لينسب لنفسه سرقة التمثال، مع أن تلك السرقة تمت من قبل اللصوص(ص63)، و انتهى الأمر بالتمثال إلى دار فاخرة بمراكش يملكها بائع عطور فرنسي مشهور.
إن الانكسارات المتتالية لمحمد، قوت من صلابة عوده. لم يشأ أن يصير جسدا متهالكا تلوكه الألسن بزقاق زرهون و منحدرات بومندرة ، أو يفيئ إلى ظل ابنه يوسف أو يفر إلى ألمانيا هربا من العار و الخذلان أو ينتحر مثلما فعلت زوجته ديوتيما. لقد ظل ممسكا بزمام حياته. ” لن يقرر أحد في مكاني … . أما و أنا على قيد الحياة فلن يقرر أحد وراء ظهري” (ص185). تختلف حروب محمد بوليلي عن سابقاتها. لم تعد حروب هدم و بناء و شراء الخرائب و إقامة المعاصر و الفنادق. تلك حروب صغرى تولد خسارتها آلاما صغرى. و رغم أنه ولج فضاء وليلي بعد أن تداعت إمبراطوريته، فإن الحروب التي شنها في السابق هيأته لاقتحام جنس آخر من الحروب تمتزج فيها روائح التاريخ و الحضارة والثقافة و الإديولوجيا. و أيا كانت الخلفية الهوياتية التي يتوكأ عليها محمد و الأدوات التي يستنفرها، فإن مبرر التقاط هذه المؤشرات هو الرغبة في التشديد على بعد تعلقه بأهذاب الإباء و الحياة. لم تمنعه كثافة الوجع من تحويل نوبات اليأس إلى وقود العناد، مثلما لم تمنعه جروحه الغائرة من اجتراح أفق أوسع لحياة سرمدية. استطاع أن يحدث كوة أمل في جدار المحن، ليعانق منها سماء رحبة تصله بالألمان و أجداده الأمازيغ و الإغريق و الرومان. ” فسألني(أستاذه) من أنت؟ قلت من الحضارة الإغريقية الرومانية” (ص181). لقد بدا محمد و كأنه يهيل التراب على إخفاقاته كي يشيد على أنقاضها فتوحات رمزية، السيطرة على الأطلال و التسيد على السياح و إعادة تأويل التاريخ و بصم العمران بريشته و غيرها من الخطط التي تساعد على تأبيد الحياة.
فراشات تعزف لحن الحياة
إذا كان يوسف قد عاش بعثا جديدا بعد عبور محن شاقة بفضل شغفه بالحياة و ابتداعه لفلسفة خاصة، اجتياز مسالك الحياة بجهد مقتصد، و بدا مسار أبيه، محمد الفرسيوي، أسطوريا و مسربلا بحروب و انكسارات و مقاومات و التماعات و حكم، فإن الرواية تحفل بنماذج بشرية استطاعت السير في المسالك الملتوية متأبطة مخزون الصبر و التفاؤل و الحب. و لئن بدت الحياة بالنسبة لها ممتعة باحتمالاتها و مفاجئاتها المختلفة، فإن تلك النماذج تستمر في سعيها الدؤوب لاجتراح حيوات أفضل. فالغالية ، أخت أحمد مجد، مثال نادر عن إنسانة ممتلئة بالإيثار. إنها بسكينتها الداخلية الفياضة و تفاؤلها الجم، تنتزع من الحياة عذوبتها و بهاءها. واجهت محن اعتقال أخيها و رفاقه و ذاقت مرارة الوقوف في عتبات السجون و نذرت حياتها في خدمة أخيها أحمد”قبل السجن و أثناءه و بعده“(ص129) و كانت حضنا دافئا لرفاقه المسجونين. ثم إن سن الخامسة و الستين التي أدركتها دون زواج، كافية لتتحول إلى عجوز شمطاء متهدلة تنفث الحقد و تكيل السباب و اللعنات للزمن و البشر. لكنها ،على العكس من ذلك، كانت عينا نضاحة تهمي حنانا و عطاء. لم يتسلل إليها اليأس و ظلت مفعمة بأمل العثور على زوج. و لعلها تستمد سكينتها و صفاءها من فلسفتها في الحياة.” كانت تعيش واثقة أنه لن يحصل لها إلا الأفضل، في كل الأحوال”(ص130).
جسدت بهية نموذجا آخر لحياة لقحتها نطفة معرفة خاطفة و باردة، فأثمرت نكدا و صراعا مزمنا. “تعرفت عليها صباح يوم شتائي (…) و تزوجتها في مساء اليوم نفسه، و انتبهت قبل منتصف الليل، إلى أنني قد وضعت قدمي في ركاب خطأ قاتل لا منقذ منه“(ص11). لم يكن لقائها مع يوسف شاعريا و مبهرا، بل كانت أجواء ارتباطهما مكفهرة. “- هل يمكنك أن تتزوجيني؟ ! فقالت بعصبية واضحة : لم لا؟ ما دمت تطلب ذلك من دون حتى أن تبتسم” (ص ص17- 18). و قد تكرست الهوة بفعل اكتشاف يوسف لوجود “تطابق مربك” بينهما و استحالة بزوغ بذرة الحب في حقل حياتهما. هذا الاكتشاف فتح علاقتهما على أبواب جهنم. ” و منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى هذا اليقين، استقرت علاقتنا في توتر مزمن“. لم يكفا عن تبادل التهم و إغاظة بعضهما البعض.”تعتبرني قانعا بالحد الأدنى في كل شيء“، ” وكنت أعتبرها ندما يخزيني باستمرار، و يجعلني دائم الإحساس بالخسارة“(ص18). و كانت حياتهما منضبطة لقاموس غني بمفردات مترعة بالتوتر. التجاهل و عدم التحديق في الوجه ثم شحذ للعدوانية و الجدل المسموم والمدمر. و قد بلغت وتيرة انهيار العلاقة ذروتها بانتحار ياسين. لم تجمعهما الحياة، فتلمس يوسف العون من الأموات طمعا في رأب التصدع. ” ثم ذات يوم سألت بهية. – لماذا لا نبني قبرا لياسين؟ إنه أفضل ما يمكن أن يجمعنا ! فحدجتني بنظرة قاسية، و قالت(…) – ينبغي أن يبني كل منا قبرا للآخر، و يدفنه حيا، و يهيل عليه كل تراب الدنيا ” (ص20). .
أعقبت زمن استحكام التوتر و العدوانية لحظات صحو و صفاء. تخضب وجه بهية ذات يوم، بالود و الابتسامة. و بعد أن كانت تستشيط غضبا و تشيح بوجهها عن يوسف، طلبت منه المشورة. ” هل يمكن أن أستشيرك في فكرة راودتني هذه الليلة؟“. و الملفت أن الشرارة التي أشعلت الصفاء و الوصل، هي بذرة تفكير و حلم طائش، وهب أرض لإنجاز مشروع إنساني و فني. و من ثمار ذلك الصفاء، وصل حبال النظر وفرض الاحترام. ” وضعت القهوة على الطاولة، و نظرت إليها لأول مرة منذ بدأت تكلمني”(ص104). اخترقت نظرة يوسف الكثيفة قناع القسوة الذي اعتلى وجه بهية، ليتحسس طيبتها و يكتشف ملامحها. لم تعد بهية مصدر خزي و شعور بالخسارة، بل أضحت عقلا مبدعا و مذهلا. “استمعت مذهولا إلى بهية “، “قلت إنها فكرة رائعة حقا” ص107.
إن الهدف من هذه الإشارات هو التأكيد على أن بهية لم تفقد ذاتها في أوج اشتداد أزماتها و خصوصا بعد انقشاع غيوم التوتر و اللاتواصل. احتفظت بحريتها كذات واعية. لم تكن تستكين أمام يوسف. تحاججه و ترد عليه، تحدجه بنظرة قاسية أو تتودد إليه، تعارضه و تغيظه أو تستشيره، تقبل عليه أو ترشقه بحكمة أو طلقة. “و دائما تجيبني بهية بأن الحداثة المزعومة هي السيبة“. تلمزه بما صار عليه “اليسار التقليدي من التسبيح بحمد السلطة المطلقة لحد الانتشاء بالإذلال الجماعي للأمة“(ص93). استطاعت بهية أن تبدد كآبتها و تجدد حياتها. اقترنت بصديق يوسف أحمد مجد و أنجبت منه طفلة جمعت بين ملامح ياسين و صرامة ملامح بهية و أعين أحمد مجد المتوثبة. و نفخت الروح في حلم ياسين ، تشييد قوس على النهر، و أطلقت العنان لطيش مبدع، إعادة إسكان ساكنة المزبلة و إقامة هضبة اصطناعية، ترد الاعتبار للمزبلة كبؤرة تضج بالقبح و الجمال و الرزق و النجاح و الفقر و الحب والموت و الحياة. هذه الذات الصامدة تعوض عن خساراتها و عن غصة فقد الابن، بالاستماتة في تجسيد مشروعها و حلم ابنها. و رغم دخول فاطمة، صديقة يوسف، لغمار معركة إنجاح تلك المشاريع، و هو مؤشر يسير في الاتجاه النقيض لمنطق صفو العلاقة بين يوسف و بهية، و رغم تأثر فاطمة و يوسف بالإحساس بالفشل في ترجمة حلم ياسين، فإن بهية ظلت متمسكة بمشروعها و حريصة على ارتياد المسالك اللازمة لإنجاحه. و خلال رحلة عبور بهية لصحراء الحياة، تسلل إليها وحش السرطان فأنهكها بشكل خاطف. “يقول(أحمد مجد) إن حالة بهية قد تدهورت فجأة“(ص ص 308- 309). تسامت بهية على مرضها. لم يستطع السرطان أن يسرق منها الابتسامة و الرقة و الحنو، و لم يجد الألم طريقا إلى وجهها..”التقينا في وسط الدار، كانت بهية مستعدة للخروج، مبتسمة، تداعب الغالية الصغيرة (…). خمنت أنها تتألم“(ص309). لم يوقظ مرضها نار عدوانيتها تجاه زوجها السابق، بل وثق عرى صداقتهما، فرسمت قبلة على خده تمخر عباب وجهه منعشة ديمة سكوبا، بادر يوسف إلى كبح جماحها بنضح ماء بارد على وجهه.
بعد أن حاصرها الغم و حولتها الأجواء المشحونة إلى آلة حربية تشحذ مهمازها لتغرزه في يوسف، استطاعت بهية أن تجترح معنى جديدا للحياة. إنها تهب الحياة و تنفخ الروح في جمادات فتثمر الجمال و الأرزاق. تعيد ربط ذاتها بالعالم و بالآخرين بشكل تلقائي. لقد تحررت من سجن القلق و الانطواء، لتواجه حقيقة فقد الابن و الانفصال عن الزوج و سرقة أرض العائلة. إن صروف الدهر مكنتها من اكتشاف ذاتها و قدرتها على العطاء و الفعل المنتج و النشاط الخلاق. أصبحت ذاتا أصيلة تتمتع بالتفرد و العقل و الحب و القدرة على الخلق9. و لعل تعافيها من السرطان و استعادة “كل ثقتها في الانتصار على الداء” يترجم عشقه للحياة و قدرتها على التحمل(ص320).
لم تسلم حياة إبراهيم الخياطي بدورها من رجات هزت أركان حياته. الرجة الأولى جسدها انتحار صديقه الحميم عبد الهادي، المغني بملهى “المرساوي”. لقد آلمه عجزه عن اختراق قناع الضحك و السخرية الذي يحجب الوجع الكثيف الراقد في أحشائه و يواري العذاب الأليم الذي يعطصره، مثلما آلمه عدم تفطنه للوجع والشجن اللذين يسريان في عروق مقطوعاته. و لعل تأثر إبراهيم، يكشف متانة وشائجه مع عبد الهادي و مقدار صدقه. فهو لا يرى معنى لصداقتهما القوية إذا لم يتدخل لتخليص عبد الهادي من شراك الموت الذي تخطفه. “أحس أن العالم انهار من حوله و أنه سيظل يهوى بلا قرار“(ص32). و بتعرضه لاعتداء خطير ألزمه المستشفى لمدة خمسة أسابيع، تلقى إبراهيم رجة ثانية عمقت جراحه. لم تكن كلفة تلك المحنة جسدية فقط، بل كانت معنوية أيضا. فقد طفقت الشبهات تحوم حول سلوكاته الجنسية، بعد أن أشارت إحدى الصحف إلى أنه تعرض “لمحاولة اغتيال على يد شخصين يدعيان أنهما ينتميان إلى منظمة تحارب الشذوذ الجنسي بالمغرب“(ص34). و حين اشتد أوار المشاكل، أشارت عليه أمه بمخرج للمأزق الذي زج به فيه، و هو الزواج بهنية، أرملة صديقه المنتحر عبد الهادي، فقبل على مضد. و إذا كانت الأم تروم من خلال قرارها الحكيم، جعل ابنها في مأمن من سهام التدنيس المصوبة نحوه، فإن استجابة إبراهيم لقرارها عرضه لتندر البيضاويين. و بلغت التراجيديا مداها بوفاة الأم. كانت تلك الوفاة بمثابة ” زلزال عنيف“(ص35). أن رحيل الحاجة (بتشديد الجيم)، التي شكلت الحضن الذي يمتص توتراته و العصا التي يتوكأ عليها، عقد إمكانيات استرداد إبراهيم للتوازن بعد أن عصفت به رياح محن عبد الهادي و الاعتداء عليه و الخوض في شرفه. غير أن الزمن كان كفيلا بأن يخرجه من سجن الاغتراب الذي تبتل فيه ليستعيد طعم العيش. “كان ذلك قبل أن يخضع إلى الاستسلام المهيمن على الساحة و الذي أصاب جيلنا كله نصيب منه، مزيج من دروشة، و تصوف علماني، وروحانية حديثة“(ص36). و لئن كانت عودته لمنطق الحياة سلبية، بحيث لم يبادر بالسعي إليها مثلما فعل يوسف و محمد، و إنما اكتفى بالاستجابة لجاذبيتها، فإنه لم يستسلم، رغم ذلك، لمنطق التيئيس و العبثية و السيرورة الجحيمية و الإمعان في التيه. إن الاستجابة تدلل على أن رحمه ما تزال ظمأى لنطف الحياة.
يشكل الشاب شبيه ياسين والابن المفترض ليوسف نموذجا متلئلئا لمنهج آخر في اشتهاء الحياة. ميزته أنه يشق غبار الحياة منطلقا من لحظة أقرب إلى الصفر، إن جاز التعبير. لم يترك خلفه مرافئ أو ذكريات. كلما احتفظ به، هو طيف امرأة اسمها زليخة. لم يعبأ بوهم الجذر أو الأصل، هل هو من صلب عشق مزمن أو شهوة عابرة. لا يتدفأ بحضن أسرة أو قبيلة. إنه يستمتع بحجر الحياة، هي أمه و أبوه و طائفته.
و رغم أن المساحة التي يشغلها هذا الشاب ضمن تضاريس الرواية ضيقة، فإن القسمات التي ترسمها عنه في ذلك الحيز تظهره في قمة الاستواء و الاتزان و احترام الآخر. لم يعتبر نفسه لقيطا، و لم يجزم أن يكون نتاج علاقة تنضبط لمقتضيات الشرع، بل اعتنق احتمال أن يكون ثمرة تعارف ” إذا كنت قد تعرفت…على مدرسة شابة…” (ص281). لم يخجل من ذلك، مثلما لم يجنح للاقتصاص من فعلة أبويه المجهولين بكيل اللوم لهم أو القدح في شرفهم. فهو لم يجرد زليخة من جنسانيتها، “امرأة”، و لم يدنسها بوصمة الدعارة “أنا ابن طبيعي لامرأة ” (ص281). قد يقول قائل، إن هذا الشاب لم يتلفظ صراحة بكلمة الأم، و هو ما يثبت أن بذرة الكره وقرت في قلبه، و يدحض فكرة صفائه و سكينته. غير أن ذلك الإحجام لا يبدو، في اعتقادي، مؤشر امتلاءه بالغيظ أو الحنق تجاهها بقدر ما يلمح إلى خصال عقلية و روحية تجمله. و أسوق أربع تفسيرات تدلل على ذلك. الفرضية الأولى تفسرعدم نطقه بلفظة الأم بكونه يجعل رابطة الأمومة احتمالا غير مؤكد. لكن ما يضعف وجاهة هذا الافتراض هو أن الشاب لم يقرن صلة قرابته من زليخة بأداة شرط مثلما فعل مع يوسف الأب المفترض. “جائز جدا أن تكون أبي“، ” إذا كنت قد تعرفت… و عشت معها ما…” (ص281)، ” لنقم بتحليل الحمض النووي، فإذا ثبتت بنوتي…” (ص283). فرده على يوسف كان بنبرة الواثق ” …فأنا ابن طبيعي لامرأة…”. أما الافتراض الثاني فيعزي ذلك إلى اعتقاد الشاب بعدم سلامة اختزال الأم في مجرد رحم تستقبل نطف الرجل لتهب الحياة. بل هي أيضا حجر دافئ يغمر الأبناء بالحب و الحنان و يتعهدهم بالرعاية. إن عبارة “أنا ابن طبيعي لامرأة“، يحمل معناها في هذا الموضع على أن الشاب ابن لزليخة، بينما لا تعتبر زليخة أمه. فلا وجود لجدلية حتمية تصل الطرفين برابطة البنوة و الأمومة. فهو غير مسؤول عن بنوته، لكنها محاسبة على أمومتها. و قد عبرت ليلى بسخرية عن ذات الفكرة ليوسف “ستكون غبيا إذا اعتقدت أن الأبوة مجرد بذور طائشة !” (ص281). و تعكس الفرضية الثالثة صورة الشاب كإنسان يخترق بتنوره حجب التقليد و التضامنيات الضيقة. تفسر هذه الفرضية تورع الشاب عن الصدع بكلمة الأم برغبة الأشعري لفت الانتباه إلى اختزان كلمة امرأة لرمزية تفوق رمزية كلمة أم. فالاحترام الواجب للأنثى يجب وفق تلك الرؤية الحداثية، ألا يرتهن بآصرة الدم، بل يحسن أن يرتبط بصفتها كامرأة. فاحترام الأم و تقديرها، شعور فطري لا دخل فيه للإنسان، بينما يعبر احترام المرأة كإنسانة عن نضج عقلي يلعب الإنسان دورا كبيرا في بلوغه و العمل به. أما الفرضية الرابعة و الأخيرة، و ترتبط بالفرضية الثالثة، فتميل إلى أنه يعكس احترام ذلك الشاب لاختيارات تلك المرأة. فهي، قيد حياتها، حرة كأنثى في أن تنحت طريقها في صخرة الحياة. و لا يهم أن تلتفت إلى رعايته. كما أنها تستحق بعد وفاتها أن ترقد بسلام كامرأة من دون إزعاجها بالخوض في تفاصيل جزئية تتساءل عن طبيعة العلاقة، هل هي أم مجرد رحم نكارة.
من جهة أخرى، لم يعمد الشاب إلى الانقضاض على يوسف بعد أن أشرع هذا الأخير باب احتمال وجود رابطة الأبوة. بل أجابه إجابة مزجت بين الجد و الدعابة، و استل سيف ابتسامته و غمزه ليبدد الحيرة التي أحكمت قبضته عليه (يوسف) “لا تخف، لن أحاصرك، لا أريد أبا يتوجب علي أن أقتله لأعيش بسلام” (ص281). لكنه لم يخل، و لو مرة، بالاحترام الواجب تجاه يوسف. لم يظهر له كرها أو يؤاخذ عيه نزوته و إهماله. إنه دقيق في تعابيره و مقنع بمنطقه غير الوثووقي و بعيد عن الفحش في القول.” إذا كنت قد تعرفت… على مدرسة شابة …، و عشت معها ما يمكن أن يسفر عن خلق جديد“، “هل تريد ان تقطع الشك؟“، ” لنقم بتحليل للحمض النووي، فإذا ثبتت بنوتي لك… يجب أن تمر … و تدفع…“(ص283). لا يقتفي أثر يوسف طمعا في غنيمة مادية أو يهفو إلى ما يسميه نيتشه”راحة حقيرة”. فكل لقاءاته معه تكون إما بمحض الصدفة أو بمبادرة من الأب الافتراضي. و لا يبادر حين اللقاء بالكلام. و رغم أنه تحسس رائحة البنوة من دم يوسف، فإنه بقي وفيا لمنطق الاحتمالات.
يبدو الشاب وحيدا، يجدف في بحر الحياة. لم يطلب العون من أحد. إنه مستقل بفكره و طاقته. و إذا كان قد تتحرر من سطوة كل الارتباطات الضيقة، فإنه أسلم نفسه لسلطان الحرية ومنطق العقلانية. إن وحدته لا تعبر عن عزلة أو اغتراب، بل هي مؤشر قدرة. إنه نموذج معبر لذات واعية وحرة. كان بالإمكان أن يدس رأسه، بحكم ظروفه، في تراب الهروب خجلا من انتسابه إلى صلب شبق أهوج، أو يرتمي في حبال الانحراف أو الاغتراب تبرما من البذرة التي تبرعم من أحشائها، لكنه سخر روحه المرحة وعقلانيته المبهرة و تسامحه الجم ليعيش في سلام و عنفوان . و لعل الابتسامة التي تشرق في وجهه كل حين، تعكس صفاء روحيا و فلسفة في الوجود. ” و عندما قلت له ذلك أجابني مبتسما“، ” ثم ما لبث أن انفجر ضاحكا(…) وقال متوددا“(ص281). “سألته فرد مبتسما“(ص282)، “رأيته يبتعد ملتفتا نحوي بضحكته” (ص283)، ” رأيت أول ما رأيت ابتسامته العريضة و مرح ملامحه، قبل أن يفاجئني بتحية مبالغ فيها و الحركة السخية لذراعه“(ص284). إنني أخال أن عدم إشارة الأشعري لنتائج تحليل الحمض النووي ترميز ذكي لاستعداد و قدرة الشاب على مواصلة المسير من دون مرافئ. فلا غرو إذا افتتنت ليلى بعبقرية هذا الشاب الأعزل من الجذر و من الحقد، و المدجج بحريته و عقله و حبه للحياة. “ رويت جزء من هذه الحكاية لليلى بنوع من التفكه، فقالت إنها تجد كل هذا مؤثرا للغاية، و أنها قد أحبت الشخص كما لو كان ابني فعلا(…) وقالت إنها تحب هذه الخفة لدى شاب يفترض أن يكون مثقلا بأعباء البدايات“(284).
ياسين: رماد الاحتراق أو أدلوجة مفارقة الهنا لحساب وهم الطمأنينة في الهناك
إذا كان محمد الفرسيوي يغشى الوغى غير هياب، و يرفض أن يجر ذيول الهزيمة، و يعاند فجائعه بكبريائه، و يسعى جاهدا للتقليل من فداحة كلفة حساباته، و سخر يوسف ملكاته المختلفة للإمساك بملامح طيف شاحب في خضم تبدل الصور و الأمزجة، فلماذا فضل ياسين أو استسلم لسلوك مختلف في التعامل مع الحياة، الانتحار. هل يؤشر انتحاره إلى فعل تحرري و انعتاقي من بيئة اجتماعية و سياسية آسنة و من مناخ العطالة الذي جثم على الإرادات؟ “ما الذي أصابكم“، أم ينم عن رؤية تحط من قدر الحياة؟. هل أسلم أمره إلى روح أبية تعاف ولغ الإطار و الجثو على الركب؟. هل يعتبر انفجاره، انفجارا في وجه الظلم الذي تجسده أمريكا العابثة بحيوات الأفغان و تعبيرا عن الاحتجاج ضد الخطط التي لم تفلح في إخراج الرباط من سجن الترقيع و الترميق و التنميق المحنط، أم مؤشر عجز عن الانخراط في عالم لا يخلو من متع، و أمارة فقر فكري و ضعف المناعة ضد جراثيم التكفير و الّإعراض عن الحياة؟.
تحيلنا هذه الاستفهامات بشأن انتحار ياسين، على فرضيتين اثنتين. تعتبر الأولى سلوك الانتحار فعلا مترعا بالرمزية. فهو سلوك احتجاجي نوعي ضد إرادات الاستعلاء و زمن التقنية المنحط و المفقر و المفتقد للجمال. في حين يعبر وفق الفرضية الثانية، عن عمى يعصب العين و الفؤاد و يكمم فم العقل و يفرخ العقائد المطلقة. كما يعبر عن هروب من الحياة و تسفيه ساذج لمتعها10. تحفل الرواية بمؤشرات تدعم الافتراض الأول. فمكان تفجير الذات، أفغاستان، يوحي بأن فعل الانتحار احتجاج على الاستعلاء الأمريكي و على منطق التدخل لحماية مصالحها الإستراتيجية. فهو من هذه الزاوية، صرخة في وجه الظلم. ثم إن بعض غمزات ياسين إلى الطابع المتهدل للعاصمة الرباط و من خلالها إيماءاته إلى التدبير المأزوم لشؤون الحاضرة، فضلا عن مستواه التعليمي، عوامل تدفع صوب اعتناق فكرة أنه ارتحل من الهنا، (الأرض) الخانق للأنفاس، إلى الهناك تساميا و تحررا من كدر الحياة الأرضية. “إن الشعب يحتاج إلى الخبز و الدواء و ليس إلى عاصمة جميلة” (ص78).”ماذا جرى لكم لتعتقدوا أن المستقبل يمكن أن يكون مثل عباءة المتسول، تجميعا من ألوان و أزمنة مختلفة؟ !“(ص79). و قد يفسر إقباله على الانتحار باحتجاجه على خنوع أبيه، ومن خلاله ما صار عليه”اليسار التقليدي من التسبيح بحمد السلطة المطلقة لحد الانتشاء بالإذلال الجماعي للأمة“(ص93). يتبرأ منه “لا علاقة إطلاقا بين مشاريعي و مشاريعك هل تفهم؟ !“(ص109)، “لا أريد ان تنشأ بيننا علاقة أخرى“(ص110). يتهكم منه و يرميه بالعجز، “أنت الذي لم تعد هنا !“(ص109). و كأنه بانتحاره يقتص من مما يعتبره خسارات أبيه التي تجلب العار للعائلة “ستجري وراء المشروع دون جدوى و عند ذلك ستضيف إلى رصيد خساراتنا خسارة جديدة ! “(ص110).
تدفع هذه المؤشرات صوب فرضية اعتبار انتحار ياسين مضمخا بعطر الاحتجاج11. فهو منزعج من منطق الترقيع و مهووس بآلام الشعب و غير آبه بأرض العائلة، كما لو ورث نسغ الماركسية من أبيه حين كان في ألمانيا. و لم يكن ياسين منطويا على نفسه حين مقامه بباريس “تعرف؟ كانت لي صديقة بباريس تقول…” (ص 80)، و كأنه بصيغة الاستفهام هذه يبرئ نفسه من تهمة الانطواء. ثم إن فكرة تركيب قوس كبير يشبه قوس قزح يربط الضفتين، لا يمكن أن تتخلق إلا في رحم مبدعة و حساسة. إنها صرخة فنية في وجه القبح و التحنيط، و سخرية من حداثة مزورة. ألسنا أمام ذات متوثبة إلى أفق الكرامة و العزة؟. يقول لأبيه ” جرب أن تقفز مترا واحدا” دون تردد، لأن التردد يولد العجز(ص 235).
قد يوهمنا ياسين، في ظل ورود تلك المؤشرات، بأن نفسه تمقت العيش في زمن رديء و تتوق إلى التحرر من ربقة الزمن الموحش و المكان المقفر، لتنطلق نحو الأفق المشرع على اللامتناهي. لكنني أميل، رغم ذلك إلى تبني الفرضية الثانية انتصارا للحياة و رغبة في قطع دابر كل أدلوجة أو جرثومة تشيع الفناء مسربلة نفسها بحلة دينية قشيبة. فإذا تأملنا تضاعيف الرواية و مسارات و مصائر الشخصيات، لتبين أن الفعل الذي أقبل عليه ياسين يفصح عن عجز مركب. عجز جسدي و ذهني عن المقاومة في بحر الحياة، توج بركوب الحل السهل، و هو الانتحار. و عجز معرفي أو فقر فكري، حيث استعصى عليه تعميق التفكير و بلورة حلول مناسبة لإشكالات ترتبط بالوجود والفناء و الحب و الآخر. وإذا كانت فكرة القوس لمسة فنية بديعة من ريشة مرهفة الإحساس، فإن بذرة الإحساس الشفاف و المبدع تلك اقتلعت من تربتها بعد انضوائه في طائفة تنفث سم القتل أو بعد اكتفائه باعتناق وسوساتها. و سواء تعلق الأمر بولوج طوعي لأعتاب مشيخة أدلوجة الجهاد، أو بالتغرير به من قبل بائعي عناقيد الطمأنينة الوهمية12، فإنني أعتقد أن مسؤولية ياسين ثابثة في كل الحالات. إن فعله القبيح ينم كما أسلفت، عن هشاشة فكرية و روحية، وعن عجز عن العيش الهني في دفئ حجر الأنوار.
إن سعة العالم المتوهم تبدو مضللة. فالسعة تتأتى من خلال نضالات أرضية و سياسات فعالة و ليس من خلال التحليق العبثي في عوالم الموت. فالانتحار مؤشر عجز عن الصمود في ظل واقع محلي مأزوم و وضع دولي موسوم بالهيمنة. لم يستطع ياسين نسج ضفائر الأمل من خيوط القلق و اليأس، فانتبذ مكانا قصيا يتلمس فيه الطمأنينة. فكيف لمن قذف بنفسه في أتون الموت بقندهار أن يوقن بعودته. فلا عجب إذا اعتبر نفسه ” ملاكا ساذجا“. لقد ضحى بالحياة فوق الأرض لفائدة جنة متوهمة. و رغم أنه اكتشف ذلك، فإنه لم يأخذ العبرة، بدليل أنه أوعز إلى أبيه، في إحدى إطلالاته عليه من وراء الحجاب، بأن يقفز دون تردد. كما حاول أن يقنعه بجدوى “الذهاب إلى أقصى مدى“. هذا العناد يلمح باعتقادي إلى إحدى مظاهر العقل السجالي، حيث يتمسك كل طرف من أطراف المعركة السجالية بعقيدته، و يحس أنه “يفقد قضيته إذا تخلى عن مفاهيم ثقافته”13. إن منطق مطالبه لم يكن فعالا. فإذا كان يخشى أن يبقى “ معلقا إلى الأبد في تلك النقطة من الرصيف…”(ص235)، و يرغب في أن يفلت من شراك السلالة، فإنه علق في شباك أدلوجة الجهاد. لقد قفز، بل و حلق، فوقع في غيابات العتمة14.
قد يشعر ياسين بأنه متفرد و حر و قادر بفضل علمه التقني على فهم الواقع، في حين يفكر و يشعر من خلال سلطات مجهولة تهيمن عليه. إنني أخال أن تلقفه لأدلوجة من الأدلوجات الدينية أو انحشاره في طائفة من الطوائف التي تجعل من أدلوجة الجهاد منهجا يسوغ قتل النفس، يفضح وهم حريته و تمتعه بوجود أصيل. فإذا كانت الحقيقة، في إطار ما يسميه كيركيجارد”الوجود في داخل الحشد” تكمن في السير مع القطيع (يتحدث هيدغر عن الوجود الزائف الذي يخضع فيه الفرد للمجهول)، فإن الفرد في إطار ” الوجود المنعزل”، كتعبير عن الوجود الأصيل، يحتفظ بحريته و قدرته على اتخاذ قراره و تحمل عزلته و قلقه. لم يلج ياسين أعتاب الدائرة العامة ليطرح رؤيته عن الأزمة و الظلم ، ويقدم منظوره للجمال و الحياة و التدبير الجيد، مثلما لم يعبر عن محن الشعب الأفغاني بأساليب حضارية، بل حضن جرثومته في أغواره، فنمت وفرخت حلا مطلقا غير قابل للإنطراح على بساط النقاش في الفضاء العام. إن “البذرة الشيطانية” الراقدة في جمجمته، جعلته يصرف النظر عن هندسة العمران في قلب الأنوار، إلى هندسة الخراب في فيافي أفغانستان. و إذا كان ياسين أشلاء بفعل التفجير، فإن طيفه يتسم بالإعادية (L’itérabilité). فهو لا يكف عن الظهور و العودة، و هو ما يقودني إلى طرح الاستفهام التالي، ألا يعتبر إقباله على الحياة من وراء حجاب الموت ترميزا دالا إلى زيف الطمأنينة التي يوفرها الموت من خلال التفجير و إشارة جمالية و ذكية إلى متعة العيش في الهنا، فوق الأرض؟. إنني أجنح إلى الجواب بالإيجاب. فهذه الإيماءة لماحة و حمالة لمعاني تعلي من قيمة الحياة “الحياة ليست سلسلة من الانتقام و تصفية الحساب” (ص83). و يبدو أن بعض عبارات ياسين تثبت تحليقه إلى عالم العجز و العتمة و السديم. لا يملك القدرة على صياغة الأجوبة. “لكن الموتى لا يعرفون الأجوبة“، “هكذا وجدت نفسي هناك. لم أكن أعرف أنها نهاية أو بداية“(ص235).
قد يتم الاعتراض على وجاهة الفرضية الثانية بالقول إن الرواية تلمح لرمزية فعل الانتحار دون أن تحظ عليه. و قد تستغل بعض الإشارات الواردة في الرواية لدعم هذا الاعتراض. نلفي في الرواية ثلاث طوائف من العبارات يصدر أغلبها عن يوسف، الأب و الراوي الرئيسي. ففي إطار الطائفة الأولى، يعتبر يوسف تفجير ياسين فعلا جهاديا و استشهاديا. “اختلت حياتي لهذا الحد، عندما قرر ابني الوحيد الذي كان يتابع تكوينا لامعا بإحدى أكبر المدارس الهندسية الفرنسية أن يذهب إلى أفغانستان و يجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله” (ص15). و تفيد عبارة أخرى، أن التصميم على تنفيذ عملية التفجير المميتة يضمن تذوق حلاوة الشهادة و الفوز بجواز الاستمتاع بظلال الفردوس(ص19). ” و كنت أتساءل هل فكر بي قبل أن يسلم الروح، و هل ظل مصمما على المضي إلى النهاية، أم أن ندما مفاجئا ساوره و أفسد عليه رونق الشهادة” (ص19). و يجزم يوسف بمعرفة مصير ابنه. يخاطب زوجته بهية “… لكنه فضل أن يفعل ذلك في الجنة (يقصد تشييد مرابض للخيول و مسابح و مرافئ و غرف و ملاعب للأطفال)، على ضفاف لا يغتصبها أحد !“(ص97). و تشير الطائفة الثانية التي وردت بدورها على لسان يوسف إلى موت و مقتل ياسين. “عندما قتل ياسين تسارعت وتيرة انهيار العلاقة“. وبينما لم تشر العبارة الأولى إلى من له صلة بالقتل، حيث بني الفعل للمجهول، اقترن القتل في عبارتين بجهة محددة و هي الطالبان و الأصوليون. “كنت أعرف على وجه الدقة ماذا يعني مقتل ياسين في ظروف لها علاقة بالطالبان“( ص18). “ياسين الذي انحدر من صلب اشتراكي مصفى و مات في أحضان الأصوليين“(ص22). يبدو ياسين وفق هذه العبارات ضحية و طرفا مغررا به و مسموما. و الظاهر أن السم الذي تحدث عنه يوسف نقعته أدولوجات الأصوليين و الطالبان. و لئن كان استفهام “متى نبتت تلك البذرة المسمومة؟ قبل أن يولد؟ أو بعد ذلك؟“(ص17) يحتمل جواب أن تكون قبل ميلاده، و هو ما يعني أن سلوك القتل مرتبط بفطرة أو جينات يوسف، فإن الإشارة إلى الأصوليين و الطالبان في موضع لاحق على طرح الاستفهام، يجعلني أرجح أن البذرة المسمومة نبتت بعد الولادة و في لحظة ارتمائه في كنف الأصوليين. و تبدو الطائفة العبارية الثالثة أجلى نسبيا في تحديدها لطبيعة سلوك ياسين. فيوسف يعتبره فعلا مشينا. “لماذا يفعل بي هذا الشيء القبيح و الساخر و المتجبر و المهين؟!“ (ص16). غير أن عطب رؤية يوسف هذه هو أنه جعل نفسه، بشكل حصري، قبلة سهام القبح و المهانة التي أطلقها ياسين، مع أن لظى التفجير ألحق الأذى و التدمير بمن استهدفهم. فمبرر استهجانه لذلك الفعل هو كونه سببا لارتمائه في جحيم نوبات اليأس و الاستيهام. وعلى خلاف يوسف، كانت ليلى صديقته وحبيبته أدق في تعبيرها. “ثم إن ياسين في نهاية الأمر ليس هذا البطل التراجيدي الذي تدعيه أمه…إنه مجرد ظلامي لقي حتفه..ومع الطالبان فوق ذلك !.“(ص83).
ولئن كان هذا الاضطراب يشيع التشويش، فإنه لا يبعث في اعتقادي على التسليم بوجاهة الافتراض الأول. إنني أستبعد أن تنتصر الرواية لسلوك ياسين الانتحاري حتى في بعده الرمزي15 فجمالية الأفق الذي ترسمه الرواية، لا تسمح بتصور مثل ذلك الافتراض. فلا قيمة فنية و فلسفية لرمزية فعل القتل ما دامت تفتح باب إمكانية تصور شرعية التحريض على المساس بأرواح الناس تحت ذريعة ما. إن جرأة الصدع بالرأي و موقف الانبهار و حالة التردد التي تغتذي من هول الصدمة و في نفس الآن من الاقتناع بقبح و شناعة الفعل، يمكن تفسيرها انطلاقا من ثلاث فرضيات تحوز كل منها حظها من الوجاهة.
الفرضية الأولى تلمح إلى أن أفراد المجتمع، يترددون بين تمثلات و معتقدات اجتماعية أو دينية سقيمة أو غير مقنعة و بين أفكار متنورة يحملونها و يدافعون عنها عن اقتناع أو تصنع. لكن ما أن تباغتهم الحياة بامتحاناتها حتى ينجلي اللامعقول التاوي خلف قناع المعقول، وهو أمر يعكس من جهة، سطوة بعض التمثلات و الترسبات المجتمعية أو الدينية و مفعولها القوي في نحت فهوم البعض و رؤاهم للواقع و الحياة و الموت. و يعكس من جهة أخرى، نزوع البعض الآخر إلى التوظيف الواعي و الذرائعي لأفكار متنورة و الانكفاء على صعيد الأفعال أو المواقف على تصورات مغرقة في التقليد و التكلس16. من هذا المنطلق، قد يبدو يوسف نموذجا وفيا لجيل لم يبرأ من جرثومة التمزق بين الرغبة في الانخراط في أفق الحداثة و بين الانغماس في ممارسات غير متنورة. و كأنه يعيش في جلباب القدامة مرقع بخيوط الحداثة. و على النقيض من أولئك، تعتصم قلة قليلة بحبل العقل رغم عتو الرياح و هول الفجائع.
الفرضية الثانية ترجع موقفي الانبهار و الإعجاب بجرأة تسليم الروح للظفر برونق الشهادة، إلى رابطة الدم التي تشكل حجابا مانعا للحكم السليم على فعل القتل “أرجوك. لا تتحدثي عنه هكذا !” (ص83). على أن قوة تأثير تلك الرابطة تختلف من الأم إلى الأب. فإذا كانت عاطفة الأم بهية الجياشة تصور ياسين بطلا تراجيديا، فإن يوسف حاول جاهدا معاندة سيل عاطفته الجارف. صحيح أنه أسلم القياد لعاطفته حين قرن بين تفجير الذات و الاستشهاد. لكن إشارته إلى قبح و مهانة ذلك الفعل و إلى كونه نتاج بذرة مسمومة نبتت في جوفه فأتت أكل التفجير، يعبر عن سعيه للانفكاك من سجن تلك العاطفة. و لعل الاستفهامات الاستنكارية17 التي صاغها عقب تفجيرات الدار البيضاء في سنة 2003، تدلل على ذلك. ما يسند هذه الفرضية أكثر، هو أن انتفاء آصرة الدم بين ياسين وليلى مكنها من صوغ موقف حازم و ساخر يقرن قتل النفس و الغير بالظلام، ظلام الجهل و الإيديولوجيا “إنه مجرد ظلامي لقي حتفه” (ص 83).
الفرضية الثالثة و ترتبط بصلات مع الفرضية الأولى هي رغبة الأشعري في إفساح المجال أمام أصوات متعددة و تحاشي “عنف القراءة الواحدة”. لم يشأ الأشعري باعتقادي، و هو بصدد إثارة ظاهرة بالغة الخطورة و التعقيد، أن يتعلق بأهذاب تصور أحادي ينسج خيوط “الحقيقة” الواحدة في عتمة وعي ذات متعالية، فأشرع أفق الرواية على الكثرة و التعدد. و الظاهر أنه تحرر من سجن التنميط الواحدي و وهم الحقيقة الدامغة، فتبدت أنوات مختلفة تتأبط مشاعرها و تمثلاثها و معارفها و أحكامها. و لعل هذه الأصوات تعكس غيضا من فيض المواقف و الأحكام السائدة في المجتمع.
و لئن كان أفق القوس و الفراشة قد بلغ من السعة درجة جعلته يستوعب الأصوات المختلفة، فإن ما يزعجني في معرض الإشارة إلى المواقف من تفجير الذات هو نسب موقف التردد بين الإعجاب بفعل الشهادة و الاقتناع بشناعة فعل القتل إلى يوسف. قد يبرر ذلك، كما أسلفت ضمن الفرضية الثانية، إلى هول صدمة فقد فلذة الكبد. إن الإشارة إلى تمزق يوسف بين عاطفة الأبوة و مقتضى ملكة العقل، تبدو أمرا طبيعيا. فآصرة الأبوة والحساسية المفرطة لبكارته، جعلاه يندلق في حوافي الهاوية. لكن هذا التردد لم يكن عرضيا يتبدد و لو بعد أمد بعيد. فاستنكاره الذي صيغ بنفس استفهامي”كيف استطعنا أن نلد هذه الكائنات؟”، بعد انصرام أمد طويل على انعطابه و خلال انهمامه بالتفكير و الكتابة كطقوس علاجية فعالة، لا يرقى إلى مستوى الرد الجازم الذي يجسد لحظة مفصلية مترعة بالرمزية ضمن مسار تعافيه و تحرره.
إن تواتر تذبذبه يبعث على التشويش و يخنق جداول الرمزية المنسابة. فإذا كان صدع ليلى بموقف جريء و متهكم، يعتبر ردة فعل طبيعية بحكم تحررها من ضغط آصرة الدم، فإن ذات الموقف سينتقل، لو نسب إلى يوسف الأب، من درك الموقف العادي و الطبيعي إلى علياء الإيماء الرمزي. فقوة و رمزية موقف اعتبار تفجير الذات سلوكا يتغيى حجب سنا النور ببرد الظلام و عنوانا للعجز و الهرب، تكبران حين يصدر عن يوسف. إن رصيده الحياتي، باعتباره إنسانا مصفى من صلب العزة الريفية وجينات العبقرية الألمانية، و صحافيا تحمل مشاق المهنة و يساريا معتدلا تشبع بأنوار الحداثة و ذاق مرارة السجن، يفرض قطع دابر التردد بحسام العقل الصارم. على أن رغبة تجاوز نزعة الذات المتعالية و المنتشية بامتلاك الحقائق الأوهام و تنشيط مبدأ الحوارية، لا يجب أن تكون سببا في خفوت وهج الرمزية، سيما في معرض الحاجة إلى زيادة جرعاتها. و أعتقد أن فظاعة القتل و التفجير تقتضي زيادة منسوب الرمزية. و لا ألفي أسلوبا أبلغ تعبيرا و رمزية من أن يصدر الرد القاسي و الواثق من أب القاتل. إن يوسف مدعو إذن، لأن يلجم حصان عاطفته و ينحاز لنطف الحياة ضد غربان الفناء، سواء حلقت في سماء قرية جزائرية أو في سديم أزقة الدار البيضاء أو على قمم جبال أفغانستان.
إنني لا ألمح إلى وجوب أن يكون ذلك الموقف سريعا يعقب حدث التفجير. فذلك يقوض إحدى الأهداف المرتجاة من الرواية، و هي تقديم رؤية جمالية و سردية لإشكالية كيفية نهوض الأفراد و المجتمعات من رماد الاحتراق و انبعاثهم من أنقاض الخرائب. ليست السرعة، إذن، شرطا لتحقق احتلام الرمزية الذي يعكس أوج التحول الإيجابي في مسار يوسف الساحر. ما أقصده هو أن يكون الموقف من القوة و الوضوح و الحزم، بحيث يجسد أولا قوة التحول في نفس السرد، وهي تقنية فنية وجمالية تجعل إيقاع السرد الممتع يقودنا في رحلة عكسية صوب مدرج مختلف بعد أن قلنا لمشاهدة مهاوي يوسف الموجعة، و يعكس ثانيا موقفا قيميا أو فلسفيا شامخا من ظاهرة معقدة تتربص بالحياة و الجمال و المتعة، شره القتل. بعبارة أخرى، إن نسب مبادرة الرد الحازم إلى يوسف يحقق من جهة، مرمى جماليا و سرديا، بحيث يمكن استغلاله لتدشين منعطف جديد في إيقاع السرد. فلحظة الانتصار على الارتباطات الضيقة لتسفيه عبث التقتيل، تتيح إظهار حركتين هندسيتين بديعتين. إيقاع سردي خاطف يحملنا على جناحه لنشاهد يوسف و هو يهوي إلى قعر الوحشة و الوجع، يتلوه إيقاع آخر بمسيرة متهدجة، يرصد حلقات انتشال يوسف من جب الألم و تحمل مخاض الانبعاث لتتوج بارتعاشة تزفها متعة الانتصار للحياة. كما يخدم من جهة أخرى، حاجة موضوعية حمالة بالمقاصد، و على رأسها التحريض على الحياة. فبعد أن كانت كثافة الألم تخرم أيامه و تنسج أكفانه، انتفض من خم الأوجاع مضرجا بعرق فلسفة خاصة و بقايا احتلام الصبر، فطفق يزيح عنه رماد الرزايا و يرشف منقوع بلسم أعده من خليط الإباء و التفكير و أمور أخرى، و يمرر يد حكمته على أسقامه فيبرأ رويدا رويدا. قد يكون هذا المسار البطولي رائعا، غير أني أخال أنه لن يصير ملهما و موحيا، ما لم يتوج بصيحة حق في وجه عاصفة الدم ، إن لم يكن في محاوراته المتكررة مع القاتل ياسين من وراء حجاب، فليكن في ثنايا مخطوطاته أو أحاديثه مع أصدقائه. فلا معنى لشبقه لمعانقة الحياة إن لم ينتصر لحياة الآخرين و يجاوز حاجز الدم(القرابة)، ليمد جسرا نحو الإنسانية. فأفق الإنسانية أرحب من سجن هوية ضيقة تنكفء على الدم. كان بالإمكان إذن، اسستثمار لحظة الانتصار المرهونة بامتلاك يوسف حرية الرأي و جرأة التعبير، لإبراز تمام انجلاء شخصه السوي من الشخص الآخر الذي “يخطو لأول مرة في أرض خلاء “. هذا الانتصار للحياة يشكل عتبات عبور. عبور من فلاة مقفرة إلى أنس الصحبة، و من سدرة الغياب إلى مملكة الحضور، و من إدمان الاستيهام و الشرود إلى الاستمتاع بالإستواء وكثافة التفكير و الكتابة، و من لفح العزلة إلى حرارة الفاعلية التواصلية.
ثانيا – الهوية بين الانحجاز في الخصوصية و تجسيد معاني الغيرية:
يعكف هذا المقطع على التقاط بعض المؤشرات التي تعكس الفهوم أو التصورات المختلفة للهوية. تشي الرواية بإشارات تعبر عن تصورين رئيسيين للهوية. التصور الأول ينظر إلى الهوية بما هي “جوهر سابق على الفرد لا يحتمل التطور” و “شعور فطري بالانتماء”. و تصل بعض الأطروحات المنتظمة في إطار هذا التصور مدى متطرفا بتأكيدها على أن الهوية مرسومة في الإرث الجيني للفرد حيث يتوارث الخاصيات الذهنية و العضوية للنسب الذي ينتمي إليه”. إن الهوية، وفق هذا المنظور الموضوعاتي، تتحدد انطلاقا من بعض المؤشرات الموضوعية “كالأصل المشترك (الوراثة و السلالة) و اللسان و الثقافة و الدين و النفسية الجماعية و الصلة بالموطن”18. ويبدو الآخر وفق هذا الفهم، كما يشير إلى ذلك جيل دولوز، تجسيدا للخبث و مصدر إزعاج19. التصورالثاني لا يعتبر الهوية “معطى ملازما للفرد بصفة تكاد لا تمحي”، بل هي بناء اجتماعي و تجل علائقي. إنها تبنى من خلال تماس الوكلاء الاجتماعيين20.
محمد الفرسيوي: الهوية إرث لا انفكاك منه
تعكس تمثلات محمد و أفكاره و سلوكياته رؤية جامدة و منغلقة للهوية. إنها جوهر مكتمل يخشى عليه من الخدش و يتوجب الذود عنه و الوفاء له. تنتفض أنا محمد الفرسيوي منبعثة من رماد الفقر و رائحة الجوع و الإحساس بالدونية و تشهر سلاح الثأر و العصف و البناء و الإغواء و الكذب. على أن أناه لا تعبر عن ذات مفردة و مستقلة في كينونتها، بقدر ما تنصهر في تضامنيات و تختبئ خلف ذات هولية. ففي جب الأنا تستلقي العائلة و السلالة والقبيلة التاريخ و الجغرافيا. إن مواقفه و ارتحالاته و تصريحاته تعكس سعيه لإثبات ذاته اعتمادا على مؤشرات الأصل و السلالة و الدين و اللسان و الثقافة و الموطن. هاجر من موطنه الأصلي إلى ألمانيا و منها شد الرحال إلى زرهون. أطلق شراع جسده المترنح تدحوه رياح التحدي و البحث عن بلسم يضمد جراح الفقر و الجوع و الذل التي فتكت بالريف و أهلها “قضى عشر سنوات يحفر في الصخر من أجل الهجرة إلى ألمانيا”(ص69). حل بألمانيا و تعلم اللغة الألمانية و تزوج من حسناء ألمانية، غير أنه استعجل الرحيل أو الفرار إلى أرض الأجداد و أبناء القبيلة و أرض الأولياء. إنه من جنس مختلف و لا يريد أن يفني صحته على الجنس الجرماني.”هل تريد أن تفني صحتك على هذا الجنس، هل تريد أن يكبر ولدك نصرانيا و أجداده كلهم إلى سيدنا إبراهيم يحملون القرءان في صدورهم هل تريد أن تترك “الشرفاء” يذلون من تبقى من أبناء قبيلتك، هل تريد أن تتحول مدينة تضم رفات بضعة نبوية إلى وكر للواطيين و الحشاشين و المتسولين؟” (ص70).
تبدو هذه الفقرة مترعة بالدلالات، بحيث تتضمن بعض المؤشرات التي تعكس الهوية كما يفهمها محمد. مكنته غيبته من تهييء أسباب المبارزة.”عندما يصل عمك الفرسيوي إلى أعلى عليين“(ص 69)، “و جمعت منها أموالا كثيرة“(ص163). لقد انتدب نفسه لنصرة أبناء قبيلته و الاقتصاص من سطوة “الشرفاء”( مؤشر الأصل المشترك و اللسان) و تطهير زرهون من نجاسة اللواطيين و الحشاشين و المتسولين21. اصطحب فقهاء من بومندرة إلى زرهون بلاد “الشرفاء” لقراءة القرءان بالضريح. هذا الفعل ينطوي على رمزية كبيرة، إذ يؤشر إلى رغبة في تطهير الضريح و المدينة من الرجس المحيط بهما، وكأنه يشن حربا مقدسة على “الأشراف”؟. انخرط محمد الفرسيوي في مشاريع مهدت لخلخلة التراتبيات القائمة و تكسير أسطورة تفوق الشرفاء و رج أدلوجة الأصل الشريف (إنشاء محطة وقود و شراء دار القائد الغالي و حقول الزيتون و أراضي الجموع و الأوقاف و بناء فندق طوع فيه حضارة الرومان ص ص57- 58). و قد أهله صعوده القوي لتشكيل إمبراطورية فرسيوية، إمبراطورية الحاج الخروبي التي قلبت الموازين، بحيث أضحى أثرياء الأمس خدام شبكة الأغنياء الجدد المكونة من الريفيين الذين نزحوا إلى زرهون و انخرطوا في مشاريع كانت في عهد سابق حكرا على الشرفاء، وأقاموا أحياء جديدة. لم يكتف الريفيون بذلك، بل شرعوا في التصاهر مع الأدارسة بعد أن نفض عنهم محمد مهانة الإحساس بالدونية و ألبسهم برد التسيد.
يعي محمد الفرسيوي جيدا أنه يخوض حربا ضروسا على جبهات مختلفة.”لا تقاعد في الحرب“(ص190)، “و لا هذه الحمى التي رفعوها إلى مقام جذبة صوفية، المصالحة(…). كأن حربا عظيمة وضعت أوزارها“،”اتخذت الحرب منحى جديدا“(ص192). فهو يشن غارة على السلطة من أجل الفندق، و أخرى على الأشراف، و حرب البسوس من أجل “عين فرطاسة”(ص165)، و يرأب التصدعات هنا و هناك، و يكيل النقد ليوسف لضعف همته و استغراقه في الحاضر. “يعيش في الآن، في المطاعم و الحانات و المطارات، و يضاجع نساء مدهشات” و “يشتغل بالحكايات العابرة“(ص184).” يا أسفا على يوسف“(ص187). “يوسف تعب من وجع الرأس، لا يريد أن يخوض معركة مهما صغرت“. ينعته ب”سي الفهيم” و بأنه وديع و حالم و مهادن و منمق للكلام (ص190). هذه الخصال لا تصنع محاربا صلبا و صلدا. و للتدليل على روحه المتوثبة و مساره الأسطوري، أورد محمد مؤشرات على قوة همته و جموح عناده. هو المولود نصف ميت، الموبوء بالجدري، وهو ابن الخامسة، و الواقع في بئر في سن السادسة، و انفجرت بندقية بين يديه في السابعة، و حفظ القرآن في التاسعة، و كانت أمه تذبح كل شهر ديكا في ضريح من أجل أن يعيش(ص187). يؤدي محمد الفرسيوي رسالة وجودية و يضطلع بمهام جسام، إثبات الوجود و الحفاظ على السلالة و إعادة بناء أمجاد الأمازيغ “لم يغير هذا البلد سوى الاستعمار و هذا العبد الضعيف“(ص191) و إنقاذ شعر الألمان(ص197) و مطاردة هرقل و أورفي وباخوس و جوبا(ص184). تطفح إرادته بكثير من القوة وسط بيئة توثر الاستكانة “هذه الأرض لا تحب سوى المستضعفين، تحب الفقر“(ص 189). إنه يدرك أن كل الحروب كاذبة، غير أنه لا يرضى الركون إلى السلام الذي يبدو من شيم الضعفاء. قال غاضبا: أعطني حربا صادقة أنهي بها حياتي .. هل تريدني أن أموت بسلام كما يموت أي كلب؟..“(ص257).
يجسد محمد نموذجا للتصورات المغالية في فهم الهوية و التي تؤمن بفكرة توارث الفرد للخاصيات الذهنية و العضوية للوسط الذي ينتمي إليه. لقد لثم نسغ العبقرية من ضرع العبقرية الريفية “تصور الفرسيوي أنه أفحم الوالدة بعبقريته الريفية التي لا تضاهى” ( ص 65). لم يقتف أثر جوبا الثاني الذي تزوج من رومانية فحسب، بل اعتبر نفسه امتدادا له “… فستجد نفسك وجها لوجه مع دوار بومندرة، حيث ولد وشب وترعرع جوبا الثالث المعروف بالفرسيوي”(ص171). يحاول محمد مضارعة باخوس “تصحبكم بركات باخوس، و بركاتي الشخصية” (ص182)، بل إنه تقمص صورته حين خلد في فسيفساء المسبح مشهد الأشراف و هم يمدون أيديهم طلبا لنوال الفرسيوي (ص189). إنه من طينة الكبار الذين ينشغلون بالحروب و الآلام الكبرى و المشاريع الضخمة. ولعل هوسه بالحرب و بالسرمدي يفسر شكواه من نضوب “ينابيع المحاربين” (ص183) وإصراره للحفاظ على سلالة من طينة سلالة الخطابي” السلالة ليست شيئا تافها“، “الحياة تلد الحياة إلى الأبد“( ص186)، “و الله لولا الجهد، أقصد الجهد بصفة عامة و ليس الجهد المعلوم، لدخلت بها ودودة ولودة و لأغرقت هذا البلد الخامل بنسل من فطاحل الريف!“(ص187).
لم يسع محمد الفرسيوي إلى مراجعة أو الانفكاك من تصوره للذات و الهوية والآخر رغم تداعي امبراطوريته و تكالب المصائب ضده ( شكوك ابنه تجاهه و بيع الممتلكات و فقد البصر…)، بل استعاض عن هوسه بالمجد و المال و النفوذ و السلالة بهوس آخر. هوس بالتاريخ و تعلق بالأرض. إنه يتلمس توازنه و نقطة ارتكازه بين ركامات وليلي و فسيفساء الرومان. يعي جيدا أنه يشكو من جفاف في القيم الإنسانية السامية. لم يكف عن اللهاث وراء المال و المجد و النسل حتى جف كيانه. “لا تنسوا أن تشربوا حتى و لو لم تحسوا بالظمأ، ليس هناك ما هو أخطر على جسد الإنسان من الجفاف، أقول ذلك عن تجربة، فقد نسيت أن أشرب لسنوات حتى جف كياني“(ص165). يستمتع بالأساطير، يحفر في الذاكرة و ينبش في أغوار التاريخ بحثا عن نور يتسلل من شقوق الأطلال. إن انحجازه في الماضي و في الخصوصية يحوله إلى كائن ماضوي يتقن المشي في العتمة و في مدينة الخراب و يدمن التحسر”هنا كان يمكن…فلا يكون هناك…ولكن الأمازيغ لا حظ لهم“(ص168). و أخال أن عمى محمد لم يكن فقط عطبا فيزيولوجيا، بقدر ما هو أيضا ذام عقلي و حجاب مانع للرؤية و التواصل و قيد يكبله و يوهمه بامتلاك الحقيقة. حتى في أوج انكساره، لم يعدم حس التهكم على الرومان و لم تضعف لديه غريزة حب الاستئساد على السياح حفدة الرومان و الجرمان. إن أناه تعاند الزمان و المكان و تصر على الحط من قدر الآخر الغريب و الشيطان. تثبت هذه المؤشرات ما أشرت إليه من أن الهوية وفق التصور الموضوعاتي جوهر سابق على الفرد لا يحتمل التطور.
لكن، ألا يعبر هوس محمد الفرسيوي بالقوة و الأصل و الأرض والمال و النفوذ عن محاولة مشروعة لبعث ذات متحللة و استرجاع مجد مفقود و إجلاء أسطورة صدئة من تحت أنقاض التاريخ؟. ألا يعد شغفه بالقضايا الكبرى سبيلا لتجسيد حلم جماعي يتمثل في رد الاعتبار للأنا الجماعية و العبقرية الأمازيغية و من خلالها للتاريخ المغربي، بغض النظر عما يستتبعه ذلك من تجاهل للآخر أو ازدراء به؟. هل يعبر عن إرادة أن يكون ذاتا لها كينونتها؟. أم أن هوسه بالهوية يشكل” تدميرا ذاتيا للفرد غير القادر لأسباب داخلية أو خارجية على أن يصير ذاتا. فالنرجسية هي شكل من الأشكال القصوى لهذا البحث التدميري الذاتي عن الهوية”22.
يبدو أن هوس محمد بامتلاك و إثبات هوية ثقافية حقيقية و خالصة منعه من الانخراط الإيجابي في الحاضر و ربط علاقات غيرية قائمة على التواشج و الحوارية. و في ذات الاتجاه يعتبر ميشال فيفيوركا Michel Wieviorka))23 أن الهويات الجماعية تفضي إلى نفي الذات و تكريس غربتها، بحيث تصبح في غياب احترام خصوصيات الذات مصدر اغتراب. إن “الجحر“(ص168) الذي انتهى إليه محمد يرمز ربما لاغترابه و سجنه و عزلته “…مثل طفل نسيته أمه في هذه الخرائب“(ص 179).
لكن، الرواية تشي بمؤشرات قد تفند فرضية انكفاء محمد على تصور موضوعاتي منغلق للهوية؟. فقد اقترن محمد ب”شجرة الدر” الألمانية رغم سطوة التقاليد، و أغنى رصيده اللغوي بتعلم الألمانية، و تردد على الجامعات هناك. كما جنح للتماهي مع باخوس و هرقل، و أعجب بالشعر الألماني، و اعتبر نفسه منقذا له، و دعا السياح لتأمل “التلاقح الخلاق بين دمارات متقاطعة“(ص166). جاهر بحبه للأمة الألمانية المجيدة، و اعتبر الريفية فرعا من لغة غوته(ص163)، و جعل نفسه نظيرا للألمان. “أنا أيضا مثل معظمكم تزوجت ألمانية“(ص163). ثم إن دفنه لباخوس في باحة مسجد مغمور ينطوي على دلاات رمزية. ألا يبدو مؤشر تلاقح بديع بين مادية الغرب و روحانية الشرق؟. ألا يعبر عن توتر خلاق بين متعة الانخطاف التي تؤمنها كأس معتقة يجسدها باخوس و الإحساس بالتسامي الذي يمدنا به المسجد كفضاء للروح؟. ألا تعكس سلوكات محمد صراعه من أجل الاعتراف بالذات من قبل الأشراف و الألمان و الرومان؟.
يبدو أن اقتران محمد الفرسيوي بديوتيما لم ينهض على رغبة في المثاقفة الإيجابية و التلاقح الحضاري، بل تفوح منه رائحة التحدي و الرغبة في إخضاع ذات تنتمي إلى أمة مجيدة تبهره، مستعينا بالتاريخ لاستدراج أسيرته. فقد سخر سحر التاريخ لاغواء ديوتيما بالإقامة في المغرب. و يذكرني هذا الأمر بخطة مصطفى سعيد في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، “التاريخ قواد”. فاستثمارالتاريخ قواد بارع يملأ فراش مصطفى سعيد بالغنائم من الحسناوات البريطانيات. لم يدخل محمد الفرسيوي زوجته في سلك النحن حين هم بالفرار للنجاة بجلده و جلد ابنه (ص70). إضافة إلى ذلك، يبدو أن دافع الزواج منها، هو الرغبة في إحياء مجد تليد باقتفاء أثر جوبا الثاني الذي تربى في روما و تزوج ببنت كليوباترا(ص 168). كما أرجح أن موقفه من الألمان يصدر عن شعور بالانبهار. إنه تعبير عن الاعتراف بالمعنى الهوبسي، اعتراف الضعيف بالقوي و العبد بالسيد. ” قليل ما يستطيع أحد الفوز برضا الأمة الألمانية!“(ص179). هذا الإحساس بالانبهار بالغرب يبدو عاما. فنصف أخت يوسف ابن محمد، تنبهر بزرقة عينيه التي تؤشر لحضارة الغرب “لا يسعدها شيء مثل التأمل في عيني الزرقاوين و إشهارهما كقرابة مجيدة مع العالم المتحضر“(67). لكن ذلك الانبهار لم يمنع أنا الفرسيوي من الانتصاب ساعيا لتأكيد نديته تعويضا عما يختلج في دواخله من شعور بالدونية ” لا ظل فيه إلا ظلي، أنا الشجر و أنا الرجل الذي يرتاح في ظلها“(ص179). يظهر أنفة و عزة “أنا الدولة “(ص178)، ” ليذهبوا جميعا إلى الجحيم” (يوجه الخطاب إلى باخوس و أورفي و هرقل)، و يخاطب السياح بنبرة تعال”لكن يجب أن تعترفوا” (179). يخال نفسه في لحظة زهو، إلاها ينفخ الحياة في مملكة آيلة للسقوط “ونفخت فيها من روحي ووضعتها على سكة مغامرة مثيرة“(ص195). كما أن أثر انبهاره بالجرمان لا يتخطى عتبة الإشباع النفسي لخصال مفتقدة كالدقة “رتبت الطرائد و المعدات و (…) بعنايتها المعهودة“(ص64)، و المناعة”، و كلما رأوها(ديوتيما) سليمة (…) إلا و ازدادوا غيظا، و صبوا جام غضبهم على هذا الجنس الألماني الذي أنتج هذه المناعة الاستثنائية في البشر و الحديد على السواء“(ص71) و الإخلاص “تزوجت ألمانية شديدة التعلق بواجباتها كزوجة” و الجمع بين القوة والإتقان و الرقة. فألمانيا أمة “تواجه كل شيء بقوة لا مثيل لها، و تتقن كل ما تقوم به و تملك رغم صلابتها الظاهرة رقة لا يعرفها إلا الشعراء والفلاسفة” (ص163). إن كون تلك الخصال مفتقدة، لا يعني وجود عقم جيني في البلدة، بقدر ما يعبر عن افتقاد فضائل سامية في غمرة الانشغال بالصراعات و الأساطير و الانكفاء على هوية منغلقة. دليل ذلك، أن يوسف يعترف أن أباه يتصف في بداية علاقته بديوتيما بفضائل”الاستقامة و الجدية، و الأمانة، و التفاني“، أكسبته مزيجا من “التعالي و الحياء و العفة“(ص72). على أن إشارته إلى أن كل ذلك تلاشى بعد فترة الإقامة، لا يعتبر دليلا على غياب التواصل و مؤشر عقم محمد الجيني. فالمؤلف يومئ ربما إلى أن التباعد الثقافي ليس قدرا أبديا أو هوة لا يمكن جسرها، بقدر ما يتعلق بعطب في الرؤية إلى الآخر يمكن إصلاحه، و بوسوسات يمكن التخلص منها. فقرار محمد العودة إلى الوطن تجنبا لإفناء عمره في خدمة الآخر و نجاة بولده من خطر التنصير، وسوسة و تصور متحجر يقصي الآخر من حقل التبادلات و يدفع صوب تفضيل التمركز القاتل حول الذات(ص70). كما آن الصرامة التي تحلى بها لا تؤشر إلى قسوته وجفائه. فبذرة الحب راقدة في أعماقه لكن عادات أهل البلدة تحول دون تبرعمها و الصدع بها. دليل ذلك أن محمد فكر في آن يصدع لها بحبه لأول مرة. غير أن الموت تخطفها منه. إن العادات هي التي تبدو قاسية و تعتبر الحب “سفسفة”. أما تربص الموت بديوتيما خلال لحظة حاسمة في الحياة العاطفية لمحمد الفرسيوي، فأخال انه يوحي بأن كلفة الوفاء للعادات و غيرها من العوامل المانعة للتواشج تكون كبيرة ((الموت في حالتنا)، لدى يتوجب على الذوات تخليص أنفسها من شراك المفاعيل السلبية للانتماءات الضيقة و استنفار العدة اللازمة للتحرر من آسارها و تحاشي التردد و الحسم في القرار. فرغم أن محمد استدار نحو ديوتيما “ليصرخ فيها تعبيرا عن مشاعره الفياضة“، فإن الوقت تأخر. إن الاستمتاع بلذة البوح بالحب الخالص لن يكون ممكنا في ظل ذات مستلبة. فالاستلاب لا يثمر غير”الذعر“(ص65) و “الانهيار” و اليأس” و “العذاب“(ص66). إن التخلص من العادات السالبة و السقيمة أمر ممكن بل و ضروري لاجتراح فضاءات أوسع لتفاعل الذوات و تعالق القلوب.
إن التصور المنغلق للهوية يجعل المسافة بينه و بين الحضارة الجرمانية بعيدة. فالانبهار لا يولد بالضرورة إرادة و سعيا للحاق بالركب الحضاري الغربي.”كان لنا أستاذ في الجامعة الليلية يقول: إن الممكن الأكثر انتشارا في حياتنا هو الاستحالة!لكن هذه مجرد فذلكة ألمانية لا نصلح لها و لا تصلح لنا“(ص ص178– 179). أما ادعائه سرقة باخوس و دفنه في باحة مسجد، فيعكس إرادة الثأر من الرومان الغزاة مدمري وليلي و المطيحين بعرش الأمازيغ الأحرار. لقد تقمص دور السارق ليشبع نهم جموحه النفسي التواق للثأر “لو قدرت لدفنت وليلي كلها و زرهون أيضا“(ص68). على أن استمتاعه بالازدراء بالرومان و حلفائهم الجدد و سعيه النيل منهم بطريقته، يدفعانه للارتماء في حضن التاريخ و قراءة تقارير حول الحفريات. و رغم أنه يدعو السياح لتأمل ” التلاقح الخلاق بين دمارات متقاطعة“، فإن تلك الدعوة يجوهرها حس التهكم، و تعبر عن رغبة في التشفي. “نحن مدينون للحرب العالمية الأولى التي دمرت كثيرا من مدنكم“. فليوطي استقدم الأسرى الألمان لاستخراج وليلي من تحت الأرض (ص166).
لا يبدو التاريخ بالنسبة لمحمد أفقا يغرف منه ما يعينه على فهم الحاضر و التطلع للمستقبل. إنه يفصح عن نزعة ماضوية (Passéiste) و ظل حبيس ذاته عاجزا عن اختراق حجب ما يسميه روني حباشي (René Habachi) “مخاطر الإديولوجيا والعرقية و القبلية و الطائفية” التي تهدد الإنسان الشرقي أو المتوسطي24. إن خطاب محمد و سلوكاته محكومان بمنطق الانحجاز في هوية منغلقة. فالأنا التي قد تبدو أحيانا واعية بذاتها و تواقة للتحرر من بؤس الوضع الاجتماعي و الرمزي و مهووسة بخلخلة ميزان القوى بزرهون و تحدي السلطة و التهكم من الرومان، تعتبر مرتبكة و متهدجة في مسيرها، تتلمس الاستواء و الاتزان في الانطواء.
إن القول بأنا جماعية وتصور هولي للهوية، لا يعني وحدة مطلقة للأنوات. فالتوحد أو الانسلاخ يتحقق بحسب الموقف و المصلحة. فقد يحصل أن تخرج الأنا من دائرة “النحن” لتلتحق بسلك “الهم”، و قد يصير الآخر متوحد مع الأنا. و في حالتنا تتسع و تضيق دائرة الأنا استنادا إلى مؤشرات موضوعية و بحسب أمزجة محمد و نوعية مصالحه و قدرته على الإغارة و المناورة. ترق أنا محمد الفرسيوي طورا فيكون يوسف الابن حبيبا و فلذة كبد و يتوق لكي يتوحد معه في حربه على الخصوم اللذين يريدون أن يسلبوه فندقه، و تنتفض أطوار أخرى فيصير آخر مفارقا. ” يا أسفا على يوسف“(ص187)، “اسمع يا يوسف، يا ولد ديوتيما“(ص217). و تصير ديوتيما الزوجة و شجرة الدر و المتفانية، غريبة. إن نسب يوسف إلى أمه”يا ولد ديوتيما“سبة و وصمة. فهو ابن لسيدة من جنس آخر. كما يفر محمد من الحاضر و يشيح بوجهه عن المستقبل و يتمسك في المقابل بأهذاب الماضي(الحاضر و المستقبل آخرون). و في مواجهته للرومان و الجرمان أو النصارى و الأشراف يدخل عائلته و قبيلته و أرضه في سلك الأنا أو النحن. إن الآخر وفق هذا الفهم مصدر للخطر والشر. لقد تصور محمد خلال لحظة معينة أن يوسف ورث ” بذرة الشر من الدم الجرماني” الذي داهم “دمائه الريفية القحة“(ص66). و اعتبر جد ديوتيما”ابن الكلب“(ص173) و “معتوها“(ص195).
إن إغراق محمد في “تمركز عرقي” يجعله يبتلع الآخر و “يرده إلى الذات”25. إن عماه عتمة و عزلة ناتجة عن مفارقة الآخر و الجنوح إلى تمركز عرقي. فالعالم يختزل في أنا الفرسيوي ” لا ظل فيه إلا ظلي، أنا الشجر و أنا الرجل“. يبدو الآخر في ذاك العالم غريبا يضيق المدى و يملأ الكون بالمخاطر، لذا ينبغي تحاشيه أو هجره أو هزمه. فيوسف، آخر مزعج، لأنه يفكر بطريقة مختلفة و يحمل جينات جرمانية. و ديوتيما آخر متفوق و مبهر، لأنها من جنس لا يقهر. و الأشراف آخرون منبوذون بحكم نسبهم و الرومان لكونهم قوة غاصبة و مدمرة. هذا ما يفسر ارتهان تقلص أو اتساع المسافة بين الأنا و الآخر بطبيعة العوامل المسؤولة عن احتجاب شمس التواصل. إن العلاقة بين الأنا و الأغيار كما جسدها محمد، ظلت محكومة بانتماءات و اعتبارات ضيقة و ليس بمنطق العلاقات التذاوتية و التواصل بما هو “علاقة حوارية بين فئات المجتمع المتعددة و المتباينة إيديولوجيا و طبقيا. علاقة تتوخى بناء وعي حر” منفلت من رقابة و ضغط المؤسسات أو الإيديولوجيات الرسمية26.
ديوتيما : الهوية مجاوزة للذات و بناء تفاعلي
تبدو ديوتيما نموذجا لذات نزاعة إلى التواصل المؤسس على عقل متنور يهتك حجب الزيف. نموذجا لذات فاعلة متحررة من كل سطوة و ذات قابلية لاجتراح أفق رحب للتفاعل و اكتشاف الآخر كمرآة للذات.هذه القابلية المسترسلة للاكتشاف و الفعل تعكسها تلقائية ارتحالها إلى وطن الفرسيوي27 و اهتمامها بالإنسان والبيئة بعيدا عن أية خلفيات سياسية أو إيديولوجية. نذرت ديوتيما جهدها لإحداث مؤسسات لمساعدة النساء و تلقيح الأطفال و محاربة الهدر المدرسي للفتيات و التربية الصحية في مدينة زرهون و أحوازها. كما اهتمت برعاية مشاريع “معالجة النفايات، و محاربة الأوبئة، ومعالجة مياه الينابيع، وجمع البلاستيك، وتشجيع المحافظة على كروم المنطقة، وأصناف فاكهتها المهددة بالانقراض” و استيراد الماعز و الطاقة الشمسية و مساعدة الجربى (ص ص 70- 71) و إدخال الفوطة الشهرية إلى المنطقة. إنها مفعمة بالحيوية، تحب الحياة و تعيش في اتزان، تستقبل الزوار في الفندق و تصطاد الحجل و الأرانب و تجلس في المقهى و تشرب الشاي(ص58 و ص64).
إن الآخر بالنسبة لها بنية توسع المدى. فالآخر المختلف يثري تجربتها. و إذا استعملنا عبارة جيل دولوز، أمكن القول إنها تشبع رغبتها دائما بواسطة الآخر28. فحدقاتها ومن تم مدى رؤيتها يتسع ليتجاوز جزيرتها الخاصة و معرفتها الذاتية و جغرافيا ألمانيا و أوروبا. كما أن شمسها تسطع، بفضل قدرتها على الارتحال و العشق، لتبدد ظلمة التمركز حول الذات. إن العالم بالنسبة لها خلافا لمحمد يقع خارج الأنا، يمتد من ألمانيا ليعانق شعاب زرهون و كرومها و مياهها و أطلال الرومان و الكنوز المطمورة تحت وليلي ” و هاهي ديوتيما تعتنق المكان الجديد، تشيده في قلبها جنة مهجورة“(70).
هذه الرؤية العميقة للهوية، تظهر مدى استيعاب ديوتيما للمغايرة كشرط جوهري في العلاقة الحوارية التي تربط بين أكوان ثقافية مختلفة. بيد أن هذه الأنا المنفعلة و الفاعلة تشكل استثناء في بيئة معاندة تنفث قيم النفي و الإقصاء و الجحود. فديوتيما تبدو شمسا ساطعة في ليل مدلهم. لم يشفع لا عملها الدؤوب و إيثارها النادر بأن تصبح ذاتا معترفا بكينونتها في فضاء زرهون. فمهما أسبلت عليهم من نعم و أزاحت عنهم إد الأمراض و مهانة الفقر و أرادت الانغارس في الجبل الأزرق(ص70)، لن تصير فردا من البلدة. “هذه الأرض لن تقبل منها أبدا جذورا في أحشائها“. يتحسر ابنها يوسف من أن “كل هذا الشغف الذي أغدقته على جغرافية الأمكنة و منتوجاتها و كائناتها المعوجة لم يفلح في إكسابها و لو ذرة واحدة من المودة الإنسانية“. “لا أحد يحمل لها شرارة محبة أو امتنان أو عرفان أو تقدير“. “ تجدف في نهر مضاد من التقزز والكراهية، يعبر عنه الناس بتعبيرات متلفة، من الإشاحة بالوجه، إلى الاستعاذة بالله” و الرغبة في انتقال عدوى الجرب إليها بتعمد مصافحتها بحرارة زائدة(ص71). إن حجاب الجهل و سجن الذات و الوفاء الأعمى لتصورات نمطية، عوامل لا تيسر النظر إلى ديوتيما كإنسانة، بل تقود إلى التركيز على غيريتها المنبوذة”نصرانية” تحمل “رأسمالا جينيا مختلفا“. لهذه الاعتبارات، أرجح أن انتحار ديوتيما لم يكن أمارة عجز عن المشاركة في حقل التبادلات الاجتماعية و الرمزية، و مؤشر فقدان سيادتها الحقة على مصيرها29، و علامة اغتراب30 يدفعها إلى مفارقة الواقع المعيش. بقدر ما يشكل احتجاجا على استحكام قيم الٌإقصاء و غياب فلسفة التواصل التي تنسج ليس من خلال قيم متعالية تنتمي لعالم المعقولات و إنما من خلال “إيتيقا المناقشة” التي تسمح بالوصول إلى “عقلنة تواصلية” تربط وشائج القربى بين الفرد و الآخر31. بل إن الفرضية التفسيرية التي ساقها محمد الفرسيوي في إحدى لحظات صحوه تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبر الانتحار تعبيرا عن احتمال اعتقادها أن الاستمرار في التعلق بواجباتها تجاه زوجها كذات مختلفة، يقتضي انتحارها فوق تلك الأرض(ص163)32. و يبدو أن موضع انتحارها يدفع في اتجاه الدمج بين فرضية الاحتجاج و فرضية الانتحار كمؤشر إضافي و ذكي على الرغبة في تجذير قيمة التواصل33. فاختيار ديوتيما الدقيق لنقطة أرخميدية تفصل بين ضريح مولاي إدريس و الأطلال الرومانية، يؤشر إلى إرادة التنبيه إلى أهمية احترام قيمة الاختلاف و ضرورة نسج علاقات التذاوت في كل الأحوال و الأزمنة. ظلت ديوتيما وفية لمقتضى العقل التنويري حتى في لحظة الموت الطوعي. فهي لم تختر الفرار إلى ألمانيا أو الانتحار على أرضها، بل آثرت إطلاق صرختها المدوية المضمخة بأنفاس الاحتجاج و في نفس الوقت عبير التواصل على أرض محمد الفرسيوي الزوج.
يوسف نموذج لذات ساعية لتكسير أغلال الرؤية المنغلقة للهوية
تنطبع رؤية يوسف ابن محمد و ديوتيما للهوية بالتردد. تعبر رؤيته المتوترة للعلاقة بين الأنا و الآخر عن فعل ارتكاسي ضد عقلية الانطواء و الانغلاق السائدة في موطن الأب. إن مقامه في وسط تفوح منه نار الحقد و الازدراء بالآخر و تحتجب فيه شمس التواصل، عوامل أفضت إلى إعادة يوسف إنتاج القيم التي ينتقدها. و لعل أولى أمارات تأثره بذلك الوضع المأزوم الذي توج بانتحار ديوتيما، اضطرابه المزمن و الشك في الوالد(ص66) و فراره إلى موطن الأم و كره الوالد و البلد وقطع الصلة بهما و برود العاطفة. “عندما ذهبت إلى ألمانيا كنت أكره والدي و أكره البلد الذي قتل أمي و أتوق إلى تشييد حياة بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء المشحونة بالغموض و الفتن النائمة(…) لا احمل في نفسي أي حنين لأحد أو لمكان“(ص73). إن بذرة الشك التي تسللت إليه و الاضطراب النفسي الذي يشكو منه، فرخا في جوفه إحساسا بأن دماء محمد الفرسيوي تلوث “الرأسمال الجيني الذي أهدرت فيه الأمة الجرمانية قرونا طويلة“(ص66). لقد أظهر إحساسا مضادا بالتعالي و بأنه من معدن مختلف. و لعل هذا الإحساس يفسر الصورة التي نسجها عن أمه “ألمانية رقيقة” و”شمس منيرة” و “أم استثنائية” قدمت من عالم متحضر و حطت رحلها بأرض ينام أصحابها مع الأبقار و الماعز و يعاشرون الكلاب والفئران (ص70).
أتسائل، إذا كان يوسف معجبا بأمه الشمس المنيرة و المطر الذي ينهمر نوالا، فلماذا يسفر عن روح متعالية و نزعة تحقيرية تجاه البلد وأبناءه ؟. هل يعبر ذلك عن موقف ثقافي صميم يعكس نزعة نرجسية، أم أصابته بذرة التعالي التي تسللت إليه من دم أبيه محمد؟. هل انتقلت إليه عدوى الكبرياء و سوسة إرادة التميز اللتين أصابتا والده؟. أخال أن الأمر يتعلق، كما يعترف بذلك يوسف، ب”نزوة حادة“(ص66) أصابته بعد انتحار أمه و اعتقاده بان أباه قتلها. إن هول مشهد الانتحار، و ما ولده لديه من اضطراب، لم يساعد يوسف على إيجاد إجابة عن سؤاله. ” و رغم كل ما رأيته في والدي من انهيار و يأس و عذاب و غضب فإنني لا أعرف حتى الآن لماذا تصورت بكثير من اليقين و الألم أنه هو الذي قتلها“(ص66). غير أن نزعة الوثوقية التي عبر عنها يوسف بشأن مقتل أمه تدحضها اعترافاته بأن الانتحار طوعي و بأن الأب تأثر كثيرا لذلك.” لم تجد (ديوتيما) طريقة أقل سوءا لإنهاء حكايتها المضطربة سوى الانتحار“(ص64). “و عندما استدار والدي ليصرخ في فيها تعبيرا عن مشاعره الفياضة، لم يجدها حيث توقع،(…) فاندفع مذعورا“( ص65).
إن مشاعر التعالي والكره و الحزن و الحيرة تبدو ردة فعل غاضبة على الظروف الموضوعية و الذاتية التي اضطرت أمه للانتحار. كما أخال أن الأب الذي يشك يوسف في أنه القاتل ليس هو الأب الفيزيولوجي، بل يحيل إلى البلد الممتلئ بصلف الذكورة المهيمنة “ أكره البلد الذي قتل أمي”. فنزعة، أو بالأحرى، نزوة الشك تلك، تتغيى إماطة اللثام عن البيئة التي تحتفي بالحقد و تغيب فيها قيم التواصل و تقدير الآخر كذات مستقلة. إن تلك البيئة التي يعتبر الأب محمد الفرسيوي إحدى تعبيراتها، هي القاتلة. ينطوي القتل هنا على رمزية كبيرة. لم يتعمد الأب أو أهل البلدة دفع ديوتيما للانتحار، لكن تمثلاتهم عن الآخر و سلوكاتهم تجاهه تفضي إلى تلك النتيجة. ما يؤكد أيضا أن رؤية يوسف لا تصدر عن موقف صميم بقدر ما تعكس لحظة غضب و مؤشر سخط على ظروف مقتل الأم، هو إقراره بأن الصور السلبية التي نسجها عن علاقة أبيه بديوتيما تعكس تخمينا شخصيا. “كل ما قلته أو سأقوله عن هذه العلاقة، هو مجرد تخمين شخصي لا يلزم أحدا سواي” (ص73).
إن الحنق الذي أحس به يوسف آخذ في التبدد، فأضحت زاوية رؤيته تتسع و نظرته للآخر تنزاح عن إحداثيات التسامي و التحقير. فمواقفه و سلوكاته التي أعقبت ابتعاده عن “الأجواء المشحونة بالغموض والفتن النائمة“، تفصح عن تصور دينامي لهوية تبنى و يعاد بناؤها بشكل مستمر. لقد اكتشف34 الكون الذي كان ناقما عليه، الريف لغة و أمكنة و تاريخا و أهلا، في قلب فرانكفورت. و استعاد توازنه و لذة العيش في المجتمع و أسهم في بناء المشترك الإنساني من خلال انخراطه في “مجموعة يسارية متطرفة”(ص17). هذا الاكتشاف الرمزي، عوض خوائه العاطفي و قسوته و نقمته بامتلاءه “بفيض من التسامح تجاه الفرسيوي و تجاه زوجته الجديدة“(ص67). هذا الصفاء الروحي و الذهني، قاده لزيارة المغرب تمهيدا لعودة نهائية (ص125). و هو ما يؤشر إلى أن قراره لم يكن نزوة عابرة، بل هو محصلة مزيج من الحنو المتدفق الذي تعقله روية التفكير التي يجسدها الترتيب للعودة. و أعتقد أن هذه المزية ورثها من جنس أمه. صمد في وجه سهام الدهر التي تنهال عليه من كل حدب بعد عودته، الاعتقال و مقتل الابن و انقلاب إيقاع الحياة و المضايقات التي يتعرض لها بسبب قلمه المشاكس و الانفصال عن بهية و حدة طباع الوالد و الإحساس بالألم نتيجة رؤيته مغتربا. لم يجنح رغم ذلك إلى الهروب إلى ألمانيا طلبا للسكينة أو الاستسلام لهلوساته و الانطواء على ذاته. فخلافا لأبيه الذي تنبئ سلوكاته عن تصور للهوية في ذاتها و لذاتها، و ينظر إلى الهوية ك”حامل لإديولوجيات التجذير”35، يعكس يوسف تصورا تفاعليا للعلاقة بين الأنا و الآخر و رؤية للهوية بما هي “رهان صراعات اجتماعية”36.
يبدو الآخر جزءا جوهريا في هوية يوسف. فلا هوية لأناه من دون الآخرين (ديوتيما، محمد الفرسيوي، بهية، ياسين، الغالية،أحمد مجد، إبراهيم الخياطي، عبد الهادي، الغالية الصغيرة، ليلى، فاطمة، مي، رفاقه بالمجموعة السياسية المتطرفة بألمانيا، سارماغو، المضاربون العقاريون…). يلتحم بالآخر و يعانقه و يتسلل إلى عوالمه الخفية و يربط معه علاقات حميمية (ليلى، فاطمة، زليخة). يساجل و يناظر و يرافع و ينافح عن رأيه دون أن يكن الضغينة و الحقد لأحد أو يبدي استخفافا و ازدراء به. لم يكن نقده للمضاربين و لتواطؤ السلطة نفيا للآخر. بل جسد حرصا على التواصل في إطار الفضاء العمومي. إنه يصد أذى الآخر بأسلوب راق و ملتزم. سخر قلمه لفضح انحرافات المضاربين و تواطؤ المسؤولين و احتجاب المعنى و عقم أو فتور ملكة الإبداع و هيمنة التحنيط. تجاوز سجن ذاته ليعانق هموم شعبه و آلام أقربائه. ولم يمنعه انتمائه إلى هوية جماعية من انخراطه في أفق الإنسانية. عشق خصلات شعر هولدرلين و افتتن بإبداعات سارماغو.
و إذا كانت علاقته ببهية، الآخر الذي يفترض أن يكون قريبا منه، متوترة و مترعة بسحنة العدوانية37 و التأفف، فإن تفرسه في ملامحها ذات يوم مكنه من اكتشاف أن لها ملامح (ص104).إنه اكتشاف للآخر الماثل دوما أمام عينيه دون أن يراه. يتجاسر يوسف على فضح عيوبه و تقصيره تجاه الآخر. فهو يفترض قسوته تجاه بهية. و لعل الرقة التي تصبب بها قلبه تجاهها قبل انفصالهما، وموجة البكاء التي اجتاحت إحساسه بعد رحيلها بمعية زوجها الجديد أحمد مجد للعلاج بباريس، تكنسان مشاعر الحنق و العدوانية التي جاش بها صدره و تزيلان الغشاوة عن أعينه. “قلت إنها فكرة رائعة حقا“(ص107). ثم إن طفح حساسيته الإيجابية تجاه ليلى تأوج ألمه لشعوره بأنه لا يستطيع أن يوفي حقها من الابتسامة الممتعة. إنه مقتنع بأن متعة رشف ابتسامة ليلى تفرض عليه التزاما أخلاقيا بأن يسعدها بدوره. و لم يفض جدار اللاتواصل الذي يفصله عن أبيه محمد الفرسيوي إلى تكلس مشاعره. “ تأثرت لما أصاب والدي في الفندق، ثم تأثرت لما أصابه بصفة عامة” (ص208). لم يعدم يوسف فضيلة التواصل حتى في المواقف المتوترة. فإحساسه بالحرج لم ينقلب إلى حقد على إثر سطو أحمد جد على زوجته بهية. ” فخضنا في حديث الانفصال و ترتيباته المادية و نتائجه بأقل ما يمكن من الانفعال، و سلمت لأحمد مجد ما أتوفر عليه من وثائق“(ص123). ومن أمارات احترامه للآخر كونه لا يستسلم للجاهز من الأفكار و لا يعتنق تصورات نمطية عنه. لم يسارع إلى مهاجمة المثليين و فرقة أرتروز أو يشك في صديقه أحمد مجد الذي اتهم بالمثلية. بل يقلب الفكرة و يمرغها في تربة الشك و التحقق .
لا تبدو هوية يوسف عطية أو شيئا ناجزا ومكتملا، بل تتشكل عبر سيرورة شاقة و في خضم بحثه الدؤوب عن صيغ عبور الصحراء و اكتشافه المسترسل للاحتمالات المتعددة التي تفاجئنا بها الحياة. لم يعتنق وهم الأنا المتضخمة و المكتفية بذاتها. إن جوهر هويته يكمن في نزوعها نحو التبدي و ليس في تمام تجليها. إن التحاماته و تقاطعاته و تناقضاته ترسم ملامح هوية منفتحة و مركبة و غير مكتملة.
أختم هذا المقطع بأسألة عن التصور الذي يحمله ياسين عن الهوية؟. هل يعكس سلوك ياسين الانتحاري نزوعا لاجتراح هوية جديدة تمزق الحدود و توسع المدى؟. أليس الموت انعتاقا من شراط هوية متحجرة؟. و هل يعبر انتحاره في أفغانستان عن تصور جديد للهوية يرجرج التصورات السائدة، هوية عالمية تعانق الإنسانية؟. لن أطيل في الإجابة، بحكم أن مقطع “ياسين رماد الاحتراق أو أدلوجة مفارقة الهنا لحساب وهم الطمأنينة في الهناك” يتضمن عناصر إجابة وافية. و سأكتفي بالقول إننا أمام تجل لرؤية منغلقة للهوية تتأسس بالنسبة لحالة ياسين، على مؤشر الدين أو بالأحرى تمثل للدين. هذه الرؤية تمنع الانفتاح على الآخر، و تقوض الوجود باعتباره خروج من الذات لمعانقة الآخر.
و إضافة إلى الحفر في الذوات و رصد أعطابها و استيهاماتها و تصورها للأنا و الآخر، تصوب الرواية مهمازها نحو الدائرة العامة. تتقصى أوجاع المجتمع و تفضح أعطاب السياسة من دون أن تتحول إلى بيان سياسي أو إديولوجي فج.
ثالثا- أوجاع المجتمع و أعطاب السياسة
تشي رواية القوس و الفراشة بأوجاع الراهن المغربي التي تفضح أعطاب السياسة وتكشف التمثلات السائدة بشأنها. ففي ثناياها فيض من نقد لماح لممارسات و ظواهر سلبية و إصرار على تعرية عورات اجتماعية لم تستطع حملات التنميق توريتها. يبدو المجتمع المغربي من خلال القسمات التي ترصدها الرواية، محكوما بمنطق السوق. فالعلاقات الاجتماعية، كما الدلالات، تبنى وفق منطق القوة و الغلبة. ثمة تهافت على مراكمة أسباب القوة و تعظيم العوائد المادية و الرمزية و بسط النفوذ و السيطرة. فالعلاقات الاجتماعية التي تنسج الرواية بعض ملامحها تنضح ب”إرادة القوة”. ف”القوة معيار كل شيء”. معيار إثبات الذات و انتزاع الاعتراف و وسيلة لتسلق المراقي الاجتماعية و الإفلات من العقاب. و قد تولدت عن سيادة هذا المنطق، ظواهر الإقصاء والاستغلال و التفقير. فالمضاربون العقاريون، وهم نموذج صارخ للاستغلال، يتهجسون بالإثراء غير المشروع. إنهم شرهون و مراوغون. يحولون ربوع فسيحة إلى مربعات “اقتصادية” تكتم الأنفاس و يعرضون جدائل الألم التي ينسجونها باعتبارها نوافذ الأمل، و ينقعون الوجع فيقدمونه بلسما لداء الافتقاد إلى مسكن.
سخر يوسف الفرسيوي قلمه لفضح كثير من صور انحرافات المضاربين و جشع ذوي السلطة و صولات ذوي النفوذ و الثروة و تجار البشر و المخدرات. فقد كتب عن”مافيا العقار في مراكش“(ص144). و واصل “التحقيق في قضايا الأراضي العمومية والاستثمارات الأجنبية في مجال السياحة، و لوبيات الإنعاش العقاري، و مراكز النفوذ” (ص149 ). “ ذكرت في التحقيق كل الأراضي التي أدخلت للمدار الحضري، من يملكها و من اشتراها و كيف دخلت للمدار ذكرت كل التجزئات التي رخص ببنائها، و من استفاد من ذلك، ذكرت المخالفات الخطيرة التي سجلت في عدد الطوابق المرخص بها، و في مخططات التعمير و التصاميم المرتبطة بها، ذكرت ما جرى لنخيل مراكش، حيث استأصلت منه حدائق عمومية، و سمم النخيل، و جففت ينابيع واحاته ليصبح تحت جنح الظلام تجزئات أو بقعا استفاد منها الأكابر، ذكرت شبكات السمسرة في المدن القديمة و رخص الهدم و البناء، و تجار الخرائب المنظمة، ذ كرت الأغنياء الجدد الذين فطنوا إلى مواقع التسيير و الترخيص فهيمنوا عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، ذكرت الشخصيات النافذة التي توفر التغطية، و السلطات التي تيسر السبل، و الوجهاء الجدد الذين يجمعون في يد واحدة خيوط الأرض و علب الليل وتجارة الجسد، و ذكرت تقنيات المضاربة، و شبكات الأجانب التي تبيع مراكش خارج الحدود، ذكرت شبكات التهريب و التبييض و دعارة الأطفال و الحشيش و المعجون و الغبرة و كل ما له صلة بالازدهار المعجز لمدينة لا تنام و لا تخاف و لا تغطي وجهها“(ص150- 151).
يستعر جشع المضاربين ليلتهم الدور القديمة بمراكش(ص144). على أن الإعراض عن بيعها يجر ويلات المساومات و المضايقات و التهديدات. قال يوسف لصديقه أحمد مجد مالك دار قديمة. “إذا لم تبع لهم قتلوك !” بل إن التعنت و التمادي في عدم الرضوخ للأوامر يتوج بالاعتداء بوابل من العصي و السلاسل تنهال على الرؤوس و الأجساد فتخلف جروحا و كسورا و أعطاب أخرى(ص142). و بعد السطو على الأرصدة العقارية، من خلال التفنن في نسج حيل بارعة، يجنح المضاربون و المنعشون و معاونوهم إلى تقطيع أوصال سهول فسيحة و هضاب قشيبة إلى مربعات معدة لاستقبال أفواج ساكنة غرزت قسوة الظروف أشطانها على جباههم و في جيوبهم. لقد أضحى العقار و الحيل التي تحاك حوله، البقرة المخصبة للثروة، فلا غرو إذا أخذ في التناسل كالفطر. و من مؤشرات التحول الذي عرفه العمران، أن هوامش مدينة الرباط، على سبيل المثال، التي كانت في ما مضى بؤر عزل و مصدر عطانة، أضحت مركز جذب لذوي المال و ستصبح قريبا فضاءات نعيم و إمتاع بعد لمسات و توضيبات وكالة تهيئة حوض أبي رقراق. فهل يفسر هذا الأمر امتداد عصا التأديب إلى ساكنة بعض الضواحي و نزع الملكية الذي لاحظت بهية أنه ” تم في رمشة عين”(ص93) و لاحظ زوجها يوسف أنه “تم بسرعة فائقة“(ص94)؟. فإذا كان ذوو النفوذ المادي والحظوة الاجتماعية و الرمزية قد استأثروا بالفضاءات الحضرية الجميلة، وافدين إليها من مدن أخرى أو من المدينة العتيقة بعد أن ضاقت ببعضهم رياضات أبائهم و أجدادهم، و زج عطب آلة إعادة توزيع الخيرات مسنودا بمنطق السوق بالفئات الاجتماعية الدنيا في حواشي المدن أو في كانتونات في المدن العتيقة، فإن حكمة السلطات تسعى لتورية خطة تحرير “صفوة” المجتمع من سندان فقراء المدن العتيقة و مطرقة حواشي المدن العصرية، من خلال إدراج ترحيلات السكان و تفكيك الأحياء و نزع الملكية ضمن مخطط تهيئة عمرانية و بيئية تستجيب لمنطق الإدماج. إننا إزاء لعبة تغيير المواقع تقضي بارتحال الأثرياء إلى هامش عطن بعد أن يخضع لتدخلات جراحية و عمليات تجميل. بعبارة أخرى، إن فورة العمران التي حولت هوامش المدن العتيقة إلى مراكز حضرية بعد أن التفت حولها ساكنة محرومة ومنهكة، تقتضي هجرة الأثرياء بحثا عن هوامش فسيحة أخرى. في المقابل، توجب على بعض ساكنة الضواحي، امتثالا لمقتضى مخطط التهيئة، القيام برحلة قسرية معكوسة صوب كانتونات أو هوامش داخل المراكز الحضرية. ألا تعتبروظيفة التنفيس عن حنق أثرياء و وجهاء العاصمة الذين أحكموا القبضة على المركز و امتداداته في المنبسط و بمحاذاة النهر، إحدى الوظائف الرئيسية لشعار الإدماج؟. ألا يبدو تقنية تحول فضاءات الهضاب الهامشية العطنة الخانقة لأنفاس الساكنة المحرومة إلى ملاذ فاتن أو على الأقل إلى باحات خلفية و أمامية لمساكن أثرياء ضاقت بهم ربوعهم الفخمة، فطفقوا يتلمسون شذى النسمات التي ينفثها البحر و ينقعها النهر. ومن يدري، قد يواصلون مسيرهم مستقبلا إلى هضاب عكراش بعد أن تكون خدودها موردة و نهودها غضة، فيستلذون نسج أعشاش في ربوع يصر المخطط أنها ستكون مسربلة بالخضرة. هذا ما يقود إلى الاستفهام، ألا يضيق الإدماج، كما تفهمه و تقدمه السلطات، الخناق على ساكنة الضواحي المحرومة بنقلها من سجون فسيحة إلى خلايا إسمنتية ضيقة؟. و لماذا لا تهنأ ساكنة عكراش، مثلا، بالمقام فوق أراضيها بعد أن توضب هضابها؟. هل تقدر الدولة كلفة الترحيل و إعادة الإسكان، سواء من النواحي الاجتماعية و القيمية و الجمالية؟. ألا يزداد وجه بعض الأحياء الحضرية قبحا في غياب سياسة إدماج شاملة و برامج تحسين الوضع الاجتماعي و المادي لتلك الساكنة؟. فاختزال الإدماج في مجرد تغيير مجالي، يسهم في تناسل بعض الظواهر السلبية، حيث ينقل جزء من الساكنة بعض القيم السلبية للضواحي كالجريمة و المخدرات و التسكع و ترويج قاموس لغوي يؤذي المسامع.
تغدو التنمية، في غياب فلسفة تهيئة واضحة و مندمجة، تنمية هجينة عوض أن تكون تنمية صهر و تناغم. إنها تخلق جزر متعة وسط محيط من الشقاء. ففي الأحياء الحضرية، تتعايش وسائل نقل بدائية بآخر ابتكارات صناعة السيارات و فسح خضراء بمساحات إسمنتية شاسعة و الإقامات الفخمة بصناديق معدلة للسكن. ولعل ياسين بروح دعابته و تهكمه كان بارعا و دقيقا في وصفه لمدينة الرباط. ” ماذا جرى لكم لتعتقدوا أن المستقبل يمكن أن يكون مثل عباءة المتسول، تجميعا لقطع من ألوان و أزمنة مختلفة؟ !“. (ص79). فمشروع تهيئة مدينة الرباط ينضبط لمنطق الترميم و الترقيع و ليس لمنطق تهيئة جمالية و مجالية و اجتماعية مندمجة لعاصمة الدولة. و يسر ياسين لأبيه “ بيني و بينك الرباط ليست سوى حيزبون أندلسية ناصعة البيضاء، متهدلة، لا يسعفها التزويق بأي طعم”(ص80). و حتى يعضد حكمه و ينأى عما قد يزج به في دائرة أحكام القيمة السقيمة، ابتعد ياسين عن حقل العواطف ” لا اكرهها و لا أحبها” و تمسك بأهذاب رأي أمه “أجدها فقط “باسلة ” كما تقول أمي”(ص80). أشهرت فاطمة بدورها تهكمها لفضح سياسة الترقيع كما جسدها شعار إدماج الضفتين الذي ينضبط ل”عقلية الخياطة“(ص101).
و لئن كانت نتائج سنوات من الارتجال تدفع صوب طرح سؤال كيف يمكن لمركز أن يهنأ في ظل وجود محيط يستعر فيه الفقر و الحرمان، فإن السؤال يحتفظ بمبرر طرحه رغم اعتماد سياسة التهيئة. فكيف لمتنزه و لفضاء النعيم الذي وعد به مخطط تهيئة حوض أبي رقراق أن يسلم من الكدر الذي قد ينتج عن غيظ و حنق المحرومين و المهمشين؟. كيف لهامش تهيئ له أسباب المتعة أن يهنأ بالطمأنينة مع وجود مركز حضري وهوامش قروية تحضن كثيرا من مغذيات التذمر و فتيل الانفجار؟. ألا يعتبر “بؤس ضاحية قروية” ذاما يقض مضجع خطط تزويق الرباط؟. يبدو أن ياسين الفرسيوي صور ببراعة فائقة النتائج المحتملة للتناقضات التي تعيشها الرباط. “ قال ياسين إنه يعتقد أن متنزه أبي رقراق، بعد ما يتم إنجاز المرفأ الترفيهي، و الأرصفة، والشقق المفروشة، و الفنادق الكبرى، و المطاعم و المقاهي و صالات الألعاب و العرض، سيتعرض لغارات قبائل زعير و زمور كما كان يحصل في الماضي، وستقفل المحلات بعد صلاة العصر كما كان يفعل الناس في ذلك الزمن البعيد خوفا من هذه الغارات !.”(ص79). إن هجانة سياسة التهيئة يعكسها إقامة فضاء متعة مبهر، يعتبره يوسف ” مصنعا لإنتاج حكايات أقل مأساوية، مرتعا للحب و المغامرات و الثروات و الخسارات و سهرات النجوم، و حفلات المجتمع الراقي، مخبأ للمتسكعين و الهائمين…”، دون الاعتناء بمحيط واسع يشكو من الفقر و هشاشة البنيات التحتية و دون إصلاح أعطاب آلية إعادة توزيع الثروات.
لم تكن الفضائح العقارية مسيجة بالسرية، بل كانت موضوع أحاديث ساكنة مراكش، تلوكها الألسن في “السهرات و المقاهي و الشوارع” (ص150). و ينبئ هذا الأمر عن قوة و كثافة سريان الفساد في شرايين البلد. فالفساد يسفر عن وجهه بفجاجة. “لقد تعود الناس على مشهد السرقة حتى أصبحت جزءا من التقاليد المرعية”. فلا غرابة إذا أضحى ” لصوص اليوم طواويس تستعرض سياراتها و جلابيبها و عمرتها السنوية”(ص153).
و حتى إذا أنجب المجتمع أصواتا جريئة تسخر خيالها أو يراعها لفضح ألاعيب لوبيات العقار و صلافة ذوي النفوذ، فإن عدوى الشكوك و التراخي قد تتسلل إليها نتيجة وابل التهديدات التي تنفثها خلايا المفسدين وبسبب جسامة المخاطر المتولدة عن الدنو من بؤر الفساد. فمهما أبانت تلك الأصوات من حصانة و جلد إزاء ديناميات الإخراس و التكميم، فإن عتو المفسدين و جبروت الجهات التي تسندهم، في مقابل تراخي مجتمعي عام يعكسه تعايشه مع الممارسات الفاسدة “حديث لا يفتر عن الصفقات و الرشاوي و الثروات التي تبلغ عنان السماء في لمح البصر، و لكن ليس في هذا الحديث أي أثر للغضب أو للشعور بالعار”(ص150)، و تملص مجتمع الإعلام من مسؤولياته، عوامل تسهم في إخماد جذوة حماسة الأقلام الحرة و انكسار النفوس الأبية و ضمور ملكة الخيال المبدع و الفاضح. إن إشهار أحمد مجد للتخمة في وجه مأدبة الإغراءات وعدم الاستسلام لأطماع و مساومات المفسدين، خصال عرضته للتهديد و الوعيد، ” إذا لم تبع لهم قتلوك”، و لكسر في اليد(ص142). كما أن استنفار يوسف لأدوات الاستفهام من؟ و متى؟ و كيف؟(150)، عرضه ل”ملاحقات خبيثة و مضايقات صبيانية”(ص152) ولغرزات في الرأس(ص142).
و بدل ابتداع خطط فعالة لاقتلاع رؤوس الفساد و السعي لتطويق منابعه، تعمل السلطات، من خلال حيل مختلفة، على إضعاف دينامية المبادرات الفردية الرامية لكشف بعض الفضائح. تبدأ اللعبة بتجاهل ما يكتب عن الفضائح و إشاحة النظر عما يروى عنها، ثم تستمر في فصول من التكذيب و تأليب بعض الصحف ضد الأقلام المشاكسة و اتهامها بتهم واهية. وقد يقتضى الأمر، إذا ما فاحت عطانة الفضائح، التدخل سواء من خلال إجراءات تستبق انفجار الوضع كالمهادنة و التطمين و التطبيل، أو توقيف مسؤول هنا و هدم طابق هناك لتهدئة النفوس الغاضبة و تنفيس حنق بعض الأقلام الثائرة. غير أن يد الفساد الطولى تصول و تجول قبل العمل بهذه الإجراءات التكتيكية و بعده. فالتحقيق الصحفي الذي أنجزه يوسف “في قضايا الأراضي العمومية والاستثمارات الأجنبية في مجال السياحة، ولوبيات الإنعاش العقاري، ومراكز النفوذ” لم يكن ذا تأثير فعال. لم يظهر له أثر “في أي صحيفة أخرى و لم يتهيج الشارع و لا تحركت مسطرة قضائية”(ص151). و رغم شيوع الحديث عن فضائح العقار في صفوف الساكنة، فإن أجهزة القضاء و الأمن صمت آذانها عنه. ” ولا يحدث أبدا أن يتسرب حديث الشارع إلى دواليب القضاء أو حتى إلى فضول الدوائر الأمنية”(ص150). و بعد اهتمام بعض الصحف الإسبانية بالتقرير، سارعت “جريدة شبه رسمية” إلى القدح في صاحب التقرير،“أحد الغربان”، بحجة أن تقريره يعبر عن الانزعاج من النجاحات التي تشهدها مدينة مراكش (ص151). ويشكل استدعاء يوسف من قبل “شخصية مهمة” و استقباله ببيته الفاخر طورا آخر ضمن لعبة تمويهية متصلة الحلقات. وقد أعقب تلك المقابلة التطمينية إشعال ضجيج إعلامي و صخب أمني حول الخبر الطري الذي زفه المسؤول المهم ليوسف، هدم طابقين من إحدى العماراتلكن سرعان ما هدأت الفورة لتفسح المجال أمام مسلسلات السطو و الإثراء السريع و بلا سبب. فالتدخلات العمومية تأخذ طابع حملات أو حركات (بسكون الراء) و تستجيب لمنطق تمويهي. فحتى لا تتحول “الفرجة المنظمة” التي”يتعجب الناس منها و يضحكون و هم يتابعون مشاهدهم” إلى ” شيء تراجيدي” (ص150)، توجب نهج مسلك تمويهي، هدم طابقين من عمارة في مدينة تحتفي بالفساد و تتناسل في أنحائها الطوابق الشاهقة (عمارة الفراشة) التي تغار من كبرياء الكتبية. و قد يضاف إلى فصول اللعبة مشهد اعتقال “رؤوس كبيرة” في قضية رشاوي العقار. و لعل تندر المراكشيين “بالطوابق التي هدمت، و العمارات التي توقف بنائها و التجزءات التي نامت ريثما يثمر النسيان مشاريع جديدة عليها”، يفضح أسلوب تعامل السلطات مع فضائح العقار. إن هدم الطابقين يؤدي وظيفة تورية بحر الفساد و يعتبر محاولة لعقل ألسنة المراكشيين التي تلهج بالفضائح، و تكميم قلم يوسف و تيئيسه من خلال ترسيخ قناعته بعدم جدوى الدخول في حروب لا يملك عدتها. على أن السلطات قد تستعين في حربها التمويهية بأذرعها في جسم الصحافة، و هو ما يؤكد أن الفساد أخطبوط جاثم على مسام المجتمع و دواليب الدولة. فإضافة إلى إعراض الصحف عن عرض التقرير و اتهام إحداها ليوسف برغبته في إفساد نشوة النجاحات التي تشهدها مراكش، و افتعال بعض الصحف لضجة حول هدم طابقين، وهو أمر ينمق صورة السلطات، ثم الانشغال عن فضائح العقار، ” تعرف كيف تقلب الصفحة بسرعة فائقة“(ص152)، تنشغل الساحة الإعلامية بالفضائح الجنسية (سياحة جنسية، دعارة القاصرين،زواج المثليين، الحفل التنكري للشواذ، سهرات المخنثين و جرائم زنا المحارم و اغتصاب القاصرات…ص157). وا لظاهر أن هذا الاهتمام الكثيف يعبر عما أسميته منطق التمويه الذي يخلق أو يسلط الضوء على “فضائح صغيرة” لتورية “فضائح كبرى” أو صرف فضول الجماهير عنها.
إضافة إلى فضائح العقار، تشي الرواية بأعطاب اجتماعية و سياسية أخرى تردد بعضها بشكل خاطف على لسان يوسف نقلا عن صهره الحاج التهامي، و أشير على سبيل المثال إلى “تآكل المدرسة المغربية” و “تبدل القيم” و “تلاشي اللغة العربية” و إهمال مدينة سلا(ص96). و أشار يوسف أيضا إلى ظواهر الرشوة و الانحرافات التي يعرفها تدبير المال العمومي و “الامتيازات العشوائية” و ضعف فاعلية النجاحات الاقتصادية الذي يغذي توجس السكان من السقوط في آسار البؤس المتربص بهم (ص ص 157-158) و استفحال أزمة السكن في زمن تمتلك فيه وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ملكيات شاسعة (ص92). من ذلك أيضا، الانحرافات التي تشهدها الساحة الإعلامية، يعكس بعضها سير بعض الصحف في ركاب السلطة من خلال التطبيل لحملاتها و القدح في منتقدي انزلاقاتها، و الانغماس، في المقابل، في عطانة فضائح الجنس. ” لا يعرف أحد لماذا هيمنت على الساحة الإعلامية قضايا أخلاقية لا علاقة لها بالسياسة و لا بتدبير المال العمومي و لا بالرشوة و الامتيازات العشوائية و الأغنياء الجدد، بل فقط بالفضائح الجنسية“(ص157). هذه الانحرافات التي التقطت الرواية بعض قسماتها تعكس ما يسميه لوك فيري (Luc Ferry) ” أوهام و تفاهات “المجتمع الإعلامي”. فعوض الاضطلاع بواجب الإعلام النزيه و مسؤولية فضح التلاعبات و الممارسات الملتوية دون الانزلاق إلى التعريض و التهريج، توثر بعض الصحف الخوض في المواضيع التي تسيل لعاب العامة و نسج روايات لها علاقة بالمغامرات الأخلاقية (ص144) و إصدار الأحكام حتى قبل بدء أطوار المحاكمة (ص156). و قد فسر لوك فيري ذلك بكون” الثقافة و الإخبار الإعلاميين يخضعان إلى ضغوطات أوهام المشاهدة، و ضغوطات المنطق القهري للفرجة و الترفيه”. “فلأسباب تقنية و إيديولوجية، فإن السرعة تتغلب (الأحرى،تتغلب السرعة) على متطلبات الجدية، و المعيش على المنظور، و المرئي على اللامرئي، و الصورة الصادمة على الفكرة، و التأثير على التفسير”38.
و تلمح الرواية لما يمكن تسميته بتراخي الضمير و ضمور الحساسية تجاه قضايا توصف في ما مضى بالكبرى. “ألا ترين أن فلسطين نفسها لم تعد تحرك في شعرة واحدة، لا هي ولا سقوط بغداد، و لا حزب الله. لا أرض مغتصبة و لا شعب مسحوق.. كل هذا و غيره لم يعد يثير في النفس ما يجعلها تنزل للشارع“. و يبدو أن هذا الإقرار لا يعكس النوبات و الهلوسات التي تهاجم يوسف، بقدر ما يرمز إلى مناخ عام يتميز بالانشغال عما يسمى “القضايا الكبرى للأمة”. و لربما يعزى ذلك إلى كثافة القصف الذي يتعرض له الفرد نتيجة كثرة الأوجاع الاجتماعية و الاقتصادية التي يشكو منها و استمرار ازدراء السلطات بقيم الحرية و العدالة. الظاهر أن ذلك القصف يدفع الفرد للانهمام بشؤونه الخاصة و الإشاحة بوجهه عن قضايا المدينة و الأمة.
تتضمن الرواية أيضا شواهد على واقع سلطوي رهيب. فقد اعتقلت السلطة يوسف بحجة ورود اسمه على صفحات كتاب ضبط عند صديقة له. ثم إن العبارة التي نحتها المحامي أحمد مجد، صديق يوسف، تعبيرا عن تحديه ل لمهدديه و مساوميه على “الدار القديمة” بمراكش “و الله لو وضعوا الكتبية في مؤخرتي!.“(ص142)، تغمز لبعض أساليب التعذيب الوحشية التي تنتهجها السلطات، و هي إقحام أجسام صلبة في فتحات الشرج. و من الإيماءات البديعة في هذا الباب أيضا، نذكر استشراف يوسف، و هو يحاور ابنه يوسف خلف حجاب الموت، بيع أثرياء الرباط المالكين لمنازلهم بمراكش و الانتقال إلى العاصمة امتثالا للأوامر. و يصل التلميح دركا رفيعا من التهكم حين يذكر يوسف أن الحكايات المراكشية ستتلقى بدورها “التعليمات بالهجرة نحو العاصمة” (ص80). إن انتقال عدوى الانصياع للتعليمات من الأشخاص إلى الحكايات صورة مترعة برمزية تفضح كثافة ثقافة التعليمات التي تعكس هول استراتيجيات و خطط الضبط و التدجين.
و من أعطاب السياسة التي تفضحها الرواية، عقم ملكة الإبداع الذي تشكو منه السلطات وهيمنة نزعة التحنيط في صفوفها. و لعل ردات فعل السلطات إزاء المشروع الحالم لبهية و الازدراء من فكرة القوس التي ابتكرها ياسين و تعهدها أبواه بالرعاية، تعبر عن تكلس يجعلها تهاب الجديد و تجفل من المختلف. من قلب مدينة تتعطر بالعطانة و رائحة الفضائح و يستعر فيها لظى جشع المسؤولين و اللوبيات و تتسربل ببناءات عبوسة متناثرة كالفطر، ينبعث ضوع خيال مبدع و حالم. تمخض المشروع الحالم عن فكرة راودت بهية ذات يوم. و لعل سحر و نبل حلم بهية نقعا الابتسامة و الود على محياها. يقضي الحلم بتخصيص جزء من أرض عائلة بهية التي لم تمتد إليها يد السلطة الطولى، لإقامة مشروع إسكان أهل مزبلة عكراش و الاحتفاء الفني البليغ بالمزبلة. تتجلى بلاغة الفكرة في التركيب البديع بين مسؤولية التنظيف الحكيم لبؤرة تنفث الأوبئة و واجب الحرص على عدم تجفيف منابع الرزق والحياة لساكنتها(ص105). فإذا كان نموذج التنمية الأعرج قد زج بهؤلاء في عطانة الهضبة و اضطرهم للنبش في ما حوته المزبلة من براز المدينة و فضلاتها و التعطر بروائحها و نسج حكاياهم و أحلامهم مما تلهمهم به أسرارها، فإن اقتلاعها من خصر عكراش يبدو من قبيل “التنظيف الساذج” غير المكترث بمصائر السكان و أحلامهم التي تفتل على إيقاع طنين الذباب و البعوض و هدير الشاحنات والعطر المنقع من تفاعل النفايات. فمشروع تطهير ربع مدنس، يواري الثرى على حيوات حالمة و حكايات غرامية ملهمة و على أجساد و أرزاق، كي يهيئ روضا غضا تتملى به “علية القوم”. تقترح بهية الاحتفاظ بساكنة هضبة عكراش بعد إزالة مصادر الأذى، وإقامة “نصب كبير للمزبلة يكون عبارة عن هضبة اصطناعية من الأشكال و الألوان، يلعب بها الأطفال دون أن يلحق بهم أذى”. وتتطلع بهية أن تكون الهضبة تعبيرا عن “إحساس متحرر بالجمال” و وسيلة إبداعية تستحثهم على احترام البيئة. إن الهضبة الاصطناعية مترعة برمزية قوية. ففلسفتها تتأسس على فكرة انتزاع النفع من موضع ينفث الضرر، بؤرة عكراش، من خلال تأمين استمرار مقام الساكنة بعد تحقيق مصالحة السلطة مع ربع أسهم بشكل كبير في ضبط إيقاع حيواتهم و أحلامهم و حواسهم.
أما فكرة القوس فكانت بذرة زرعها ياسين في أذن أمه بهية، فقرت في قلبها وحضنتها بين أترابها و أصرت على تجسيدها. تولدت الفكرة حين رافقته بهية بغرض التعرف على أرض العائلة المصادرة و إقحامه في لجة التفكير في مصيرها. يرغب ياسين في تركيب قوس شامخ يصل ضفتي الرباط و سلا(ص107). و إذا كان مشروع الأم يحركه منطق السمو بالكينونة الإنسانية و إجلال النفس البشرية و احترام البيئة، فإن مشروع الابن يتغيى مد جسر التواصل الشاعري بين ضفتين لم تعمل السياسات المتواترة إلا على تعميق الهوة بينهما. إن شاعرية المشروع يعكسها بهاء لون القوس، الأزرق، و جمال صورة التشبيه “كأنه خيط ماء يلعب فوق المحيط”(ص108). لقد استطاعت تلك البذرة المشاكسة أن تشعل نور النقاش حولها و أن تضمن التفاف بعض الأفراد حولها. بل إنها اخترقت جسم الصحافة التي انقسمت بين مؤيد لبعدها الإبداعي و لجدتها و شاعريتها و بين من يعتبرها بدعة تهتك تاريخ المدينة و تعبيرا صارخا عن سطو ينتزع المبادرة الخلاقة من وكالة التهيئة و مؤشر هوس بالانقفال و حيلة من حيل اليسار التقليدي.
لم تأل أسرة ياسين الفرسيوي جهدا لتنفيذ مشروع القوس، و لم تنثن أمام الأصوات المعارضة و المشككة و المتهمة. لقد مضت قدما في نضالها متوكئة على إصرارها و جلدها و قناعتها الراسخة بإمكانية التلطيف من تجهم ملامح وجه مشروع التهيئة بلمسة خيال مبدع. شكلت أسرة يوسف الفرسيوي و بعض الأصدقاء جمعية أسندت رئاستها لبهية أم ياسين. و بعد أن استبشرت خيرا بدعوتها من قبل المسؤولين بالوكالة، ذهلت بهية لرد فعلهم. فشرارات الازدراء تتطاير من قهقهاتهم، و لم يسعف تكلفهم للياقة في توريتها. لقد سعى أولئك المسؤولون إلى إقناع بهية بأن مشروع التهيئة لا يحتمل ضخامة تكلفة لعبة القوس. و المثير في مسار هذا الحلم أن موقف مسؤولي الوكالة ترجمته بوفاء جرعات الازدراء و التهكم التي طفحت بها قهقهاتهم و غمزاتهم. بيد أن إدماج هضبة عكراش و “خلق مدينة جديدة على أنقاض المزبلة“(ص114) و بناء “باب البحر” كما تخيله ياسين، مشاريع عرفت النور بعد أن تجرع يوسف و بهية و فاطمة مرارة التهكم والفشل. فما دلالة ذلك؟. قد يفسر ذلك باكتشاف وجاهة و جدوى أحلام ياسين التي قاوم أبواه و خصوصا أمه ، فضلا عن فاطمة، من أجل نفخ الروح في أنويتها. لكنني أخال أن هذه الفرضية ضعيفة بحكم أن تضخم أنا الدولة يسجنها في دهاليز تفكيرها الضيق و يحجب عنها رؤية الأشياء الجميلة التي تبدعها أخيلة الأفراد و خصوصا النسوة و الشباب. إن المشاريع التي تدافع عنها بهية و يوسف تبدو من منظور منطق السلطة أضغاث أحلام تثير الشفقة و حتى السخرية. أما الفرضية التي أميل إلى تبنيها و لها علاقة بالتبرير الذي سقته لإبراز تهافت الفرضية الأولى، فهي أن السلطات لا تريد نسب المبادرة إلى السلطات و تسعى في المقابل إلى سحب البساط من مواطنين يفترض فيهم الانصياع لأوامر السلطة و الاعتراف بنباهة و حكمة السلطات و التهليل بمنجزاتها. فالمنجزات الإيجابية يجب أن تنسب إلى السلطات. إن منطق السياسة السائد لا يتأسس على أخلاقيات التواصل و إيتيقا المناقشة التي تتغيى البحث عن خير المدينة. إنه ينضبط لحسابات أخرى ذات صلة بالمساومات و المصالح الخاصة و الرغبة في السيطرة. ثم إن السلطات لا تأبه كثيرا، في ظل سيادة ذلك المنطق، بمتغير الوقت. فكثير من المشاريع الحيوية تتجمد بسبب انسياق المسؤولين وراء المماحكات و السجالات العقيمة أو التقيد بحسابات و توازنات اقتصادية ضيقة لا تقيم اعتبارا للجمال و الفعالية ، لترى النور بعد أمد كفيل بتحجيم فاعليتها.
أخال أن الواقع المغربي، كما تلمح بذلك شذرات من الرواية، ظل محكوما برؤية كارل شميث39 للسياسة، حيث القوانين لا تنتج عن نقاش حر و إنما عن صراع مصالح. فالمناقشة العامة إجراء فارغ، لأن البرلمان فضاء للمساومات و ليس مصنعا للقرارات. فالسياسة لا يمكن فهمها بمعزل عن جدلية الصديق و العدو. إن نشاط شهوة الفساد و السطو وتدثر “تيار البزنسة “(ص308) بعباءة سياسية لاقتحام لجة الانتخابات مدججا بالمال و النفوذ و الكذب و عدم احترام القانون و غياب تقدير الذات الإنسانية و انزلاقات الصحافة و عسف السلطة و محاباتها لذوي النفوذ و غيرها من الظواهر الاجتماعية و السياسية السلبية، مؤشرات تبرز كيف أن السياسة تقترن بالمناورة و الخديعة و القوة و الهيمنة و لا تأبه بالخير المشترك و بالمدينة كفضاء للعيش المشترك وبترسيخ التواصل و التذاوت. و سأعود في هذا المقام إلى مشروع الهضبة الاصطناعية و فكرة القوس بحكم سماكتهما الرمزية. يبدو أن رفض هذين المشروعين الحالمين و رشق المنافحين عنهما بالازدراء يعبر عن استحكام العقلية البيروقراطية و ضيق أفق الخيال في المدينة و سطوة التكلس على ذهنيات المسؤولين و انتصارهم للجمود و تعلقهم بأهذاب السطحية و خنق المبادرات المتطلعة إلى إيجاد أو إعادة إيجاد المعنى المفتقد للسياسة . و أشير إلى أن حنا أرندت (Hannah Arendt) ماثلت البيروقراطية بالصحراء والفناء. إن استفراد البيروقراطيين بسلطة القرار يضيق أمداء الحرية. فعواصف الصحراء الهوجاء تنزع لخنق السياسي بما هو جوهر الحياة الإنسانية. تزحف الصحراء التي تلفظ الذوات و تقوض اللحمة الرابطة بين الذوات من خلال تذرير الحياة الاجتماعية. و يبدو أن انحدار الممارسة السياسة إلى درك السجال العقيم و اختزال السياسة في مناورات تيسر تعظيم الغنائم، و ما يرتبط بذلك من تدني مركز القانون و انتشار نار الفساد في هشيم المجتمع و دروب الدولة، عوامل تأوج حيرة السكان و تؤبد المعاناة و تدمر أمشاج الأحلام و تعطل مسار التقدم. فلا غرابة إذا تناسلت الأكواخ في المدن و أخذ الإصلاح صورة حملات تنميق و رتق و ترميم و لعبة تجميل لأنوية بعض المدن بينما تنغرس الأطراف في عطن المزابل و تنطمر ساكنتها في أتون الفقر. إن هجانة التنمية و غياب الأخلاق التواصلية و انحجاب المعنى، أعطاب تسهم في ما يسميه يورغان هابرماس ( Jürgen Habermas) “عدم الشعور بالمسؤولية”. فالمدينة التي تتعدد فيها مظاهر اللاعقلانية و تتعطل فيها فضيلة الشعور بالمسؤولية، لا تأبه للمعاني و لا تكترث بالتطلعات عكس واقعية(Attentes contre factuelles)40 و تستسلم لكائنات نرجسية تنشغل عن شؤون المدينة بالانهمام بشؤونها الخاصة . إن السؤال الذي ينبغي طرحه بنظر أرندت ليس هو ما هي السياسة؟، و إنما هل مازال للسياسة معنى؟ و كيف يمكن أن نعيد إليها فضاء الممارسة؟41. إن السلطات بإيثارها للنمطية و التحنيط، تنفر مما هو مختلف و غريب و مبدع. إن أفق الحياة الواسع و فضاء السياسة يضيقان بفعل موجات سياسات مهترئة و مبادرات ترقع أفقا مظلما بخيوط واهنة. على أن زفير السلطات الحارق يسهم في دفع الفرد لتلمس الأمان في أمداء أخرى غير الفضاء العمومي. إن تضاعيف الرواية تلمح إلى أن وشائج القربى بين الدائرة الخاصة و الدائرة العامة مفقودة. لا نلمس تقاطعا سلسا بين الحيز الخاص و الفضاء العمومي. فاقتحام الدائرة العامة و المشاركة الإيجابية في بناء المشترك الإنساني، بما يستتبعانه من انشغال بالمصلحة العامة و نسج شبكات التواصل و احترام التعدد الإنساني و فضح صور الفساد و العمل على احترام القيم الإنسانية، تجر الويلات و تورط في المتاعب. لذلك يلوذ الفرد إلى دائرته الخاصة. فيوسف مثلا، شد رحاله إلى “قضايا المهد” حيث يعيش والده. “رجعت من مراكش بفكرة ملحة، أن أبتعد بشكل نهائي من مواضيع المرحلة، وأن أعود إلى قضايا المهد، هناك حيث يعيش والدي آخر فصول حياته حبيس عماه…”(ص153). لقد أضحت الدائرة العامة بلجاجها مصدر خطر و فضاء مناورات، عوض أن تكون حيز تعالق و تذاوت و تواصل.
وبينما تدعم بعض المؤشرات الواردة في الرواية أن الواقع المغربي تحكمه رؤية شميت للسياسة بما هي صراع مستمر و قدرة على معرفة العدو، تتخلل أنسجتها ومضات تنتصر للسياسة بما هي فعل يتغيى تنظيم التعدد و خلق أشياء جديدة تؤسس للعيش المشترك و محاصرة أمداء الفناء و نسج وشائج التواصل، وهي الرؤية التي دافعت عنها الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت. تعتبر أرندت السياسة فعلا خلاقا و ممارسة للحرية. إن السؤال المركزي الذي تطرحه يرتبط بالحرية في إطار التعددية و التعدد انطلاقا من الحرية. فما أن تضيع روح التعدد حتى تضيع السياسة و تصير مجرد ممارسة للسيادة الدولتية. إن مساعي يوسف الحثيثة لتوسيع هوامش الحرية من خلال نضاله في صفوف اليسار و تسخير قلمه الصحفي لفضح انحرافات السلطة و تعرية السلوكات المجتمعية التي تغلب المصلحة الضيقة و استماتة بهية في إنجاح مشروع الهضبة الاصطناعية و فكرة القوس و مؤازرة أحمد مجد لفرقة موسيقية نعتت بأقبح النعوت، أقباس متلئلئة وسط محيط متجهم. فجهودهم تبرز كيف تنبني الذات من خلال الصراع ضد السلطة و من خلال استيعاب المغايرة و تعكس رغبة في تكريس قيمة الحرية و تقدير الآخر المختلف و ترسيخ التعدد داخل المجتمع و المشاركة في النقاش حول حاضر و مستقبل المدينة. فالمدينة بالنسبة لأرندت فضاء للفعل. فكلما بادر أحد بالفعل، فإنه يطلق سلسلة لا متناهية من الأفعال المترابطة. هذه الأفعال هي التي تؤسس قاعدة العيش المشترك . و لعل حلم ياسين، الذي ضخت بهية الحياة في شرايينه، نموذج لفعل أطلق سلسلة من المواقف و الأفعال توجت في النهاية بإدماج هضبة عكراش و خلق مدينة جديدة و بناء باب البحر. إن رغبة ياسين، قبل ان يصاب بجرثومة، و معه بهية ويوسف و فاطمة، رسم قوس في بيئة تحتفي بالتسطيح، تعكس بنظري إرادة مجاوزة الواقع القائم و ” لاعقلانية العقلانية التقنية” و بث نسغ الخيال في مشروع تنموي متهدل.
إضاءة:
عبرت رواية القوس و الفراشة، من خلال رؤية جمالية جذابة، عن قضايا حياتية و ثقافية و سياسية عميقة. و احتفت بالمركب، على صعد مختلفة. مسرح الحياة و المشاعر و الأطعمة و الجسد و أنماط الكتابة و إيقاع السرد و الشخوص و الهويات و الرهانات. ففي خضم الحيوات التي تبدع الرواية أنسجتها، تتماس الأسطورة والواقع ، و يتواشج الموت و الحياة، و اللعب و الجد، و الجهل و الاكتشاف، و التفكير و التجربة، و الجفاف و الرقة، و تتجاور الانتصارات و الانهيارات. تبدو الحياة مشروع توترات ممتع. تهب رياح الفجائع و المشاكل مشعلة نار الألم. تتساقط الأيام من شجرة الوجود. يسيل الزمن في شرايين الصحراء و يسيل الألم و التيه. توغل الذوات في مجاهلها، لكن بذور الحياة تعاند الزمن و الألم، فتزهر أحلاما تتغنج غير آبهة بأنياب الموت و حر الصحراء و سحر المرافئ و غواية الحقائق الأوهام. الحياة “لعبة خطيرة” وصحراء مشرعة على احتمالات لامتناهية. تنبت في شعابها أحلام صغرى تحبو على أربع، وقد تمشي على اثنين أو يصيبها وابل من الرزايا أو تنقض عليها جرثومة العجز فتنسحق كأن لم تكن. وحين تكبر الأحلام و تنتصب قاماتها و تينع صبواتها و تحتلم في مرافئ المتعة، تكشر الحياة عن أنيابها و تسفر عن أسرارها و مفاجئاتها معلنة أن موسم القطاف قد حل. تنحني بعض الأحلام و تنفرط عرى أخرى و تتبخر. غير أن أحلام أخرى تشهر سيف الرقة الصارم أو تستل عنادها الفتي في وجه قسوة المحن أو تبتكر فلسفة خاصة، فتوسع المدى و تزرع بذور الأمل و تذكي شهوة الحياة. ثمة دوما بون بين عواصف الحياة المفاجئة و آفاق الحلم الوارفة . “الحياة(إذن)هي ما نعيشه “. و ما دام الأمر كذلك، فإن وظيفة الحلم هي تغذية التوثب لاجتراح أفق حياتي رحب و الاستقواء على مفاجئات الحياة بقابلية امتصاص الصدمات ورش رذاذ البهارات و حبات الملح على تصاريفها. تبدو الحياة، رغم مراراتها، شهية مشتهاة بالنسبة لكثير من شخوص الرواية. تذكرني مساراتهم بحكمة فتل سميح القاسم ضفيرتها.” لا ينبغي أن يوقفنا شيء، و لا شيء يوقفنا، لأن وقوفنا موتنا، و لا نريد أن نموت، فنحن نحبها، نحبها ابنة الكلب الحياة”42. و أخال أن يوسف عبر بوفاء عن تلك الفلسفة، فلسفة معاندة موجة السقوط، رغم اختلاف في السياقات.” إنني أعيش كانني أمشي فقط، و لا أفعل أي شيء عدا ذلك، متوقعا أن أصل إلى مكان ما و متوقعا أن لا أصل. و غير مهتم أصلا بما سيحدث سوى أنني لكي أمشي لا بد أن أظل واقفا و أن أمشي” (ص154).
تنأى الرواية عن نزعة ديكارتية تجعل الجسد واجهة تأسر النفس، و تلمح إلى أن المتعة يمكن رشفها من يم “الهنا” و “الآن”، و ليس من خلال كأس موت قسري مضلل يهب طمأنينة متوهمة. تقدم الرواية رؤى مختلفة لسؤال كيف يمكن عبور الصحراء. ففي بحر الحياة تنيخ الذوات بأثقالها عند مرافئ أساطير لذيذة، أو تنقاد لأهواء المدينة أو تشعر بالرضا و تتوقع الأحسن، أو تشهر سلاح التهكم و الإباء أو تشن الحروب أو تبسط شراع الابتسامة أو تفر إلى ظل خصر غض أو نهد رطب أو صدر خشن أو إلى حجر فلسفة. وقد تتوهم بعض الذوات قدرتها على اختصار المسافات بتسريجها لفرس الموت، مثلما يوثر بعضها إطلاق رصاصة الاحتجاج على سماكة جدار اللاتواصل. لم تفض حكمة “كل شيء إلى زوال” إلى معاقرة كأس اليأس أو إلى البحث عن “راحة حقيرة. ولم تمنع من مواصلة المسير.
نلمس الحرص على التركيب كمصدر ثراء و إمتاع في الإشارات البديعة إلى الأطعمة. فمتعة النبيذ تولد من زواج جماعي للتربة و أشعة الشمس و المطر. إن لذة الخمرة تبدو محصلة “كيمياء مركبة”(ص13). كما تعتبر لذة قطعة السمك النيء نتاج توليف دقيق بين عناصر متناقضة و متجانسة، الملح و البهار و الليمون و توقيت إضافة كل عنصر و الزمن الذي يستغرقه إحداث الأثر. ” هذه الدقة في تركيب الشيء و فسخه، في انبثاقه و انسحابه، هي التي يمكن أن تلد المتعة“(ص40).
ويطل الجسد في سماء الرواية بكيميائاته و صوره المختلفة. جسد جاف و آخر غض فاتن. جسد يشعل الشهوة و يهب المتعة و جسم يهمي حكمة. جسد ملبد و جسم صاف. جسد متشظي أو جثة هامدة و جسم ينط حياة.
و تتنوع أنماط الكتابة بشكل يثري الرواية و يزيد من جمالها. تجمع تضاعيف الرواية بين رونق عناقيد الشعر و متعة القص و سحر الرموز و رائحة التاريخ و قلق و نور الفلسفة و دفء الكتابة حول الأمكنة و الفضاءات. كما نلمس حضور التركيب من حيث مواضيع كتابة يوسف. فقد كتب مقالا بعنوان “الإرهاب كما لا أعرفه” و كتب “رسائل إلى حبيبتي“.
و يزاوج الحكي بين الاستغراق في الروي و تقنية التشذير. تتخلل الحكاية الرئيسية وحدات حكائية مستقلة. و توظف الرواية نمطين من الاسترجاع، الداخلي و الخارجي. و يبدو الزمن مركبا و ملتويا و مراوغا. يبدأ ليبدأ، و يبدأ لينتهي، و ينتهي ليبدأ. تتقاطع الذاكرات و يجري التردد بين حياة و حياة أخرى و بين الحال و الاحتمال.
وإذا كانت الأنا تبدو متضخمة عند محمد و ياسين، و بدا الآخر في بعض صوره قاهرا( ليوطي و الرومان)، فإن الرواية تشي بمؤشرات تظهر فيها الأنا صورة للآخر، بحيث تبنى الذات في علاقتها بغيرها من الذوات. كما يبدو الآخر وصولا و محبا و ممتعا( ديوتيما و صديق فاطمة الكوسوفي و هولدرين و سارماغو…). و يدلل “التطابق المربك” للأمزجة الموجود بين يوسف و بهية، على أهمية الاختلاف في بناء و تمتين الأواصر الإنسانية. أما على صعيد الرهانات، تتردد في الرواية هواجس التأسيس و الهوس بالجذر و الأصل و بين الانشغال بتدعيم المسار الديمقراطي و بالحداثة، و بين الاحتجاج و نقد الحداثة المزيفة.
لقد ظل الأشعري وفيا لفلسفة التركيب و لحكمته البديعة”ضرورة إعادة كتابة حياتنا، و إخراجها من عنف القراءة الواحدة“(ص42). و لعل تعدد الرواة يندرج ضمن هذا المسعى. فهو يسمح بتعدد الأصوات و المواقف و يتيح تجنب الخطاب الأحادي و الصورة النمطية عن الحقيقة. كما بقيت لغته وفية لأنفاس الاحتمال، حيث تتردد في الرواية مفردات و تعابير “أظن” و “حاولت أن أفهم” و “إذا.. إذا …” و “ربما…” و “تهيأ لي“.
و إذا كانت الرواية تطفح بنزعة نقدية تفضح التصورات عن الهوية و الحياة و تكشف عورات السياسة، حيث أسمع صهيل النفوس الجريحة و زئير المضاربين و رجال السلطة ينبعثان من أغوارها، مثلما أتحسس لظى يومية النار، نار الواقع الخانق و السياسات المعطوبة، فإنها لم تفقد روحها الحالمة. إنها لا تأبه بالعجز و الخراب و تشدد على جعل الأرض مكان إقامة أفضل. ألفي في تلافيفها تخليلات تنفس الحنق و تجترح فسحات أمل. تستلقي على أترابها أهذاب رموش “عينان بسعة الحلم”، و ترفرف في سمائها الرحبة”أجنحة بيضاء” وتطفء النار بحبات المطر. تنقاد بعض شخوصها لحكمة “خل الزورق ينساب، و لا تدهش، لا تفزع،…. اخترق الأشياء و لا تبصرها“. و أخال في الختام، أن الرواية تومئ إلى أنه من رحم زمن متعهر و مطبوع بالضحالة، يمكن أن تنبعث أقباس النور بفضل نطف حب الحياة و الحلم و الخيال.
الهوامش:
1- جدلية الرغبة كتجل من تجليات غريزة الحب التي تعبر عن الحياة والأمل ( (Iros وغريزة الموت (Thanatos) كتعبير عن العدمية.
Bataille (G.), L’érotisme, Ed de Minuit, Paris, 1957.
Les larmes d’éros, Ed J.J Pauvert, Paris, 1961.
2- محمد شوقي الزين، الإزاحة والاحتمال، صفائح نقدية في الفلسفة الغربية، الدار العربية للعلوم ناشرون: بيروت، ومنشورات الاختلاف: الجزائر، الطبعة الأولى 2008.
3- تجدر الإشارة إلى أن تطويع التصدع أو التوتر يتم من خلال ميكانيزمات عدة. السلوك التعويضي ويتم التمييز في إطاره بين السلوك المفضل ثقافيا(إشباع في مجال آخر غير المجال الذي فشل فيه الشخص) والسلوك المسموح به لإشباع حاجات أو الهرب من المطالب كالتخييل أو مطالعة القصص، والسلوك المتسامح فيه ثقافيا في ظل ظروف معينة كالجنس والخمر. والسلوك الممنوع ثقافيا. الميكانيزم الآخر هو إيجاد مركز جديد لتجنب التوتر المتولد من المواقف الإحباطية في ظل المركز السابق. غير أنه حين لا تجدي هذه الخطوط الدفاعية الأولى في منع الانحراف أو كبت مؤشراته، يتم اللجوء إلى أسلوب ضبط جديد لمنع الانحراف من أن يصير سلوكا وذلك من خلال تعسير الانحراف و جعل كلفته باهظة و التهديد بالزجر. راجع محمد عاطف غيث، علم الاجتماع (دراسات تطبيقية)، دار النهضة العربية، بيروت، 1974، صص 133-139.
4- أتساءل ما إذا كان فعلا “رتبت” و”أدرت” (ص14)، الفعلان المناسبان للتعبير الدقيق عن تلك الفلسفة. فالإواليات المختلفة لمعاندة يوسف لأعطابه لا تنضبط للترتيب أو التخطيط، وإنما لميل طبيعي للحياة و لقهر العجز وهزم الاستحالة بارتياد مسالك ومسارب جديدة، دون أن يعني هذا الميل الطبيعي الجنوح نحو الاستكانة والانتظارية وعدم المبادرة.
5- “فعلقت(ليلى) ساخرة: ستكون غبيا إذا اعتقدت أن الأبوة مجرد بذور طائشة!”. “أما فاطمة فقد طلبت مني فقط أن أتريث قليلا و أسأل الشاب عما إذا كانت أمه تدعى فعلا زليخة”. “وقد قلت ذلك لفاطمة، فاقترحت علي أن نخرج من هذه المياه الضحلة، بتبني طفل معا، حتى دون أن نكون مع بعضنا معا”. “رويت جزءا من هذه الحكاية لليلى … فقالت….”(صص 282- 284).
6- حسن محمد حسن حماد، الاغتراب عند إيريك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، 1995، ص56. راجع أيضا يسرى إبراهيم، فلسفة الأخلاق عند فريدريك نيتشه، دار التنوير، بيروت،2008.
7- فرغم أن يوسف اكتشف أن الشبه بينه و بين ذلك الشاب لم يكن كما تصوره في الوهلة الأولى، فإنه لم يتبرأ من وجود صلة بينهما. فعبارة “فقلت في نفسي ربما يشبه زليخة” (ص 283)، تفيد انه يشبه أمه أكثر من أبيه.
8- تعتبر “الأسطورة دراما إنسانية مركزة، لذا فمن السهل أن تصلح رمزا لموقف درامي معاصر”.
Cf. Gaston Bachelard, Préface du livre de Paul Diel, Le Symbolisme dans la Mythologie Grecque, Étude psychanalytique, Paris, Petite Bibliothèque, Payot, 1966,p 6.
9- يتحدث إيريك فروم (Fromm . E) في كتاباته عن الذات الأصيلة، الذات التي يتصف صاحبها بالقدرة على إدراك الأنا كوحدة مستقلة (التفرد)، و”إدراك العالم بالتفكير (العقل)، والارتباط بالعالم والآخرين دون فقد الذات ( الحب)، والقدرة على الخلق ( الإبداع). راجع حسن محمد حسن حماد، الاغتراب عند إيريك فروم، المرجع السابق، ص68وما يليها.
10-أتصور إمكانية صوغ فرضية ثالثة، وهي أن ياسين حاول بفعلته تحقيق أحلام أبيه. فلربما تصور أن العجز بدأ يدب إلى أوصال يوسف قبل أن ينجح في تحقيق أحلامه الشبقة، فسعى “للذهاب إلى أقصى مدى” حتى ينفض عنه مهانة العجز. وتنسجم هذه الفرضية مع فكرة بهية التي تقضي بأن ياسين ورث بذرة التمرد من أبيه و بأنه دفع بانتحاره ثمن اندماجه وتخاذله يوسف الأب بالوكالة. غير أن العبارة الصريحة و الحازمة لياسين”لا علاقة إطلاقا بين مشاريعي ومشاريعك هل تفهم؟ !“(ص109) تفند هذه الفرضية وترجح فرضية رمزية الانتحار كسلوك احتجاجي.
11-قد تكون فرضية رمزية الانتحار قابلة للانطراح ضمن الاحتمالات التي تحوز قدرا مقنعا من الوجاهة لو فجر ياسين نفسه في المغرب دون أن يؤذي أحدا. فإذا كان نقده للحداثة المزيفة وجيها، وكان تشخيصه لأمراض التدبير في الرباط سليما، فإن موضع التفجير يلفظ سلوكه من دائرة الرمزية. إنني لا أرمي من وراء فكرتي إلى تشجيع التفجير كأسلوب للاحتجاج، بل حاولت أن أفسر سلوك انتحاريا موجودا، بالقول إن التفجير، قد يكون رمزيا، لو حدث على أرض تحضن الأعطاب التي ينتقدها.
12-أرجح انتماءه إلى جماعة من الجماعات بدليل أن أباه يوسف تلقى رسالة تعزية واتصالا هاتفيا يبشرانه باستشهاده (ص15).
13-برهان غليون، اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي.
14- استعمل محمد الأشعري عبارة “يخرج من عتمته كلما قرر ذلك“. فكيف لياسين أن يمسك هناك بناصية القرارات. فإذا كان غير قادر على اقتحام الفضاء العمومي والمشاركة في صنع القرار على الأرض، فكيف له بذلك في الهناك، في العتمة. وإذا كانت إطلالاته ذات أبعاد رمزية تبررها اعتبارات فنية وأخرى موضوعية، فإنني أوثر استعمال عبارة تبرز افتقاده لسلطة القرار وفاء لرؤية الرواية لقيمة الحياة ومتعها. وفي العلاقة مع هذه المسألة، أعتقد أن إطلالات ياسين بعد موته تفتح المجال لصولاته وغمزاته. فباستثناء بعض العبارات القليلة التي تجري على لسانه، والتي تثبت زيف معتقداته، كان غمز ياسين المتكرر أكثر قوة من ردود أبيه. يبادر ويسأل ويتهكم ويأمر، مع أن فلسفة الرواية بشأن الحياة ومنهج ياسين لعبور الصحراء (الانتحار) يقتضيان العكس. إنهما يستوجبان أسئلة مجلجلة ردودا مدوية من جانب يوسف الأب. فمثلا عبارة “أنت الذي لم تعد هنا !“(ص109)، تقتضي ردا حازما يكون جسرا لمطارحة قضايا وجودية وسياسية بالغة الأهمية. فرمزية الإطلال بعد الموت تكون جميلة لو سخرت للقيام بحركتين متوازيتين. حركة حفر داخلي في ذواتي العلاقة الحوارية، ياسين ويوسف. ثم حفر في ذات المجتمع وفي خصر السياسة والاقتصاد والثقافة، وبشكل عام في أعطاب الزمن الراهن. لكن مع الحرص في إطار ذلك الحفر في الذوات، على تصويب النقد لذات ياسين وللفكر الذي تحمله على ظهرها، عوض إتاحة الفرصة لها للغمز والوخز. ثم لماذا ينتظر لقاء ابن بلدته في قاعات المطار باسبانيا وجلوسه بجانبه في الطائرة لكي تتحفز طاقاته الذهنية (ص317)، أملا في العثور على حقيقة ما جرى لياسين. فلماذا لم يسأل ابنه سيما في إطلالته الأخيرة، ليعثر على الحقيقة المفتقدة. فمعرفة الحقيقة عبر تلك الإطلالة سينطوي على دلالة رمزية بديعة.
15- قد يعتبر البعض هذا الاستبعاد مطية لخلع الرمزية عن انتحار ديويتما. لكن مسار ديوتيما وسلوكاتها وتوقيت تفجير رأسها وعدم التطاول على حيوات الغير بالقتل، عوامل تضعف ذلك الافتراض ، وتدفع صوب ترجيح فرضية رمزية الاحتجاج.
16-يوحي هذا الأمر بما قاله غيترز بخصوص الإديولوجيا, فقد اعتبر أن “الإديولوجيا جزء من مرجعنا الخاص”نتكلم عن الإديولوجيا لكنها تنطبق على كلامنا”. راجع بول ريكور، محاضرات في الإديولوجيا واليوتوبيا، تحرير وتقديم جورج ه. تيلور، ترجمة فلاح يتيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2001، ص236.
17-“كيف يمكن أن نفهم الإقدام على تفجير النفس في مطعم أو في مسجد أو أمام مدرسة أو في موكب جنائزي.. كيف يمكن أن يكون ذبح الأطفال من الوريد إلى الوريد في قرية جزائرية تعبيرا؟! كيف استطعنا أن نلد هذه الكائنات؟” .إن لسان حاله هو أنه لا يمكن استساغة تلك الجرائم تحت أي ذريعة، “الظلم الاجتماعي والفقر والسكن غير اللائق، والعدوان الصهيوني، والحرب على العراق(…) واختناق في الحلول السياسية”(ص140)، وأن ألم العقم أقل وطأة من مهانة ضخ الحياة في كائنات عنيفة.
18- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، مارس 2007، صص 149- 151.
19- جيل دولوز، ” خطاب الغيرية في الفلسفة المعاصرة، الآخر بنية”، فصل من كتاب منطق المعنى، ترجمة مصطفى حنفي وأعيد نشره في مؤلف جيل دولوز، سياسات الرغبة، تنسيق أحمد عبد الحليم عطية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2011.
20- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، المرجع السابق، صص 152- 153.
21- بقى محمد أسير رؤية تنكفئ على مؤشر الدين. إن أولئك ليسوا، بتقديره، أناسا أو على الأقل ضحايا، بل هم نجس ومصدر خطر.
22-ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة عبد السلام الطويل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2010، ص 284.
23- Michel Wieviorka, La différence, Ed Balland, 2001, p 150.
24- عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، قراءات في الفكر الغربي المعاصر، منشورات الاختلاف: الجزائر والدار العربية للعلوم- ناشرون: بيروت، الطبعة الأولى، ص 108.
25-جان ماري بونوا، “أوجه الهوية”، تعريب عبد السلام بنعبد العالي، الفكر لعربي المعاصر، عدد 39، أيار-حزيران،1986، ص80.
26- عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، قراءات في الفكر الغربي المعاصر، المرجع السابق، ص152 .
27- بعد أن كانت ديوتيما تشتغل في مجال البريد وتسهم من خلال عملها على تيسير العلاقات الإنسانية من خلال الطرود البريدية ونقل الأموال، قررت أن تبعث بنفسها إلى موطن الفرسيوي. لقد انهممت على تجربة حية في التواصل والتثاقف.
28- جيل دولوز، خطاب الغيرية في الفلسفة المعاصرة، الآخر بنية، المرجع السابق، ص191.
29- في كتابه جنيالوجيا الأخلاق ينتقد نيتشه استناد الأخلاق المسيحية إلى تصور فضفاض للمقدس ويعتبر أن “انتهاك المقدس لا يعني استقالة الذات أو الإذعان لغير المقدس” بقدر ما يعني تحررها و”طريقها الأقرب إلى السيادة الحقة على مصيرها”. عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، المرجع السابق، صص215- 216.
30- من مؤشرات عدم اغترابها كونها تعيش حياة طبيعية ومتوازنة مستمتعة بملذاتها. فقبل انتحارها الذي أعتبره فعلا رمزيا، كانت تصطاد الحجل والأرانب وفي طريق عودتها وضبت الطرائد والمعدات والألبسة وسلات الأكل وعلب المشروبات بعناية وربطت حزام السلامة، وهو مؤشر حرص على حفظ سلامتها وعشقها للحياة، وأنصتت لموسيقى بيتهوفن(ص 64).
31- جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، منشورات الاختلاف: الجزائر، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء، الدار العربية للعلوم: بيروت، الطبعة الأولى 2006، ص17.
32- غير أن تلك الفرضية الفرسيوية تحتمل معنى آخر، وهو الرغبة في إرضاء غرور محمد كذات متفردة ومتعالية (إله – دولة) ينبغي أن يفني الآخرون أعمارهم من أجلها. إنه مركز العالم. غير أنني أرجح التفسير الأول، من منطلق أن ديوتيما استطاعت بتصورها التفاعلي المتميز للهوية جعل تلك الفرضية تتسلل إلى ذهن محمد الذي يعتبر نموذجا لذات منكفئة على تصور جامد ومنغلق لها.
33-فالتدمير شرط لازم للتغيير الجذري. ويعتبر سارتر ذلك جانبا سلبيا للحياة.Saint Genet, Comédien et martyr, Gallimard, 1952, Livre I, chap.1, p22.
34- يفيد فعل الاكتشاف عمى أو جهل يوسف حين إقامته بزرهون. فالأجواء المشحونة واحتراز أهل البلدة في التعامل مع أمه الألمانية ومقتلها، عوامل جعلته معصوب الأعين والعقل. هذا ما يفسر زوال الغبش عن عينيه وتفكيره بعد عودته إلى ألمانيا أي بعد زوال موانع الرؤية الواضحة والتفكير السليم والحياة الاجتماعية الطبيعية.
35- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، المرجع السابق، ص 149.
36-المرجع السابق، ص 156.
37- إن الحقد الأهوج الذي تحدثت عنه ليلى لوصف العلاقة بين يوسف وبهية لا يرمز إلى تغلغل الغل والحقد في قلبه، بقدر ما يعكس سوء التفاهم بينهما لاحتجاب شمس الحب عن سمائهما. ثم إن لفظة الكره التي رددها يوسف لا تعبر بحكم تعطل ملكة إحساسه عن شعور حقيقي يخرم دواخله. يقول يوسف ” قلت مستدركا: لا.. لا.. لا، ليس الأمر بكل هذه الخطورة (….). والكراهية التي حدثتك عنها لا تمسني من الداخل”، “حتى عندما أقول إنني أكرهها، فإنني أستعمل كلمة تناسب الوضع، لكن الكلمة لا تعبر عن شيء أحس به” (ص ص83- 84). ورغم أنه لا يحبها، فإنه لم يبخل عليها بكلمة لطيفة. فقد نادى عليها مرة، “يا عزيزتي”.
38- لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2002، ص 155.
39- Schmitt (C), La notion de politique, Paris, 1922.
40-تعبير ل نيكولاس لوهمان.
41- Hannah Arendt, Qu’est ce que la politique?, Sylvie Courtine-Denamy (Traduction), Seuil, Avril, 1997.
42-سميح القاسم، “ابنة الكلب الحياة”، عنوان لرسالة وجهها إلى محمود درويش، راجع محمود درويش وسميح القاسم، الرسائل، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1990ص175