محمد الأشعري،القوس والفراشة، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 2010.
تروم هذه المداخلة مساءلة العلاقة بين روايتي محمد الأشعري: جنوب الروحوالقوس والفراشة، اللتين تهيمن على شخصياتهما، بصورة استثنائية، سلالة آل الفرسيوي. صدرت الأولى سنة 1996، والثانية سنة 2010، وبين التاريخين جرت على أرض الواقع أحداث كثيرة أبرزها التفجيرات الإرهابية التي عرفتها الدار البيضاء في ماي 2003، وخاصة ما تخللها من أعمال انتحارية غير مسبوقة. ويتعين الإشارة إلى أن الروايتين المشار إليهما لا تنتميان إلى نفس السياق التخييلي: فإذا كانت جنوب الروح تعكس حكاية النزوح والاستقرار والتزاوج والتكاثر والموت، فإن القوس والفراشة تعكس المآل الدراماتيكي لأفراد من سلالة آل الفرسيوي في مواجهة تعقيدات الراهن المرتبطة بالاندراج في التاريخ.
دلالة تراجيدية
لقد لاحظت، في القوس والفراشة، وجود توصيفات كثيرة يتم التعبير عنها بكونها “تراجيدية”. يمكننا العثور على ذلك في صفحات عديدة من الرواية: ص32، 40، 83، 150 ،172، 174، 204، 208، 240 الخ. حينئذ قلت لنفسي: إن الكلمة، وتواتر ورودها على هذا النحو الكثيف، لا يمكن أن يكون صدفة ودون دلالة… لا أقصد الدلالة المتصلة بالجمل التي ترد فيها كلمة “تراجيدية”، وإنما دلالة بنيوية تستوعب الرواية ككل، فما هو “التراجيدي إذن في القوس والفراشة
a |
؟
الذين قرأوا هذه الرواية، لاشك أنهم لاحظوا غناها من حيث الشخصيات، وهو غنى مصدره الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي تخترق سرد الرواية، لكن ثِقل هذه الشبكة المتداخلة من الشخصيات لا يمكن أن يحجب عن بصيرة القارئ أن هنالك شخصيتين مركزيتين: السارد يوسف الفرسيوي (ص64)، ووالده محمد الفرسيوي (ص163) الذي يتقلد، بدوره، مهمة السارد في فصل كامل بعنوان « فسيفساء نحن إلى الأبد» يشغل 35 صفحة من نص الرواية.
حالة عمى
في حاضر الرواية، يوجد محمد الفرسيوي في حالة عمى، رغم كونه يقوم بدور مرشد سياحي في موقع وليلي الأثري. وفي الرحلة التي قام بها السارد (يوسف) صحبة الكاتب البرتغالي جوزي سراماغو إلى فاس، يقول لصديقته ليلى وهما على متن السيارة أنه قرأ رواية العمى لسراماغو « لأسباب شخصية تتعلق بوالدي» (ص38) ملمحا بذلك، فيما يبدو لي، إلى أنه أصيب فجأة بفقدان البصر شأنه في ذلك شأن شخصيات الرواية المومأ إليها.
إننا نعرف جميعا أن العمى، في التراجيديا، يعتبر عقابا ينزل ببعض الشخصيات بسبب قيامهم بفعل غير مقبول من الناحية الكونية، كما يمكن أن يحل بنسلهم دون أن يكونوا مسئولين عن أفعال السلف. فما هو الفعل الذي قام به محمد الفرسيوي حتى يستحق هذا العقاب الفظيع؟. هنا، أود إثارة الانتباه إلى أن هذا الأخير، ويوسف، ونجله ياسين، الذي انتحر في عملية « جهادية »، ينتمون كافة إلى سلالة الفرسيوي التي نجد حكايتها الأسطورية في رواية جنوب الروح. في صفحة 11 من هذه الرواية، يتم الحديث عن موت الفرسيوي الذي كان أول من وطأ قرية “بومندرة” قادما من الريف، وكان عمره عند وفاته 144 سنة. وعندما يُسأل حفيد المتوفى (وهو ابن أخيه) عن سبب هجرتهم من الريف فإنه يشير إلى مجاعة 1880، لكن السبب المباشر للهجرة، ونعرف ذلك فيما بعد، هو الثأر: ففي صفحة 40 يروي أحد أفراد هذه السلالة أن أخاه قام بقتل شخص اسمه حمادي، وهو كبير عائلة القلعي، ثأرا منه لمقتل زوجته وأخيها، فقرر آل الفرسيوي مغادرة “بوضيرب” نتيجة لذلك.
أسباب النزوح
هناك إذن حدثان كانا سببين لنزوح آل الفرسيوي: سبب عامّ (مجاعة 1880) وسبب خاص بهم هو الخوف من عواقب الثأر. والذي يتأمل “التاريخ الأسطوري” لقرية بومندرة، أي تاريخ حلول آل الفرسيوي بها واستقرارهم فيها، سيكتشف أن القرية تعكس، منذ إحداثها، ما يشبه بدء الخليقة، وتروي سلسلةُ وقائعها كبرى التحولات البشرية والعمرانية، وترسم نهايتُها بوار الحلم الإنساني تحت وطأة القطيعة والشتات. ولعل من أبرز معالم هذه القطيعة ذهاب شباب القرية للعمل في ألمانيا واقترانهم من ألمانيات (ص153)، أحدهم هو محمد الفرسيوي الذي تزوج هناك ديوتيما، وكانت عاملة في مكتب بريدي، وأنجب منها يوسف، سارد الرواية، واصطحبها إلى قرية بومندرة، بعد أن أثرى من عمله في أوروبا. لقد اغتر الرجل بحالة الثراء هذه فأخذ يقتني كل شيء: محطة الوقود، ودار القايد، ودورا خربة، وحقول زيتون، كما استحوذ بوسائل مريبة على حقول الخروب في جبل زرهون… إلى أن قرر إحداث فندق في الهضبة التي تشرف على أطلال وليلي التاريخية. إثر ذلك عمل كل ما في وسعه إلى أن تم الترخيص له ببيع المشروبات الكحولية في الفندق.
في صفحة 60 من رواية القوس والفراشة نقرأ ما يلي: « وما إن بدأت أصناف المشروبات الكحولية تتجاوز استهلاك الأجانب، وتسرح في رؤوس أبناء البلد، حتى بدأت مرحلة النحس في حياة الفرسيوي، وسط اقتناع عام غير قابل للمراجعة بأن السبب الرئيسي لهذا التدهور السريع والشامل يرجع إلى إنشاء الكانتينا وما رافقها من فسق وفجور عند أقدام الولي الصالح».
انتحار ديوتيما
تدنيس الأرض التي كانت ملجأ من الموت، بل كانت أشبه بجنة آدمية (adamique)، لم يكن دون عواقب مدمرة:ديوتيما، التي يصفها نجلها يوسف بكونها كانت « ألمانية رقيقة» وأنها « حاولت الإصلاح ما استطاعت » (ص 70-71)، انتحرت في يوم صيد بواسطة بندقية، وهو ما دفع يوسف إلى اتهام أبيه، مجازا، بأنه هو قاتلها. إثر ذلك، وبعدما تتالت خسارات محمد الفرسيوي، «انحدر الرجل إلى ظلمات الإفلاس والشماتة قبل أن يغرق في ظلمة مطبقة» (ص66). وعندما شرع في العمل مرشدا سياحيا بموقع وليلي، اختفى تمثال باخوس (إله الخمر) من الموقع، فتوجهت أصابع الاتهام إليه دون جدوى، لكنه كان يُسِرّ لابنه يوسف أنه هو من اختلسه وقام بدفنه، تحديا للكوارث التي حلت به، في صحن المسجد.
تلك إذن هي تراجيديا الأب، وهي المأساة التي تغوص بجذورها في أسطورة السلالة: المجاعة، ثم القتل، ثم البطر بالثراء.
الآن، سأتحدث باختصار عن المأساة كما تنعكس في شخص يوسف الفرسيوي سارد رواية القوس والفراشة، وأبرز ملامحها الاغتراب. لقد لاحظنا من قبل أن يوسف كان يعتقد بأن تصرفات أبيه ورعونة خياراته هي السبب في انتحار أمه، بل كان يعتبر أنه هو قاتلها، الأمر الذي جعل العداوة تستحكم بينهما إلى درجة أنه لم يكن يدعو أباه إلا باسم (الفرسيوي) تعبيرا عن مشاعر الاغتراب التي يشعر بها حياله ورفضا لصلة البنوة. بيد أن هذا الاغتراب لم يكن فقط على مستوى العلاقة بالأب، بل كان أيضا اغترابا هيكليا: فقد انقطع يوسف عن بومندرة بتدبير من خاله الألماني الذي كان يعمل في سفارة بلاده بالرباط، حيث بعث به إلى ألمانيا التي قضى بها يوسف طفولته ومراهقته، منقطعا بذلك عن مجريات بلاده وتحولاتها: «عندما ذهبت إلى ألمانيا كنت أكره والدي، وأكره البلد الذي قتل أمي، وأتوق إلى تشييد حياة بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء المشحونة بالغموض والفتن النائمة » (ص73). ازدادت معاني الاغتراب رسوخا عندما التقى يوسف جماعة الريف وقرر الانخراط في “التنظيم” المعارض الذي كان يروم قلب نظام الحكم، فوقع في قبضة النظام وحشر في السجن. وعقب خروجه من السجن، التحق بأحد الأحزاب دون قناعة تُذكر، لكن صدمة انتحار ابنه ياسين في عملية « جهادية» بأفغانستان أثار انتباهه إلى فداحة التحولات الاجتماعية والإيديولوجية التي حدثت من حوله، وإلى عجزه عن الإمساك بتشابك خيوطها وخاصة على المستوى العائلي: إذ كان يجهل تماما ما يعتمل في ذهن ابنه ياسين حيال تلك التحولات، كما كان عاجزا عن فهم حيرة زوجته وتقلب مزاجها. فهل كان ياسين، بانتحاره، يعبر عن يأسه ويكرر تصرف جدته الألمانية التي، كما يقول السارد، «حاولت الإصلاح ما استطاعت» وفشلت؟ وهل كان مصرع يوسف الفرسيوي نفسه في عملية انتحارية مدبرة وغير متوقعة دليلا على أن الاغتراب، بدءا من القتل والهجرة والشتات، ملمح مركزي في مأساة آل الفرسيوي؟
من الحلم إلى الدمار
ختاما: يمكن تصور تراجيديا النزوح من “بوضيرب” (في الريف) إلى قرية “بومندرة” (بجوار زرهون) على هيأة الانتقال من الحلم إلى واقع مشرع على احتمالات الدمار والانهيار بسبب الاجتثاث القسري. لقد ظل لدى سلالة الفرسيوي حنين موجع إلى مسقط رأسها في تلك القرية الريفية. وحين يعود أحد رواة جنوب الروح إلى بوضيرب، في نهاية الرواية، سيكتشف أن حلم أسلافه كان بالفعل أرضا منعمة وليس مجرد وهم جغرافي صنعه بعد المسافة وتعاقب السنين: « أخذنا في الانحدار من الهضبة نحو وادي بوضيرب. كان ذلك قبيل غروب الشمس. وكان أول ما رأيت في الوادي جدول ماء يخترق أرضا رمادية تتلألأ بالحصى. وكان لذلك وقع دفقة هواء تقتحم أنفاسي، بل جسدي كله» (ص164). معنى ذلك أن النزوح كان شبيها بهبوط آدم إلى الأرض بعدما طعم من الشجرة المحرمة (القتل بالنسبة لآل الفرسيوي)، وأن مآسي هؤلاء جميعا كانت من قبيل عواقب الوعيد الإلهي بأن الناس، في الأرض، سيكون « بعضهم لبعض عدو».