محمد الأشعري،القوس والفراشة، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 2010.
“الحياة ورطة حقيقية “.هذا ما نقرأ في الحوار الخافت الذي يدور بين الراوي يوسف الفرسيوي و ليلى التي يستلطفها ولا يعرف كيف يطلب ودها والكاتب ساراماغو وأب الراوي محمد الفرسيوي بمدينة الأنقاض وليلي. عبارة « الحياة ورطة حقيقية” تدل مجازا عن كنه القوس و الفراشة. رواية محمد الأشعري عبارة عن سفر لا ينتهي يبحث فيه جسد غريب فقد إحساسه كيف يربط الحاضر بالماضي وكيف يستريح من ذاكرة مؤلمة تؤرقه ويلج إلى جسد أنثى يلهث وراءها ولا يعلم إن كان فعلا سيجد ملاذه وإن كان سيسترجع قدرته على تذوق
الحياة .
عندما قرأت القوس والفراشة مرة ثم مرتين أحسست بمتعة خاصة لا لشيء إلا لأن الكاتب استطاع أن يخلق تقاطعات مثيرة بين الحسي والذهني، بين صوت الوعي المتقد ونبرات اللاوعي الدفين الذي يرتاد المتخيل. وبذلك استطاع الاشعري بفضل نثره المتميز أن يدعونا لعالم بيني يثير العقل والجسد في آن واحد، يتأرجح بين التافه والجوهري ولا يضع بين الاثنين أية تراتبية وهو بذلك يعطي لروايته حيوية ناذرا ما تتحقق .
حينما طُلب مني أن أكتب عن هذا النص، قررت أن أتعامل معه بشكل تفكيكي لا لشيء إلا لأحاول إظهار المستويات الجمالية والوجودية والخطابية التي استطاع من خلالها الأشعري إلى حد بعيد تجديد نقط تماس مثيرة لها بارتباط بما هو آني وما هو كوني، ما يقع للفرد في تفاصيل الحياة اليومية ويصله سياسيا وعاطفيا بالأنا الجمعي .
فتذبذب يوسف الفرسيوي بين هذين الحدين يعطينا تصورا متجددا لمعنى الرواية اليوم. سأتطرق لهذه المفارقات الدالة من خلال خمسة أسئلة :
الانتماء والموت:
الفرسيوي ينتمي لعائلة فقد فيها أمه الألمانية التي انتحرت طوعا لعدم قدرتها الإندماج في مجتمع ينبذ الاختلاف وابنه ياسين الذي استهواه الفكر الظلامي بينما هو منحدر من التنظيم اليساري أما أبوه محمد، فيعيش بين الأنقاض في وليلي ومع ذكرى أموات جعل منهم منبع عيشه الفوضاوي .هذه الفسيفساء العائلية تضع علينا سؤالا أدبيا بامتياز: هل الفرد في مجتمع يتحرر بالكاد حر فعلا من خيارات أبويه؟ وهل الأب قادر أن يقبل تحرر إبنه من عقائده؟ وخيارات الفرد هل يحددها تشبثه بالحياة أم خوفه من الموت؟
من خلال صوت الراوي الثلاثي الأبعاد محمد ويوسف وشبح ياسين، يختار الاشعري ما قاله الكاتب الألماني برتولد بريشت:”الأدب لا يشق طريقا من الطرق بل يدل على كل الطرق الممكنة” .
الواقع و الخيال :
من أجمل ما أثارني في القوس والفراشة، طبيعة شخصية الراوي الرئيسي الذي فقد حسيته وبالتالي أصبح يشك في نجاعة حكمه على الأشياء، متذبذبا بين ما يراه، وما يفكر فيه وما يهديه إليه خياله الذي جاء لملء الفراغ. فالرواية مليئة بلحظات أهمها تلك التي يحاور فيها شبح ياسين أو يكتب فيها رسائله الغرامية وهي لحظات لا وجود لها إلا في مخيلته ومع ذلك تبدو أكثر وقعا وتحقيقا من لحظات يلتقي فيها فعلا زوجته أوأباه أو أصدقاءه في مراكش. هنا يطرح سؤال أدبي أعتبره جوهريا: ما الذي يسكننا يقينا ويكون له أجلى أثر على ذواتنا، الواقع المعيش أم الواقع المتخيل ؟ رتابة اليومي أم رحابة الأهواس الداخلية؟
الثابت والمتحول:
الفرسيوي ابن وليلي، وصحفي، ولد من زواج مختلط في مغرب الزوايا وها هو يجد نفسه وسط عالم تحكمه لغة الأعمال والصفقات المبيتة وسط الرباط، وهو ابن اليسار الثوري وصاحب أحمد مجد الماركسي اللينيني المرتد الذي لا يرتاب من دخول حياة جديدة مادياتها منهكة ولا يفهم لماذا أدار ابنه ظهره للحياة ليركب الموت في أفغانستان وحتى أبوه محمد الفرسيوي، مرتبط بباخوس ومجازا بما هو ثابت في التاريخ ومنهمك في علائق نفعية حول السياح والأراضي والأوطيل. هذا المزج في مسار الرواية بين ما نجر ذيوله من إنتماءات وعقائد وتصورات وما تدل عليه الأيام من أخبار مثيرة تطرأ لتلون وعينا بالمظالم ( المثلية –الزبونية -الإرهاب ) يضع علينا سؤالا ينتمي لما بعد حداثة الرواية: ماذا بوسع الأدب فعله في عالم مليئ بالكلام والاخبار؟ الأشعري يجيب بشكل تركيبي. إذ نأى عن الرومانسية فلم يعط للعالم الداخلي قوة الملجأ والملاذ ولم يكن وضعيا ليخلق فصلا بين المعيش والمتخيل وإنما إستطاع خلق تداخل مبهر بين الإثنين مما سعفه في إبراز نسبية الحقيقة.
الذاكرة والرغبة :
في رواية القوس والفراشة قوتا دفع اثنتين: الأولى تأتي من الماضي والذاكرة والثانية من الرغبة والحلم. فالرواية تصور الإندفاع نحو ما وقع في وقت ما وعدم القدرة على الإمساك بحقيقته في لحظة التذكر كما ترسم الاندفاع الموازي نحو الجنس الآخر دون القدرة في الإنغماس الكلي الشبقي. هذا التأرجح بين اللذة الفردية والبحث المضني عن المعنى، يعطي للحظة مغزى وللبقاء أملا من خلال ذكرى ياسين، ويسعفنا إلى قراءة الرواية كدعوة لفهم الفرد في وحدانيته وعاطفته وفي اندماجه القلق في الجمعي. وبذلك أقول إن الأشعري كتب رواية سياسية عن الفرد ربما تتخلل تركيباته هنا وهناك بعض النقائص على مستوى الشكل أو البنية ولكن الإجابة بالتركيب في حد ذاتها جرأة أدبية تحسب له. ولعل البنية السردية والمرور بشكل سلس ومتوارد من دقائق الحياة الصغيرة إلى ما نرثه إلى الأبد دليل قطعي على ذلك .
الجسد والذهن :
أود في هذه النقطة الأخيرة العودة إلى التقاطع الجوهري بين الجسد والذهن، بين جسد الراوي الغريب عنه وذهنه المتقد الذي يحتل مكانا أكبر من جسده. فحتى علاقته بأجساد ياسين وليلى وبهية علاقة ذهنية أكثر منها حسية. لكن الأشعري لم يكتب رواية ذهنية لأن جسد اللغة أقوى، اللغة مجسدة بقوة المجاز والصور ومشحونة بالآني وبقوة دفع شعرية تنأى عن التجريد ولكنها كما يقول الكاتب نفسه في الرواية كشلال يجرفنا ولا يترك لنا مجالا لايقاف تدفقه. وبذلك تكون القوس و الفراشة رواية عن قوة تجسيد الذهني وتطويعه بسلطان اللغة.