جاك دريدا، ما الذي حدث في حدث 11 شتنبر ؟ حديث دار في 22 اكتوبر 2001 مع جيوفاني بورادوري، ترجمة صفاء فتحي، مراجعة بشير السباعي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2006.
قامت وسائل الإعلام بتضخيم حدث 11شتنبر. تابعت أعداد كبيرة من الناس في العالم نشرات الأخبار بشكل مسترسل لفهم ما جرى في ذلك اليوم. وكان فضول الجمهور حول الحدث ومرتكبيه قويا، بحيث أن الناس شاهدوا تغطية إعلامية هائلة لأحداث 11/9 (ويسميه الأنجليز 911 لأنه يتطابق مع الرقم الذي يرمز إلى طلب الإغاثة -المستعجلات- في بلدهم)(1). وتنطبق نفس الملاحظة على أحداث الثورات العربية وبالخصوص الثورتين المصرية والليبية. ونجد في وسائل الإعلام أن بعض أعمال العنف قد تكون أكثر أهمية بكثير من حدث 11شتنبر، ومع ذلك لم تُعْطَ لها نفس القيمة، ولم تَحْظ بنفس التغطية. فالنصوص والمواضيع التي ينقلها أو ينتجها التلفزيون هي التي تؤثر في مشاعرنا وليس الأحداث التي يتم تجنب ذكرها. يتبادر إلى ذهننا السؤال التالي: ماذا لو لم تكن لدينا التغطية التلفزيونية لحدث مثل 11شتنبر أو الثورات العربية؟ ماذا لو لم نر كل تلك الصور والتقارير؟ هل كنا سنخضع لنفس التأثيرات؟
يعتبر الباحثان ألبان بنيسا Alban Bensaوإريك فاسان Eric Fassin أن العلوم الإنسانية تقع على عاتقها مسؤولية تجاوز القراءة الاستهلاكية للحدث كما تقدمه وسائل الإعلام في زمن العولمة والعصرنة. فالحدث مثار شك كبير(2)، والعديد من الناس أحسوا بأنه لاشيء سيبقى على حاله، والتوضيحات التي تقدمها العلوم الاجتماعية تتمثل في المآل وفي التساؤل حول هذا الحدث. هل كان تعبيرا عن نهاية مرحلة أم بداية لمرحلة جديدة؟
يتميز الحدث في نفس الوقت ببداهة القطيعة والشك بخصوص المعنى، وهذه النقطة أساس غموض وتعقيد، وهي منطلق بحث العلوم الاجتماعية بخصوص تناول الحدث، وقع الحدث. لكن ما هو الأهم بالنسبة لنا؟ هو ما يقوله الحدث، وهنا يمكن للعلوم الاجتماعية أن تفيدنا أكثر من أي طرف آخر حول حدث تتناوله وسائل الإعلام، وهي مطالبة بأن تنتج خطابا معرفيا يتجاوز الخطاب الإعلامي(3).
تفهم دلالة الحدث عن طريق إنشاء سلاسل ذات صلة، كما بينته على سبيل المثال قراءةالبان بينسا واريك فاسان في دراستهما لحدث 11شتنبر2001م، وكما تم تناول الحدث من طرف فيلسوف التفكيكية جاك دريدا Jacques Derrida.
قدم جاك دريدا رؤية تتقاطع في نقاط عديدة مع وجهة نظر بنيسا وفاسان، وتختلف عنهما في نقاط أخرى. يقر جاك دريدا بداية بأن هذا الحدث (11شتنبر) لا يمكن محوه من الأرشيف المشترك لتاريخ عالمي -أو من المفترض فيه أن يكون عالميا-، لكن من أين جاء إلينا هذا الحدث؟ وكيف فَرَضَ علينا سطوته من بين أحداث مشابهة. لقد أعطتنا وسائل الإعلام في نظره انطباعا بأن ما وقع “حدث عظيم”، فالحدث الذي تم تكرار صوره في المحطات التلفزيونية مارس علينا نوعا من التأثير القوي، وهذا التكرار القهري والترديد اللانهائي لكلمة 11شتنبر جعلا من اليوم والشهر حدثا عظيما، حتى وإن لم تُذكر السنة التي شهدت واقعة نيويورك.
تشكَّل الانطباع بوجود حدث عظيم بواسطة هيمنة اللغة ووسائل الإعلام التي قامت بتضخيم صورته. وفرض الحدث سلطة الاسم والتسمية من خلال النفوذ الإعلامي الكبير للقنوات الأمريكية، وإلا كيف نفسر تحول مجرد تاريخ يوم عاد إلى ذكرى حدث رَسَخَ في ذهن العالم. إننا حسب جاك دريدا أمام شيء استحدث تاريخا. فالحدث يأخذ ثراءه بقدر ما يزلزل علاقاتنا التقليدية بالمعاني. إن جزءا كبيرا من الأفكار التي وُرثت هي حصيلة أحداث تاريخية مضت، وبقدر ما تتجدد الأحداث، بقدر ما تتغير العلاقات بين الذات ومعانيها، بين الإنسان وبقية الشبكات التي ارتبط بها وارتبطت به. فحين يكون الحدث زلزالاً على المستوى البصري، فإنه يحرّك المجتمعات ويؤثر فيها من خلال إلحاح الصورة الإعلامية. وحين قرأ جاك دريدا حدث 11شتنبر، ربط بين الحدث الواقعي والدورة الإعلامية. فقد كانت صورة ذلك الحدث زلزالاً تاريخياً ساهمت في تكريسه سطوة الصورة. وحين تصحب الصورة المؤثرات الصوتية أو التلاعب البصري بالمشهد، تكون النتيجة وشماً أكبر في ذاكرة الإنسان، فالحدث له علاقة بالرؤية البصرية وبالرؤية الثقافية أيضا(4). لا أحد ينكر أن11شتنبر برز عن طريق البهرجة الإعلامية، فقد أظهرت تغطية هذا الحدث والأحداث التي تلته أن التلفزيون يستطيع أن يؤدي خدمة ثمينة لا تقدر بثمن. تحدث وقائع في كل لحظة وفي كل مكان، ولا تتحدث نشرات الأخبار عن كل الوقائع. هناك إذن عملية تمييز وفرز، إذ تذكر بعض الأحداث، ولا تذكر أخرى. يتساءل جاك دريدا :كيف كان حدث شتنبر سيمر من دون وجود أجهزة التلفزيون؟ نجد مثل هذا السؤال عند آرثر آسا بيرغر وغيره(5).
لقد أعطانا 11شتنبر (أو ما سماه إدغار موران صدمة 9/11) الانطباع بأنه “حدث عظيم” من خلال جسامة الحدث والأبعاد الكونية التي أعطيت له. ففي البداية، حاولت الصين مثلا أن تحد من امتدادات هذا الحدث فحصرته في زاوية الحدث المحلي الأمريكي، ربما بسبب العلاقات المتوترة بين القوتين العالميتين آنذاك. لكنها تبنت فيما بعد مفهوم “الحدث العظيم” كما أبرزته القنوات الأمريكية والتحقت بركب التحالف المضاد للإرهاب.
فهل يعتبر فعلا هذا الحدث حدثا فريدا وغير مسبوق في التاريخ، وحدثا طارئا وجديدا وغير متوقع؟ هل يتضمن عنصر المفاجأة، والمخالفة، والخروج عن المألوف؟ هل وَلَّدَ نتائج؟ هل مثل قطيعة في مسار الزمان؟ ما طبيعة الحدث الذي يستحق أن ننعته بـ”الحدث العظيم”؟
يعتبر جاك دريدا أن الحدث العظيم يجب أن يكون طارئا ومباغتا إلى درجة أنه يؤدي إلى اهتزاز أفق المفهوم نفسه، كما أنه يشوش أيضا على الجوهر الذي يتيح لنا التعرف على ذات الحدث باعتباره حدثا. يكمن الحدث قبل كل شيء في أنه لا يُفهم بشكل أولي. فهل يعتبر حدث 11شتنبر حدثا لا سابق له؟ هل هو حدث لم يكن من الممكن التنبؤ به؟ هل هو حدث فريد في جميع جوانبه؟ .
يعترض جاك دريدا على تسمية ما حصل في ذلك اليوم بالحدث، لأن اللغة في نظره انطباعية، وليست حيادية دائما، والوصف هنا يعود إلى الهيمنة السياسية والإعلامية والاقتصادية واللغوية الأمريكية. فهو لا ينكر الواقعة، بقدر ما يدفع إلى تحليلها بعمق أكبر، إذ يستحيل أن نفصل الحقائق العارية عن جهازها المعلوماتي، ولا بد من إعادة النظر وتفكيك اللغة المركزية المستعملة، وذلك من خلال التفكير في مفهوم الحدث وإعادة تأويله بروية.
ميز جاك دريدا في قراءته لحدث شتنبر بين انطباعين. فهناك من ناحية أولى واجب الشفقة على الضحايا والنقمة على المجزرة المثيرة للحزن، والتي يجب إدانتها مبدئيا ودون شروط أو حدود. وهناك من ناحية أخرى الانطباع المسؤول اتجاه الحدث الذي تشكل إعلاميا والذي يقبل التأويل والتفكيك، أي هذا التقييم الخاص للشروط، والذي يحاول أن يجعلنا نؤمن بأن هناك حدثا عظيما حصل(6).
ينطلق جاك دريدا من فرضية اعتبار 11شتنبر حدثا عظيما، لينظر فيما يتضمنه من مفاجآت متفردة، ويتساءل: ما المقصود بكلمة الحدث العظيم؟ هل المقصود بذلك أبعاد الأبراج أو الأراضي التي شن عليها الهجوم أو عدد الضحايا؟ لا أحد أحصى عدد الضحايا بنفس الدقة في أماكن أخرى من العالم في حالات أخرى. لذلك، وبغض النظر عن حقيقة التعاطف الحقيقي مع ضحايا البرجين، فإن الأصداء التي أثارها عدد الضحايا لم تكن أصداء طبيعية أو عفوية صرفة، بل هي أصداء تخضع لآليات تاريخية وسياسية وإعلامية مركبة. فالحقيقة التي يوضحها جاك دريدا في هذا السياق هي أن الاضطرابات التي تقع خارج الأراضي الأوربية والأمريكية، في كمبوديا والعراق وفلسطين ورواندا وأفغانستان، حتى وإن زاد عدد ضحاياها عن ضحايا 11شتنبر، ومهما كانت فورية، فلا يمكن مقارنتها مع حالة الحادي عشر من شتنبر(7). يمكن هنا الإشارة على سبيل المثال إلى الإحصائيات المقارنة التي قدمها كتاب نعوم تشومسكي 11-9 An open media book لعدد ضحايا 11شتنبر، وأعداد ضحايا عمليات أخرى تنتمي لإرهاب الدولة. لم يعد يكفي قتل ما يناهز 4000 شخص من المدنيين في عدة لحظات باستعمال التكنولوجيا المتطورة لخلق حدث عظيم. هناك الكثير من جرائم القتل الجماعي التي لم يتم تسجيلها ولا تأويلها، والتي لم نشعر بها ولم تقدم باعتبارها أحداثا عظيمة، ولم يعط الانطباع بأنها تمثل كوارث لا تمحى(8).
هذا فيما يخص عدد الضحايا، أما بخصوص فرادة الحدث فيؤكد جاك دريدا أن هناك مؤشرات بوجود تنبؤات سابقة بإمكانية تعرض المنشآت الأمريكية لهجومات، لذلك فإنه لم يكن من المستحيل أبدا توقع مثل هذا الهجوم على الأراضي الأمريكية. كانت هناك هجمات سابقة ذكر بها في هذا السياق (عملية أوكلاهوما، وتعرض البرجين التوأمين لهجوم بالمفرقعات سنوات قبل 11شتنبر، بالإضافة إلى الاعتداءات الأخرى التي تعرضت لها المصالح الأمريكية في الخارج. فإمكانية التنبؤ بما وقع كانت واردة، وإلا فكيف نفسر الغضب الرسمي تجاه فشل جهازي المخابرات الأمريكية CIA وFBI اللذين تم التنديد بفشلهما الذريع، وكان من المفترض فيهما توقع حدوث هذه الهجمات.
يعدُّ حدث 11شتنبر أيضا، ومن زوايا كثيرة، واحدا من الآثار البعيدة للحرب الباردة نفسها حتى قبل نهايتها، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعم أعداء الاتحاد السوفياتي بالسلاح والتدريب، وها هم اليوم قد تحولوا إلى أعدائها. لقد هيأت أمريكا المناخ الملائم لتلك القوى، ومهدت لها الطريق للهجوم عليها من خلال السياسة التي اتبعتها في فترة الحرب الباردة. يعتبر جاك دريدا أنه ينبغي إعادة تأويل ما يسمى بـ نهاية الحرب الباردة من زوايا متعددة، ويتفق في هذه القراءة مع التأويل الذي قدمه بنسا و فاسان لنفس الحدث، فالجماعات المتهمة بالتنفيذ سبق لها أن تشكلت وتدربت في زمن الحرب الباردة، ومن ثم فإن الحدث من النتائج التي خلفتها هذه الحرب(9).
إن ما سيظل مريعا في حدث 11شتنبر، وما سيدوم بشكل لانهائي، هو ذلك الجرح الذي أحس به أهالي الضحايا والأمريكيين عموما. إنه الشعور المستمر بالمأساة والذي ساهمت السياسة الأمريكية نفسها في ترسيخه. إن الإجراءات التي قامت بها الحكومة الأمريكية، من قبيل عدم اجتماع عدد من الشخصيات في قمة الدولة في مكان واحد أو في وقت واحد، ساهمت في خلق حالة من الخوف والقلق والترقب، والحدث الذي وقع في الماضي القريب أصبح حاضرا في الراهن. إنه إيحاء بإمكانية قرب اعتداءات أسوء من تهديدات الحرب الباردة. هذا هو الخطاب الذي تم تسويقه إعلاميا ورسميا. وفي نظر جاك دريدا كان بإمكان النتائج أن تكون مختلفة لو قيل للأمريكيين: إن ما حدث لتوه بالفعل يمثل نكبة كبرى، ويشكل مصدرا لآلام لا نهاية لها، لكن كل شيء انتهى الآن، ولن نشهد أبدا حدوث نكبة بمثل هذه الجسامة أو أشد وطأة منها. فبعد فراغ الأمريكيين من الحزن والحداد، كانت الأمور ستعود إلى وضعها العادي ومجراها المعتاد، وكان بإمكان واجب الحداد أن يساهم في التخفيف من آثار الصدمة والتقليل من الشعور المستمر بالمأساة من الناحية النفسية، لأنه يقوم بإضفاء نوع من السمو على الشخصيات المتوفاة والتي كانت فيما قبل على قيد الحياة. كان طي الصفحة أمرا ممكنا مثلما حدث في أماكن أخرى من العالم حيث وقعت أحداث مأساوية خلفت عددا أكبر من الضحايا. لم يحدث ذلك بالنسبة لحدث 11شتنبر، لأنه كانت هناك رغبة في استمرار آثار الصدمة. فقد أشيعت فكرة إمكانية حدوث شر أسوء، وأعطيت إشارات قوية بذلك، أي إمكانية تكرار الحدث في المستقبل بشكل أخطر. فالصدمة هنا نتاج ما يتوعد به المستقبل، وليس الاعتداء الذي مضى وانتهى. لقد تحول الحديث في اتجاه إمكانية وقوع اعتداء بالأسلحة الكيماوية أو الجرثومية، بل ذهبت التنبؤات بعيدا، إذ تحدثت عن احتمال وقوع اعتداء نووي.
الحدث الذي يحتوي على جانب من الصدمة في تصور جاك دريدا هو حدث عظيم، لذلك يجب التفكير في زمانية الصدمة، حتى نتمكن من التفكير في الأسباب التي قد تجعل من 11شتنبر حدثا عظيما. إن حدث 11شتنبر لن يكون حدثا عظيما إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الصدمة التي أصابت الوعي واللاوعي لم تكن بسبب ما حدث، ولكنها أصابتنا بسبب المخاطر الغامضة التي يتوعدنا بها مستقبل أشد خطورة من الحرب الباردة نفسها، وذلك لأن الجرح سيظل مفتوحا من حيث هو رعب أمام المستقبل وليس فقط رعبا أمام ما حدث في الماضي.”امتحان الحدث له مرادف مأساوي، وهو ليس فقط ما يحدث في اللحظة الراهنة أو ما حدث في الماضي، بل هو ما ينذر بالحدوث في المستقبل إذ من الممكن أن يحدث ما هو أسوء مما حدث”. عندما يتعلق الأمر بالصدمة، فهو يتعلق بالحدث الذي لا تنبثق آنيته من الحاضر الآني، ولا من الآن التي أصبحت ماضيا، ولكن من الحاضر القادم والذي لا يمكن تمثله فيما بعد بعد، من مستقبل مجهول، إذ يصبح التهديد شاملا، لكنه لا يأتي من دول بعينها كما هو الشأن في توازن الرعب، بل يأتي من قوى مجهولة لا يمكن توقعها ولا رؤيتها.
يعتمد جاك دريدا على ثلاث حالات لتوضيح إرهاب الحصانة الذاتية المتبع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة الخطر المحدق بها بمقدار التشويش والغموض الذي يلف ذلك. فالوسائل التي تستخدمها هذه القوة لمواجهة ما تمت تسميته بشكل مريب “الحرب على الإرهاب”، بما في ذلك جميع أشكال الحرب، تعمل جميعها على إحياء أسباب الخطر الذي تزعم القضاء عليه، وذلك في الأمدين القصير والطويل معا. فعدد الجنود الأمريكيين الذي قتلوا في ساحات المعارك خارج أمريكا يمثل أضعاف عدد من لقوا حتفهم في أحداث نيويورك ومَنْهاتْن. وسواء تعلق الأمر بأفغانستان أو العراق أو فلسطين، فإن القنابل الذكية المستعملة لا تتيح إمكانية منع سقوط ضحايا من المدنيين، مما يبقي على إمكانية قيام الرد عبر حالات انتقام مشروع من خلال الإرهاب المضاد لإرهاب أمريكا الدولة، وهكذا إلى ما لانهاية. ويعتبر إدغار موران أن سياسة القمع وإن استطاعت القضاء على الأعراض فهي لا تقضي على الأسباب، بل يمكن بوجه خاص أن تغذيها. وهذه الأسباب تكمن في التفاوتات ومظاهر الجور والجحود. فالأمر يدعو الى التأليف بين الحكمة العالمية والسياسة العالمية لمعالجتها، لولا أن الحكمة العالمية قد ضعفت تحت قيادة الأمم المتحدة، كما أن السياسة العالمية قد تضخمت بقيادة أمريكا.
إن “الحرب ضد الإرهاب” تعبير شديد الغموض. فجورج بوش الابن يتحدث عن الحرب، لكنه غير قادر على تحديد العدو الذي يعلن بأنه يعلن عليه الحرب، وأغلبية الدول أدانت الإرهاب الدولي إرضاء لأمريكا، في حين تحفظت عليه قلة قليلة من الدول الأخرى. إن هذا المفهوم ملتبس وليس له تعريف دقيق، وهو يطرح العديد من الأسئلة بخصوص المعايير المعتمدة للتمييز بين الإرهاب والدفاع عن النفس. وقد ذكر جاك دريدا محاوره بأمثلة كثيرة تمت فيها الإشادة بإرهابيين على اعتبار أنهم مكافحون من أجل الحرية، وفي سياق آخر تمت إدانتهم باعتبارهم إرهابيين حقيقيين. ثم ماذا بشأن إرهاب الدولة؟ ولعل هذا أسوء ما وقع نتيجة الحدث حسب ادغار موران،فقد وُصِمَتْ أشكال المقاومة التي تبذلها الشعوب المقموعة بـ”الإرهاب” من لدن مضطهديها، وخلقت “الحرب على الإرهاب” تحالفا بين القوى المهيمنة ضد المقاومات الوطنية، وحدث ما هو أشد سوءا، إذ أصبحت كلمة “إرهاب” تنطوي على إرهاب الدول التي تمارس قمعا أعمى على سكانها المدنيين في الشيشان وفي إسرائيل حيث شجعت على القصف الجوي الرهيب من أجل تصفية المقاومة الفلسطينية(10).
نحن إذن حسب دريدا بصدد تشويش في الحقل الدلالي للكلمات والتعابير المستعملة،فحدث 11شتنبر أفرز عددا من المفاهيم المبهمة التي تحتاج إلى مراجعة وتحليل بل وإلى تفكيك على طريقة دريدا. أفرز الحدث تعدد المفاهيم وتعدد التأويلات والرؤى. فجميع أنواع الإرهاب تقدم نفسها باعتبارها مجرد ردود أفعال ودفاع عن النفس ضد من هو أكثر إرهابا، وهكذا يتم اتهام اسرائيل والولايات المتحدة والقوى ذات الطابع الإمبريالي بممارسة إرهاب الدولة، فهم أكثر إرهابا وخطرا من الإرهابيين الذين تدعي هذه الدول أنها ضحية لهم. وهكذا تحول الإرهاب إلى مصطلح متداول يطلقه كل فاعل على أعدائه، إنه اتهام متبادل استفاد من الخلط والفوضى الذين واكبا استخدام المفهوم المذكور.
يحذرنا جاك دريدا في خضم حواره مع جيوفاني بورادوري من الحروب المحتملة مستقبلا. فالاعتداءات التي تحمل الطابع الإرهابي لن تعود في حاجة إلى الطائرات ولا إلى القنابل ولا إلى الفدائيين الانتحاريين، بل يكفي التسلل إلى نظام إلكتروني له قيمة استراتيجية وإدخال فيروس فيه، أو تشويشه، أو العبث بمعطياته، أو تعطيله بشكل خطير قد ينتج عنه شل الموارد الاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية لدولة أو قارة ما. بهذا المعنى الجديد سيصبح حدث 11شتنبر من قبيل الحروب القديمة، إذ يمكن غدا أو بعد غد أن تندلع حروب موجهة ضد الشبكات الإلكترونية التي تعتمد عليها حياة البشرية في الوقت الراهن.
قدم ألبان بينسا وإريك فاسان قراءة لحدث 9\11 من خلال شبكة تأويلية اعتبراها إحدى القراءات الممكنة، وتتطلب بداية هذا الحدث في نظرهما تأويلا لعلاقاته المتشابكة والمعقدة في إطار العلاقات الدولية.
فبناء على الشبكة التأويلية الأولى، يعتبر الباحثان أن حدث 11شتنبر جاء كنهاية لسلسلة من الهجمات الأخرى السابقة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، مثل الهجوم على المركز التجاري العالمي سنة 1993، والهجوم على الجنود الأمريكيين في الجزيرة العربية سنة 1996، والاعتداء بالمتفجرات على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام بإفريقيا سنة 1998. يمكن أيضا أن نعود إلى ما قبل هذه الهجمات، أي إلى سنوات حكم جيمي كارتر مع غزو أفغانستان من طرف الاتحاد السوفياتي، حيث تحول المسلحون المحميون من طرف أمريكا وحلفائها إلى أعداء بامتياز، ويمكن أن نعود إلى أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران سنة 1979، وإلى حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) سنة 1991.
حدثُ 11شتنبر يفهم بهذه الطريقة كانتهاء سلسلة أعمال إرهابية لما بعد فترة الحرب الباردة، وفي نفس الوقت يمكن القول بأن الحدث نشأ عن الحرب الباردة نفسها أي عن مخلفاتها. هذه الشبكة المؤسسة على الصراع والتوتر الذي يميز العلاقات الدولية لا تؤدي إلى اعتبار الحدث كنهاية لمرحلة سابقة فقط، بل إن الحدث كما عشناه في ظل وسائل الاعلام اعتبره ميشيل فيهر Michel Feher كبداية. و11شتنبر2011 في الشبكة التأويلية الثانية من قراءة هذا الأخير تعتبر هذا الحدث أول “حدث ما بعد كولونيالي”. وبناء على هذا المنطق الكولونيالي الجديد، تخوض القوى الامبريالية معارك فوق أراضي خارج ترابها (التدخل في العراق، في الصومال..)، وتتدخل أحيانا بالنيابة عن أطراف حليفة، وما حدث في نيويورك يعتبر بمثابة رد فعل ضد هذه السياسة التي تبنتها الخارجية الأمريكية. فهو هجوم على أراضي دولة جعلت من نفسها سيدا وشرطيا ووصيا على العالم بعد نهاية الحرب الباردة، كما أنه هجوم على دولة تتمتع بالقوة التقني والعلمية والعسكرية، وهو كذلك هجوم على دولة تلعب دور الحَكَم في المنازعات، وتهيمن على مجلس الأمن والكثير من المؤسسات الدولية، لذلك كانت نهاية الحرب الباردة، من خلال نتائجها وآثارها، أكثر شرا من بدايتها(11).
تحكم هذا المنطق في طريقة النظر إلى حدث 9\11، بحيث لا يبدو فقط كنهاية، بل كبداية لسلسلة جديدة من النتائج والتغيرات الممكنة التي يمكن نعتها بـ”ما بعد الكولونيالية”. لقد رأينا كيف تمت إعادة تحديد وتوضيح الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة من خلال صيغة جديدة لأشكال التحالفات والتدخلات الإقليمية من أجل مجابهة الأعداء المحتملين في المستقبل.
خلق هذا الحدث، بفضل تداعياته، الحاجة إلى قوة تتولى دور الشرطة والدرك على المستوى العالمي، وكان لها دور حاسم في ظهور مجتمع عالمي. لقد سعى تنظيم “القاعدة” إلى تدمير العولمة، وكان سببا في تكون شرطة عسكرية عالمية باسم الحرب على الإرهاب. اضطلعت الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المهمة بحكم مشاركتها في كل ما يهم العالم، وبحكم قوتها الاقتصادية. لقد عبأت منظمة الأمم المتحدة نفسها، لكن القيادة الحقيقية كانت بيد الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى تشكيل امبراطورية عالمية(12).
وهناك شبكة تأويلية ثالثة تَعْتَبِرُ أن حدث 11شتنبر قَلَبَ المفاهيم، ومعه تم فتح صفحة من التاريخ الوطني الأمريكي -وليس فقط في العلاقات الدولية- وتغيرت دلالة الرموز. وهكذا عاد ظِلُّ فرانكلين روزفيلت ليخيم على الأمة من جديد. وفي هذا السياق نسجل عودة القومية الأمريكية إلى الواجهة. فقد تم إبراز أبطال جدد على الساحة الشعبية، منهم ساعي البريد والإطفائي والشرطي والجندي. فالإطفائي يضحي ويخاطر بحياته من أجل إنقاذ العالقين في مبنى مركز التجارة العالمي، والجندي يرابط في ساحة المعركة ويقاتل أعداء أمريكا المحتملين، والشرطي يحافظ في الداخل على أمن الوطن والمواطنين حتى لا تتكرر الاعتداءات مرة أخرى، وساعي البريد يتعرض بدوره للخطر وهو يحمل رسائل تحمل “الجمرة الخبيثة”.
تمت إعادة الاعتبار لهذه الفئات المهمشة في السابق في حفل إعادة افتتاح وول سْتريت (المركز المالي لنيويورك)، حيث تم استدعاء إطفائي وشرطي وتم دق الجرس. إنها طقوس متعمدة تحيل إلى الدور المهم الذي قامت به هذه الفئات التي ينتمي إليها الجندي والشرطي وساعي البريد والإطفائي، وكل هذه الصور التي ركزت عليها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها جعلت الطلبة يندفعون بشكل تلقائي للعمل ضمن هذه المجموعات أكثر من طلب العمل في البنوك الخاصة. وجعلت هذه المعايير المختلفة من نماذج المواطن من موظفي الخدمات العمومية رموزا للوطنية ووجوها جديدة تختلف بشكل جذري عن نماذج سابقة كان ينظر إليها بشكل دوني.
أدت الهجمات على أمريكا إلى انتعاش جديد للنزعة القومية لدى الجمهور الأمريكي. فجأة بدأ الناس يعرضون العلم الأمريكي خارج منازلهم وعلى سيارتهم. وعلى المستوى الوطني 11شتنبر لا تحدد نهاية مرحلة بل بداية مرحلة جديدة لانبعاث المفاهيم والقيم الوطنية التي يظهر أثرها على المستوى الاجتماعي. هنا يتفق آرثر آسا بيرغر (باحث أمريكي في مجال الاتصال والإعلام) مع قراءة بينسا وفاسان، وقد اعتبر أن هذه الآثار الاجتماعية من نتائج صور وسائل الإعلام التي أعطت لمأساة 11/9 أهمية بارزة، سواء بالنسبة للشعب الأمريكي أو لشعوب أخرى. ربما لم يعرف التاريخ الحديث صورا تلفزيونية مروعة مثل صور الطائرتين وهما تتحطمان على مركز التجارة العالمي. وقد تلت تلك الصور صور أخرى مروعة نرى فيها الناس وهم يقفزون من المباني ليلقوا حتفهم، ومن ثم صور أبراج عملاقة تنهار في كومة هائلة من الأنقاض مع الدخان المتصاعد من الحرائق التي ملأت السماء، حتى قال بعض الناس الذين سئلوا حول مشاهدة هذه الأحداث على شاشات التلفزيون إنها بدت لهم وكأنها فيلم من الأفلام السينمائية. وقد غيرت هذه الصور والبرامج الإخبارية أمريكا بشكل جذري. وحصل تغيير كبير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فقد تبين أن ما يحدث في بلد فقير بعيدا عن سواحل أمريكا يمكن أن يؤثر في الولايات المتحدة بطرق عميقة.
غيَّر حدث شتنبر مفاهيم متعددة على المستوى الداخلي، وتغيرت أشياء كثيرة في الحياة اليومية للأفراد العاديين داخل أمريكا وخارجها. فالجالية المسلمة في أمريكا وأوربا، على سبيل المثال، أصبحت فجأة محل اهتمام كبير بسبب تصاعد ممارسات الكراهية وأعمال العنف التي تصل أحيانا إلى درجة جرائم القتل. وفي المطارات، أصبحنا نرى أن الحقائب والأشياء التي كانت تُحْمَلُ بشكل عادي أصبحت تخضع الآن لتفتيش دقيق ومراقبة صارمة. وباسم الإجراءات والاحتياطات الأمنية، أصبح مجال الخياة الخاصة والحريات الشخصية يُنْتَهَكُ في بلدان كانت تُعتبر من أعرق الديموقراطيات، وأصبحت مراقبة الهواتف النقالة وتعقبها أمرا يمسموحا به، وأصبحت المراسلات البريدية والإلكترونية تخضع لمراقبة دقيقة.
الهوامش.
1)آرثر آسا بيرغر ، وسائل الاعلام والمجتمع. وجهة نظر نقدية،. ترجمة صالح خليل ابو إصبع مارس 2012م ، كتاب عالم المعرفة 386. ص166.
2) شكك الصحافي والناشط الفرنسي تييري ميسان Thierry Meyssan في كتابه الخدعة الرهيبة L’Effroyable Imposture في الرواية الرسمية لأحداث 11شتنبر2011م، وذلك عبر مجموعة من الأدلة في رواية البيت الأبيض، وطرح عددا كبيرا من التساؤلات حول ما وقع، فاتهم أطرافا في الأجهزة العسكرية الداخلية بالتواطؤ في التفجيرات، وأصبح هذا الكتاب من المؤلفات الأكثر رواجا بعد صدوره، وترجم إلى 28 لغة.
3 Alban Bensa et Eric Fassin. les sciences sociales face à l’événement. Terrain. Revues. Org, .2002, p.12..
4) فهد سليمان الشقيران. “أسئلة يخاف منها الجبناء”، مجلة الحياة السعودية. الاثنين 2 أبريل 2012.
5) آرثر آسا بيرغر. وسائل الاعلام والمجتمع. وجهة نظر نقدية. م.س. ص163/167.
6) رضوان جودت زيادة، “تفكيك دريدا لحدث 11سبتمبر“، جريدة المستقبل، الثلاثاء 12اكتوبر 2004م، ص18.
7) جاك دريدا، ما الذي حدث في حدث 11 شتنبر ؟ حديث دار في 22 اكتوبر 2001م مع جيوفاني بورادوري. ترجمة صفاء فتحي-مراجعة: بشير السباعي. دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2006م ص 45.
8) نشير هنا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تقف دائما إلى جانب الضحايا كما هو في حالات أخرى، مثل المدنيين في هيروشيما وغزة وأفغانستان والعراق على سبيل المثال.
9Alban Bensa et Eric Fassin. les sciences sociales face à l’événement. op.cit. P11.
10) ادغار موران .إلى أين يسير العالم . م.س. ص74.
11)جاك دريدا. ما الذي حدث في حدث 11 شتنبر ؟ م.س.
12) Alban Bensa et Eric Fassin.les sciences sociales face à l’événement. op.cit.p11.