حورية الخمليشي، الشعر المنثور والتحديث الشعري، دار الأمان-الرباط،، منشورات الاختلاف -الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر -بيروت، 2010.
إن دراسة الموضوعات المرتبطة بالنقد، بما في ذلك القضايا الأدبية المستقلة عن النصوص الإبداعية، هي مغامرة محفوفة بصعوبات كثيرة، فكل ظاهرة أدبية هي شبكة متداخلة من القضايا والتصورات والمواقف والاختلافات والتقاطعات، يمكن أن تلتف حول فكر الدارس وتَشلُّه، ما لم يتأمل فيها قبليا ويرتب خيوط تلك الشبكة في أصابعه وينظمها، وما لم يتسلح بوضوح الرؤية وزاد معرفي واسع ومعقد، وما لم يضبط جيدا المفاهيم والمصطلحات وتقاطعاتِها وتصاديها، وما لم يستفد جيدا من تجربته الخاصة في البحث والقراءة، قراءة الذات وقراءة الغير… لذلك حين قاربت هذا الكتاب، الشعر المنثور والتحديث الشعري، لحورية الخمليشي، تهيبت كثيرا، فوقفت أمام العنوان متسائلا لماذا لم تكن الصيغة مبنية على السببية، بالشكل التالي: الشعر المنثور مؤسس التحديث الشعري، مثلا؟ غير أني انتهيت إلى أن الصيغة الأولى أعمق تفكيرا وصياغة… هذه الصيغة هي الباب الرئيس في القبض على خيوط شبكة من القضايا النقدية، تمكن الباحثة من مادة دراستها ومن هذه الظاهرة الأدبية المركبة، الشعر المنثور والتحديث الشعري، التي تجاوز عمر ميلادها القرن، دون أن نجد بيننا من أعطاها حقها من الجمع والضبط والدرس والتحليل والغوص مع الجذور البعيدة والقريبة. وهذا ما جعل هذه الدراسة هي حقا شبكة من القضايا والظواهر والتيمات المتداخلة، التي فرضت على الباحثة التركيز في ضبط المصطلح وتدقيقه وفي القبض على منهج متنوع المقاربات، وفي اعتماد خلفية معرفية لا ضفاف لها.
ورغم أن هذا الكتاب، الشعر المنثور والتحديث الشعري، في النسخة الأخيرة يحمل الطبعة الأولى لـ 2010، فإنه كان قد صدر في طبعة أولى سنة 2006، عن منشورات زاوية للفن والثقافة. وأن هذه الطبعة قد نفذت من السوق، لتصدر الطبعة الأولى الثانية، عن دور عربية مختلفة. وهي طبعة منقحة ومضاف إليها عدة فقرات في الفصلين الثاني والثالث.
فقد تمتعت الباحثة في هذا الكتاب بوعي حاد بالمصطلح وضبطه وتدقيقه وجعله خيطا سميكا في السياق الثقافي الذي أنتج فيه، وفي السياق الثقافي الذي ينبغي أن ينقل إليه. ولضبط مصطلح “الشعر المنثور” في الفصل الأول حددت الباحثة مفهوم الشعر ومفهوم النثر لغة واصطلاحا، وميزت بين الشعر والنثر، وتناولت علاقة الشعر بالنثر، ثم لغة الشعر ولغة النثر، لتخلص إلى الشعر المنثور وإشكالية المصطلح.
ولتدقيق تلك المفاهيم وتعالقاتها إيجابا وسلبا غاصت في التراث النقدي والشعري العربي القديم، وجالت في الكتابات العربية والغربية الحديثة عند النقاد كما عند الشعراء، ووقفت عند من رجح الشعر منهم ومن رجح النثر. وفي كل فقرة تعود إلى إثبات رأيها عبر التعليقات والتفسيرات والتأويلات والإضافات. ولأن هاجس المصطلح سكن الباحثة فإنها قد عادت إليه في الفصل الثالث لتعمق فيه البحث والتدقيق، من خلال عنوان الكتاب نفسه الشعر المنثور والتحديث الشعري، لتقف لدى مفهوم الحداثة واستشكاله، ثم البحث في علاقة الشعر المنثور والشعر الحديث عموما والحداثة الشعرية العالمية وأثر النص المقدس، إنجيلا وقرآنا، في الشعر المنثور، ولدى الشعر المنثور والتنويعات النصية وإبدالاتها من خلال الحداثة في الشكل عموما والحداثة في اللغة على الخصوص، ثم محاولة تجنيس الشعر المنثور بالعمل على تمييز تنويعاته: فميّزت أولاً بين الشعر المنثور والنثر الشعري وعرّفت بمجموعة من الأجناس الشعرية كالشعر المرسل والشعر الحر إلى ظهور قصيدة النثر وجنس الكتابة التي هي هدم للحدود الأجناسية. لتنتهي الباحثة إلى الإقرار بأن “الأشكال الشعرية الجديدة عملت على تقريب الشعر من النثر، رغم الحدود الفاصلة بينهما، وهي وإن تعددت تسمياتها تحيل على مصطلح “الشعر المنثور” (ص. 169)، فكل التنويعات على الشعر الجديد تبقى حاملة لمواصفات “الشعر المنثور كما ورد عند الريحاني”.
ولمزيد من تعميق المصطلح نبهت الباحثة، في الفصل الثاني من الكتاب، إلى أهم أقطاب التحديث الشعري العربي الحديث والقديم، فوقفت أولا عند واضع المصطلح أمين الريحاني في لبنان، ثم عند أحمد زكي أبو شادي وأحمد شوقي في مصر وجبران خليل جبران في المهجر الأمريكي الشمالي ومحمد الصباغ في المغرب. وتناولت آراءهم المقتضبة في المفهوم وفي التحديث الشعري… ولممارسة قراءة فعالة لمفهوم الشعر المنثور كأساس للتحديث الشعري أوردت الباحثة نصوصا شعرية كثيرة لشعراء محدثين، أمثال نسيب عريضة وأبي القاسم الشابي وخليل مطران في ترجمته لمسرحية عطيل، وأنسي الحاج ومحمد بنيس ومحمود درويش… وأدباء قدماء أمثال الجاحظ في طرائف منظومة وأبي الفرج الببغا في النثر المسجوع والهمذاني في المقامة وابن عربي في رسائله… إضافة إلى الشعراء المذكورين.
وبعد هذه المسارات الموزونة والواسعة والعميقة أفقيا وعموديا، ركزت الباحثة اشتغالها هذا بتكثيف غير مخل في خاتمة لا يتعدى حجمها أربع صفحات، أهم النتائج الواضحة والشفافة التي انتهت إليها وقد ميزت وجود وطبيعة ومسار الشعر المنثور في العالم العربي، موظفة منهاجية مركبة، لم تفرضها على الدراسة بقدر ما فرضتها عليها الدراسة نفسها.
1ـ من مثل مقاربة تاريخية
تشير الباحثة في هذا الصدد، خلال المقدمة، إلى أن هذا الكتاب يهدف إلى رصد تطور “الشعر المنثور” في العالم العربي ابتداء من 1905، وهي السنة التي نشر فيها أمين الريحاني”أول قصيدة في الشعر المنثور”. وفي هذه الإشارة تؤكد أيضا على الأصل القبْلي الذي أخذ منه الريحاني وهو الشعراء الفرنسيون بمصطلح “Vers libres”، والإنجليزيون باسم “Free vers”. كما ركزت على أن هذا الأديب، وغيرَه ممن اهتم بهذا الصنف الشعري لم يتمكنوا من التنظير لهذا الإنجاز كما كان منتظرا، وبالأخص أن الاهتمام به ما زال إلى حد الآن ضعيفا، فبقي مصطلحه في المجال العربي مضطربا، وفي نفس الوقت كانت الغاية من إنتاج هذا النوع من الشعر هو تحديث القصيدة العربية التي بقيت جامدة في هيكلها خلال كل وجودها الطويل…
بل إن الباحثة اهتمت بالنصوص المقدسة كالإنجيل، وغاصت في التجارب الشعرية العربية القديمة، لتجد جذورا واضحة لهذا الشعر في النصوص الدينية وفي الأدب العربي القديم، من خلال بعض النصوص السجعية وخاصة المقامات، وبعض نصوص المتصوفة العرب. بل وجدت أن تلك الجذور امتدت إلى الأدب الجاهلي والإسلامي. غير أن تلك الأصول لم تشكل ظاهرة أدبية قائمة بذاتها، يمكن أن تكون بديلا للقصيدة العربية كما حدث مع “الشعر المنثور” وخلال تطوره في الأدب العربي الحديث والمعاصر.
وموازاة لهذا التنقيب الأركيولوجي على الجذور، اهتمت الباحثة بالشخصيات التي مارست ونظرت لهذا الشعر، من أمين الريحاني إلى شعراء شعر التفعلة خلال منتصف القرن العشرين إلى العقود الأخيرة من نفس القرن عبر قصيدة النثر والكتابة الجديدة. وهي تدرس تصورات ورؤيات وتنظيرات الأدباء المحدثين والمعاصرين، وجدت نفسها أيضا تبحث في النقد العربي القديم على نفس المفاهيم والتصورات التي تناولها المحدثون، بل وفي ممارسات نثرية وشعرية عند كتاب وأدباء العصر العباسي. لذلك تناولت عند الجميع، محدثين وقدماء، أهم خصائص ممارساتهم للكتابة الأدبية وتعالقَها مع مميزات الشعر المنثور، وأهم الآراء التي أدلوا بها والتي تلخص التقاطعات مع مميزات الشعر الجديد…
وفي خلال عرضها لتطوّر الشعر المنثور في العالم العربي أكدت على علاقة كل ذلك بالسياق الحضاري والثقافي الحديث، الذي لم تعد القصيدة التقليدية قادرة عل التفاعل معه واستيعابه. فالمجتمعات العربية أصبحت أكثر تعقيدا والثقافات فيها أكثر تداخلا وتنوعا، والتواصل مع الحضارات والثقافات الأخرى أضحى أكثر عمقا وضرورة… هكذا استطاعت الباحثة بعمق إدراكها وباتساع تجربتها أن تتناول هذا البعد التاريخي، من كل زواياه الدقيقة والجزئية وبوضوح شفاف، تناولت الأصول والجذور، والتفاعلات الثقافية والحضارية، والآراء والتصورات التي صاحبت مساره التاريخي الطويل الذي يمتد حوالي عشرين قرنا، مشيرة في كل ذلك إلى التطور السريع للشعر المنثور من بداية القرن العشرين إلى نهايته، من خلال تنويعات التحديث والحداثة، والانفتاح الحضاري والثقافي والأدبي والمجتمعي عموماً.
2ـ مقاربة جغرافية
هي تقنية استثمرتها الباحثة لتنويع مصادر وفضاءات وجود ظاهرة الشعر المنثور خلال المراحل التاريخية الحديثة والقديمة، والكامنة في مواقع جغرافية متنوعة، من أمريكا الشمالية كمهجر للشعراء العرب ومن أمريكا وإنجلترا وفرنسا كمصدر أصلي لمصطلح الشعر المنثور، ومن الشام ومصر والمغرب وتونس كتنويع عربي، دون غض الطرف على الجزيرة العربية وغيرها كأصل قديم وكبداية تنظير. ورغم أن هذه المقاربة مرتبطة بمادتها فقط وهي الجغرافية التي ليس لها منهج محدد، فإن موضوع البحث وهدفه حتم على الباحثة التي تراهما بوضوح أن تشد الرحال إلى الفضاءات الجغرافية كما شدت الرحال كثيرا إلى المراحل التاريخية.
3ـ مقاربة شكلانية
ورغم الإشارات الكثيرة إلى بعض أقطاب الشكلانية الروسية في ضبط مفاهيم الشعر والنثر، فإن ما يثير الانتباه في هذه الدراسة هو التركيز على القيمة المهيمنة، ضمن قيم جمالية أخرى، عند جاكوبسون. وهي قيمة تفرضها القراءة المحايثة للمتون والنصوص، بقصدية ضبط الخصائص والتقنيات المميزة، سواء للشعر أو للنثر أو لتنويعات الشعر المنثور. وإلى جانب هذه المقاربة، نجد أيضا المقاربة البلاغية والإيقاعية التقليدية والحديثة تستحضرهما طبيعة المادة والقضايا المثارة في الكتاب.
وقد حققت الباحثة بذلك الضبط الدقيق للمصطلح وبهذا التنويع في المقاربة المنهجية، التي لم تفرضها على مادة البحث وإنما تفاعلت بها معها، حققت عمقا معرفيا جليا، فقد أحاطت بكل جزئيات وجوانب ظاهرة الشعر المنثور، بحثا وتاريخا وتنوعا. يبرز هذا العمق المعرفي في وضوح ضبط المصطلحات وصياغة مفاهيم علمية جديدة، مرتبطة بالإبداع الأدبي والنقدي، وفي استعراض منسق للنظريات والآراء حول كل مكونات تناول الموضوع؛ ومن خلال وجهة النظر الخاصة بالباحثة في نقد أو تأويل تلك النظريات والآراء؛ خاصة وقد وظفت تقنية منهجية تركز على الجزء الدقيق في الأجزاء العامة للإحاطة بالظاهرة ككل. وهي في شساعة حقولها المعرفية، تعتمد على الأدلة والحجج العقلية والمنطقية.
ومن جملة ما يشد اهتمام القارئ في هذا الكتاب كثرة إثارة الأسئلة، والمعروف أن صياغة الأسئلة تدل دائما على وضوح الأفكار وعلى التمكن من المقاربة المنهجية. والأسئلة هنا تسهم بفعالية في دقة البناء الأسلوبي ووضوحه وفي استقطاب الرغبة المعرفية عند القارئ. ويخفف من طول الجملة ليقتصر على الجملة المتوسطة التي تؤدي معانيها بوضوح وتركيز، وفي نفس الوقت تخترق الفقراتِ عباراتُ تناصية على شكل استشهادات مقتبسة من ثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية.
لذلك يمثل هذا الكتاب مرجعا بل مصدرا مهما للطلبة الجامعيين في الشعب الأدبية، ولكافة الباحثين في مجال الأدب، لما يتمتع به من دقة تحديد المصطلح ومن ضبط مقاربات البحث ومن عمق معرفي واسع، ومن وضوح وشفافية الأفكار والآراء والتناصات المختلفة… خاصة حين نتحدث عن بحث في مجال علمي صعب المراس هو النقد والظواهر الأدبية.