عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي، من الشاي إلى الأتاي. العادة والتاريخ، طبعة ثانية، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ودار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2012.
أثار كتاب من الشاي إلى الأتاي. العادة والتاريخ، للباحثَين المغربيين عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي، اهتمام المشتغلين في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، في المغرب وخارجه، منذ أن صدرت الطبعة الأولى عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1999. ويعود هذا الاهتمام إلى الطريقة التي شيد بها المؤلِفان الموضوع، إذ نهجا مقاربة خصبة لامست تاريخ الشاي في مستواه العالمي، وقاربته من منظور متعدد، اقتصادي وأنثروبولوجي وأدبي، يوفق بين صرامة البحث العلمي والسعي إلى مخاطبة جمهور واسع من القراء. ومن شأن الطبعة الثانية التي صدرت سنة 2012 أن توسع دائرة القراءة حول هذا الموضوع في المغرب والبلدان العربية بصفة عامة.
تنتظم هذه القراءة وفق ثلاثة محاور تتصل بهندسة الكتاب ومضامينه، باللحظات الرئيسية في زمن الأتاي وثقافته، وبملاحظات حول القضايا المنهجية والمعرفية التي يثيرها البحث.
هندسة الكتاب
يتكون هذا العمل من قسمين، الأول “قصة الأتاي”، وهو الشق التحليلي من الدراسة، والثاني “شواهد مختارة”، تهيكله أربعة أصناف من النصوص أو الخطابات: الوصف والسرد “مشاهد وأخبار”، الفقه والفتوى “الحلِّية والحِرمة”، الطب التقليدي “منافع ومضار”، الشعر والغناء “شايات وأنغام”. هذا بالإضافة إلى ملاحق وفهارس.
يبدأ القسم الأول بالحملات الإشهارية، المرئية والمسموعة، التي تُرَوج للشاي. وينتهي، في جانب منه، بجذور زمنية تعود بنا إلى مطلع القرن الثامن عشر، وفقا لمنهج استعادي يأخذ القارئ المتخصص وغير المتخصص ويشد انتباهه. ولفهم قصة الأتاي من الناحية الكرونولوجية، يمكن تتبع التسلسل الآتي:
– وصل الشاي الصيني إلى أوربا في القرن السابع عشر.
– دخل الشاي إلى المغرب، عن طريق الإنجليز، في مطلع القرن الثامن عشر، في عهد السلطان إسماعيل، حيث استعمل أول الأمر كدواء.
– طيلة القرن الثامن عشر ظل شرب الشاي حكرا على الوسط المخزني، إذ كان من الهدايا المقدَمة من طرف الأوربيين إلى السلطان وحاشيته.
– في بداية القرن التاسع عشر ظل المشروب الجديد منحصرا في البلاط وفي أوساط علية القوم.
– في أواسط القرن التاسع عشر انتشر شرب الشاي في الوسط الحضري.
– 1860-1878: وصل الشاي إلى البوادي المجاورة للحواضر.
– 1880-1892: اتسع شرب الشاي في مجموع البوادي.
– في مطلع القرن العشرين كاد الشاي أن يعم الوسط الجبلي.
ومن زاوية الانتشار الاجتماعي، لم يعد الشاي في متناول كافة المجتمع إلا ابتداءً من الأربعينيات من القرن العشرين.
أدى الشاي ثلاث وظائف، تدخل في مجالات الاقتصاد والغذاء والرمز. فمن الناحية الاقتصادية، شكل الشاي الصيني الذي سوّقه الإنجليز بالمغرب، الجوازَ الذي سهل التغلغل الرأسمالي الأوربي، والإطار الذي توسع فيه الاقتصاد النقدي. أما من الوجهة الغذائية، فإن تناول الشاي الحلو مكن من الحصول على وحدات حرارية مهمة، بل أصبح المشروب الجديد مع مرور الزمن غذاءً تعويضيا في الأوساط الشعبية، كما تشهد على ذلك مائدة الفقير المكونة من “الخبز وأتاي”. وعلى مستوى الرمز، اقترن الشاي في مخيال المغاربة بالجماعة والأنس والضيافة. واقترن أيضا بالهدية: هدية الأوربيين للسلطان، وهدية السلطان لكبراء القبائل وشيوخ الزوايا قصد “إلغاء الحواجز وتيسير التواصل”، بل كذلك “لإبطال المقاومة وترسيخ روابط التبعية”. كما كرس طقس الأتاي وإقامته مظاهر التراتب الاجتماعي إلى حد الإقصاء. فتحضير الشاي استلزم أوصافا محددة، مثل الوقار والاتزان والأناقة. وفي المقابل، كانت إقامة المشروب محظورة على العبد والحرطاني والمعتوه.
زمن الأتاي وثقافته
يمكن التمييز في تاريخ تناول الأتاي وثقافته بين ثلاث لحظات رئيسية:
أولا، لحظة انتقال بين عصرين، أي قبل وبعد الاحتكاك التجاري الرأسمالي مع أوربا. وهذه اللحظة تحمل أكثر من دلالة. فهي تجسد الانتقال إلى حاجة جديدة كرست واقع التبعية اتجاه الغرب، كما تجسد انتقالا إلى زمن آخر، هو زمن الأتاي بعادته الجديدة، ونشوته الجديدة، وسلوكيته الجماعية الجديدة. وتستوقفنا، في هذا الصدد، في شبكة النصوص التي يقدمها المؤلِفان، قصيدة أمازيغية لابراهيم أولحسين نايت إخْلف، المنظومة عام 1893، ترى في استهلاك الشاي بداية تعلق الفقير بهذا المشروب، بداية إدمان جماعي، بداية الدخول في دوامة الديْن والإفلاس، كما ترى فيه خطة نصرانية لاحتلال البلاد وامتصاص موارده. تقول بعض فقرات القصيدة:
غلا سَوْم السكر والشاي إلى ما لا يُطاق
بسَط المُعدم آنية الشرب
عدم الدرهم وتحمل الدين
ما يقضي دَيْنا حتى يسقط في ديون
إذا لقيَ الدائن ذاق أمامه المذلة
أضاع القوم الحُب وأذابوه في الماء
أفسد علينا الشاي عمل الخير وبدّل حال ذوي المزايا
من لم يشربه عُدّ في البطّالين
الشعير كَيْلُكَ المعَوّل عليه، أما الشاي
فلأن الرومي يعرف أنك عَدُوُّه، فهو يرجمك بحجارة المدافع
والشاي بارودُها، وهو يعرف كيف يسدد
والعدو يضرب في البطن، وفيه الجراح القاتلة
أرسل علينا الرومي باخرتَه وألبسها الملاحف الزرقاء
أصابكم الرومي على مهلٍ بقوالب السكر
هذا الوعي بسياق التسرب الاستعماري، النابع من رجل ينتمي إلى قبيلة أيت باعمران بساحل الجنوب الغربي، نلمسه أيضا في بداية القرن العشرين عند فقيه مدينة فاس، محمد بن عبد الكبير الكتاني، الذي رأى في استهلاك الشاي والسكر ابتزازا لموارد المغرب المالية، ومنع شربه على أتباعه وحاربه في الجموع والمحافل.
ثانيا، لحظة ترسخ. وهي اللحظة التي توجت الانتشار الاجتماعي لشرب الأتاي، بعد أزيد من قرنين من الزمن. يتصل الأمر بفترة الحماية، إذ اقترن تعميم المشروب بقلة مادة الشاي. وهذه مفارقة كبيرة، كما أكد على ذلك عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي. فقد انتشر الأتاي على أوسع نطاق في وقت خصاص اقتصادي ارتبط بظروف الحرب العالمية الثانية، حيث قننت سلطات الحماية الفرنسية استهلاك المغاربة للمواد الغذائية، أي ما يعرف بـــِ “عام البُون”.
ثالثا، لحظة ضياع. في هذه المرحلة لم يعد الأتاي رمزا للعناية والتشريف، إذ تحول إلى مشروب روتيني. فقد انطلق شرب الشاي من القصر مع “موالين أتاي”، وانتقل إلى كبراء القوم عبر أسلوب محاكاة النموذج المخزني، ثم إلى عامة الناس، وذلك طبعا عبر تغلغل الاقتصاد الرأسمالي في البلاد. إنه امتداد اجتماعي طويل من فوق إلى تحت. فمن القصر إلى النخبة إلى عامة الناس، من كأس “البلاّر” إلى كأس “العَنْبَة” إلى كأس “حياتي”، من قبضة اليد العليا إلى قبضة كل الأيدي، تحولت ثقافة الأتاي. ففي العقود الأخيرة تفككت الطقوس وتراجعت رمزيته في مخيال المغاربة. وتعبر أغنية “الصينية” لمجموعة ناس الغيوان في بداية السبعينيات عن ضياع قيم الجماعة والأنس والتآزر، وعن إحساس الفرد بالعزلة في مجتمع يسير في اتجاه منطق البضاعة والسوق:
مالْ كَاسِي حْزين ما بِين الكِيسان
مالْ كَاسِي باكي وْحدو
مالْ كَاسِي نادبْ حضُّو
مالْ كَاسِي يا وعْدو
هذا نكدو غابْ سعْدُو
هذا ما يجسد المرور من “المتعة إلى المرارة”، كما جاء في عنوان أحد فصول الكتاب.
ملاحظات
ملاحظة أولى: لماذا فضل المؤلفان في وضع العنوان الفرعي صيغة “العادة والتاريخ”، وليس “التاريخ والعادة”؟ فمنطق المؤرخ قد يسير في اتجاه منح الأولوية لمفهوم التاريخ لأنه سابق على تشكل العادة. لكن قراءة الكتاب تجعل المرء يقتنع بأن الأمر يتعلق بمنهج معلن. إنه منهج استعادي على مستوى طرح المحطات التاريخية لاستهلاك الشاي وشربه وترسخ عادته. إنه حفر في العادة للكشف عن رصيد التاريخ. إنه أيضا أسلوب علمي لإشاعة المعرفة التاريخية.
ملاحظة ثانية: قِصَر القسم التحليلي، “قصة الأتاي”. هذا القسم يضم 34 صفحة، أي 7% فقط من مجموع الكتاب. لكنه حيز غني جدا. غني بمتنه وهوامشه المليئة بالإحالات والشروحات، التي تمنح لهذا القسم شحنة معرفية قوية، وتجعل منه على قِصره دراسة هائلة. ومع ذلك يظل القارئ متعطشا لفهم أوسع لعدد من القضايا الواردة في النصوص، مثل عقليات العصر المرتبطة برفض شرب الشاي وإباحته، والسياق الذهني لانتصار الأتاي وتمثل الآخر للطريقة المغربية في تناول المشروب. والواقع أنه اختيار مبرر. فالكتاب باعتراف المؤلفين ليس دراسة مستفيضة لموضوع الشاي، بل إطارا لاستكشافه عبر شبكة من النصوص. فهل هي “كتابة بواسطة النصوص”، كما عبر عن ذلك أحد الزملاء في شعبة علم الاجتماع في تعليق شفهي على تجربة مماثلة، المدينة في العصر الوسيط، كان قد خاضها من قبل عبد الأحد السبتي وحليمة فرحات؟
ملاحظة ثالثة: نصوصية الكتاب. فالمتلقي يجد نفسه أمام نصوص متعددة، نصوص إثنولوجية (ethno-textes)، كما يقول جاك لوغوف. نصوص متعددة بتعدد المواقع الثقافية والقناعات الفقهية واللغات واللهجات. فمن التآليف الفقهية إلى أوصاف الرحالة إلى القصائد إلى الأغاني إلى النكت الساخرة، نلمس معالجة تاريخية للثقافة ومعالجة ثقافية للتاريخ. وهذا يدل على التلاقح الهائل الذي ولَّده الكاتبان بين التاريخ والإثنولوجيا، بين الثقافة العالِمة والثقافة العامية، بين المكتوب والشفهي، بين الفكري والسيكولوجي، بين التأملي والعفوي. وتظهر خصوبة هذا التلاقح على أكثر من صعيد. فهو أسلوب آخر، فاعل، لإحضار البعد التاريخي في مقاربات الآداب والعلوم الاجتماعية، أسلوب حديث لمنح الاعتبار للثقافة الشعبية، لتقدير النص الشفهي، للتنبه للأدوات والكلمات والإشارات التي غالبا ما تبدو لأول وهلة بسيطة ومبتذلة لكن معالجتها بعمق تجعلها تحمل من الدلالات وتفك من الرموز ما قد لا تتيحه النصوص المكتوبة.
وختاما، يثير موضوع الشاي مجموعتين من القضايا:
الأولى: فعالية المعالجة الإثنولوجية للتاريخ. فالتاريخ ليس فقط حفرا في الوثيقة المكتوبة، بل أيضا تحقيق. والتحقيق يستلزم النزول إلى الميدان، والثقافة الشعبية ميدان. فكما يقول بول فاينْ: “حتى وأنت تتجول في السوق قد تلتقط إشارات تاريخية”.
الثانية: تاريخ التغذية كملتقى للتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأنساق الثقافية. فهو يُدَوِّن، مع تأخيرات ناجمة عن مقاومات سيكولوجية، كل تقلبات الاقتصاد، ويشهد على انتقال اجتماعي طويل الأمد، من أعلى إلى تحت، من مشروب للأقلية إلى مشروب للأغلبية، من مشروب رجولي إلى مشروب عائلي، ويكشف عن أثر حساسية الذوق (السكر والنعناع)، والطقس (امتداد جلسة الخمر في جلسة الشاي)، في تملك مادة أجنبية، في تشكل العادة، في تكون عنصر من عناصر الهوية الجماعية.