خلال الموسم الجامعي 2002- 2003، توصلت برسالة إلكترونية من دانيال سيفاي، يخبرني بأنه يعد ترجمة فرنسية لكتاب سوق صفرو لكليفورد غيرتز، ويطلب مني أن أوفر له بعض المعطيات حول تأثير أعمال غيرتز في حقل العلوم الإنسانية بالمغرب. لم أشعر بأنني معني بهذا الموضوع، بالرغم من اطلاعي على عدد من أعمال الأنثروبولوجي الأمريكي المذكور، وقد أشرت إليها في إحالات قليلة من أطروحتي حول أدب الأنساب ومكانة النسب الشريف داخل النسق الاجتماعي والسياسي المغربي.
وحين تقرر تنظيم هذا اللقاء بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب تأويل الثقافات، ارتأيت أن أساهم بورقة حول مفهوم “الوصف المكثف”، فأعدت قراءة بعض مؤلفات غيرتز وأعمال بعض الندوات الدولية التي خُصصت لتكريمه، فبدا لي أنني تفاعلت في بعض أبحاثي السابقة مع كتاباته بشكل غير معلَن وربما عن غير وعي. وهكذا تبين لي أن تحضير هذه الورقة كانت له فائدة مزدوجة، إذ تعرفت بشكل أعمق على أحد المفاهيم الاستراتيجية عند غيرتز، واستأنفت علاقتي مع نصوص أنثربولوجية تتسم بقدر كبير من الخصوبة.
ثلاثة نصوص
سوف أحاول أن أعرف بمضمون “الوصف المكثف” من خلال قراءة لثلاثة نصوص تجمع بين المعطيات الميدانية والعرض النظري. وقد خصص غيرتز النص الأول لحدث اجتماعي محلي وقع في المغرب في بداية الحماية، والثاني لمؤسسة السوق في مدينة مغربية، والثالث لأحد الطقوس التقليدية في إندونيسيا.
” الوصف المكثف”
يعتبر هذا النص بمثابة بيان في منهج الأنثروبولوجيا التأويلية، ومنعطف هام في هذا التيار الذي تميزت به المدرسة الأنثروبولوجية الأنجلوساكسونية. وقد كتب في الأصل كمقدمة لكتابتأويل الثقافات الذي صدر سنة 1973، وصدرت ترجمته الفرنسية سنة 1998، وأعاد دانيال سيفاي نشره في كتابه حول البحث الميداني، وأصبح الآن في متناول القارئ العربي. ولا بأس من التذكير بأن هذا المقال أصبح منذ بضعة عقود نصا مرجعيا عند المؤرخين في مجال تجديد التعامل مع الحدث.
ينطلق غيرتز من حدث وقع سنة 1912، وسجله في مذكرات تحرياته الميدانية سنة 1968 في منطقة مرموشة بالأطلس المتوسط. لم يكن الفرنسيون آنذاك قادرين على ضمان الأمن هناك. وقد منعوا الحماية الفردية بواسطة عقد المزراك، الذي يتولاه ضامن صاحب نفوذ داخل القبيلة التي يمر بها المسافر. لكن هذا النظام ظل قائما في مستوى الممارسة الفعلية. بعد فشل محاولة اعتداء أولى، تنكَّر رجل أمازيغي في زي امرأة، وتمكن من اغتيال يهوديين جاءا من خارج المنطقة للتبادل مع التاجر كوهن، وتمكن هذا الأخير من الإفلات من نفس المصير. وبعد ذلك اشتكى كوهن لدى الضابط الفرنسي المحلي، وطالب باسترجاع السلع التي سرقت منه في الحادث المذكور. فكان الجواب أن المعتدين ينتمون إلى قبيلة متمردة لا تخضع للسلطة الفرنسية. آنذاك استأذن كوهن في أن يذهب مع ضامن مزراكه، شيخ مرموشة، ليحصل على التعويض الذي تنصُّ عليه الأعراف المحلية في مثل هذه النازلة. لكن الضابط لم يكن بإمكانه أن يرخص لكوهن بما أراد لأن فرنسا منعت رسميا نظام المزراك، فنبهه إلى أنه يتحمل مسؤوليته فيما يمكن أن يحصل له. ومع ذلك قرر كوهن أن ينفذ مشروعه، ونجحت العملية، وبعد هجوم مضاد ومفاوضات بين الطرفين، تمكن كوهن من الحصول على خمسمائة من رؤوس الغنم على سبيل التعويض. وعند عودته إلى مرموشة، لم يصدق الفرنسيون ما حصل، واتهموا التاجر اليهودي بالتجسس لصالح القبيلة المتمردة، ووضعوه في السجن، وحجزوا أغنامه. وأطلق سراحه بعد احتجاج ذويه، دون أن يسترجع أغنامه، ودون أن تعتذر السلطات الفرنسية عما حصل.
وبعد ذلك يحلل غيرتز هذا الحدث، ويوسع دائرة التنظير ليطرح عددا من قضايا التأويل الثقافي. وقد قرأت هذا النص بعد أن لاحظت أن المؤرخين يحيلون عليه في إطار إغناء مفهوم الحدث. وكنت قد انتهيت من إعداد أطروحتي حول موضوع الزطاطة وأمن الطرق، مع أن غيرتز خصص لهذا الموضوع بعض الصفحات في دراسته لسوق صفرو.
لماذا شد حدث مرموشة اهتمام غيرتز؟ تقوم القصة على أدوار كل من التاجر اليهودي، وشيخ القبيلة الأمازيغية والضابط العسكري الفرنسي. هناك إذن ثلاثة شخصيات تعبر عن وضعية انتقال من التأمين بواسطة الأعراف القبلية في إطار النسق المخزني، إلى التأمين بواسطة أدوات الدولة الترابية في إطار نسق الحماية.
يحكي الحدث عن ظاهرتي اللاتفاهم و”اختلاط اللغات”. والحدث بمثابة مشهد يبرز اشتغال جملة من المفاهيم المحلية حول مواضيع العنف، والعِرض، والعدالة، والقبيلة، والملكية، والاصطناع، والاحتماء، والزعامة. ويضعنا الحدث كذلك أمام رموز تحمل دلالات معينة عند الفاعلين، بل هي رموز توجه الفعل الاجتماعي. وهذه الدلالات هي التي يركز عليها غيرتز ليبني قراءته للمجتمع باعتباره منظومة ثقافية، بعيدا عن التفسير الكلاسيكي ووهم البحث عن قوانين اجتماعية.
“سوق صفرو”
أشرف غيرتز على عمل جماعي حول مدينة صفرو، وقد أنجز هذا البحث على أساس بحث ميداني مركَّز، وتقسيم موضوعاتي للعمل. وقد صدر المؤلف بكامله بالأنجليزية سنة 1979، ولم تترجم منه إلى الفرنسية سوى دراسة غيرتز حول سوق صفرو بشكل منفصل سنة 2003.
يعتبر غيرتز أن السوق (“البازار” في اصطلاح المؤلف) مؤسسة هي بالنسبة للمجتمعات العربية (“الشرق الأوسط”) مثل البيروقراطية بالنسبة للصين القديمة، أو الفئات الاجتماعية المغلقة (الكاسط) بالنسبة للهند التقليدية. وخلافا للبنيوية الوظيفية التي تعطي أهمية بالغة لنظام القرابة- في النظرية الانقسامية على سبيل المثال-، يعتبر غيرتز أن ظاهرة السوق هي أهم مدخل للثقافة. والسوق عبارة عن نسق يمكن الإمساك من خلال ثلاثة مستويات.
أولا- مستوى تحديد الهويات الاجتماعية. من أنا؟ ومن أنت؟ تتعدد معايير الانتساب (“النسبة” في مصطلح غيرتز) عند رواد السوق، بين العائلة، والقبيلة، والأصل الجغرافي، والمهنة، والزاوية، ويتميز الفرد في بعض الأحيان بلقب يدل على خاصية جسمانية معينة. ونظام الانتساب “ليس مجرد خطاطة تصنيفية تؤطر الطريقة التي ينظر بها الناس إلى ذواتهم وإلى بعضهم البعض، بل هو في نفس الوقت إطار ينظم الناس فيه مبادلاتهم المختلفة، ومن بينها المبادلات الاقتصادية في حالة السوق”. ويتخذ الانتساب شكل الفسيفساء، وهي في الواقع “دليل يساعد على بناء الواقع الاجتماعي”.
ثانيا- مستوى البيئة كمجال للاتصال والتبادل.
يبدو أن اختيار غيرتز لصفرو لم يكن اعتباطيا، لأن هذه المدينة تختزل مجموعة من العلاقات التي يتميز بها المجال المغربي. تقع المدينة بين السهل والجبل، وبين قبائل ناطقة بالعربية والأمازيغية، وتعرف تفاعلا هاما بين المسلمين واليهود. ومن الناحية التاريخية، تقع صفرو في أحد أهم محاور التجارة القافلية والاستراتيجية ، “طريق السلطان”، بين تافيلالت وفاس. وحدد غيرتز ثلاث مؤسسات كانت عماد التجارة القافلية، وهي “الفندق”، والقراض، والزطاطة.
حدد غيرتز موقع صفرو داخل التراتبية الجهوية للأسواق في الحاضر، وحدد عناصر المجال التجاري المحلي (التجارة الثابتة في المدينة القديمة، وشبكات التجارة الدورية، وقطاع الأعمال في “المدينة الجديدة”). وتتبع بطريقة إحصائية وخرائطية التنظيم الحضري والإثني والمهني.
ثالثا- مستوى المعلومة.
يتميز السوق بندرة المعلومة، وارتفاع مستوى جهلها، سواء تعلق الأمر بالأثمان أو جودة المنتوجات أو كلفة الإنتاج. وهذا العامل الأساسي يساهم بقدر كبير في تحديد طرق اشتغال وتنظيم السوق، ويوجه سلوك مختلف أنواع الفاعلين داخل هذه المؤسسة الاقتصادية. فهناك من يسعى إلى تجاوز تلك الندرة، وهناك من يسعى إلى توسيع نطاقها، وهناك من يسعى إلى الحد منها. وتقوم كل تلك الاستراتيجيات على مهارات وقدر كبير من الحدس والقدرة على رصد المؤشرات. ونتيجة لندرة المعلومة، فإن عملية التبادل تتم من خلال التفاعل المتكرر بين الأفراد “وجها لوجه”، وهو ما يعطي أهمية قصوى للعلاقات الشخصية والزبونية.
تلتقي النِّسبة والبيئة وندرة المعلومة في اتجاه مشترك، وتؤدي إلى نفس النتيجة، وهي ترسيخ ثقافة المساومة. وهكذا يعبر السوق عن خصوصية النظام الاجتماعي في مستوى أعم. فالنظام الاجتماعي لا تحدده بنية قارة، بل يقوم على عملية تفاوضية يحددها سياق معيَّن ومجال معيَّن، وهي تتصل بمصالح الفاعلين وأهدافهم وقيمهم ومعتقداتهم.
صراع الديكة في بالي
صدر هذا النص في شكل مقال في مجلة علمية سنة 1972 قبل أن يُدرجه غيرتز داخل كتاب تأويل الثقافات (1973). ويعتبر هذا النص نموذجا لمنهج الوصف المكثف. ونجد صدى له عند عبد الله حمودي في تحليله لطقس بيلماون (أو بوجلود) بمنطقة الأطلس الكبير.
عاين غيرتز صراع الديكة سنة 1958 في بالي، إحدى جُزر إندونيسيا. وكانت تلك اللعبة شائعة، بالرغم من أن قوانين البلد كانت تمنعها باعتبارها عادة “بدائية” تعوق التقدم، وقد اعتبر المؤلف ذلك المنع من تجليات ذهنية “الوطنية الراديكالية”.
تتم اللعبة داخل حلبة، ويتكون برنامج الأمسية من حوالي عشر مباريات، وفي كل واحدة منها يتصارع ديكان. ويتتبع الجمهور فُصول الصراع بحماس كبير، خاصة وأن الصراع ترافقه عملية الرهان. وتتم هذه “اللعبة الجهنمية” في كل جوانبها وفق تنظيم محكم ومتوارث وصفه غيرتز بدقة كبيرة.
يعتبر المؤلف أن صراع الديكة يعبر عن الثقافة المحلية في مستوى المخيال والبنية الاجتماعية. فالديك هو رمز الذكورة بامتياز، وتتخذ الكلمة عدة معاني استعارية مثل “البطل” و”المحارب”. ويستعمل صراع الديكة كصورة للدلالة على المحاكمات، والصراعات السياسية، والنزاعات بين الورثة، والمشاجرات في الشارع. ويحيل الديك أيضا إلى القوى الخفية والبعد الحيواني المدمِّر. وبالتالي فإن صراع الديكة أشبه بالطقس / الأضحية الذي يهدف إلى تهدئة قوى الشر.
وفي مستوى آخر، لا يحمل المال الذي يستعمل في الرهان قيمة الربح أو الخسارة المباشريْن، بقدر ما يعبر عن المكانة المعنوية والنفوذ. فمن الناحية الرمزية، حين يراهن الفرد بالمال، فهو يراهن كذلك بكرامته وعِرضه وموقعه الاجتماعي. لذلك لا تخوض في الرهان فئات مثل النساء والشباب والتابعين، ولا يخوض فيه سوى أصحاب النفوذ، ويتعارضون في الرهان على منوال تعارض المجموعات داخل المشهد الاجتماعي اليومي.
غير أن ذلك لا يعني أن صراع الديكة له مفعول اجتماعي، وكأن المعنيين “يلعبون بالنار دون أن يحترقوا بها”. فاللعبة هي أقرب إلى الشكل الفني والتعبيري. وما يعطي للعبة / الطقس قوة جمالية، هو أنها تركيب يوفق بين الجانب الدرامي، والجانب الاستعاري والسياق الاجتماعي. فلعبة صراع الديكة هي مثل مسرحيتي الملك لير وماكبيث لشيكسبير، أو روايتي ديفيد كوبرفيلد لشارل ديكنز والجريمة والعقاب لدوستويفسكي. وهنا يستطرد غيرتز حول وظيفة الفن، ويقول إن العمل الفني يساعد المجتمع على التأمل في واقعه من خلال تسليط الضوء على بعض مظاهره بطريقة ترقى إلى إبراز قيم ذات طابع إنساني.
بعد أن أعدت قراءة نص غيرتز، شعرت بأن هناك صلة بين لعبة الديكة وجلسة الشاي في الثقافة المغربية. يختزن طقس الشاي دلالات عديدة في مستوى زمن ومكان تناول الشاي، وفي الأواني والحركات المرتبطة بتحضير المشروب، بل وفي هوية المشاركين في الجلسة. والمجاز كان من بين الجوانب التي كانت منطلق اهتمامنا بالموضوع، من خلال قصيدة أمازيغية كتبت في أواخر القرن التاسع عشر، وتغنى صاحبها بجمالية الجلسة، وفي آن واحد سجل ارتباط الشاي بالنخبة، واستعماله من طرف الأوربيين من أجل تسهيل تغلغلهم داخل الاقتصاد المغربي. وبعد غوصنا في دراسة موضوع الشاي، تبين لنا أن قصة دخول الشاي إلى المغرب واحتلاله لمكانة مركزية في الحياة اليومية والمخيلة الجماعية تكشف عن جدلية معقدة بين الشاي كشكل تعبيري، وبين الشاي كصورة للمجتمع المغربي عند المغاربة والثقافة المغربية عند الآخر.
ثلاثة أبعاد
لا تقتصر إجرائية “الوصف المكثف” على الممارسة الأنثربولوجية، بل يمكن للمؤرخ، من خلال ذلك المفهوم، أن يحاور الاجتهادات التي قدمها غيرتز وغيره في دراسة المجتمعات والثقافات في حاضرها وماضيها.
العلاقة بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية
ينتسب غيرتز إلى الأنثروبولوجيا الثقافية، وتناهز أعماله عند البعض تهمة المقاربة الثقافوية، أي اختزال المجتمع في الثقافة، واختزال الثقافة في ماهية وهوية ثابتتين.
ماذا تعني الثقافة عند غيرتز؟ إن الأشكال الثقافية تشمل الدين والإيديولوجيا والحس المشترك والفن والقانون. ومن منظور غيرتز، ليست الثقافة بنية فوقية تعكس بنية تحتية تتمثل في الاقتصاد والمجتمع. وليست البنيات الرمزية مجرد تمثُّل للممارسات الاجتماعية، بل إن السلوك الاجتماعي هو في حد ذاته فعل رمزي.
مسألة بناء الموضوع
عندما يريد الباحث أن يصوغ موضوع دراسته، فهو يختار زاوية للتناول قد تكون حدثا (قصة مرموشة)، أو مؤسسة (سوق صفرو)، أو طقسا (صراع الديكة).
ويشترط الوصف المكثف أن ننتبه إلى وجود عنصر يكثف الواقع ويتجاوز التصنيفات المتداولة بين مستويات المجتمع أو الثقافة، ونعني بذلك التمييز، بمنطق الخانات، بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمجالية والثقافية، على سبيل المثال لا الحصر.
وهنا يلتقي الوصف المكثف مع مجموعة من المفاهيم الأخرى:
– مفهوم “الظاهرة الاجتماعية الكلية” الذي اقترحه عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس من خلال دراسته الشهيرة للهبة والهبة المضادة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن مفهوم موس ينطبق على مواضيع في تاريخ وثقافة المغرب مثل الشاي والزطاطة.
– مفهوم “النموذج الذهني” idéaltype الذي اقترحه ماكس ڤيبر، ومعناه مفهوم يساعد على فهم الواقع دون أن يطابقه تمام المطابقة.
– طريقة اشتغال الكتابة الأدبية، من حيث تكثيفها للواقع عبر ابتكار أجواء وشخصيات وأحداث تعبر عن عمق التجربة الإنسانية دون أن تكون “واقعية” بالمعنى البسيط للكلمة.
ومن هنا تتضح الأهمية التي يوليها غيرتز لدور الخيال عند الأنثروبولوجي، وللطبيعة الأدبية للكتابة الأنثروبولوجية .
بين النظرية والمقاربة
هل يقترح غيرتز مقاربة خاصة أم نظرية معينة؟ نلاحظ أن طريقته في دراسة الثقافة تقوم على التداخل بين الميدان (نسبة للبحث الميداني) والنص، بحيث يتعامل الباحث مع المعطيات الميدانية كنصوص، بل ويتعامل مع المجتمع كنص.
وفي مستوى آخر، تتيح المقاربة الغيرتزية عدة إمكانيات، وهي:
– الانتقال من نص إلى آخر. نرى مثلا أن قصة مرموشة تحيل إلى موضوع الزطاطة، والزطاطة هي جزء من منظومة السوق.
– الانتقال من الموضوع المجهري إلى تناول الانتماءات الثقافية الواسعة (من حالة سوق صفرو إلى ثقافة مجتمعات “الشرق الأوسط”).
– بناء الموضوع بواسطة هاجس المقارنة، وهكذا استطاع غيرتز أن يلفت الانتباه إلى الحرْكة كظاهرة بنيوية تتصل برمزية السلطة في الدولة التقليدية في المغرب بناءً على المقارنة بين ثلاثة نماذج ملكية، وهي التنقل عند إليزابيث الأنجليزية، وهايام وُرُوكْ بجزيرة جافا (إندونيسيا)، والحسن الأول بالمغرب.
وختاما، نود أن نسجل، انطلاقا من تجربتنا الشخصية، أن الاستئناس بأعمال غيرتز يوفر إمكانيات جديدة لبناء الموضوع التاريخي. فالمونوغرافيا مثلا قد تنطلق من الحدث أو المؤسسة أو الطقس. والمقاربة المقترحة تفترض صعوبة استنفاذ تأويل ثقافة معينة، وتستبعد النظرية التي قد يسقطها البعض على مجتمع معيَّن أو ثقافة معيَّنة من أجل تأطيرهما بشكل يدعي الشمولية.
لذلك فأعمال غيرتز لا تقترح بناءً نظريا مغلقا، بقدر ما تقترح أسلوب عمل يتمتع بقوة استكشافية، وهنا يكمُن سر اشتغال المرجع بشكل غير مُعلَن، وهي المفارقة التي انطلقت منها في بداية هذه الورقة.
عناصر بيبليوغرافية
– حمودي عبد الله، البحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، الدار البيضاء، دار توبقال، 2010 (الطبعة الفرنسية: 1988).
– السبتي عبد الأحد ولخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي. العادة والتاريخ، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط / دار أبي رقراق، ط. 2، 2012.
– السبتي عبد الأحد، بين الزطاط وقاطع الطريق. أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، الدار البيضاء، دار توبقال، 2009.
– غيرتز كليفورد، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة / مركز دراسات الوحدة العربية، 2009.
– ADDI Lahouari & OBADIA Lionel (dir.), Clifford Geertz.Interprétation et culture, Paris, éd. des archives contemporaines, 2010.
– GEERTZ Clifford, The Interpretation of Cultures. Selected Essays, New York, Basic Books, 1973.
– GEERTZ Clifford, « La description dense. Vers une théorie interprétative de la culture », Enquête, n° 6, 1998, pp. 73-105 ; id. in Daniel Cefaï, L’enquête de terrain, Paris, La Découverte / MAUSS, 2003, pp. 208- 233.
– GEERTZ Clifford, GEERTZ Hildred & ROSEN Lawrence, Meaning and Order in Moroccan Society. Three Essays in Cultural Analysis, Cambridge, Cambridge University Press, 1979.
– GEERTZ Clifford, Bali. Interprétation d’une culture, Paris, Gallimard, 1983.
– GEERTZ Clifford, Savoir local, savoir global. Les lieux du savoir, Paris, P.U.F., 1986 (éd. orig., 1983).
– GEERTZ Clifford, Le Souk de Sefrou. Sur l’économie du bazar, trad. Daniel Cefaï, Paris, Bouchène, 2003.
– KERROU Mohamed (dir.), D’Islam et d’ailleurs. Hommage à Clifford Geertz, 1926-2006, Tunis, cérès éditions, 2008.
– MAUSS Marcel, Sociologie et anthropologie, Paris, P.U.F., 1989.
– ROSEN Lawrence, Bargaining for Reality. The Construction of Social Relations in a Muslim Community, Chicago, University of Chicago Press, 1984.