الحوار الذي نقدمه للقراء في هذا العدد يدور مع سعيد بنـﮕراد الذي يعمل أستاذاً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس- أكدال بالرباط. ويعتبر من أهم الأساتذة الباحثين في مجال الدراسات السيميائية أساساً، وفي مجال السرديات والدراسات الثقافية والترجمة كذلك، في المغرب وفي العالم العربي. ويشهد على حضوره العلمي في المجالات العلمية المذكورة مؤلفاته العديدة الأصيلة التي لعبت وتلعب دوراً علمياً وثقافياً في تطوير وتأصيل الدراسات السيميائية والثقافية.
ولم يكتف سعيد بنـﮕراد بالبحث العلمي في مجال تخصصه فقط، بل امتد اهتمامه إلى مجال النشر المتخصص؛ فأنشأ مع مجموعة من الأساتذة، مجلة علمية متخصصة في الدراسات السيميائية أساساً، والدراسات الأدبية الحديثة والدراسات الثقافية، وهي مجلة علامات، منذ 1994. وصدر منها لحد الآن 37 عدداً. ولا يخفى دور هذه المجلة في نشر المعرفة العلمية والأدبية المتخصصة الحديثة في المغرب وفي العالم العربي.
وإذا كانت ببليوغرافيا سعيد بنـﮕراد، تتجاوز عشرين مؤلفاً تتوزع بين البحث والدراسة والترجمة، فإننا سنكتفي هنا بتقديم بعض مؤلفاته ومترجماته الأخيرة:
1- الإشهار والمجتمع، بيرنار كاوتولا ، ترجمة سعيد بنكراد، منشورات علامات، 2012؛
2- سيرورات التأويل، من الهرموسية إلى السميائيات، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت، 2012؛
3- سميائيات الأهواء، من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد، 2010؛
4- دروس في الأخلاق، أومبيرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2010؛
5- الصورة الإشهارية : آليات الإقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2009؛
6- السرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، 2008؛
7- تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ميشال فوكو، ترجمة سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربي، 2006.
وللمزيد من الاطلاع على أعماله، يمكن الدخول إلى الموقع التالي: www.saidbengrad.free.fr
وبالنسبة لموقع مجلة علامات، هو: www.saidbengrad.com
نص الحوار
– الأستاذ سعيد بنكراد، أنت كأستاذ وباحث وأكاديمي، منشغل بالثقافة المحلية المغربية، وبالثقافة العربية والإنسانية الأخرى، وتعمل في كتاباتك على تمكين الثقافة المحلية والعربية من الانخراط في الثقافة الكونية. كيف يمكن للأكاديمي أن يجعل من الثقافة المحلية ثقافة تنخرط في الإنسية الكونية؟
● أعتقد أن الأمر لا يتعلق في مجال البحث الأكاديمي بالبحث عن التطابقات الممكنة بين المحلي الذي يعاش بشكل تشخيصي من خلال سلسلة من الوضعيات الموصوفة في الحكايات والأشياء والطقوس والرموز، بل بمحاولة خلق حالات توازي ممكنة بين مضامين يتم الكشف عنها من خلال المفاهيم، فهي وحدها القادرة على خلق تواصل بين ثقافات مختلفة؛ ذلك أن المفاهيم لا وطن لها، إنها جزء من الشرط الإنساني الذي يحدد الكائن باعتباره إنساناً في استقلال عن انتماءاته. فلم يكن الحزن خاصاً بنا دائماً، كما لم تكن السعادة أو التفاؤل جزءاً من الثقافة الغربية وحدها. إن هذه المفاهيم إرث إنساني يشترك فيه كل الناس، وهي كذلك في انفصال عن الغطاءات الثقافية بكل أشكاله.
لذلك من مهام الأكاديمي أن يلتقط أشكال التشخيص هاته ويعيد صياغتها في شكل مفاهيم هي الأداة التي تُجْلي الغامض والغريب والمقزز عند الذات وعند الآخر. فالعنصرية هي نتاج جهل بثقافة الآخرين الذين لا نعرفهم. فكلما توغلنا في التجريد بدت الفواصل بين الثقافات رفيعة وبسيطة، إننا نعود إلى ما يوحد ويكشف ويجمع بين ثقافات مختلفة في أشكال تجليها، ولكنها تعود إلى مصدر واحد: الإنسان. بالتأكيد ليس المقصود من هذا العمل إلغاء هذا لصالح ذاك، فما يوحد هو ما يفصل ويعزل و يميز أيضاً، وفي جميع الحالات لم تكن الوحدة قط عودة إلى حالات تطابق، وإنما المقصود هو فهم الذات وفهم الآخر ضمن الانتماء إلى إنسية واحدة، فعندما ندرك سر المشخص، أي عندما نلتقطه كمفهوم تتضاعف لذة الانتشاء بالحسي والممثل بصرياً ورمزياً.
وهو ما يصدق على كل القطاعات المعرفية؛ فنحن لا نستورد بضاعة مغشوشة من الغرب، ولا نصدر له الخرافات والانتحاريين، إننا نحاول استنبات مفاهيم هي في نهاية الأمر وبدايته حاصل تجربة إنسانية، ضمن لغة وثقافة جديدة لا تغير من مضمونها بل توسع من أفقها وتجعلها قادرة على استيعاب تجارب إنسانية من طبيعة مغايرة، وهو ما يشكل انخراطنا ضمن إنسانية بروافد متعددة.
وقد صرح رحالة روسي بعد جولة قادته إلى بلدان كثيرة أن المضامين كانت واحدة، ووحدها الأشكال كانت تتغير وتختلف وتتنوع. إن المفاهيم لا تحيل على نفسها، إنها تحيل على ما هو أبعد من التمثيل المباشر، إنها تختصر الوجود وتُمَفْهم، وبعبارة أخرى، إنها تقرب بين التجارب من خلال تخليصها من الحدثي العارض والإمساك بالجوهري القابل للترحال من ثقافة إلى أخرى.
– ولكن كيف يمكن للمفاهيم كإرث إنساني، التخلص من الحدثي العارض، والاحتفاظ بالجوهري، في ظل الظروف الراهنة، أي في ظل العولمة والثورات العربية وسيادة سلطة الصورة؟
● لقد كانت العولمة الفكرية دائماً حاضرة في الإرث الإنساني، وهي التي مكنت الفلسفات المتنوعة من الترحال من مناخات ثقافية إلى أخرى تختلف عن بعضها البعض في كل شيء. فعندما يتحدث فرويد عن اللاشعور أو يتحدث كانط عن الإدراك أو يتحدث أرسطو عن قواعد البويطيقا، أو يتحدث هوسيرل عن الظاهرة وموقعها في الوعي، فهم لا يتحدثون عن حالات تخص الوجدان الغربي وحده، بل يتحدثون عن الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع محيطه، ومن خلالها تتحدد أيضاً الطريقة التي يأتي بها العالم الخارجي إلى وعي الإنسان. نحن لسنا فصيلة منقطعة عن العالم، وما نقوله أحياناً عن نقد عربي أو فلسفة عربية، أو شعر عربي، لا يعني الانفصال عن الآخرين. فهذه الأشكال هي كذلك فقط من خلال اللغة وضمن إوالياتها، لا من خلال جوهر عقلي خاص بنا، فالعقل الإنساني يحتكم إلى المبادئ نفسها وهي مبادئ مشتركة عند كل الكائنات البشرية، ولو لم يكن الأمر كذلك لانتفت الترجمة وانتفى التواصل بين الثقافات.
لقد اكتشفنا الاستعارة قبل أن يكتشفها الفرنسيون في لغتهم بزمن طويل (لم تظهر الفرنسية إلى الوجود كلغة متميزة عن غيرها إلا مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي)، ولم يعلمنا اليونان معنى الاستعارة، وهذا لم يجعل من استعارتنا أجمل من استعارتهم، فهما في الحالتين معاً تشيران إلى قدرة المقول على الانزياح عن التعيين لكي يمنح التجربة الإنسانية آفاقاً أوسع مما يشير إليه النفعي في الوجود. ويبدو أن الحالة التي يفتخر بها العرب كثيراً، وهي حالة ابن رشد الذي انتقلت بواسطته الفلسفة اليونانية(الأرسطية في المقام الأول) إلى الغرب، دالة على ذلك. لذلك، عندما نتحدث عن المفاهيم، فإننا نحاول ما أمكن أن نحدد الروابط الممكنة بين تجارب مختلفة في الشكل، ولكنها قد تكون متشابهة في الجوهر، وهي الصيغة التي تمكننا من “تصدير” منتجاتنا الفكرية إلى الآخرين ومن استيراد منتجاهم ضمن حالات تبادل مثمر لا يلغي المحلي، ولكنه يعمل على تنويعه: اغتنت الثقافة الفرنسية بالوافد الزنجي لا في الرقص واستعمال الجسد فحسب، بل في الإنتاج الأدبي أيضاً، ولن يصنف هذا الإنتاج سوى ضمن إرث الفرنسية.
ومجال الصورة ليس غريباً أيضاً. فالصورة شيء، وتسرب الذاتية إليها شيء آخر. إن الصورة هي رسم لحدود ممثل مقتطع من ممتد لا نهاية له، ولكن طريقة حضوره في العين يقتضي معرفة تقنيات ذلك، وهي تقنيات ليست غربية وليست أمريكية أو فرنسية أو روسية، بل موطنها العين، عين الإنسان الذي تعلم كيف يجعل البصر “أبصاراً” من حيث التحديق والحدج والرنو… . والحاصل أن ليس لنا تاريخ إلا ضمن الزمنية الإنسانية المشتركة، ولا يمكن أن تغتني تجاربنا إلا بمقارنتها سلباً أو إيجاباً مع تجارب الآخرين. فلا يمكن قياس عبقريتنا استناداً إلى قواعد خاصة بنا، ففي هذه الحالة لن يشبه عباقرتنا عباقرة العالم. كل شيء يجب أن يقاس بمقاييس كونية، وهي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من التعرف على قيمتنا الحقيقية.
– في إطار تصورك للمشترك الإنساني والاحتكام إلى المقاييس الكونية، ألا يحيل هذا التصور على سلطة المشترك القوي، ويقلل من سلطة الاختلاف القوي.
● التفاوتات بين الحضارات أمر واقعي وحقيقي، منذ الأزل وسيستمر كذلك، لفترة طويلة على الأقل. فهل نستطيع إنكار فضل الفلسفة اليونانية على البشرية جمعاء؟ لنتصور العالم الآن بدون الإرث اليوناني، بل هل يمكن أن نتصور كل المنجزات الفلسفية التي عرفتها أوروبا (القمم الشامخة من ديكارت وكانط وهيجل وماركس وهوسيرل ) في استقلال عن الإرث الفلسفي الإغريقي. وقد يبدو العالم (الإنسانية) بدون الفلسفة اليونانية ناقصاً جداً. وتلك حالة الثقافة العربية الإسلامية. ففضل الفلسفات الشرقية واليونانية عليها كبير جداً، واستناداً إلى هذا الإرث الفلسفي الإنساني استطاع الفكر العربي أن يبني شخصيته المستقلة ويطور خصوصياته، وأن يقدم إسهاماً نوعياً للفكر الإنساني. فليس هناك من لغة أو ثقافة تتطور استناداً إلى ممكناتها الذاتية، فالآخر جزء من الذات، بل هو الذي يحددها واستناداً إليه تقيس طاقاتها وتكتشف تميزها أيضاً.
صحيح أننا منذ ما سمي عندنا، ظلماً وبهتاناً، بالنهضة لا نقوم سوى “باستهلاك” فكر يُنتج خارجنا، ولكن هذا الوضع لم يمنعنا، أيضاً، من أن ننجب محمود درويش ونجيب محفوظ وعبد الله العروي وغيرهم كثير. فقضية التفوق والنقص والقوي مسائل نسبية. الأساسي في الأمر هو أن نعرف كيف نستنبت فكر الغير ضمن تراثنا وضمن ممكنات لغتنا العربية. إن الفكر ليس منفصلاً عن اللغة. ولنستحضر الآن ما كتبه ابن سينا في العبارة، إنه فكر أرسطو كاملاً، ولكنه أُنتج ضمن اللغة العربية وضمن آلياته في إنتاج الفكر، وبذلك أصبح جزءاً منها، وما يصدق على ابن سينا يصدق على الإمام الغزالي؛ فالذي يقرأ معيار العمل في المنطق لا يتصور لحظة واحدة أن الغزالي لا يقوم سوى باستنبات المنطق الأرسطي في اللغة العربية، فهو يقوم بأكثر من ذلك، إنه يؤصله ويجعله جزءاً من التفكير كما يمكن أن يُنتج داخل الثقافة العربية. إنه استنبات يصنف ضمن الإبداع لا الاستنساخ.
– لما كانت العين هي موطن حضور الصورة. هل يمكنك أن تحدثنا عن حضور الصورة في عين الثقافة العربية؟
● أمر الصورة شائك جداً. لن أعود إلى تكرار ما قيل عن موقف الإسلام من الصورة، فهذا أمر لا قيمة له في تصوري، فالتحريم المزعوم لم يمنع أعتى شيوخ السلفية من استعمال الفضائيات لأشد الأفكار تخلفا ورجعية. فما يقال عن موقف بعض الفقهاء الذين أنكروا على “العين المسلمة” حقها في أن تكون موطناً لنصوص فنية لا يشكل أي شيء قياساً لما يمكن أن تلعبه الثقافة التقليدية التي رسخت الشفاهي ضداً على خصوصيات التعبير الإنساني نفسه.
إن الصورة ليست حكراً على الغرب، ولم يكن الغرب هو الذي اكتشف الصورة. صحيح أن الصناعات الغربية في ميدان التواصل هي التي جعلت الصورة أداة مركزية في التبادل الاجتماعي دون أن يعني ذلك أن الصورة اكتشاف غربي. إن تاريخ الصورة هو تاريخ الإنسان نفسه وقد رافقته منذ عهود المغارات والكهوف وكانت شاهداً على تطوره وتطور انفعالاته، بل تعد جزءاً من التعبيرية الإنسانية ذاتها، يستوي في ذلك الإنسان في الشرق والغرب، تماماً كما هي اللغة خاصية إنسانية مشتركة بين قاطني هذا الكوكب قاطبة.
إنها تعبير إنساني موغل في القدم يشهد على ذلك كل التراث البصري الذي وصلنا منذ عهود ما قبل التاريخ؛ بدءاً بالرسومات على جدران الكهوف التي كانت تؤشر على بداية تشكل الوعي المجرد، وانتهاء باللُّقَى الطينية التي كشفت عنها الحفريات. إنها وثيقة الصلة بالطباعية (التخطيط). وهذا التعبير هو حاصل امتداد اليد إلى ما يوجد خارجها والفعل فيه، مع كل الترابطات الممكنة بين فعل البصر والقدرة اليدوية على التخطيط. فلقد لعبت اليد دوراً مركزياً في ظهور الأداة التي ستقود إلى تغيير العلاقة بين الإنسان والطبيعة وإدراج التوسط كمبدأ مركزي في الإدراك، لا من حيث علاقة الإنسان المباشرة مع الأشياء فحسب، بل، أيضاً، من حيث التمثيل الرمزي لها وإعادة إنتاجها وفق مقاصد جديدة. فأي تعديل لوضع الشيء في العالم الخارجي معناه إدراج سياق دلالي يحيل على الرمزي، أي: الاستعمال المضاف.
وبالمثل لعب الوجه دوراً مركزياً في اكتشاف التقطيع الصوتي المسؤول عن ظهور اللغة باعتبارها دالة على خطية في التعبير عن الفكر وإشاعته. إن ظهور الأداة التعبيرية المثلى التي هي اللسان تُفسر من خلال وجود تواطؤ بين الوجه واليد، ما يسميه لوروا-غوران الزوج الوظيفي: اليد/الأداة، الوجه/ اللغة. وسيقود هذا التوازي تدريجياً إلى الربط الكلي بين البعد البصري والبعد الشفهي، أي بين الامتداد الخطي الذي تمثله اللغة الشفهية وبين التخطيط الطباعي المرتبط باليد. لقد قادت اليد إلى اكتشاف وسيلة جديدة للتعبير هو التخطيط الطباعي( الرسم على جدران الكهوف مثلاً) المسؤول عن ظهور الكتابة لاحقاً، أما الوجه فهو مصدر اللغة الشفهية.
وهذا معناه أن الصورة هي جزء من الطاقة التعبيرية التي يتوفر عليها الإنسان. وإذا كانت هذه الصورة لا تلعب دوراً كبيراً في حياتنا اليوم، رغم أنها تحاصرنا من جميع الجهات، فذلك لا يعود إلى تحريم أو حذر وحيطة منها، بل يعود إلى غياب ثقافة العين عندنا. نحن نرى الصور ونتأثر بها لاشعورياً، ولكننا لا نستطيع تحليل معانيها واستنطاقها، وحال البرامج في كلياتنا ومدارسنا شاهد على ذلك. فلم تدخل الصورة إلى هذه البرامج إلا في السنوات الأخيرة وبشكل محتشم وضمن ضوابط نادراً ما تكون موجهة إلى فهم قطاع تعبيري، بل للاستجابة لحاجة تواصلية، ومنها الإشهار.
– سعيد بنكراد، أنت تشتغل في كتاباتك على قضايا المعنى والتأويل وتحليل العلامات التي تنتجها الممارسة الاجتماعية، ويحيل عليها الخطاب السياسي، ويتضمنها خطاب الصورة. كيف يمكن الفصل بين التعددية في المعنى، والتعددية في الرؤى وأيضاً في القيم والسياسة؟
● لا يشكل التأويل، في الواقع، ترفاً يشير إلى فائض في المعنى بلا قيمة، أو محاولة للهروب من تحديد معنى يعرض نفسه على العين جهاراً، بل يشير في المقام الأول إلى حاجة من الحاجات الإنسانية التي تم إغفالها عن جهل أو قصد، أو من خلال قدرة البداهة على تطبيع الثقافي في حياتنا وتصنيفه ضمن المألوف الذي لا يثير حوله الشك والريبة. ونحن في جميع الحالات نتعامل مع مجموعة من الظواهر لا تشير، في الكثير من الحالات، إلى نفعيتها إلا في الظاهر، أما في عمقها، فتشكل سلسلة من الصيغ الاستعارية التي تحتمي بما يبدو بشكل مباشر لكي تسرب أحكاماً وتصنيفات. ووحده التأويل يستطيع استعادة هذه المعاني الخفية من خلال قدرته على استحضار سياقات لا يقول عنها القصد المباشر للوقائع إلا الشيء القليل، أو يعمل على طمسها في أحيان كثيرة. ذلك أن الوقائع الإنسانية لا تحيل دائماً بشكل واع على كل ممكناتها الدلالية، بل تخبئ بعضاً من هذه الدلالات في تفاصيل دقيقة هي حاصل قصد لا يمكن العثور على أصوله إلا في اللاشعور (رمزيات الماء والنار والجبل والفوق والتحت…).
وربما تكون هذه الحاجات واختلافاتها وتنوعها وراء توزع التأويل على مدارس ونظريات بعضها جعله أساساً لكل تواصل إنساني بحيث لا قيمة للمعنى المباشر إلا إذا كان يتفتح على ما أوسع مدى منه، فبمجرد ما تنفصل العلامة عن قائلها تصبح حمالة لكل الدلالات، كما هو الشأن في التفكيكية، وقد يكون الأصل في التواصل سياقات متنوعة للمتلقي وحده القدرة على انتقاء ما يناسب مقامه، ضمن تعددية لا يمكن ردها أبداً إلى وحدة ستكون مضادة لطبيعة المعنى، كما هو الشأن في السميائيات، أو هو وسيلتنا الوحيدة لكي نستعيد ما ضاع من المعاني وما أتلفه الدهر، كما تود ذلك الهرموسية. وفي جميع هذه الحالات فإن الطبيعة الرمزية للتمثيل للعالم الخارجي هي أصل الحاجة إلى التأويل.
وقد تكون هذه الرمزية هي التي دفعتني إلى التخلي عن مجموعة من المقترحات البنيوية التي حولت النقد، في كثير من الأحيان، إلى لعبة عقيمة لا تستجيب سوى للنموذج الذي يستعين به المحلل في قراءة النص/الواقعة. فالقول بأن النص يحمل دلالاته في ذاته أمر صحيح كلية، ولكن مصدر هذه الذات نفسها يجب البحث عنه في الامتدادات التي يمكن أن تحيل عليها اللغة ومجمل الصور التي يستعين بها المؤلف من أجل بناء نص خاص، ذلك أن قصد اللغة أوسع بكثير من قصد القائل. إنها هو فرد يتكلم، وهي جماع ما خلفه كل الأفراد. وكذلك الأمر مع الاشكال التعبيرية الأخرى، فالأحمر في الألوان دال داخل لوحة ما وفق ممكنات سياقه المباشر، ولكنه لا يمكن أن ينسى ذاكرته، أي مجمل السياقات التي تجعله دالاً فيها جميعها على “الحار” المضاد “للبارد”. والخلاصة أن البحث في هذه الجزئيات هو بحث في الجوهر الحقيقي للإنسان. فما يقوله عن نفسه وما يحتمي به ليس، في واقع الأمر، سوى قناع تختفي وراءه أشكال سلوكية “أرضية” شوهتها التقاطعات الكبيرة بين أحكام الدين وبين إفرازات سلوك لا يتوقف عن التطور. تماماً كما هي الإيديولوجيا منتشرة في الأحكام والأوصاف والتصنيفات الاجتماعية. بل هي كذلك في توزيع الأدوار والمواقع والوظائف.
والشيء ذاته يصدق على الخطاب السياسي. فما يقوله هذا الخطاب بشكل مباشر لا يغطي سوى جزء يسير من السياقات الضمنية التي تتطلب “معرفة” للكشف عنها. (وهو ما حاولت الكشف عن بعض معالمه في تحليلي لرسالة العدل والإحسان إلى الإصلاح والتوحيد، ويمكن الاطلاع عليه في الرابط التالي: http://www.saidbengrad.net/ar/adlwaihsan.pdf). وهو ما يجب أن يقوم به الأكاديميون، فتلك مهمتهم. ووفق هذا التصور على الأكاديمي أن يعود من جديد إلى مساءلة الأنساق الثقافية التي تشكل عصب المعيش اليومي. وهي طريقة أخرى للقول إن التجربة الإنسانية أوسع من أن تختصر في نصوص مكتوبة يتداولها المثقفون في ما يشبه الوثائق السرية.
– أوليت أهمية كبيرة من خلال عملك الأكاديمي لثقافة الصورة وعملت على ترسيخها بالجامعة المغربية، وخاصة الصورة الإشهارية. هل يمكن أن نقول إن تمثّلات الصورة الإشهارية هي في العمق إعادة إنتاج لتمثلات الحداثة والتحديث؟
● لا أعتقد أن الأمر يتعلق، في مجال الصورة، الإشهارية بالخصوص، بالحداثة أو بما له صلة بممكنات التحديث، بل هو جزء من تصوري للعمل الأكاديمي الذي يجب أن يوسع من دائرة اهتماماته لكي تشمل كل المنتجات الثقافية وعلى رأسها الصورة، وخاصة الإشهار. ولم أكن سباقاً إلى ذلك، فقد باشر الباحثون في ميدان السميائيات هذا القطاع الثقافي منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين (أعمال رولان بارث). وهناك في الواقع ما يبرر هذا الاهتمام. فقد يكون المُعْلِن عارفاً لكل نواياه، ولكن المستهلِك لا يعرف أي شيء عن الغايات الأخرى التي يثيرها المنتج أو يدعو إليها. فالإشهار لا يبيع فحسب، إنه بالإضافة إلى ذلك يبشر بنمط ثقافي، بل يضلل أحياناً ويشوه ويبسط.
فنحن لا نستهلك منتجات حافية بلا ذاكرة، بل نستهلك معها مجموعة من القيم؛ نستهلك معها تصورنا للمؤنث والمذكر، و”التحت” و”الفوق” والنار والماء، ونستهلك تصورنا للزمن والفضاء والعلاقات بين الجيران، وتصورنا للإيمان والتعصب والنميمة والأحكام المسبقة أيضاً. فلكل ثقافة “عوالم حسية” تستوعب مضامين لسانها وتجسدها في المعيش اليومي وفي الروابط مع الآخر، وفي استعمالات الأشياء والجسد والفضاء والزمان، وتجسدها كذلك في ما توارى عن العين الواعية، ومنها ما اختفى في الأساطير والصور النمطية الخاصة بالموت والبعث والتطهر والنار والجنة، وهي “بقايا مهجورة” (فرويد) لم ينسها الداخل المظلم أبداً. وما يقوم به فعل الشراء، ضمن العوالم المستثارة، هو تحرير الطاقات المخيالية المختزنة وتحويلها إلى مجموعة من الحالات الوجدانية التي تغذي الوجود الواقعي وتجعله مقبولاً ومحتملاً.
وهذا ما يبرر تدخل الأكاديمي، إنه يحاول من خلال عمله التأويلي حماية مستهلك لا حول ولا قوة له أمام آلة رهيبة لا تكترث سوى بالربح والربح وحده. فكما أن هناك جمعيات لحماية المستهلِك من خلال التأكد من جودة المنتَج، فإن اهتمام الأكاديمي يجب أن ينصب على طبيعة الخطاب الحامل للمنتج. وهي مهمة ليست سهلة بالتأكيد، لأنها تستدعي تربية عين المستهلك على التعرف على خبايا اللغة البصرية. ودليلنا في ذلك حالة طلبتنا، فالكثير منهم لا يعرف أي شيء عن الصورة ويقرأها كما يقرأها أي عامي.
– تحدثت عن أسباب تخليك عن مجموعة من المتقرحات البنيوية، رغم أهميتها النقدية، وتركيزك على البعد الرمزي للنص أو الواقعة. ما هي الحدود بين الممكنات الدلالية التي يتيحها التحليل السميائي، وتلك التي يتيحها التأويل؟
● أعتقد أنني لست الوحيد الذي اتخذ مسافة ما تجاه مقترحات البنيوية، بل السميائيات ذاتها المنحدرة من التقليد البُورْسي هي التي كانت تدفع إلى ذلك دفعاً بحكم تصورها للنص والمعنى والنقد ذاته. و”السوق النقدية” الحالية تؤكد ذلك. فقد انحصرت كثيراً المقاربات التي كانت تركز على الوصف الخارجي للنص. فلم نعد نرى، إلا في النادر، أعمالاً نقدية تُخصص للحديث عن طبيعة السارد أو طبيعة المسرود إليه أو بناء الشخصيات، وتتصور كل ذلك منفصلاً عن الاستراتيجية الدلالية العامة للنص ككل. وقد سبق أن حاول ريكور بكثير من النجاح المصالحة بين التقنيات البنيوية وبين التأويل السميائي معتبراً الأولى تندرج ضمن التفسير في حين تصنف الثانية ضمن الفهم. فالتفسير معرفة خارجية تحدد المنافذ الرئيسة التي تقود خطى المحلل نحو التسلل إلى العوالم التي يسقطها النص من خلال بعده المشخص. بعبارة أخرى، تمكننا البنيوية من الإمساك بتلك البنية الخفية للإجراءات والأفعال المتداخلة مع بعضها بعضاً استناداً إلى ظاهر يَبْسُط عالماً متنافراً، أما القارئ (المتلقي) فيحتاج فيه إلى تحديد قواعد التوليد لكي يتعرف على الانسجام فيه.
لكن الوقوف عند هذا الحد سيبدو عملية عقيمة بدون أية مردودية في نظر من يحاول الكشف عن وجدان شعب وطريقته في العيش وفي إنتاج أساطيره من خلال ما يرسمه النص. ومن هذه الزاوية لا تشكل المعرفة البنيوية سوى خطوة نحو الإمساك بالأبعاد الرمزية لكل تمثيل مشخص. لهذا السبب، فإنني لم أخرج في تحليل للظواهر عن السميائيات، بل تبنيت، استناداً إلى مقترحات سابقة، ومنها مقترحات إيكو وريكور، سميائيات تأويلية تنظر إلى النص باعتباره كائناً حياً، يتطلب من قارئه الإسهام في الكشف عن بعض معانيه.
– أشرت إلى مسألة هامة في مقاربة النص أو الواقعة، وهي المتعلقة بنص المؤلف وبنص القارئ/ المحلل. هل لك أن تبرز لنا أكثر أهمية استقلال المنهج عن النص.
● بالنسبة لهذه النقطة، وجزء منها متضمن في الجواب السابق، فإن من محاسن السميائيات أنها في الوقت ذاته موضوع للعلم وأداة للتحليل. فالظواهر الثقافية هي من طبيعة سميائية، أي: أنها تحيل في الأصل على علامات هي كذلك ضمن سوق تجاري يتداول العالم من خلال رموز، لا من خلال أشياء مادية. وهي في الوقت ذاته، تصور للمعنى، أي رؤية في تقدير الممكنات الدلالية للمعنى. ومن هذه الزاوية يتحدد المنهج باعتباره فرضيات للقراءة وليس نموذجاً نقيس من خلاله الكم المعنوي المودع في النص بإيعاز من المؤلف أو في غفلة منه. وهذا ما يجعل القارئ لا يتأمل نصاً من الخارج، بل يعيد إنتاجه من خلال الانفتاح على ممكناته. ويبدو أن هذه الفكرة الأخيرة وثيقة الصلة بما تقوله الهرموسية Herméneutque/ Hermeneutics نفسها، فالفهم عندها هو وضع أفق في مواجهة أفق آخر : أفق النص وأفق القارئ، وهذا القارئ لا يفهم النص فحسب، بل يفهم نفسه أيضاً.
– تقوم الصورة الإشهارية على خلفية تجارية، ولكن هناك وراء ذلك خلفية ثقافية كذلك. ما هي الخلفيات الثقافية والاجنماعية للصورة الإشهارية؟
● يمكن تحديد هذه التداخلات من خلال بنية الوصلة الإشهارية ذاتها، فهي مبنية على التمويه، إنها تقدم منتجاً لمستهلك بعينه (باعتباره نوعاً ثقافياً لا باعتباره فرداً معزولاً)، ولكنها في الوقت ذاته تستعيد مجموعة من التمثلات الثقافية السائدة في المجتمع، وهي تمثلات ممتدة في كل شيء، في المعتقدات والأساطير والأحكام الدينية والخرافات. وهو ما يعني أن الغاية من الدعاية الإشهارية هي الربح، ولا تشكل العوالم التي تحتضن المنتج وتحتفي به سوى وسيلة غير مباشرة للبيع وترويج البضائع. وعلى الرغم من بداهة هذه الحقيقة، فإن هذه الغاية لا تكشف عن نفسها أبداً بشكل صريح، لأن التصريح بذلك لا يساعد على البيع، فهو يعزل المنتج عن محيطه القيمي ويحوله إلى مادة استهلاكية بلا قلب ولا روح.
وهذا ما يتضح من بناء الإرسالية الإشهارية ذاتها كما أشرت إلى ذلك في سؤالك. فهناك تفاوت بين ما تريد الوصلة الإشهارية (البيع) وبين العوالم الرمزية التي تستوعب المنتج وتغطي عليه. إن المنتج يختفي، من خلال هذه الرموز، وراء قيم عامة مثمنة اجتماعياً وثقافياً من قبيل: “الصحة” و”السعادة” و “الراحة” و”الطمأنينة”.
وبفضل وجود هذه العوالم، ستتراجع الروابط المباشرة مع الواقع، لتحل محلها روابط من طبيعة رمزية. هناك واقع جديد يخلقه الإشهار للتغطية على الواقع الفعلي، كما لو أن الخطاب الإشهاري ليس له من غاية سوى الاحتفاء بالقيم الجميلة التي سعى الإنسان دوماً إلى امتلاكها بشكل واع أو لا واع. وهو ما يعني أننا نستهلك مع المنتجات تصورنا لكل شيء، كما أشرت إلى ذلك في سؤال سابق عن الصورة. إن الإشهار نموذج ثقافي يحياه الفرد من خلال الاستهلاك ولكنه لا يستوعب كامل مراميه إلا من خلال الوضعيات التي يتحرك داخلها المنتج. إنه بعبارة أخرى نموذج “لحسية” ثقافية مهدها الاستهلاك والفرجة وعيون الآخر.
إن “الحسية” (الوضعيات الملموسة التي يدرج داخلها المنتج) تشخص المفاهيم وتؤنسنها، فهي التي جعلت كل الآلات مؤنثة لا تخلو من تمنع وغنج في الفعل والوعد والرغبة. تستوي في ذلك كل الآلات، آلات الغسيل وآلات الحرث والحفر والسيارات. فنحن نركب السيارة كما نركب النساء والفرس. وهي العوالم ذاتها التي تدفع المرأة إلى شراء “النعومة” و”الصفاء” و”الطراوة” و”البياض”، تماماً كما تحافظ على”خطوط الحساسية” و”خارطة الحنان” في جسدها. والحاصل أن الإشهار لا يعرف الحاجات النفعية عند المستهلك بل يعرف ميولاته ونفسيته وطبيعة استيهاماته، وهذه الخلفيات هي أساس الاستهلاك وليس مجرد إشباع حاجة نفعية ( انظر مقدمتنا لكتاب الإشهار والمجتمع).
– ننتقل بك الآن إلى مجال آخر قد خبرته لمدة طويلة، وهو مجال النشر الثقافي والعلمي. لقد خضت تجربة هامة وشاقة هي تجربة إنشاء مجلة “علامات”، منذ عدة سنوات، وبوسائلك الخاصة ومساعدة بعض الأصدقاء. هل لك أن تحدثنا عن هذه التجربة الإعلامية والفكرية والثقافية؛ أولاً: بالنسبة إليك، وثانياً: بالنسبة للمحيط الفكري والثقافي المغربي والعربي؟
● أصدرنا، أنا ومجموعة من الأساتذة ينتمون كلهم إلى كلية الآداب، جامعة مولاي إسماعيل، وعلى رأسهم المرحوم عبد العلي اليزمي، سنة 1994 مجلة علامات، وكانت مبادرة خاصة في أساسها وأصدرنا 15 عدداً قبل أن تقرر وزارة الثقافة تدعيمها جزئياً ضمن مبادرة وزير الثقافة آنذاك محمد الأشعري.
ولقد جاءت المجلة استجابة وتتميماً لتجارب سابقة عليها ومنها مجلة دراسات أدبية ولسانية (1985) التي صدرت في فاس في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. وقد تكونعلامات من المجلات الأولى التي دشنت لروح التخصص في المجال الأكاديمي. فمنذ البدايات الأولى أعلنا أن المجلة تهتم بنوع خاص من الدراسات، كانت السميائيات هي عنوانها الرئيس. كنا نعرف أننا بذلك نقلص من عدد القراء، ولكننا كنا نستلهم روح عملنا من تجارب غربية، أخلصت لتوجهات بعينها وكانت وراء ظهور تيارات أدبية وفكرية مازالت قائمة لحد الآن. ولا ندعي أننا نضاهي من خلال عملنا ما قدمته تلك التجارب، ولكننا مع ذلك أثبتنا، ونحن نصل الآن إلى العدد 37، أن التخصص له احترامه وأن القراء يخلقون وليسوا جاهزين وأن ترسيخ الأعراف يعني التضحية “بالجماهيرية”.
ومن جهة ثانية، فإن هذه التجربة ليست مفصولة عن المشاريع الفكرية التي عرفتها بلادنا بما فيها المشاريع السياسية. لقد أدركنا، نحن في هيئة التحرير وأغلبنا عاش تجربة اليسار السبعيني من القرن العشرين، أن النضال من أجل الديمقراطية وفضاءات الحرية هو نضال فكري في المقام الأول، وأدركنا أيضاً أن ترسيخ تقاليد العلمانية والتعدد يمر عبر إشاعة جو من التفكير الحر الذي لا يتقيد بتكتيك السياسة ولا بيقينيات الإيديولوجيا. إن العلم هو الذي يخلق الإنسان الجديد وليس الشعارات، وفي هذا الإطار تعد تجربتنا في “علامات”، وإن كان ذلك لا يبدو بشكل صريح، جزءاً من النضال الشامل الذي خاضه الشعب المغربي من أجل كرامته وحريته.
وعلى الرغم من السمعة الكبيرة التي تحظى بها المجلة في مجموع ربوع الوطن العربي، فإننا عانينا كثيراً، ومازلنا، من تجاهل جهات كثيرة، وعلى رأسها الجامعات التي من المفروض أن تدعم مشاريع هي جزء من عمل الجامعة ومن رسالتها التربوية والعلمية.
– سعيد بنكراد، مداخلتك في ملتقى الرواية العربية بدمشق عن “السرد النسائي أو الفحولة المسترجلة” أثارت نقاشاً حاداً واهتماماً كبيراً. هل معنى هذا أن معظم الكتابات الروائية النسائية تفتقد فيها صرامة المعايير الفنية؟
● أقيمت سنة 2008 بدمشق ندوة على هامش “دمشق عاصمة للثقافة العربية”، كان موضوعها ” تحولات الرواية العربية”، وضمن أشغال هذه الندوة قدمت مداخلة بعنوان: “السرد النسائي والفحولة المسترجلة” كان موضوعها بعض النصوص الروائية التي اشتغلت بقوة بثيمة الجسد. ومنها روايات أحلام مستغانمي وسلوى النعيمي والبيطار. ولم تكن الغاية الخروج بخلاصات تعميمية، ولم تكن الغاية أيضاً تسفيه السرد النسائي. كل ما حاولت القيام به هو تنشيط ذاكرة النص اللاواعية من خلال تحديد بعض البؤر الإيديولوجية التي تختفي في الوصفي خاصة، وتختفي في مجمل الأحكام التي تبدو في ظاهرها بريئة، في حين تعد في الحقيقة منافذ لتأبيد وضع أو إعادة إنتاجه. وهو ما عبرت عنه في هذا المقال بضرورة “رفع اللَّبس عن التفاوت الممكن بين القصد المعلن سردياً ووصفياً (ما تود الساردة قوله حقاً)، وبين القصد الخفي الذي لا يمكن التحكم فيه، لأنه قصد اللغة ذاتها، وقصد “الوضعيات السردية المسكوكة”، كما هي مثبتة في الموسوعة الثقافية (الفعل السردي)، وفي الطبقات الدلالية التي تشتمل عليها الكلمات في استقلال عن السياق الحدثي المباشر (الفعل الوصفي). وأمر ذلك بين، فالإيديولوجيا ليست بالضرورة موقفاً مسبقاً، فهي لا تشترط الوعي ولا تستدعيه، فالتفاصيل هي ما يستهوي الإيديولوجيات، أما الوضعيات الإنسانية الكبرى فمكشوفة”.
ويكفي لمعرفة ذلك، الإحالة على مجموعة من المقاطع التي تنز عاطفة مريضة أو في أحسن الحالات تعبيراً عن هوى مراهق لا يستطيع استيعاب ممكنات الحدث فيلجأ إلى الاختفاء في ما يمكن أن يُسرب في الوصف. وقد أثارت المداخلة ضجة فاقت حجم ما كتبته وما قلته. وكانت مناسبة تعرفت فيها على حقيقة “الديمقراطية” و”روح الحوار” الذي يدعيه مجموعة كبيرة من المثقفين.
– نمرّ بك الآن إلى ما يشهده العالم العربي من رياح التغيير. فقد حظيت ثورات الربيع العربي باهتمام العديد من الكتاب والأدباء والمفكرين. هل لنا أن نعرف موقف سعيد بنكراد من ربيع الثورات العربية؟ ولماذا غلبت فيه الإنتاجات الفكرية والسياسية على حساب الإنتاجات الأدبية؟
● لقد عبرت عن موقفي مع البدايات الأولى لهذه الثورات من خلال حوارين نشرا في جريدتين مغربيتين المساء والاتحاد الاشتراكي، وكان الموقف آنذاك متعلقاً في المقام الأول بحركة 20 فبراير التي دشنت لحراك سياسي واجتماعي بعد سقوط طاغيتي تونس ومصر. حينها كانت الأمور تشير إلى ثورة فعلية اهتزت لها قلوب وعقول كل حداثيي وديمقراطيي الوطن العربي، وحينها أيضاً أشرت إلى أن ما يجري لا يمكن أن يمسك بالحلقة بكامل استدارتها لكي يطلق العنان لزمنية أنهكتها النصوص وحدت من انطلاقتها كل المسبقات في الأحكام. فالذين خرجوا إلى الشارع بشكل عفوي واندفاعي وانتحاري في الكثير من الأحيان لم يكونوا يجرون وراءهم سوى البؤس والجوع والبطالة والظلم والحكرة.
لم يكن عند هؤلاء برنامج سياسي واضح ولم تكن هناك رؤيا تحدد معالم مستقبل يحرر التاريخ لا أن يضع في رجليه قيوداً جديدة. حينها أبديت تشاؤمي لا من الحركة في ذاتها، بل من مآلها. فقد كانت تبدو من البدايات الأولى أنها لا ترتكز على أي عمق شعبي ولم تستطع استقطاب الفاعلين في الأرض والمعامل والمهمشين. لقد كانت حركة يقودها شباب بسيط التعليم وبسيط الوعي السياسي ومحدود الأحلام ولا يرى من الأشياء إلا ما تكشف عنه الكاميرات وعدسات صور فوتوغرافية تسوق في كل المواقع الإلكترونية، وهي كاميرات معروفه بانحيازها لقوى سياسية بعينها ومنها الجزيرة التي أصبحت تنظيماً سياسياً وإيديولوجياً له أطر في كل بؤر الصراع.
لقد جاءت هذه الثورات بعد أن كانت الأنظمة الشمولية قد أنجزت مهمتها التاريخية بالكامل: إنهاك وتحجيم دور القوى العقلانية والحداثية على امتداد الوطن العربي. لقد راهنت هذه الأنظمة دائماً على استقطاب ثنائي فرضته على الشعب فرضاً: إما الحزب الذي خرج من صلبي (أحزاب الأنظمة في تونس ومصر واليمن وسوريا والمغرب إلى حد ما) وبين التيار الأصولي. ولم يكن من الممكن أن يكون مصير هذا “الربيع” إلا ضمن هذه الثنائي: اختار الناس الأقل سوءاً أو الذي يملك من وعود الآخرة أكثر مما يمتلك حلولاً اقتصادية واجتماعية. وها هي مصر تتخبط ضمن لعبة انتخابية أفرزت من النتائج الغريبة ما يحتار له كل فقهاء الدستور، وها هي تونس أطلقت عنان سلفية تريد أن تحكم بشرطة الحجاج.
لقد خاننا التاريخ مرة ثانية، فعلى الرغم من أن العالم العربي لن يكون أبداً كما كان، وأن الطغاة سقطوا إلى الأبد وسيسقط الآخرون بمنطق التطور وبمنطق المتاح الحضاري والسياسي الحالي، فإننا سنكون أمام طغاة جدد سيحكموننا باسم ما يودون فهمه من الدين.
وليس غريباً أن تظل الحركة الأدبية على هامش ما يجري. لقد كان الأدب دائماً، في أغلبه، منحازاً للجمال والديمقراطية والتقدم والحداثة وانطلاق الروح والجسد. والحال أن ما تلتقطه العين حالياً وما يتم تصريفه في جزئيات حياة تولد من قلب نصوص قديمة لا يشجع على الإبداع، بل لا يستطيع المبدع أن يرى في ما يجري سوى تزحلق على طين يرد إلى الوراء أكثر مما يستشرف مستقبلاً.