تقـديم
كتاب جامعة المستقبل (2012) لحفيظ بوطالب جوطي، كتاب صدر عن مؤلف أستاذ باحث في العلوم الدقيقة، علوم الفيزياء بخاصة، وخبير في مجال التكوين والتأطير، وله مؤلفات وأبحاث علمية في مجال تخصصه، وفي قضايا التعليم الجامعي والبحث العلمي، وله تجربة هامة في مجال تدبير الشأن العام، وعلى دراية كافية بشؤون التعليم العالي بالمغرب، وتحمل مسؤولية رئاسة جامعة محمد الخامس- أكدال، الرباط، لمدة كافية تجعله من الذين خبروا قضايا التعليم العالي ومشاكله.
كما أن مهامه كأستاذ وباحث، وممارس للشأن العام، وممارس للشأن النقابي للتعليم العالي في المغرب، ورئيس للجامعة، وغير ذلك من الأنشطة الثقافية والاجتماعية الأخرى، جعلته يطلع على منظومة التعليم العالي الوطنية والقومية والدولية. نحن إذن، أمام كتاب جمع هذه الخبرة وقدم لنا فيه صاحبه، حفيظ بوطالب جوطي، خلاصة تلك التجربته المتنوعة والغنية، وقد تكون من أهم خلاصات تجربته الحياتية في كل ذلك. ثم إن الكتاب يدخل في التقليد الحضاري العالم الذي نعرفه عند كبار المفكرين والساسة والاقتصاديين والاجتماعيين والفنانين والكتاب وغيرهم، الذين يضعون تجربتهم في مجال ممارستهم المختلفة والمتنوعة في محك النظر والتأمل العالم المثقف، بعد سبكها بالرؤية المتبصرة التي ترمي إلى خدمة البعد الإنساني المتحضر والمتقدم على مستوى الذات والموضوع والمحيط.
إذا أردنا أن نحسن الاستماع إلى نص الكتاب، وبالتالي نشيّد قراءة تستجيب لمضامينه وأشكاله، لابد من التذكير أن الكتاب يؤشر في عنوانه على الجامعة بالتعريف بالإضافة، جامعة المستقبل. أي: الجامعة التي يراها المؤلف في المستقبل وينظّر لها. فالتعريف بالإضافة في”جامعة المستقبل” والتعريف بـ”ألـ” في المستقبل، يدل على جنس الجامعة كيفما كانت، وفي أي مكان كانت، والمستقبل المعروف في النماذج الكبرى المتعارف على كونه كذلك. ويظهر هذا التعريف عند ترجمة هذا العنوان إلى لغات أخرى أوروبية، مثلاً. ولهذا يدعونا مثل هذا التعريف إلى التعامل في قراءتنا للكتاب على أنه ينظر للجامعة ككيان علمي خاص بالبحث والتكوين والابتكار.وأن مثل هذا النوع من الجامعة هو الذي سيحكم المستقبل القريب والبعيد. قد نكون فيه فاعلين أو أو غير فاعلين.
هو إذن، كتاب لا ينحو نحو السرد التاريخي أو نحو السرد التقريري المعايناتي، ولا كتاباً فلسفياً في فكرة الجامعة، وإن لامس بعض ذلك، ولا كتاباً يكتفي بمشكلة واحدة بعينها فيعمق في تاريخيتها وجزيئاتها، بل هو كتاب تشييدي وتركيببي لمجموعة من المعطيات والتجارب والتقارير والممارسات الملموسة والمعاشة في منظومة التعليم العالي والبحث والابتكار. كما أن الكتاب لا يتوقف عند تفاصيل الجامعة المغربية والمغاربية، وعن تاريخيتهما بشكل مسهب. ولكنه، مع ذلك، يضعهما أمام ما حققته وتحققه المنظومة الجامعية والبحث والابتكار في الدول المتقدمة. ويمكن القول إنه تحدث عن جامعة المغارب بالاستعارة الدالة، استعارة موحية تحرض جامعتنا ومجتمعنا على اتباع التصورات الكبرى الناجحة المتقدمة، وقدم فيها بعض الاقتراحات الأساسية الكبرى للنهوض بها.
تصور المؤلف لجامعة المستقبل
سأقتصر في هذه القراءة على القضايا التي يبدو لي أتها عصب تصور المؤلف للجامعة، علماً أن الكتاب يطرح قضايا فرعية أساسية في منظومة التعليم الجامعي والبحث والابتكار. وأستسمح المؤلف إذا ركزت على البعض دون الكل. وهذه القضايا هي: العولمة، التصور الإطار للكتاب؛ ولماذا العولمة ؟، والأقطاب الجامعية، استقلال الجامعة، والجمع بين النقيضين أو تعايشهما.
التصور الإطار: العولمة /السرد الإطار
يقوم التفكير في الجامعة عند المؤلف من خلال اختيار أو اتباع ما يعرف بالسرود الكبرى، أي: سرد التجارب العالمية المتقدمة في أوروبا وأمريكا وآسيا بعامة. ومن خصائص هذا النوع من السرد هو أنه يركز على الأهم من المهم، وعلى الأبعاد الاستراتيجية الكبرى المخلخلة للبنيات المنهكة القائمة، ولا يتوقف عند السرود الصغرى أو السرود الجزئية أو الفرعية، وإن كانت هي الأساس في السرود الكبرى.
ولعل السرد الإطار الذي بنى عليه المؤلف تصوره لجامعة المستقبل، هو سرد العولمةالذي سرى في جميع ميادين الحياة المعاصرة، وبخاصة العولمة الاقتصادية لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية وما استتبعها من أزمات اجتماعية وغيرها، وما فرضته من تغيرات جوهرية على منظور الحداثة الذي استنفذ مفعوله؛ أي: مفعول فلسفة الأنوار المتمثل في الحرية والعقلانية والإنسانية بمفهومها، وما أنتجته من أنظمة شمولية وديموقراطية في النهاية، وكذا حدود عقلانية الأنوار والحداثة وضيقها لتستوعب التصورات الجديدة التي بدأ تصور ما يعرف بما بعد الحداثة يفككها ويزيحها، أي ظهور براديغم/إبدال اقتصادي جديد يؤثر في الإبدالات العلمية والتقنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لماذا العولمة، أو هذا السرد الإطار؟
يُموضع المؤلف جامعة المستقبل، وهي جامعة البحث والابتكار، في قلب هذا النظام الجديد الموسوم بالعولمة الاقتصادية. ويرى أن المنظومة الجامعية في إمكانها أن تساهم في حل الأزمة الاقتصادية المعاصرة بالتالي تطوير أنواع جديدة من الممارسات الإقنصادية والتدبيرية المالية للجامعة، ومن ثم الدفع إلى ابتكار أشكال جديدة من المعارف الجديدة، والتحريض على نشر المعارف العلمية، ونقل المعرفة. ومن ثم تصبح للجامعة مهام جديدة لم تكن لديها من قبل، بل ستصبح بفضل أبحاثها وابتكاراتها العلمية والتقنية والمعلوماتية والتدبيرية الجديدة رافداً اقتصادياً محلياً ووطنياً ودولياً هاماً يدفع بعجلة التقدم والتطور.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب تجارب دالة في العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا وآسيا، وبعض الدول الناشئة مثل البرازيل. وبحكم منطق السرد هنا فلا مكان للجامعة المغربية والمغاربية والعربية كذلك. لأنها ليست في نظر التصور العلمي الحالي للموضوع نموذجاً يحتذى.
الأقطاب الجامعية
يحضر هنا الإلحاح على علاقة الجامعة بالمجتمع المُعولم الذي يركز على المعلومة وانتشارها ودور الوسائط الجديدة في إدخال المجتمع في نظام العولمة المتواصل، وهنا يعرض المؤلف معارف ملموسة تدل على سعة الاطلاع على الإجراءات والنتائج العلمية والاقتصادية والبشرية في المستوى الرفيع، بخاصة. ويحضر في هذا المستوى من الخطاب وسرده نوع من الوعي الذي يحرض على التأمل فيما وصلت إليه المعارف الجامعية وأنواع المواد والخدمات العلمية التي تقدمها.
أما موضوعة الجامعة والمقاولة التي عرفت نقاشاً في جامعة ما بعد الحداثة في أوروبا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فهي موضوعة تصب في بدورها في قلب العولمة المعرفية والاقتصادية، والتي تجر الجامعة إلى انفتاحها على عالم المقاولة والشغل والمجتمع، وإن كانت المقاولة التي ركزت عليها العولمة الاقتصادية في مفهومه للجامعة المقاولة، هي المقاولة الكبرى، وأهملت المقاولة الصغرى والمتوسطة. وتلك بعض الملاحظات والتي قدمها المؤلف واقترح على الجامعة والمقاولة أن تنفتح على مختلف المقاولات. ولهذا دعا المؤلف إلى إحداث توازن بين الجامعة والمقاولة، وقدم اقتراحات وحلولاً كذلك؛ مثل إدخال العمل الجماعي بدل الفردي، والاعتماد على المتلقي بدل الملقن، وإدخال النمذجة، وأصول المعطيات وغيرها لتطوير الجامعة في بعدها المقاولاتي. ويبدو من اقتراحاته وملاحظاته الملموسة والدقيقة أنها موجهة لكل من يريد أن يخطط لجامعة المستقبل؛ جامعة محلية، أوطنية، أو غيرهما. وبلغة علم السرد نرى المؤلف المتكلم في النص متكلم أو سارد عالم وعارف بمجريات كلامه وسرده. والحق أن المؤلف العارف في الخطابات العلمية أمر مرغوب فيه، لأنه يهدف إلى خلاصات علمية دقيقة كذلك.
استقلال الجامعة
يركز في هذا الفصل على مناقشة قضايا هامة تخص لا مركزية تدبير المؤسسات العمومية، وإعادة النظر في تجميع القرارات وإحلال قيادة عن بعد، بالمراقبة البعدية والقبلية. وهنا نجد المؤلف يصوغ تجربته المعاشة ثانية فيما عرفه مفهوم استقلال الجامعة ومشاكل هذا المفهوم، وكيف تمت معالجته في الدول المتقدمة، وفي الجامعات التي اهتدت إلى استقلال ذاتي شفاف ومنتج. ولا شك أن نقاش المؤلف لاستقلال الجامعة يصب فيما تعانيه الجامعة المغربية والمغاربية من هذا الاستقلال الشكلي. ولذلك اقترح المؤلف حلولاً معقولة وجريئة أحياناً تمكن الجامعة من استقلالها ووضع آليات صارمة للمراقبة. وهنا طرح بشكل دقيق علاقة الدولة بالجامعة، وسرد مجموعة من التجارب المتقدمة التي عرفتها الجامعات الدولية ذات الأصول الجرمانية والفرنسة والأنجلو- أمريكية
وطرح المؤلف مسألة رئاسة الجامعة بشكل واضح، يمتح من تجربته المعاشة، فسرد ذلك في تركيب مختصر دال، وناقش مختلف التصورات لمؤسسة رئاسة الجامعة، وقدم نماذج أوربية تحكمية وأخرى غير تحكمية في اتخاذ القرارات. ومن المؤكد أن المؤلف الرئيس قد عانى الكثير من مسألة اتخاذ القرار النهائي في جامعتنا. ولكن هنا يتكلم كباحث يعطي مختلف التصورات الناجحة والمتداولة في الدول المتقدمة التي قد تكون فيها استعارة لنا ليتأملها أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والعلمي والتربوي عندنا. وهنا تحضر الجامعة المغربية والمغاربية عن طريق الآخر.
كما أسهب في الحديث عن مؤسسات الجامعة وكيفية تطورها بالنظر إلى المؤسسات الجامعية في الدول المتقدمة والأنجلو- أميركية بخاصة. ويكاد يقتنع ويقنعنا بأهمية النموذج الأنجلو- أمريكي الذي عرف انتشاراً في آسيا وفي الجامعات المتقدمة دولياً. وربما طريق التمويل الجامعي في هذا النموذج الأخير هي التي استرعت انتباه المؤلف، فتبين له أن التمويل الذاتي للجامعة يعتبر من وسائل تطور الجامعة كما تشهد على ذلك الجامعات الأنجلو- امريكية. وهنا قام بالحفر في تقليدنا العربي الإسلامي عندما استحضر الوقف الإسلامي وأهمية في التمويل الجامعي، فدعا إلى تطويره وتحديثه. وهذه نقطة تحتاج إلى بحث أوسع وأعمق، ولكنها وقفة دالة ستساعد جامعتنا على تطوير وسائلها وتطوير الوقف كذلك.
الجمع بين النقيضينL’Ambivalence
لعل المؤلف قد أدرك أن جامعة المستقبل التي ينظّر لها ويشيد لها تصوراتها من النماذج المتقدمة الأوروبية والأمريكية، لا تسعفه عندما يريد أن ينظر للجامعة المغربية والمغاربية. ومرد ذلك أنه قد انتابه، كباحث، شعور علمي صارم عرضه بنوع من الارتياح لما كان يتحدث عن النماذج الجامعية الدولية المتقدمة، ويستجيب هذا الشعور لقناعته العلمية ومنطق التطور والتقدم اللذين يقتضيان ضرورة ذلك. ولكنه انتابه شعور آخر مغاير لما وصل إلى التنظير للجامعة المغاربية، لأن بنياتها لا تسعفه على تشييد مثل النموذج السابق. فكيف اهتدى إلى حل هذا الجمع بين تصورين متعارضين؟ كان المؤلف جريئاً فتبني شعار المدرسة الألمانية الهمبولتية، وهو تعلم التعلم، أو العلم من أجل العلم. لا تنازل عن التصور العلمي، ولكن لا بد من خلق حلقة ثالثة بين طرفي النقيضين. وهو ما وصفه العالم الهندي هومي بابا بالحلقة الثالثة للدول السائرة في طريق النمو. وتوسيع ذلك التصور الثالث هو ما حاول أن يقوم به عندما قدم اقتراحات تساعد على ذلك. ولكن الباحث، وإن كان متشائماً نظرياً بحكم الواقع الراهن، فإنه متفائل عملياً بحكم إيمانه بتحول وتغير الأحوال والمواقف.
الخلاصة
كتاب جامعة المستقبل لحفيظ بوطالب جوطي كتاب يجمع بين خطاب البحث النظري وخطاب التقارير الدولية والوطنية والجهوية والمحلية، وخطاب الممارسة الميدانية المختلفة والمتنوعة، على الأقل، في مجال منظومة التعليم العالي والبحث والابتكار. وبحكم هذا التعدد في الخطابات بسرودها المختلفة، يقدم معرفة جديدة تصب في التنظير لجامعة ما بعد الحداثة التي قد يظهر أنها تنحو إلى كسب رهان الوقت وتفادي الانتظار حتى تستقيم كل البنيات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والتربوية. هل يمكن لهذا التصور أن يجعلنا نتخطى المراحل بسرعة أكثر لتشييد جامعة مغربية، مغاربية، عربية، حداثية على الأقل؟ الكتاب يقدم للقارئ المتبصر وللمخططين، على الأقل بعض الأدوات الجديدة لابتكار فعل جديد يخدم جامعاتنا في المستقبل. وأتمنى أن يطلع أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي عندنا على هذا الكتاب.