1- إشكالية الكتاب و متغيراته:
تتمحور الإشكالية الرئيسية للكتاب حول بحث عوامل إفشال تجربة الترتيب. وترتبط شبكة العوامل الأولى التي يعكف الكتاب على دراستها بالبنية الاقتصادية والاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار. ذلك أن طبيعة قوى وعلاقات الإنتاج لا توفر إمكانات التراكم المساعد على إنضاج شروط التحول على صعيد البنيات والعلاقات الاجتماعية وأنماط الإنتاج. كما أن ظروف الأزمة النقدية وغياب بورجوازية تحديثية، في مقابل براغماتية التجار وانضباط البنية القبلية لمنطق يكرس المحافظة ويجافي التطور ويعيد إنتاج قيم إعاقة التراكم، عوامل تفسر قصور البادية المغربية عن تجاوز عناصر إعاقتها والمساهمة في جهود التنمية.
أما الطائفة الثانية من العوامل فتتعلق بالمخزن. فطبيعة الجهاز المخزني ووظائفه ورهاناته ومنطق اشتغاله، عوامل تفسر فشل تجربة الترتيب. إن توجس المخزن من احتمال تكالب القوى المنتجة ضده، يجعله ينهج سياسة نفعية. إنه لا يتوانى عن مباشرة ترميمات وتنفيس الحنق وإجزال العطاء وتوزيع النعم. وبحكم كونه يجفل من كل ما من شأنه تغيير موازين القوى بالبادية، لا يتردد المخزن في استنفار عدته لِوأد أو إبطال مفعول أي جديد، سواء تعلق بقوى الإنتاج ذات النزوعات التحديثية أو بأنماط الإنتاج الحديثة والنزاعة إلى المراكمة. ثم إن قيام التحالفات داخل جهاز المخزن على أسس مصلحية ضيقة، لا يساعد على إنجاح أي مشروع تحديثي. ذلك أن حرص شبكات المنتفعين على تعظيم واستدامة امتيازاتها، يجعلها تحارب مشاريع الإصلاح. ولا يتوانى المخزن عن توظيف نفوذه المادي وسلطته الرمزية لتدعيم مركزه، باعتباره قوة تحكيمية، و تعضيد قدرته على الجبي وإعادة التوزيع.
وبالقدر الذي يسفر فيه المخزن عن وجهه الخشن، باعتباره قوة ترعب وتؤدب، بالقدر نفسه يعمل على تهدئة الصدور الحانقة ومداراة ومحاباة أولئك الذين قد يشكلون أنوية خطر محتمل. ويستعين المخزن في خططه بجهاز مركزي ويوظف أساليب رسمية، مثلما يوظف قوى محلية تلمع وجهه كالشرفاء والعلماء والأعيان. لكن هذا الحضور الناعم في الأطراف، لا يعفي عن الوجود الفعلي والدائم والحازم لرجال محترفين. فالقواد يشكلون أذرع المخزن الطولى. وحين لا يجدي بث العيون في الأرجاء وتنصيب الأذرع في الأطراف، يشن المخزن حركات تزاوج بين بعد عسكري يتمثل في الإخضاع والتأديب، وبعد سياسي يتغيى تأبيد الخضوع وتجديد الصلات، وبعد إنمائي يتمثل في إقامة مشاريع تقطع الطريق على الطامعين.
كما نلفي متغيرات أخرى متناثرة في ثنايا مقاطع البابين الثالث والرابع من كتاب الطيب بياض. يتعلق الأمر بكون التجربة تحمل في أعطافها بذور إخفاقها (قانون محكوم بظروف الأزمة، إشراك القناصل في الصياغة، صياغة تكثر من الاستثناءات الطابع غير الواقعي للرغبة في التعميم، حضور البعد الاستخباراتي…) (ص192)، وأيضا بالتعامل مع الترتيب وفق منطق مصلحي ظرفي، ومكائد فرنسا وموقفها المتماطل منها وعدم نضج المسؤولين والمعارضة الداخلية. ويتضمن الكتاب أيضا رصدا للآثار الكمية والنوعية للترتيبين الحسني والعزيزي.
2– جدة الطرح وإرادة التميز:
يعكف الكتاب على دراسة موضوع الترتيب دراسة يصفها صاحبه ب”الموضوعية والمفصلة والعميقة”(ص5). تنهض الدراسة، إذن، على رغبة جامحة في القطع مع طرائق البحث المعهودة وتتأسس على إرادة تجاوز الأعطاب ومظاهر القصور التي تعتور تعاطي المصادر والكتابات مع الموضوع. نلمس في الكتاب سعيا حثيثا لتأصيل الموضوع والتأسيس له، ترجمه تنقيب الباحث في المصادر وتشريح الوثائق وقراءة الكتب ذات الصلة بالترتيب حرصا على فسح المجال أمام تعدد الأصوات بما يضمن إثراء النقاش المعرفي، مثلما نلفي حضورا مكثفا لمنطق التجاوز، عكسه حرصه على التقاط معالم إشكالية نوعية من أعطاف فترة تاريخية أشبعت بحثا، وعدم ركونه إلى ما انتهت إليه الدراسات من خلاصات ورؤى.
هذه الرغبة في التجاوز وذاك النفس التأصيلي يشكلان باعتقادي، مؤشرا نوعيا يعد بالتميز. هذا ما يقود إلى طرح استفهام بشأن تمظهرات ذاك التميز، أو بالأحرى إرادة التميز. تتجلى إرادة التميز في ارتياد الطيب بياض لمنطقة بحثية لم تطأها، بنظره، أقلام الباحثين، ويتعلق الأمر بمطارحة سؤال لماذا انتهت “تجربة الترتيب” إلى ما انتهت إليه؟. فإذا كان الباحثون قد انتهوا إلى خلاصة فشل تلك التجربة، فإن الباحث نذر جهده لتلمس عناصر إجابة عن ذلك الاستفهام.
تطفح مقدمة الكتاب برغبة قوية في تجديد منهج المعالجة، بحيث يكون بحث “تجربة” الترتيب مساهمة نوعية في صرح البحوث والدراسات المنجزة حول الموضوع. فرغم انتظامه في فترة زمنية أشبعت بحثا، صوب بياض جهده نحو منطقة مهملة وسعى لتناول الموضوع وفق منهج مختلف. فقد انشغلت الأعمال المنجزة حول الموضوع ببحث “تجربة” الترتيب خلال فترة ما قبل الاستعمار من زاوية مدى نجاحها. والحال أن فهما أجلى وأعمق للموضوع، يستوجب فضلا عن ذلك، إثارة سؤال “اللماذا”. بمعنى أن التقاط عناصر إجابة أولية عن سؤال هل “نجحت تجربة الترتيب”؟ أو إلى أي مدى وفقت؟، يجب أن يقترن بالتفكير في استفهام آخر، هو لماذا فشلت تلك التجربة؟ (ترددت في الكتاب كلمة إفشال )، وهو ما عبر عنه بياض “بالبحث عن السر الكامن وراء ذلك”(ص12).
بيد أن الرجوع إلى ما تناولته المصادر والمراجع والدراسات التي أشار إليها الباحث، يبرز أن بعضها لم يقف عند حدود الحكم على التجربة، بل تعدته إلى الخوض في بعض التفسيرات. فقد تضمن تقييم المشرفي لتجربة الترتيب العزيزي، إشارة إلى إحدى تفسيرات فشلها، ويتعلق الأمر بسوء تدبير المسؤولين، المتمثل في عدم الاتفاق مع الأجانب قبل الشروع في العمل بضريبة الترتيب، الأمر الذي حذا بالمكلفين المغاربة إلى الاحتماء بالأجانب تجنبا لأداء الضريبة(ص13). وبعد الإشارة إلى أن السؤال الذي أهملته المصادر والمراجع العربية والأجنبية حول الموضوع هو سؤال “اللماذا”، واتخذ من هذا الاستفهام منطلقا للبحث، اعتبر الباحث أن إشكال العوامل المسؤولة عن إفشال تجربة الترتيب “أعقد بكثير من نظرية أولئك الذين سارعوا إلى اختزال تجربة وجهت في الظل مستقبل البلاد…، في مجرد معارضة ذوي الامتيازات و المصالح لها”(ص16). توحي هاتان الإشارتان إلى وجود كتابات أثارت استفهام لماذا أخفقت تجربة الترتيب، أو ما يسميه الباحث “البحث عن السر وراء ذلك“. ومن تم لا تنهض جدة الطرح على اقتحام ساحة التفسيرات الذي لم تطأ أقلام الباحثين أرضها، وإنما على البحث عن تفسيرات جديدة ربما أكثر عمقا ووجاهة وإقناعا.
نتحسس إرادة التميز أيضا في مواطن كثيرة. نلمس في الكتاب حرصا على الإشارة إلى مختلف المصادر التاريخية بشأن موضوع معين وتمحيصها و الإدلاء بموقف بشأنها. من ذلك تمحيصه لنصوص الرحلات بشأن واقع البادية المغربية (ص42 وما بعدها)، والمصادر التاريخية بشأن المواقف ممن يتحمل مسؤولية تحجيم دور التجار في تثوير العلاقات الإنتاجية والاجتماعية (ص42 وما بعدها)، والأبحاث حول بنية المجتمع المغربي (ص49 وما بعدها)، والمصادر التاريخية بشأن إقرار ضريبة الترتيب العزيزي(ص246 وما بعدها) وأيضا بشأن سبب فشلها(ص276 وما بعدها). من ذلك أيضا عرضه للأطروحات بشأن دلالات المخزن ومعنى الترتيب ودلالات الحرْكة.
ولعل التعبير الذي ختم به الباحث مقدمته “قراءة جديدة لمسلمات قديمة” يعكس بجلاء رغبة التجاوز وإرادة التميز. لكن اللافت هو أن تلك الرغبة في الانزياح عما هو مألوف والإفلات من آسار “الصمت” أو الإشارة العابرة أو التناول الجزئي (ص14)، طفحت بحيث تعدت العبارات الدالة عليها عتبة المقدمة التي يعرض فيها الباحث منطلقاته ومنهجه لتجتاح البحث بأكمله، إذ يتردد ذكرها بين الفينة والأخرى، وهو أمر مزعج على نحو ما سأبينه في المقطع الموالي.
3- أعطاب هندسة المتغيرات
يبدو أن رغبة الباحث في النأي عن المقاربات المعتمدة في تناول ضريبة الترتيب واقتحام منطقة بحثية جديدة، أوقعته فيما يبدو لي عطبا منهجيا مزعجا. ففي مسعى لضخ جرعات من الوجاهة والإقناع في منطق بناء الموضوع ورص مقاطعه المختلفة، أخال أن سؤال “اللماذا” ( إشارة إلى سؤال ما هي العوامل الكامنة وراء فشل التجربة؟)، يفترض أن يكون مسبوقا بإثارة استفهام عن تمظهرات أو مؤشرات فشل- إفشال التجربة.
لقد آثر الطيب بياض البدء ببحث متغيرات تفسر إخفاق ضريبة الترتيب في تصحيح اعتلالات النظام الجبائي، وهي كما أشرت في البداية مرتبطة بطبيعة البنية الاقتصادية والاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار وطبيعة ووظائف المخزن ومنطق عمله. ولعل شبكة الأسئلة الفرعية التي طرحها الطيب بياض تحيل على تفسيرات لفشل تجربة الترتيب (إلى أي حد؟، هل كان؟، هل كان؟) (ص16). وجه العطب هو أن القارئ يقتحم لجة تفاصيل تتعلق بتلك البنية وبالمخزن، دون أن يكون فكرة مقنعة عن فشل الترتيب. لسان حال الطيب أنه لا يمكن فهم التجربة دون بحث العوامل المسؤولة عن فشلها. ولئن كان القصد والمرمى وجيها، فإن منزع الباحث المنهجي لا يبدو لي كذلك، إذ يتعين عبور حنايا مائة واثنتي وستين (162) صفحة، بما يولده ذلك من عناء، لتلوح بعد ذلك أطياف أو قسمات فشل التجربة الذي يفسره المؤلف. صحيح أن الباحث برر إسهابه(ص163) في الكشف عن الجهاز المخزني الذي تولى مسؤولية تدبير شؤون الحكم، بأهميته في فهم تجربة الترتيب ورهاناتها وآثارها. غير أن الفهم العميق يمكن إدراكه أيضا ببحث تلك العوامل بعد تبين ماهية ضريبة الترتيب ومراميها وعرض ملامح نجاحها أو فشلها.
هذا المنزع المنهجي لبياض يوحي بأن منطق بناء الموضوع قد يتأسس على أحد المسلكين:
أولا، إن الباحث سيكتفي فقط بإثارة متغيرات تفسر فشل تجربة الترتيب. فمن حقه أن يقتصر على بحث متغيرات مستقلة دون المتغير التابع، وهو في حالتنا إخفاق ضريبة الترتيب. ويضمر هذا الأمر إجماعا على فشل التجربة.
ثانيا: المشكلة التي يثيرها المسلك الأول هي كيف لي كقارئ أن أسترسل في قراءة ما يورده بياض عن العوامل المفسرة وأقتنع بوجاهته، وأنا لم ألف بعد ما يقنعني بفشل تلك التجربة. فالإجماع المشار إليه قد يكون متوهما. يمكن التغلب على هذه المشكلة بالإحالة مثلا على خلاصات أبحاث انتهت إلى فشل تلك التجربة، وحتى إيراد بعض مؤشرات ذلك الفشل، وإن بشكل مختصر.
لم ينضبط الباحث لأي من المسلكين. فهو لم يكتف ببحث العوامل التفسيرية فقط، وافتراض وجود إجماع حول فشل الترتيب. صحيح أنه أورد منذ المقدمة إشارات إلى كتابات تحدثت عن فشل الترتيب، لكنه جنح إلى الخوض في تفاصيل عن الترتيب ورهاناته وآثاره بعد بحث شبكة من العوامل التفسيرية. واللافت أنه بعد العرض المسهب للعوامل الرئيسية لفشل التجربة في كل من الباب الأول والباب الثاني، وعرض بعض المعطيات عن الترتيب وبحث مدى قدرته على أن يشكل بديلا للوضع الجبائي القائم، ارتكس الباحث ضمن البابين الثالث والرابع إلى إثارة عوامل أخرى تفسيرية مرتبطة بالتجربتين الحسنية والعزيزية.
يمكن تصوير منطق توضيب تلك المتغيرات بالقول إن رصد بعض مؤشرات فشل تجربة الترتيب تموضع بين مطرقة متغيرات مستقلة عامة تتعلق بواقع البادية المغربية وبالمخزن، وسندان متغيرات مستقلة خاصة بالترتيب الحسني والعزيزي، ويتعلق الأمر بعيوب القانون المنظم لها وبالتعامل المصلحي الظرفي مع الترتيب الحسني، ومكائد فرنسا وموقفها المتماطل من الترتيب العزيزي وعدم نضج المسؤولين والمعارضة الداخلية. على أن الأمر لا يتعلق باعتقادي برغبة في الوفاء لمنطق هندسي يغير مواقع الكلم ومواضع الأبواب، بل إن هذا التجزيء لا يساعد على ضمان انسيابية صبيب المتغيرات. فمعاودة إثارة هذه التفسيرات يبدو مشوشا ومربكا. فالأحرى إذن، أن يتم دمج المتغيرات المستقلة ضمن قطب واحد وإثارتها بعد تناول الترتيب ورهاناته وآثاره. ولعل تواتر ترديد الباحث لعبارات دالة على طموح التجاوز في عدة مواطن ( ص12، 21، 67)، في مسعى لتبرير وجاهة البدء بالبابين الأول والثاني، يومئ إلى انزعاجه من منطق البناء أو إلى تردده في الاختيار بين أكثر من منهج.
من نتائج هذا العطب في البناء، الإسهاب في معالجة مقطع المخزن والتعامل مع الزمن وفق منطق خطي. إن الامتثال لهذا المنطق يفضي إلى تناول متغيرا ت مستقلة سابقة على العمل بضريبة الترتيب، ثم عرض بعض مؤشرات فشل تلك الضريبة، فبحث بعض المتغيرات المستقلة اللاحقة على تجربة الترتيب. هذا التناول الرتيب ألقى بكلكله على المضمون.
4 – ملاحظات جوهرية:
الملاحظة الأولى: مؤشرات تعاند منطق الحكم على تجربة الترتيب
بعد أن عدد الباحث بعض مؤشرات عجز الترتيب عن تصحيح اعتلالات الوضع الجبائي العام، أورد مباشرة استنتاجا يبدو لي لقيطا، لأنه لم يتخلق من رحم تلك المؤشرات. “لذلك لا يمكن لمن قرأ بإمعان عمق هذا الوضع إلا أن يتريث في الحكم على تجربة الترتيب سواء بالفشل، بسبب عجزها عن تحقيق نوايا و أحلام الذين و ضعوا أسسها وحددوا ضوابطها وأهدافها، أو الذين تحمسوا لها وسارعوا إلى التجاوب التلقائي معها. أو بالنجاح لكونها استطاعت، على الأقل، أن تقتحم مجالات تشريعية ظلت محرمة وحكرا على ذوي الأمر والنهي، وأن تساهم في مشروع هيكلة إدارية للبلاد، واستعمال لغة نقدية في كتابة الظهير المنظم لها بشكل لم يسبق له مثيل وهذا في حد ذاته مكسب لا يستهان به”(ص 214).
توحي هذه الفقرة بأن الباحث سينتبذ منزلة أخرى في حكمه على تجربة الترتيب، وهي أنها فشلت في جوانب ونجحت في أخرى. لكن المشكلة هي أن مضامين المبحث الثالث الذي ينتظم في إطار الفصل الثاني من الباب الثالث ومضامين الفصل الثالث من نفس الباب تعاند منطق ذلك الاستنتاج. فإضافة إلى عجز الترتيب عن حل مشكلة الامتيازات والقطع مع إرث الوضع القديم فيما يتصل بإرهاق كاهل الساكنة وعدم انضباطها لمبادئ العدالة والإنصاف، أشار الباحث إلى تواضع النتائج الكمية للترتيب وأبرز بعض أهدافها المبطنة التي تكشف أن التجربة لا تتهجس بالإصلاح بقدر ما تروم تقوية نفوذ السلطان وضمان سمو مركزه وتعضيد قدرته على ضبط المجال والتحكم في السوق.
صحيح أن الباحث عدد بعض مكاسب هذه التجربة على صعيد النوعية (مطالبة الأجانب والمحميين بأداء الضرائب، التأسيس لضريبة “وضعية تعد سابقة من نوعها”(ص 235)، “بلورة نمط جديد في تدبير الشأن العام”)، لكن هذه المؤشرات لا تشفع للباحث في أن يعتصم بهذا الحكم. فالمكاسب على الجبهتين الكمية والنوعية لم تصل مستوى يسمح بالحديث عن نجاح نسبي. فالطابع الوضعي لهذا التشريع الجبائي وجدة لغة الصياغة وأثر التجربة على صعيد الأدب، مؤشرات لم تكن لتبدد تراث الاستبداد الجبائي للسلاطين أو على الأقل تلطف من حدته، مثلما لم تستطع إنعاش الاقتصاد وحفظ الكرامة وتحصين الثغور. بعبارة أخرى، إن مفاعيل تلك المكاسب، ظلت محدودة. تبعا لذلك، لا أخال أن الحكم على التجربة بالفشل وحتى الفشل الذريع يعد من قبيل التسرع الذي يتحاشاه الباحث. فثمة شواهد ومؤشرات تعضد هذا الحكم وترجحه. تكفي الإشارة إلى أن الباحث جعل من سؤال عوامل الفشل إشكالية بحثه.
الملاحظة الثانية: مؤشرات تعاند دلالة الإفشال
يدعو الباحث إلى عدم التسرع في الحكم على التجربة بالنجاح أو الفشل، وأورد إشارات تدفع صوب اعتناق فكرة كونها نجحت في جوانب وفشلت في أخرى. وإذا كانت كثير من المؤشرات تدعم فرضية الفشل، فإن إصرار الباحث على ترديد عبارات تفيد إحباط أو إفشال التجربة، يجعلنا أمام مفارقة. لقد وردت لفظة الإفشال أو المصطلحات التي تحيل على معناه في الصفحات12 ، 16، 20، 214،242 ، 276، 284.
“… والتي ظلت في نظرهم مجرد طموحات محبطة لم تجد تجسيدها الحقيقي إلا مع الاستعمار الفرنسي دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن السر الكامن وراء ذلك“(ص12).
“فكيف ساهمت مكونات هذا الثالوث كل من موقعها في إفشال تجربة الترتيب؟“(ص16).
“يبقى بديهيا…. أن نتساءل عن قدرة الترتيب الحسني على تشكيل البديل المنتظر …، في زمن كثرت فيه الإكراهات والمعيقات وآليات الكبح والتشويش على أي مبادرة تجديدية تقض مضاجع المستفيدين من الامتيازات والإعفاءات؟ّ!! “(ص207).
” ففي حين سعى القواد إلى نسفه(الترتيب العزيزي)…”(ص214).
“قادنا الانتباه إلى التأصيل لفكرة الترتيب ودلالات ومعاني اللفظ إلى الكشف عن خيوط كثيرة كانت تنسج في الخفاء…، تداخلت في تحريكها أياد أجنبية بتواطؤ مع أخرى محلية،…” (ص242).
“لذلك جاء إفشال الترتيب وإفلاس الخزينة، وما استتبعها من اضطراب وفتن،…، بمثابة تأديب فرنسي للمخزن على سياسته الإصلاحية” (الترتيب العزيزي)(ص276).
“مسؤولية أصحاب فكرة الترتيب في فشلها“(ص276).
” لقد أجمعت كل القوى الفاعلة والمؤثرة في البلاد على إسقاط تجربة الترتيب و نسفها“(ص283).
“نهم الخاصة” و”عجز العامة” عن تحصين الترتيب (ص284).
أشير إلى أنه حتى في بعض الحالات التي يستعمل فيها الباحث لفظ الفشل، فإن سياق استعماله يجعل معناه ينصرف إلى الإفشال. ثمة إحالة، في الأغلب الأعم، على عوامل موضوعية تسهم في إحباط أو نسف أو إعاقة تجربة الترتيب. ورغم حرص الباحث على تجنب الخوض في موضوع المسؤوليات، فإن اللافت أن ثمة جنوحا إلى التركيز على العوامل الموضوعية وفي المقابل تبرئة ساحة السلاطين باعتبارهم قادة الجهاز المخزني.
إن منطق عرض المتغيرات واللغة التي يستعملها الباحث يولدان الانطباع بحتمية إخفاق كل تجارب الترتيب مهما حددت الأهداف بدقة وهيئت لها أسباب النجاح. والحال أن واقع البادية المغربية والبنية القبلية يرتبط بدوره بمتغير مستقل يفسره. إنه واقع قائم قبل صياغة المشروع، ومن تم يتعين أن يأخذ صاحب المشروع مفاعيله السلبية في الاعتبار. ما أريد التنبيه إليه هو الاستفهام عمن صنع ذلك الواقع أو تلك البنية. لم تكن بنية مغرب ما قبل الاستعمار منزلة من السماء، بل كانت إفرازا لعلاقات القوة القائمة والتي يتحكم المخزن في جزء كبير من خيوطها. فهو حريص، عبر استراتيجيات مختلفة، على عدم اعتماد أنماط إنتاج حديثة وبروز قوى تحديثية وعلاقات إنتاج من شأنها خلخلة البنية الاجتماعية وتقويض منطق الإخضاع بشكل يسيء إلى مركزه. وقد وجدت في ثنايا فصول الباب الأول إشارات تم تكثيفها في إحدى مقاطع الفصل الأول من الباب الثاني، ما ينسجم مع فكرتي السابقة ويعاند في نفس الوقت منطق بناء الطيب للمتغيرات وما يوحي به من تغليب الاعتبارات الموضوعية إشارة إلى واقع البادية ونمط الانتاج وطبيعة العلاقات الاجتماعية والبنية القبلية. المقطع هو الآتي “و قد سبقت الاشارة إلى أن هذا النهج الذي تبناه المخزن منذ وقت مبكر هو الذي قاده إلى عدم تبني أي سياسة تنموية بالبوادي تشجع القبائل على الاستقرار وتحفزهم على الإنتاج وتحقيق الوفر وتسمح بتكوين طبقة مزارعين رائدة ومبادرة تعمل على تحديث العالم القروي، واقتصر، عوض ذلك، على اعتبار البادية بقرة حلوبا،….وفي مقام آخر، كبس أنفاس فئة التجار المغاربة،… . لذلك فضل الوهن على القوة التي قد تخنقه في علاقته مع القوى المنتجة”(ص78– 79).
إن حسابات المخزن، التي شكل واقع البادية والحاضرة نتيجة وفية لها، هي المسؤولة عن عدم نجاح تجربة الترتيب1. والظاهر أن تأكيد الباحث ضمن الخاتمة على أن من أهدافه الكشف عن القوى العميقة التي عملت على إجهاض تجربة الترتيب يدعم ملاحظتي. إن المخزن يتحكم في البادية ويوظفها وفق أهدافه. وهو ما يستوجب صرف الاهتمام إلى القوة التي تمسك بتلابيب تلك البنية لفهم سبب إخفاق تجربة الترتيب. فإذا فهمنا حقيقة المخزن، سنفهم لماذا ظل واقع البادية على ما هو عليه، ولماذا صيغ المشروع على ذلك النحو ولماذا يصعب تطبيقه.
كذلك الشأن بالنسبة للعامل الخارجي المتمثل في دسائس وحيل فرنسا التي تتغيى عدم المساس بمصالحها وإيجاد ثلمات لإحكام السيطرة على خيرات المغرب. إننا إزاء مواجهة شرسة نسجت خيوطها على مدى عقود، وشكل حقل الجباية ساحتها الرئيسية. إن فشل تجربة الترتيب إذن، شكل إحدى النتائج الطبيعية لإخفاق المخزن في تدبير علاقته مع الخارج. فالأنسب باعتقادي الحديث عن فشل الحسن الأول وعبد العزيز في إنجاح مشاريعهما وعدم كسب رهان المواجهة مع الغرب، عوض ترديد مصطلحات النسف والإعاقة والإحباط. إن عبارات مثل كون المكائد أقوى من رهان الترميم أو الإصلاح، وتأديب فرنسا للمخزن على سياسته الإصلاحية، قد توهمنا بكون الترميم أو الإصلاح هدفا مركزيا من أهداف الترتيب وتزج بنا في تعليق الحكم على تجربة الترتيب على النوايا والطموحات عوض الوقائع والانجازات. والحال أن كثيرا من المؤشرات الواردة في الكتاب بشأن رهانات وأهداف الترتيب الحسني على سبيل المثال، تثبت تهجس السلطان ببلوغ مرامي أخرى غير الترميم. ولئن كان هم الترميم حاضرا في حساباته، فإنني أخال، بناء على ما أورده الكتاب من مؤشرات، أنه لا يبدو مؤرقا ومركزيا. إن الباحث نفسه اعتبر أن “الخلل البنيوي لم تعالجه الأحلام الوردية التي قدمها الترتيب للضعفاء“(ص211)، وأن المشروع الجديد (ترتيب 1884 ينهض على ” أساس مصلحي ظرفي“(ص214).
إن الاستفهام الذي يمكن طرحه في هذا الموضع هو هل كانت رهانات الحسن الأول تساعد على نجاح مشروعه، أم على العكس من ذلك تجعل ذلك المشروع يحمل بذور فنائه في طيه؟. فما يبرر الإشارة إلى تلك الرهانات هو مدى صلتها بتجربة الترتيب، وإلا سنكون بصدد الإسهاب في الخوض في موضوع جانبي.(احتكار السلطة الرمزية، التحكم في السوق الاقتصادية، ضبط المجال السياسي، تقوية الكيان الدبلوماسي). إن عبارة مثل ” أدرك مسبقا أنها سترفض من طرف المقربين قبل المعارضين من العلماء“، تدل على الطابع الذرائعي للتجربة، وهو ما يقودنا إلى استفهام هل يروم مشروع الترتيب أصلا إصلاح الأوضاع؟. ثم ما هي حمولة الإصلاح؟.
الملاحظة الثالثة : لماذا انتباذ منزلة وسطى؟
هذه الملاحظة لها علاقة بالملاحظة الثانية، وأسوقها في صيغة استفهام. ألا يبدو القول بأن الحسن الأول كسب الرهان الرمزي بانفراده بإقرار ضريبة الترتيب، مبالغا فيه، بحيث أن تلك الرمزية لا قيمة لها ما لم تعضد صفه. فضيق دائرة المنتسبين للمشروع، يبدد تلك الرمزية ويهدد مستقبل السلطان؟. كيف لهذا الترتيب أن يكون سابقة نوعية، والباحث اعتبر وثيقتها، وثيقة تعاقد بين شركاء؟. وكيف يمكن اعتبار تشريع ينص على أن “دفع العشور يتم بإعانة القناصل”(ص240)، واعدا بإصلاح اعتلالات الجباية؟. كيف يمكن اعتباره نوعيا وهاما، والباحث أشار إلى أن السلطان وقع في شرك رقابة الأجانب، بعد أن تخطى رقابة العلماء بحكم تجاوزه للمرجعية الدينية؟. ألم يشرع هذا التشريع الباب أمام الأجانب، بحيث تسللوا بذكاء عبره، عوض دك الحصون؟.(ص242). كيف لتشريع جبائي يعتبر الباحث أنه وضع “الإطار القانوني لمشروع الاستيطان الزراعي”(ص240)، أن يؤسس لإصلاح أو حتى ترميم يضمن تحقيق توازنات اجتماعية وسياسية ومالية؟. كيف يمكن نسب فشل تجربة تتأطر داخل استراتيجية تقوم على الإخضاع والارتياب من الجديد وإبقاء الأمور على ما هي عليه مع مباشرة ترميمات، إلى عوامل أخرى غير منهج عمل المخزن؟. إن غرض هذه الاستفهامات هو التأكيد على أن كثيرا من المؤشرات التي وظفها الباحث لا تسوغ انتباذ منزلة وسطى في الحكم على التجربة.
الملاحظة الرابعة: السلطان/المخزن؟
توحي لي بعض العبارات في الكتاب بأن الطيب بياض يجنح أحيانا إلى التمييز بين السلطان والجهاز المخزني بشكل يولد الاعتقاد بأنه لا يعمل تحت إمرته. ما يلفتني هو أن الباحث نأى بنفسه، وهو يعرض الدلالات المختلفة لمصطلح مخزن، عن المقاربة الميكانيكية النزاعة إلى الوصف والتصنيف، واعتبر المخزن شكلا للحكم وهيكله وآلياته (ص74). إن مشكلة هذا التمييز هو أن الباحث يوظف عبارات تظهر السلطان بمظهر الفاعل المتهجس بالإصلاح والساعي إلى تحقيقه، فيما تعتبر بعض المكونات الأخرى للجهاز المخزني جزءا من مصادر الإعاقة. “توقفنا عند مسعى الحسن الأول بجعل الترتيب فرصة مواتية لإعادة ترتيب البيت الداخلي، لضبطه وضمان تماسك الجبهة الداخلية“(ص206). “أمام هذا الوضع المتردي حاول السلطان الحسن الاول أن يوقف الأمر، على الأقل، عند هذا الحد، في أفق تصحيحه، ولما أصبح لا مفر من دخول عهد القطائع مع الماضي كان الترتيب أول محاولة في هذا المسار“(ص319). كما تحدث عن ” توريط” عبد العزيز “فيما لم يكن له في الحسبان، ولا خطر له على بال بعد أن تحول مشروعه لإجراء الترتيب عن مراميه و انقلب الرهان من الإصلاح إلى التخريب ؟ !!“(ص245).”ساهمت الدسائس والمكائد التي كانت تدبر بين الوزراء في فشل المخزن على كل الواجهات“(ص 276).و أشار إلى تعطيل العمال والقواد لمفعول المشروع.
فلماذا هذا التمييز والباحث يشير إلى أن المخزن لم يسمح ” بظهور الجماعة السياسية التي تنجح في احتكار الإكراه المادي المشروع، ولا سعى إلى عقلنة القانون مع ما ينتج عن ذلك من فصل حقيقي بين السلط ….” (ص77). لماذا هذا التمييز، وهو يعتمد أطروحة نيكولا ميشيل، الذي اعتبر أن “المخزن كان دوما في خدمة السلطان فهو أصلا “مخزن السلطان” ” (بغض النظر عن صحة ذلك، ص77). إن السلطان يعد قائد الجهاز المخزني ومسؤولا عن تصرفات أعضائه. ولئن أبدى أحيانا حنقه من فساد معاونيه، فإن التعبير عن ذلك الشعور يبدو تمويهيا. ولعل الباحث يشير صراحة إلى ذلك.”إن العامل كما صورته الوثائق المخزنية ليس إلا مجرد خادم مطيع منفذ لما أمر به، لذلك فتقديمه ككبش فداء لهذه الورطة المخزنية ومخاطبته ” بلغة لا تخلو من تقريغ وغلظة،” لم يكن في الواقع سوى ذر للرماد في العيون وسعيا لترميم ما كاد أن يتداعى من البنيان“(ص210). ثم إن بعض الظواهر السلبية المتفشية في إطاره، كان السلطان، بحكم منهجه في الحكم، سببا في ميلادها وحتى رعايتها (التزلف، اغتناء محيط السلطان، الاستعباد، العصيان،…).
لكن إيراد الباحث لعبارات أخرى يشوش على فرضية الطموح الإصلاحي للحسن الأول وعبد العزيز.” ومن فاته استيعاب مفعول هذه العناصر المنصهرة والمتفاعلة في رسم المشهد السياسي والاجتماعي لمغرب ما قبل الاستعمار، لن يستطيع إدراك السر في استمرارية التقليد والمحافظة، وإخفاق محاولات التجديد” (ص75). كيف يمكن أن يكون الترتيب الحسني محاولة لدخول “عهد القطائع“(ص319)، وهو ما يظهر النزوع الإصلاحي للحسن الأول، والإشارة في نفس الوقت إلى أن “الواقع المغربي بما بلغه من تردي عارم… قد هيأ السلطان لتقبل أي فكرة تحد من ذلك التردي وتحافظ على استمرارية التوازنات الموجودة فكان الترتيب سبيله إلى الترميم دون كسر خواطر الأجانب ولا أصحاب الظهائر.”(ص180). ورغم أن الباحث يتلمس العذر لما قد يشكو منه المشروع من عيوب، فإنه يستدرك باستغراب. “لكن ما يبدو نشازا وعسيرا على الفهم هو أن يظهر إلى الوجود مشروع جبائي جديد يقدم نفسه بديلا عن وضع لم يتوان في إدانته، لما اتسم به من شطط وتعسف، دون أن يطوي نهائيا صفحة هذا الوضع القديم بإعفاء القبائل من تبعات ما تخلد بذمتها من ديون ثقيلة”(ص213). ثم كيف يمكن الحديث عن مشروع عزيزي للإصلاح، في ظل التأكيد على “ضبابية الرؤية أمام السلطان” (ص274) وعلى إرادته “أن يضع الجميع أمام الأمر الواقع“(ص265)، والإشارة إلى عيب الصياغة في المشروع وإلى أن السلطان لا يملك قوة الشكيمة ونفاذ البصيرة وإلى أن الآخرين أكثر احترافا ودهاء منه، ونزوعه، بفعل شيوع ظاهرة الامتناع عن الأداء، إلى “إجراء الأمور على العوائد” وفتح المجال أمام الاستثناءات من الفرض الضريبي.
إن كثيرا من المؤشرات تدفع صوب تقييم التجربة، ليس من باب النوايا والطموحات، وإنما من خلال المنجز وأيضا من خلال ما أمسك السلطان عن اتخاذه مع أن الظرف يقتضي ذلك. إن كثيرا من المؤشرات تبين أن السلطانين لم يشذا عما درج عليه المخزن من وفاء لنزعة المحافظة والرغبة في الحفاظ على التوازنات، مع ميل مصلحي نحو الترميم. فهل يستقيم في ظل ذلك، الحديث عن مشروع إصلاحي أو حتى بأنفاس إصلاحية؟. هل يمكن إصلاح بنيان آخذ في التداعي؟. و هل يستساغ تصويب سهام التقييم نحو معاوني السلطان وإلى جهات أجنبية عنه، والتلميح أو الإشارة الصريحة في المقابل، إلى نبل مقاصده؟.
الملاحظة الخامسة: محاولة للتفسير
أحاول في الملاحظة الختامية تقديم تفسير لبعض الأعطاب الواردة في الكتاب. يشير الباحث إلى أنه اختار الواقع الاقتصادي للبادية “كمدخل سليم لقياس درجة استعدادها المادي كممون للمخزن”(ص310). والحال أن المنطق الفعلي الناظم لتمفصلات الكتاب يفيد أن المخزن هو المدخل المعتمد لمعرفة أسباب عجز البادية عن أن تكون فضاء إنتاج يتمفصل مع الحاضرة باعتبارها فضاء التداول. ويبدو أن افتتان الباحث بأطروحة نيكولا ميشيل، ووفائه لمنطقها في تحديد عوامل الفشل، يفسر باعتقادي اختياره لواقع البادية كمدخل للقراءة، والبدء بالبنية الاقتصادية والاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار كمتغير تفسيري أول، مع أنه متغير تابع للمتغير الذي يليه.
من نتائج الافتتان بأطروحة نيكولا ميشيل أيضا، تأكيد الباحث على “العامل الاقتصادي كمحرك أو موجه للسلوك المخزني“(ص375). لقد حجب عنه هذا التحمس زوايا نظر أخرى أنسب لمقاربة الموضوع، مع أن كثيرا من عناصر تلك الرؤية واردة في الكتاب. صحيح أن العوامل الاقتصادية حاضرة بقوة في حسابات المخزن. غير أن مؤشرات أخرى ورد بعضها في الكتاب، تبرز أن ذلك العامل يخضع بدوره لمحدد آخر يبدو مركزيا. فالخوض في طبيعة المخزن ورهاناته ومنهج عمله يبرز أن الحاجة إلى المال والمؤونة، تنضبط لحاجة أعمق وهي الرغبة في التسيد وتأمين إخضاع البشر وضبط المجال وضمان الولاء، وهو ما يفيد أن المحدد الرئيسي للسلوك المخزن سياسي في الصميم. وأعتقد أن منطلق الباحث، وهو أطروحة ميشيل، ورطه في مأزق ضرورة الوفاء المطلق لتلك الأطروحة، رغم أن المؤشرات المعتمدة ومجريات التحليل تدفع صوب التحلل منها. كان بالإمكان تجريب تلك الأطروحة أثناء بحث تجربة الترتيب والخلوص إلى عدم صلاحيتها أو اعتمادها جزئيا مع توسيع مدى الرؤية بتعبيد مسارات تحليلية أخرى. قد يكون المحدد في بحث نيكولا ميشيل اقتصاديا، لكن تجريب أطروحته في الموضوع قد لا يجعله كذلك، بحيث يتموضع خلف محدد حاسم هو المحدد السياسي.
ولعل وصل تجربة الترتيب بغيرها من حلقات مسار الجباية المغربية عبر قرون2، يساعد على تبين كون المحدد الأساسي لسلوك المخزن وتعاطيه مع الضريبة (المونة والنايبة والمكوس والبادية) محددا سياسيا. فالضريبة وظفت كأداة للتمويل، لكن أيضا كوسيلة لضبط المجتمع والتحكم في تمفصلاته ووسيلة للمحاباة وتوسيع دائرة الحلفاء والعقاب. صحيح أن الضريبة وسيلة تمويل وتجهيز الجيش وتوسع الامبراطوريات وتغطية نفقات السلطان وحاشيته. لكن هذه الوظيفة تتحكم فيها أيضا اعتبارات سياسية. فالمال الوفير يمكن من ضبط ومراقبة الفضاء الاجتماعي والسياسي والحيلولة دون تشكل مراكز نفوذ تهدد المخزن. لقد تغلب منطق السياسة على منطق الاقتصاد و الدين وبرهن المخزن على أن لا شيء يحول دون استخلاص الضرائب سوى ضعف قوته العسكرية.
وأشدد في الختام على أن بحث الطيب بياض، وهو في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه تمت مناقشتها برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس سنة 2002، يعد مساهمة نوعية في صرح البحوث العلمية، بحكم اقتحامه لمبحث لم تصوب نحوه أقلام الباحثين على نحو كاف، وهو ما يسمح بإضاءة بعض مواطن العتمة في التاريخ الاقتصادي للمغرب. وإضافة إلى امتلاك الباحث للدربة والصبر اللازمين لمواصلة تعميق التفكير في هذه البؤرة، استطاع الطيب بهذا الكتاب أن يعبد لغيره من الباحثين مسالك جديدة للتأمل بما يضمن إنضاج ومراكمة المعرفة العلمية بالموضوع.
الهوامش:
1- وردت تلك الاشارت في الباب الأول. من ذلك” إنسان البادية، باعتباره طاقة منتجة للتموين الغذائي وللدعم المادي لخزينة وجيش المخزن، اتعبت سواعده اعمال السخرة، وانهكت موارده حركات المخزن وافقرته مطالب الجباة. … هذا الانسان …، شكل رأسمالا بشريا هائلا جرى التفريط فيه، و تعرض لمختلف أنواع الضغوط“. (ص22).كما اشار الباحث ضمن عوائق الى اجتياح البشر للبادية خدمة لمصالح الحاكمين، وسلوكات العمال والقياد، وتدبير المخزن للحياة الاقتصادية والتجارية.(ص34- 38). هذه العوامل المفسرة لواقع البادية، تعقد من إمكانية اقتحامها من قبل التجار. إن عدم إنصاف المخزن لفئة من التجار الذين قد يشكلون أنوية التحديث، كرس تردي البادية واعاق تطويرها. ثم ان للمخزن يدا في طبيعة البنية القبلية من خلال دوره في شيوع نمط معين من ظروف العمل بالبادية/ ومن خلال تصرفات جباته. وقد أسهمت تلك البنية في إعادة إنتاج قيم تعادي منطق التراكم والاستثمار. يظهر من محتويات هذا الباب أن واقع البادية محكوم بشكل كبير بمنهج عمل المخزن، وهو ما يعتبره مسؤولا عن فشل الترتيب.
2- نسوق بعض المراجع المفيدة للتوسع في هذه الفكرة:
- إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء الثالث، دار الإرشاد الحديثة، الطبعة الثانية، 1994.
- إسماعيلي مولاي عبد الحميد العلوي، تاريخ وجدة وأنكاد في دوحة الأمجاد، الجزء الأول 1985.
- عبد الغني خالد، تاريخ السياسة الجبائية بالمغرب، القرن التاسع عشر، مطبعة دار النشر المغربية، 2002.
- شارل أندري جوليان، تاريخ أفريقيا الشمالية، تعريب محمد مزالي ولبشير سلامة، الدار التونسية للنشر، 1969.
- عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، نشر لجنة البيان العربي، الجزء الثاني، 1965.
- أحمد بن خالد الناصري السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الجزء الثاني، تحقيق وتعليق أحمد الناصري، منشورات وزارة الثقافة والاتصال، 2001.
محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشادلي، الطبعة الأولى، 1998.
- عمر الإبوركي، الظاهرة القائدية، القائد العيادي الرحماني نموذجا، مساهمة في دراسة المجتمع المغربي، طبعة 2000، الدار البيضاء.
- علال الخديمي، “المجتمع الشاوي بين تأثيرات السلطة و تحولات المجال خلال القرن التاسع عشر”، الشاوية، التاريخ والمجال، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1997.
- Ayache (G.), «Aspects de la crise financière au Maroc après l’expédition espagnole de 1860», extrait de la Revue Historique, oct.-déc., 1958.
- Benali(D.), Le Maroc précapitaliste, Rabat, SMER, 1983.
- Burcke(F.), in Actes du premier congrès d’histoire du Maghreb, T 2, Tunis.
- Champion(M.), Finances publique du Maroc, Rabat Imp. Réunies, 1961. Ouvrage publié sous l’égide du Ministère de l’Economie Nationale et des Finances.
- Jacques Jouannet, L’évolution de la fiscalité Marocaine depuis l’instauration du protectorat, Tome I, L.G.D.G, Paris, 1953.
- Pascon(P.), Le Haouz de Marrakech, Ed Marocaines et internationales, Rabat, 1977.
- René Marchal, Précis de législation financière Marocaine, 3 ème éd, Rabat, 1948.
- Kenbib(M.), Les protégés, contribution à l’histoire contemporaine du Maroc, Préface de Daniel Rivet, Publication de la faculté des Lettres et des Sciences Humaines – Rabat, 1996.