صدر للشاعر مزوار الإدريسي ديوان جديد بعنوان بين ماءين عن منشورات اتحاد كتاب المغرب لعام 2013م. وكانت لوحة الغلاف للفنان المغربي خليل غريب. وفي ديوان بين ماءيننوع من انسياب الماء والكتابة في تفاعل الذات مع إيقاع الماء وتموُّجاته.حيث استطاع الشاعر أن يؤجّج نار العشق الذي كان متوقّداً تحت الرماد ليفيض ماء الكتابة، فبدا ماء القصيدة غزيراً ومتدفّقاً يسير في جغرافيات وأمكنة متعددة في انصهار تام مع الوجود والكون.
ومزوار الإدريسي ناقد وباحث ومترجم ومؤسس لجمعية أصدقاء لوركا بتطوان، ورئيس جمعية “ملتقى الشعر الإيبيرومغربي”. عمل الشاعر على التعريف بالقصيدة المغربية في الضفة الأخرى. فترجم دواوين شعرية مغربية إلى اللغة الإسبانية. كما عمل على ترجمة العديد من القصائد والأعمال الشعرية لكبار الشعراء الأسبان كفيثنتي ألكسندري، وأندريس سانشيث روباينا، ولويس غارثيا مونتيرو، وسالفادور لوبيث بيثرّا، وغوستافو ادولفو بكر، وجوردي فيرايونغا وغيرهم.
وتتميّز القصيدة عند الشاعر بشعرية الانفتاح التي تحمل فيه القصيدة المغربية وخاصة في شمال المغرب نفحة من جمالية الشعر الإيبيري الذي يحمل في طياته الكثير من الوهج العربي ممزوجاً بماء بحر لوركا. وشعر مزوار الإدريسي يحمل تاريخ مدينته التي احتفت بشعراء الضفّة الأخرى ويُحيلنا الاصطحاب بين العنوان وعتبة الإهداء إلى جغرافية النص وسلالاته الشعرية. وتشمل الإهداءات أسماء شعراء مغاربة وهم عبد اللطيف شهبون والمهدي أخريف ومنير بولعيش والشاعر الإسباني بيثنطي ألكسندري. وورود اسم بيثنطي ألكسندري كجزء من إسبانيا الشعرية ورمز لقبول الآخر واستضافة الغريب والمحافظة على آداب وطقوس الضيافة. لا أدري مدى تأثر الشاعر بشعر بيثنطي ألكسندري. لكن الأرجح أنه ينتمي إلى شجرة أنسابه الشعرية وهذه الإهداءات هي نوع من الاحتفاء بالشعر المغربي والشعر الإسباني لكون هذا الأخير يحمل الكثير من الملامح الجمالية للشعر العربي، كما أن الشعر العربي يحمل في طياته العديد من سمات الحداثة ووهج الشعر الإسباني. وقد فتحت الترجمة للشاعر نافذة واسعة لقراءة الشعر الإسباني وفهم الآخر واستيعابه ما يُكسب أشعاره أفقاً جديداً فحظيت القصيدة عنده بمرتعها الخاص.
وهنا يمكن أن نتحدث عن أثر الترجمة في انفتاح القصيدة المغربية المعاصرة. وما صاحب تاريخ هذه القصيدة من تغيرات في أبنية القصيدة ومعانيها. نعلم أن أهمّ بوادر التحديث الشعري في القصيدة المغربية ظهرت في مجلة المعتمد التي أسّستها الشاعرة الإسبانية ترينا مكادير. فكان لهذه المجلة أثر كبير في ازدهار الحركة الثقافية والانفتاح على الشعر الإسباني في فترة الثلاثينات والأربعينات، كما كانت نافذة لمختلف التيارات الشعرية الحديثة في العالم، معنى هذا أن الشعر المغربي الحديث وُجِد له حضور كبير بشمال المغرب خصوصاً وأن معظم الشعراء يتقنون اللغة الإسبانية. ما مكّنهم من الاطلاع على روائع الشعر الإسباني وما يحمله من تيارات الحداثة. وقد كانت هذه الفترة أهم مرحلة في تاريخ الشعر المغربي حيث تمكّن الشعراء المغاربة من الاطلاع على تجارب رائدة في الشعر الإسباني مترجمة إلى العربية كسالفادور دالي ولوركا وبيثنطي ألكسندري الحائز على جائزة نوبل… ومساهمة شعراء إسبان في مجلة المعتمدعملت على تحديث الشعر المغربي. فكانت النصوص تنشر في المجلة مع ترجماتها. وكان التأثير العربي حاضراً في أشعار هؤلاء، فقد عمد لوركا في شعره إلى توظيف العديد من الكلمات العربية.
لقد أصبح للترجمات الشعرية دور بارز في صنع الحداثة الشعرية العربية في العالم. فلا نستحضر شاعراً من الشعراء الكبار إلا ونستحضر معه اسماً من أسماء شعراء عالميين من أمثال لوركا ونيرودا ووايتمان ورومبو وريلكه وملارمي وإيليوت وبيرس وبوند ونوفاليس وشيلر وبودلير وغيرهم في كل لغات العالم. فقد اقترن مثلاً اسم السياب بسيتويل ويوسف الخال ببوند وأدونيس ببيرس والمهدي أخريف ببيسوا… ما يعني أن الترجمة أصبحت سمة الحداثة والتحديث الشعري. فهي التي تنقل تجارب الحداثة الشعرية في العالم.
وفي ديوان بين ماءين طُهر وصفاء منبثق من صفاء اللحظة الشعرية المتدفّقة في تعانق بين الماء والحياة. فالنصوص الشعرية عبارة عن لوحات تشكيلية مائية، إذ كما يعسر القبض على الماء يعسر على المتلقي القبض على دلالاته، فشعراء الماء حسب لوركا هم الذين تأمّلوا ما أهملته الأنهار الواسعة.
ومزوار الإدريسي عاشقٌ للماء خارج أسوار الزمان والمكان، هذا السائل السحري الذي لا حياة بدونه، ولا تستقيم الحياة إلا به. لم يوضح الشاعر مصدر الماء ولا منبعه، ولكنه كما يبدو ماء سحري يتدفّق باستمرار للإبحار في مجهول القصيدة. إنها شعرية جديدة، شعرية معاناة ذات الشاعر من عنفوان الكتابة وقساوتها فهي تسأل وتُقلق وتُهادن لتصبح وليدة شعرية المنتهى الكوني الممتد في عروق الأرض. وليس أكثر بداهة من كلام الشاعر عن الشعر. فالشعر عنده له امتدادات عالمية في الكون والحياة والأرض والتراب. يقول في قصيدة “شعرية” التي يفتتح بها ديوانه الشعري (ص. 3):
قريبا من خطايَ،
أرى امتدادي
في عروق الأرض،
في عطش التراب،
وفي هشاشة فكرة
تستدرج المعنى إلى مبنى،
وتنسى ظلَّها
يطفو على صمتي.
إنها إقامة شعرية مضنية في المابيْن، بين ماءين، بين لسانين، بين حضارتين تحملان تراثاً ثقافياً مشتركاً بجُدران شعرية عربية مغربية أندلسية امتدّ منذ الحضور العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية. إنها صورة الأنا والآخر، وصورة المغرب والأندلس، حيث تغفو يديْ الشاعر وترتبك الروح ويصهل البحر. يقول في قصيدة “بين ماءين” (ص.8):
يصهلُ البحرُ
أصغي إليه
يغازلُ مملكةً
زَبَدٌ صوْتُها
وَجَعٌ حرْفُها
كلَّما خاتلَتْني
أغَنِّي لها:
ضيَّعَني الشِّعْرُ
بين لسانيْن.
وتعالق الشعر والماء يُلفت انتباه القارئ للتأمل في النصوص الشعرية، حيث تحضر لغة الماء والصمت، والماء والحُلُم، والماء والفراغ. يقول في قصيدة “دهشة” (ص. 15):
تُطَوِّقني الكلماتُ
بِحِبْرِ الفُجاءةِ
والصمْتِ
أغفو على دهشةٍ
لأرى أحرُفاً
تعتلي شَفتيَّ
وقد كان الماء العنصر المهيمن في الثقافات الشعبية الإنسانية. وفي الأساطير القديمة تمّوز وعُشتار وأوزيريس وإيزيس كان الماء رمزاً للصراع بين الخير والشر، والموت والحياة، والمقدّس والمدنّس. والأدب العربي غني بالنصوص المائية شعراً ونثراً. وكان الماء مصدر إلهام الشعراء في مختلف العصور الأدبية.ولم يخلُ الشعر العربي من وصف الرعد والبرق والمطر والسحاب والغيوم والبرَك والأنهار والبحار والسواقي. لكن الشاعر خرج عن كل ما هو تقليدي ومألوف حينما جعل القصيدة تدور في حلقة دائرية مائية بلّورية حالمة وقد تحدث باشلار عن الماء والأحلام التي تجعل منه وطناً كونياً، فمِن خلال حُلُم انعكاسات الماء ينزع العالم إلى الجمال. يقول الشاعر في قصيدة “حلم” (ص. 59.):
القصيدة
إذ تعبر البحر
بحر الكلام،
وتجتاز دغل الحروف،
وتنساب بين السطور
تجوب الكؤوس
وترسم دهشتها في الرؤوس.
بين شعرية الماء، والبحث عن المعنى لا تُتاح الرؤية بسهولة، وقد جعل الشاعر القصيدة امرأته الشعرية التي وُلدت من رحم القصيدة. فشهرزاد القصيدة ترتوي من شرايين الصمت وتنتمي لسُلالة آلهة اللّيل وهي عاشقة للجمال. إنها زمن القصيدة ومكانها أينما حلّت وارتحلت. يقول في قصيدة “شهرزاد” (ص65):
ثمة امرأة
ترتوي
من شرايين صمتي…
هي امرأة من سلالةِ
آلهةِ الليلِ…
سارحةٌ في المدى
تتوارى وتأتي
نيازكَ ملآى بغيمِ النبوءةِ
ويوضح الشاعر كيف يصير الشعر بحثاً عن الشعر والشاعر وكيف يصير فكراً ومعرفة. فشهرزاد القصيدة الرّمز امرأة رسمت خريطة العشق لكل الشعراء منذ قرون، وعاشت الحضارة الأوروبية قبل أن تعود إلى الشرق. وشهرزاد امرأة أسطورية فجّرت ماء القصيدة وجابت كل القارّات بحكاياتها، فعبَرت الحدود وانفتحت على الثقافة العالمية وتُرجمت إلى معظم لغات العالم بعد أن تحرّرت من أسر المعنى النهائي فتقلّدت عند الشاعر كل القوافي. إنها صورة المعرفة والانتصار للإنسانية وللثقافة الواسعة ولحوار الحضارات. فهي نيازك النبوّة والجمال والكلام المباح. فهي آفاق الجمال المتمدِّد في القصيدة، يقول الشاعر في نفس القصيدة (ص.66):
هي امرأةٌ
تتمدَّدُ فوق القصيدةِ
ملءَ البحورِ
وفي رغوةِ الاستعارة،
… هي امرأةٌ تتقلَّدُ كُلَّ القوافي
… خلّي ظلالَ الحروفِ
طريقي إليكِ
إلى الكلامِ المُباحِ.
ويبدو مفهوم القصيدة عند الشاعر مزجاً بين الذاكرة والإحساس، وبين ظلال الحروف ورائحة الأرض وانكسار الضّوء. كلمات لا دليل لها في قاموس اللغة إلا لغة القصيدة وهي لغة لا يعرف عزفها إلا الشعراء. يقول في قصيدة “الشعراء” (ص.49):
غجرٌ
على وتر الفجيعة،
يعزفون بلاغةً
أخرى
تحاكي حُلمَهم
وجاءت قصيدة “خمس لوحات بلا ألوان” في خمس صفحات. اللوحة الأولى عن ستار الصمت، والثانية عن الإقامة في الذّات، والثالثة عن مغامرة البحث عن المعنى، والرابعة عن مملكة الحروف، والخامسة عن مغامرة الكتابة. وهي لوحات يحوّل فيها الشاعر فاعلية الشعر إلى سؤال يحاول فيه استنطاق ستار الصمت. يقول في هذه القصيدة (ص.70):
أَأَنا أنا؟
أّأُقيمُ في ذاتي
وفي أُخرى؟
امرأتي القصيدة؟
مَنْ رأى راياتِ أسئلتي
تُرَفْرفُ بيننا؟
والإقامة في الذّات ويقينها بوجودها الرّاهن هو سرّ مغامرة الكتابة في النص الشعري. في هذا السياق يأتي استعمال الشاعر للاستفهام الدّال على التكثير وتعدّد الأسئلة. فمِحنة عذاب سؤال الذّات هو سؤال الآخر ضمنياً الذي يبدو عاجزاً عن الإقامة في الذّات، وهو نوع من المصالحة مع الذّات، ومع ذاكرة الجسد، وذاكرة الكتابة، لاختراق جدار الصمت، لأن الكتابة هي قراءة الذّات التي تستقي من الذاكرة وتعمد إلى فضح الأنا بتعبير بارت في محاولتها التجرّد من رقابة الأنا والآخر. يقول الشاعر في نفس القصيدة (ص.71):
أأنا هنا
…هل عسَلُ الحياةِ قصيدةٌ؟
هل هجرةُ الألفاظ ملحمةٌ؟
وهل بَلَلُ الحروفِ
يُعيدُ للمعنى السَّنا؟
إن سُلالات الإبداع الشعري عند الشاعر كسُلالات نحل متأقلمة مهما اختلفت جغرافيتها وطبائعها وصفاتها. فهي في النهاية تُنتج عسلاً حلو المذاق وإن اختلفت أنواعه في كل بقاع الأرض باختلاف نوع الرّحيق ومصدره. إلا أن هناك أنواع مُتعارف عليها عالمياً. فحلاوة العسل وصفاؤه من صفاء القصيدة وألَقها لأنها تنتمي لسلالات متصلة رغم اختلافها، فهي تنتمي لسلالات شعرية إنسانية باذخة سواء في الشعريات الأوروبية أو الصينية أو اليابانية أو الأمريكية أو في مختلف بقاع العالم.
وهكذا ترحل القصيدة عند الشاعر في آفاق وعوالم القرن الجديد والعولمة وتأثيرات الحراك العربي في زمن احتاج فيه الإنسان إلى الإعلاء من شأن القيم الإنسانية الكونية. ويرى الشاعر في قصيدة “ثورات” أن هذه الثورات لم تنجح في إزالة سوداوية المياه الراكدة. لأن ظلال الموت المائي ظلّ يسكن الحدائق التي لم تستطع أن تسكن وقت الشاعر. فكل صورة في المتن الشعري هي في جوهرها صراع بين الذات والماء. فالحدائق والزهور والياسمين والقرنفل والأقحوان، إحالات مائية منفتحة على مجموعة من الدلالات. فثورة الياسمين التونسية ذكّرت الشاعر بثورة القرنفل البرتغالية. إلا أنه ينتصر دائماً لأزهار لغة القصيدة التي لا تخشى الحرّية وترفض الظّلم لأنها آلهة القصيدة التي لا تذبل ولا تنهزم ولا تموت. فظلّت ترفض “أزهار الدّم” بتعبير محمود درويش، يقول الشاعر (ص.81):
لا حدائقَ تسكن وقتي
لذلك لا أعرفُ الزُّهورَ
إلا في القصائدِ
لكنْ تونسَ نبّهتْ عينيّ
إلى الياسمين
وذكّرتني بقُرنفلِ البرتغال
ولأنني سليلُ الخساراتِ
فسأصدِّق اللغةَ
إنْ غَمَرَ تُرابيَ الأقحوانُ.
وهكذا تحمل قصائد الشاعر شغف السؤال، وشغف الإبحار في عوالم القصيدة. والتساؤل عن ماء الشعر لا بوصفه استعارة لكن بوصفه أيضاً طرح لقضايا الشعر في ظلّ الرّاهن الثقافي الذي أصبحت فيه الترجمة انقلاباً في ثقافة الشاعر الحديث، بينما كانت ثقافة الشاعر القديم تعتمد على معارف تثقيفية أجملَها الأصمعي في الحفظ ورواية أشعار العرب كمصدر التثقيف الأول للشاعر. ما يدعونا إلى التساؤل عن أثر الترجمة في انفتاح القصيدة المغربية المعاصرة، فترجمة الشعر في عصرنا أصبحت عنصراً فاعلاً في تحديث القصيدة العربية. ونحن نعلم ظلال الترجمة على الشاعر العربي وما لها من تأثير في تقنيات بناء القصيدة.
وما يلفتني في ديوان الشاعر هو بناء الصور الشعرية التي جاءت بمثابة مرايا تعكس ما في أعماق نفسه من مشاعر جعلت القصيدة ليست موجة عابرة بل حلماً مائياً يتسامى فيه الماء إلى عناصر كونية. فمهمّة الشعر عنده هي خلق الكلمات التي تخلق العالم، وهذا الكون على امتداده لا تعبّر عنه إلا لغة القصيدة.