يخوض محمد أوبحلي من خلال هذا البحث، غمار كتابة تاريخ الغذاء، وهو حقل معرفي ما يزال الاهتمام به حديث عهد في العالم العربي والإسلامي عموما. إذ بدأت العناية بالمطبخ العربي كموضوع للبحث العلمي حوالي النصف الثاني من القرن العشرين. إضافة إلى كونه مجالا مركبا، تتداخل فيه مجموعة من المستويات، إذ لايمكن فصل طرق التعامل مع مختلف المواد الغذائية إنتاجا وتحويلا واستهلاكا، واختلاف ذلك جغرافيا وزمنيا، والتطورات التي تحدث بهذا الخصوص، عن البنيات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجال الملاحظ، مع صعوبة توضيح ذلك في كثير من الأحيان. إنها دراسة تتطلب منهجا منفتحا على علوم متعددة، وتصبو لكتابة تاريخ شامل.
داخل هذا الإطار العام اختار الباحث تاريخ التغذية في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط. وهو تاريخ طويل وغني بانتقال وتبادل المعارف والممارسات. كما أنه لم يُدرس حتى الآن في مجموعه، وفي مختلف مراحله، وتعدد أشكاله. ولعل ذلك ما جعله يحصرالعمل في القرن السادس الهجري/ الثالث عشر الميلادي الذي يجمع بين أواخر عهد الموحدين وأول عهد المرينيين، على أن يتسع مستقبلا ليشمل كل العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط.
وقد اختار ضمن مجال الغذاء موضوع الأغذية التي تتخذ من الحبوب قاعدة لها، وعلى الخصوص الجوانب التقنية المتعلقة بها، والأساليب والممارسات المعتمدة في تحويل المواد، مثل طرق طحن الحبوب ونخل الدقيق، وكيفيات العجن والتشكيل، والمواد المضافة، وأنواع النارالمستخدمة في الطهو، وغيرها من مراحل تحضير هذه الأطعمة، مع الوقوف على رأي أطباء المرحلة حول الجوانب الصحية المتعلقة بمختلف هذه الممارسات وبأشكال الطعام التي تنتجها.
أسفرت هذه التجربة عن عمل ضخم بلغ خمسمائة وتسعين صفحة، انتظمت في إطار مقدمة، وسبعة فصول غير متساوية من حيث الحجم، وخاتمة.
اعتمد محمد أوبحلي في دراسته على بيبليوغرافيا هامة تتكون من قسمين:
– القسم الأول: يشمل المصادر الأساسية، وتتكون من كتب الطبخ، وكتب الطب والصيدلة التي ترجع للفترة المدروسة، بما فيها الكتب المشرقية، وكتب النوازل والمناقب، وسجلات الحسبة، وكتب الرحلات، ومنها رحلة ابن بطوطة التي كانت موضوع إحالات عديدة خاصة في الفصل السابع المتعلق بالعجائن والكسكس. وكلها مصادر عربية بالدرجة الأولى، لكن اللائحة تشمل أيضا مصادر متوسطية، خاصة اليونانية والرومانية. إلا أنه داخل هذه الفئة الأولى تحتل كتب الطبخ مركز الصدارة، وعلى رأسها كتابان هما: كتاب الطبيخ لمجهول من الغرب الإسلامي، وفضالة الخوان لابن رزين التجيبي. و كلاهما كتبا خلال القرن السادس الهجري/ الثالث عشر الميلادي الذي اختاره الباحث كامتداد زمني لعمله.
ويبرر المؤلف هذا التركيز على كتب الطبخ بالكشف عن الجوانب التقنية وعن الممارسات المتعلقة بالمطبخ، وهو مجال يكون فيه هذا النوع من المؤلفات أقدر من غيره على توفير المادة المطلوبة، بما يقدمه من معلومات وافرة ودقيقة. إضافة إلى أن المصدرين المذكورين لم يحظيا، حسب الباحث، بما يستحقان من العناية من قبل الباحثين، بالنظر لما يختزنانه من تفاصيل هامة في هذا المجال. ثم تأتي في المرتبة الثانية بعد كتب الطبخ، المصادر الطبية والصيدلية نظرا للمكانة الهامة التي كانت تحتلها التغذية وفن التعامل مع المواد الغذائية في هذا النوع من النصوص قديما. وبالتالي نجد كتابا مثل الأغذية والأدوية للطبيب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي الذي عاش بداية القرن العاشر الميلادي/ الخامس الهجري بالقيروان، يقدم للباحث معلومات قيّمة حول موضوع دقيق، هو صناعة تحويل الحبوب إلى مختلف أنواع السميد والدقيق التي تعتمد في تحضير الأطعمة.
يظهر الباحث بهذه الاختيارات البيبليوغرافية أهمية هذا النوع من النصوص التي تُمكن المؤرخ حال انفتاحه عليها من إضاءة جوانب لا تتيح المصادر التقليدية إمكانية استكشافها.
– القسم الثاني: يتعلق بالأبحاث، حيث يشمل الدراسات التي اهتمت بالتغذية في الغرب الإسلامي والعالم العربي عموما خلال العصر الوسيط سواء منها العربية أو الغربية، بما يقدم صورة واضحة عن الأعمال التي أنجزت بخصوص تاريخ التغذية بالمنطقة المدروسة. وقد عرّف الباحث بهذه البيبليوغرافيا في الفصل الأول من الدراسة، حيث وضع بين يدي القارئ دليلا بيبليوغرافيا قيّما امتد على أزيد من ستة وثلاثين صفحة.
يمكن اعتبار الفصل الأول فصلا تمهيديا، بسط فيه الباحث القول حول المصادر التي اعتمدها، وحول اختياراته المنهجية. كما حدد فيه الإطار التاريخي والجغرافي لدراسته، وقدم فيه عرضا تاريخيا عبارة عن نظرة عامة عن أهم الأحداث التي عرفتها المنطقة، بهدف إبراز العوامل أو العناصر التي من شأنها تبرير الحديث عن غرب إسلامي من حيث الغذاء والمطبخ. فقد حرص على أن يظهر أنه بالرغم من تقطع أوصال العالم الإسلامي سياسيا فإن الروابط الثقافية ظلت قائمة بين مختلف جهاته، بكل ما يحدث في إطارها من تبادل وانتقال للتأثير والتأثر. وبالتالي يكون المجال المدروس هو الأندلس وشمال إفريقيا كإطار جغرافي وسياسي واقتصادي وثقافي.
أما الفصل الثاني فيسجل انطلاقة الدراسة التقنية التي اختارها البحث كهدف لعمله، حيث يتطرق فيه لأنواع الدقيق وتسمياتها لدى العرب، وفي الغرب الإسلامي، والفروق بين هذه الأنواع من حيث درجة الطحن وأسلوب النخل. ويفتح هذا الفصل الباب للتعرف على الأدوات الأساسية المستخدمة في الحصول على مختلف أنواع الدقيق، وهي الطواحين وخاصة المائية منها، والتي يخصها المؤلف بوقفة متأنية، وكذلك الرحى اليدوية التي استمرت في احتلال مكانة هامة في البيوت، حيث يعتبر تحضير الخبز عملا يوميا يكشف عن عادة متجذرة في الغرب الإسلامي وهي استهلاك الخبز طريا. كما تعكس الأشكال المختلفة من الرقاق وتقنيات التوريق تطورا كبيرا في مجال طحن الحبوب يرجع فيه الفضل لهذه الأنواع المختلفة من الطواحين.
وينتقل في الفصل الثالث والخامس للحديث عن الخبز بنوعيه، اليومي أو الخبز العادي، والخبز الخاص أو خبز المناسبات، ليقف على مراحل تحضير هذا الخبزوأنواعه، ليس من حيث نوع الدقيق ونوع الفرن المستخدم في إنضاجه وطريقة العجن فحسب، بل أيضا من حيث المواد المضافة من ماء ومواد تخمير وتوابل ودهون وغيرها، وأيضا من حيث شكل الخبز وسمكه، ومن حيث تصنيف النصوص الطبية له، والمكانة التي تضعه فيها. إذ يوضح الباحث مثلا أن لأنواع الخبز، من حيث نوع الفرن الذي نضجت فيه، ترتيبا هرميا حيث يقع في أعلى السلم خبز التنور بمزايا متعددة على رأسها رطوبته المتوسطة، وفي أسفله نجد خبز الرماد لخشونته التي تجعله لا يلائم إلا الأشخاص الذين يمارسون أعمالا تتطلب جهدا بدنيا كبيرا.
ويعد موضوع الفصل الرابع موضوعا تقنيا بامتياز، بعنوان طريف هو: خبز ونار، يفصل فيه الحديث حول الأفران المستخدمة في طهو الخبز من حيث أشكالها، وطريقة عملها، ومدى جودة منتوجها، وانتشار بعضها في هذه الجهة أو تلك… ومن ذلك مثلا أنه اعتبر التنور من الأفران الهامة بسبب طريقة عمله العمودية، وبساطة بنائه، وجودة طهوه، وتعدد استخداماته، واستهلاكه القليل من المحروقات.
يلاحظ إذا أن الخبز، بأشكاله وأنواعه المختلفة، احتل حيزا هاما من الكتاب، مما يعكس المكانة التي تبوأها في تغذية سكان الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط. إلا أن الباحث لم يبخس أنواع الأغذية الأخرى القائمة على الحبوب حقها، حيث حظيت بعناية كبيرة من حيث الدراسة والبحث، مبرهنا بذلك على أن الخبز لم يكن يشكل وحده قاعدة الغذاء بالمجتمعات الوسيطية في الغرب الإسلامي، بل شاركته أنواع أخرى من الأطعمة المحضرة بالحبوب، ومنها على الخصوص الثريد الذي جعله الباحث موضوع الفصل السادس من دراسته مبينا مكانته لدى المسلمين، والتي ترجع لأسباب دينية، ومفصلا القول في أنواعه، وأشكاله، وتسمياته، وعلاقته بأنواع أخرى من الأطعمة المشابهة، دون أن يغفل وجهة نظر الأطباء بخصوصه.
وينهي الباحث دراسته بفصل سابع أفرده للعجائن والكسكس. وقد حظي هذا النوع من الطعام بنفس الحيز الذي نالته فصول الخبز مجتمعة بحوالي مائة وثلاثين صفحة. وفي هذا الفصل يبرز الكسكس، من بين كل أشكال الغذاء القائمة على الحبوب، كطعام أصيل، بل كرمز للتغذية بالغرب الإسلامي. حيث يستبعد الباحث مقولة جذوره الإفريقية مرجحا أصله الأمازيغي، ومؤكدا أن ولادته كانت بين ساكنة من زرّاع الحبوب المستقرين في شمال غرب المنطقة، أي المغرب والجزائر حاليا، وهو المجال الذي ما يزال الكسكس، حتى اليوم، يسجل فيه هيمنة واضحة على باقي الأشكال الأخرى كالثريد والفداوش والفطائر. وتجدر الإشارة إلى أن الباحث استطاع أن يركز أهم ما توصل إليه في إطار خاتمة جامعة لم تتجاوز بضع صفحات لكنها قيمة جدا.
اعتمد محمد أوبحلي مقاربة تاريخية منفتحة على عدة علوم خاصة الإثنوغرافيا، فقد اعتبر أنه في غياب وصف يهم مواضيع أساسية في دراسته مثل تحويل الحبوب إلى أنواع عدة من الدقيق، وتحضير الخبز، وأنواع الأفران، كان لابد من الحوار بين التاريخ والإثنوغرافيا. كما نلاحظ حضورا لعلم الآثار خاصة في دراسته للأفران، وللغة كأداة للتأصيل وللتفسير أيضا، فقد حظي الجانب اللغوي باهتمام وعناية بالغين من الباحث، وبرزت أدواته بشكل واضح على امتداد العمل. فبالرغم من ثراء المعجم الخاص بمجال تاريخ الغذاء من حيث الأسماء والإجراءات والأشكال، والذي يرتكز على معرفة واسعة لسكان المجال المدروس بمادة الحبوب وطرق تحويلها، فإن ذلك لم يمنع الباحث من خوض غمار الدراسة اللغوية لعالم الخبز والعجائن حيث حرص على التنقيب عن الأصول اللغوية لمصطلحات هذا المعجم، وإظهار ما يختفي وراءها، رغم الصعوبات التي يطرحها التطور الذي عرفته عبر التاريخ والذي جعلها أحيانا توحي بما يخالف الحقائق التاريخية.
لقد برهن الباحث أن لدراسة لغة المطبخ، التي كانت سائدة في الفترة المدروسة، أهمية بالغة في الكشف عن أصول وعن انتشار بعض الأشكال الغذائية المدروسة، لكنه أكد في نفس الوقت، أنه مهما كانت درجة دقة هذه اللغة فستكون غير كافية وحدها للتعرف على كل خبايا تاريخ هذه الأطعمة.
التزم محمد أوبحلي خلال كل مراحل العمل منهجا مقارنا، جعله ينفتح على مجالات ثقافية أخرى مثل المشرق العربي والحضارات المتوسطية وإفريقيا جنوب الصحراء، كما قدم أيضا مقارنات بين مختلف جهات المجال المدروس خاصة بين تونس من جهة، والمغرب والجزائر من جهة ثانية، خاصة عندما تسعفه مصادره وتتيح له إمكانية هذه المقارنة. وقد شملت مقارناته كلا من الممارسات المتعلقة بتحويل المواد وتحضيرها، والأدوات المستخدمة في ذلك، وأيضا جانب الاستهلاك. كما قدم في هذا الإطار تأملات هامة حول انتقال الممارسات الغذائية كاشفا عن بعض قنوات ومسالك هذا الانتقال، حيث وضح مثلا دور العلاقات التجارية بين الغرب الإسلامي وإفريقيا جنوب الصحراء في انتقال العديد من الممارسات الخاصة بالحياة اليومية ومنها المتعلقة بالأكل. كما جعل دراسته تمتد زمنيا إلى ما قبل وما بعد المرحلة المدروسة لإبراز جذور وامتدادات بعض العادات الغذائية. وعند مناقشته للتبادل الثقافي و للتأثير الديني نجده يخرج عن إطار الأساليب والمصطلحات التقليدية، مستخدما مصطلحات جديدة تنسجم ولغة كتابة تاريخ الغذاء. بالإضافة إلى تعزيز العمل بمجموعة من الوثائق تشتمل على خرائط، وجداول إحصائية، ورسومات. وكذلك معجم مفيد جدا خاصة للقراء غير العرب. وبذلك يمكن أن نقول أننا أمام دراسة ذات نفس طويل، منحها تفصيلها في الجوانب التقنية طابع الجدّة والتميز، وجعلتها اللائحة الببليوغرافية الطويلة والمتنوعة التي اعتمدتها تقف على أرضية صلبة ومتينة، كما أكسبها منهجها المقارن، وتأصيلاتها اللغوية، وانفتاحها على علوم أخرى الكثير من العمق في التحليل. وهي بكل ذلك تعد عملا قيما استطاع أن يملأ فراغا حقيقيا في مجال كتابة تاريخ الغذاء بالعالم العربي الإسلامي..
لكن بالرغم من أن الباحث قد أجاد وأفاد بخصوص الأغذية القائمة على الحبوب، والجوانب التقنية والممارساتية المتعلقة بها فإن مجال تاريخ الغذاء بالنظر لاتساعه وخصوبة أرضه، ما يزال في حاجة للمزيد من الدراسة والبحث، فإذا كان هذا العمل قد كشف عن جانب التقنيات والممارسات من خلال كتب الطبخ والطب وهو، بلا شك، جانب بالغ الأهمية ولم تتطرق له الأبحاث السابقة إلا بشكل عابر، فإن هناك جوانب أخرى عديدة تحتاج للاستكشاف، ربما يكون من أهمها العلاقات الإنسانية التي نسجت حول هذا النوع من الأغذية، خاصة أنها احتلت المكان الرئيس في غذاء سكان المنطقة، وبالتالي القواعد التي حكمت هذه العلاقة سواء من حيث الاختيار أو طرق التحضير أو كيفيات الأكل، دون إغفال العادات المصاحبة لكل مراحل إنتاج وإعداد واستهلاك هذا الطعام، بحكم رمزية الطعام القوية ودلالاته المتعددة والمتنوعة. كما يمكن تناول الجانب الطبي أيضا من حيث العلاقة مثلا بين طبيعة الغذاء والأوضاع الصحية لساكنة المجال المدروس. إضافة إلى التحولات التي تحدث على مستوى الذوق والعادات الغذائية والعوامل التي تحكمها، وكذلك المسارات التي تسلكها العادات الجديدة في تنقلاتها وانتشارها. ولذلك فإن اعتماد الباحث على كتب الطبخ، التي تتطرق في العادة لطعام النخبة، غيَّب طعام العامة الذي يكشف عن البنيات الاجتماعية، لأن أطعمة سكان البوادي وعوام الحواضر تترجم مجموع بنيات المجتمع وسلوكياته الغذائية.
ملحوظة: نال هذا المؤلف جائزة المغرب للكتاب برسم سنة 2012 في مجال العلوم الإنسانية