لا يستقيم الحديث عن مسألة العدالة في خطاب الفيلسوف الهندي أمارتيا صن دونما انتباه إلى المشارب والروافد الغزيرة التي نهل منها رؤيته لهذا المفهوم؛ فالرجل، وعلاوة على كونه واحدا من جهابذة الفكر الاقتصادي المعاصر1، قد انخرط في استشكال سؤال العدالة في جو فكري هيمن عليه نقد جون راولز لتصور كل من النزعتين الحدسية والبراغماتية لمفهوم العدالة، وذلك في إطار بلورته لنظريته الخاصة في الموضوع، والتي أرسى قواعدها على مفهوم الإنصاف كما هو معلوم. عبر هذا السجال الذي اتصف بعمق في النظر إلى المفهوم، والذي اجتذب جمهرة من كبار رموز الفلسفة المعاصرة، من أمثال هابرماس وراولز ورورتي ودريدا وريكور وساندل2، عن وعي الفكر الفلسفي المعاصر بالحاجة إلى التأسيس لسؤال العدالة، من حيث كونه سؤالا محددا للكينونة الإنسانية، من خلال تحديد للإطار النظري الذي يتيح تفكيك مفهومها وبلورة نمط مناسب من الاستدلال من شأنه أن يفيدنا في التفكير في الموضوع(ص142)، كما أثبت ذلك النقاش قدرة الفكر الفلسفي على الإنصات لراهنه والتفكير في سؤاله، الذي تبدى هذه المرة في صورة اهتجاس بالعدالة بحسبانها القضية المحورية في زمن ما بعد الحداثة.
1–
فـي نقد راولـز.
اتسمت أعمال راولز حول مفهوم العدالة بطابعها التأسيسي الذي مكنه من الارتفاع بسؤالها إلى مستوى النظرية التي نهل، في سبيل بلورتها، من روافد نظرية متعددة ومختلفة3. وهو ما جعل من أطروحة هذا الفيلسوف مرتكزا لكل من أوكل إلى نفسه مهمة الانخراط في النقاش الدائر، في الولايات المتحدة على الأقل، حول العدالة4. ليس مرد هذه المكانة الفريدة التي تبوأها راولز إلى الفقر النظري الذي هيمن على مفهوم العدالة إبان عقد هذا المفكر لمصنفه حولها كما ذهب بعض الباحثين5، بقدر ما إن الغاية من إعادة التأسيس للعدالة أينع في ضوء قناعة بالمنزلقات والمفارقات الكثيرة التي يقود إليها التصور الذرائعي الذي استتب له أمر احتكار القول في العدالة قبيل ظهور تصور راولز. يعترف صن بالقيمة الفكرية لنظرية راولز، ولا ينفك ينبه قارئه إلى المنعطف الكبير الذي أحدثته هذه النظرية في تاريخ الفكر السياسي والأخلاقي، لذلك فإنه لا يجد حرجا في الاعتراف بأن أطروحة هذا الفيلسوف ستشكل المنطلق والقاعدة النظرية التي عليها ستتأسس نظريته(ص81)، أو لنقل فكرته عن العدالة. لذلك فإن نقد كتابنظرية العدالة في خطاب صن لا يعني أبدا هدم وجه نظره أو تقويضها، بقدر ما يشي بمحاولة جدية لاستثمار مكتسباتها والتنبيه على المغالطات التي ما فتئت تعتريها، في أفق شق دروب جديدة أمامها. وإذا كان اللقاء براولز بالنسبة إلى صن، قد تم في مناسبات عدة؛ من قبيل نقد التصور الذرائعي والنزعة الجماعاتية، وعلى مستوى أكثر من مفهوم ، فإن المنطلق في هذا اللقاء تجلى في مفهوم الإنصاف الذي يبقى العمدة في رؤية راولز للعدالة كما هو معلوم. لذلك نقرأ لصن في هذا المقام؛ “إن إسهامات راولز الكبرى في فكرتي الإنصاف والعدالة تستحق التنويه؛ غير أنني بينت أن في نظريته عن العدالة أفكارا تستلزم فحصا نقديا، بل وتغييرا. لقد وضح لنا جيدا تحليله للإنصاف وللعدالة، للمؤسسات والسلوك، فهمنا للعدالة. كما أن تحليله ذلك لعب وما يزال دورا تأسيسيا في تقدم نظرية العدالة. بيد أننا لا نقدر على جعل عالم تفكير راولز نقطة نهاية فكرية. يجب علينا أن نستثمر غنى أفكاره ومواصلة عمله، عوض الاكتفاء بمكاسبها”(ص106).
وفي هذا المضمار يمكن للقارئ في أعمال راولز أن يفطن إلى صعوبة إحداث ميز واضح المعالم بين الإنصاف والعدالة في خطابه. إذ أطنب في التأكيد على التماهي الجوهري الحاصل بين المفهومين، هذا إن لم يكن الإنصاف شرطا قبليا لكل تفكير مشروع في موضوع العدالة، حيث يغدو تصور هذه الأخيرة نتيجة لما رسخ في أذهان الأفراد حول مفهوم الانصاف. يؤكد صن بدوره على هذا المعطى، معتبرا أن أي نظر في مشكلة العدالة لابد له أن يتم في اتصال بسؤال الإنصاف(ص83). لا يعني هذا الموقف، وخلافا لما يبدو عليه منذ الوهلة الأولى، استسهالا من صاحبه للطابع الإشكالي الذي يتسم به مفهوم الإنصاف في متن صاحب نظرية العدالة، إذ سرعان ما ينبه قارئه إلى الصعوبات التي تستوقف كل من ينتدب نفسه لفض شفرات هذا المفهوم ذي الصبغة السياسية. لذلك وجدنا صن ينتهج أسلوب التعريف بالسلب في تحديده لمعنى الإنصاف قائلا: “[إننا نقصد بالإنصاف] ألا نكون أنانيين في تقديراتنا، وأن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين واهتماماتهم، وسيكون علينا تحديدا أن نتجنب هيمنة مصالحنا وأولوياتنا علينا”(ص83).
يمكن للباحث أن يلحظ كيف أن شرط النزاهة، أو عدم الانحياز في تقييم الأوضاع، هو ما يمثل ماهية فكرة العدالة كإنصاف في تصور كل من راولز وصن. لذلك فإن هذا الموقف يبقى في حاجة إلى الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن لمثل هذه الوضعية المحكومة بالإنصاف أن تينع في كنف الصراعات التي يرشح أمرها في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي تغلب عليها وضعية اللاعدالة (الظلم) وغياب الإنصاف؟ أو بصيغة تساؤلية أكثر اتساعا نقول: هل من المشروع الحديث عن وضعية تأسيسية لحالة العدالة المنصفة رغم كل المؤشرات، الغزيرة والقوية، على غياب العدالة والإنصاف؟.
للخروج من هذا المأزق النظري وظف راولز مفهوم “الوضعية الأصلية” الذي مكنه من افتراض حالة ابتدائية يغلب فيها على كل الفاعلين الوعي بموقعهم ضمن المجتمع ككل ناظم لمختلف المصالح. يقول صن معرفا لهذه الوضعية: “إنها وضعية أولية ومتصورة تهيمن عليها المساواة، يكون الفاعلون فيها جاهلين بهويتهم الخاصة وكذا بالمصالح المشتركة الواجب احترامها في كنف المجتمع”(ص84). يتعلق الأمر إذن، ودرءا لكل سوء فهم، بوضعية افتراضية6 يستوي أمرها على مقتضى المساواة في الفرص بين جميع الأطراف، أي أن ثمة مساواة على صعيد حرية كل فرد في الاختيار الذي يستجيب لمصالحه في ضوء جهل (مفترض على الأقل) بقواعد اللعبة التي تدير مختلف العلاقات المتصورة بين الأفراد. يشدد راولس في كتابه نظرية العدالة على شرط الجهل المؤسِس (أو الغفلة) في تحديد التقاسيم العامة لمبادئ العدالة التي تنبثق من وضعية الجهل تلك، والتي يكون عليها أن تسهم بشكل جوهري في تحديد شكل المؤسسات القادرة على الإدارة الجيدة للمجتمع الذي وجدت فيه. هكذا تتحدد طبيعة الوضعية الافتراضية انطلاقا من التضارب العفوي والطبيعي بين مصالح الأفراد، وسيكون على نظرية العدالة أن تضفي نوعا من المعقولية على تلك الوضعية بأن تكشف عن الكيفية التي تتناسل بها تصورات الأفراد عن العدالة انطلاقا من وضعيتهم الأصيلة.
نتبين في أعقاب ما تقدم كيف أن فكرة الإنصاف سرعان ما تنفلت من شرنقتها التأملية لتهوي في مجال السياسة وتدبير المجتمع، لذلك لم يتردد راولز في وصف نظريته، ومنذ سنة 1993، بأنها تصور سياسي للعدالة(ص85)؛ إذ إن الأفق الذي يستشكل في ضوئه سؤال العدالة عامة هو أفق السياسة والاجتماع الذي ينأى برؤيته عن جل المقاربات التأملية، الأمر الذي يفسر لنا امتعاض الرجل من التأويلات التأملية والنظرية التي نسبت إلى نظريته. وضدا على هذه الاعتبارات التي لم يتردد في التصريح بأن نظريته في غنية عنها، ذهب الفيلسوف الأمريكي إلى القول إن ما يهمه من نظره في العدالة هو تحديد الوظيفة العاجلة التي يجب على الفكر السياسي النهوض بها7. هذا رغم صلته الوثيقة بأبرز النظريات الفلسفية وعلى رأسها تلك التي نحث فلاسفة العقد الاجتماعي ملامحها.
هاهنا يمكن أن نلاحظ أن راولز، وفي مضمار بلورته لمفهوم “البنية القاعدية” إنما حافظ على بعض تقاسيم نظرية العقد الاجتماعي، وذلك بأن أبقى على إمكانية التوصل إلى اتفاق مبدئي حول الخلافات السياسية الكبرى شريطة أن يتوفر الأفراد، المنتمون إلى مجتمع بعينه، على تصور معقول عن العدالة(ص85). إن أهمية توفر الفاعلين على مثل هذا التصور إنما مرده إلى ما يتيح لهم ذلك من فرص لفتح نقاش عمومي للنظر في شأن القضايا السياسية البارزة، ويخص فيلسوفنا بالذكر ما تعلق منها بالأسئلة المؤسساتية ذات الصلة بالعدالة8. لا يعني هذا أبدا أن الاختلاف، من حيث هو مبدأ مؤسس، لا محل له ضمن هذا التصور التعاقدي؛ إذ يبقى من المنتظر أن تطفح على سطح الحياة الاجتماعية اختلافات حول قضايا ذات صلة بالاجتماع من قبيل الدين والعرق والعقيدة والأخلاقيات العامة…الخ، بيد أن النقاش العمومي يبقى قادرا في نظر راولس، على صهر العوائق التي تحول دون تقديم تنازلات من طرف كل الأفراد حول هذه القضية أو تلك. من هنا تنبع أهمية الفضاء العمومي؛ إذ بفضله يحقق الأفراد شرط وجودهم السياسي بأن ينخرطوا في المناقشة الحرة لكل القضايا المتعلقة بمجتمعهم، مما يأذن لهم بتحقيق القدر الضروري من العدالة والإنصاف بين مواقفهم المختلفة.
وإذا كان الأفراد، من منظور راولز، كائنات سياسية بمقدار ما إنهم قادرون على الاختيار الحر، فإن قوة نظريته إنما تنبع حسب صن من كونها تعتبر المبادئ الأولى للعدالة نتيجة لتلك الاختيارات العفوية التي يقوم بها الأفراد وهم في وضعهم التأسيسي. يعني هذا القول أن مثل هذه الاختيارات المبدئية من شأنها أن تترجم تمثلات الأفراد عن العدالة ورؤيتهم الضمنية لها. وفي ما يتعلق بهذا المنظور، فإن ما يهم راولز هو ما يكشف عنه ذلك من تصورهم للإنصاف بما هو أس العدالة وجوهرها. ومهما يكن من أمر، فإن الثابت في نهاية المطاف هو أن مقاربة الفيلسوف الأمريكي لمسألة العدالة إنما رامت بيان الكيفية التي تنبثق وفقها المبادئ المؤسسة لها، والتي صاغها، ومن بعده أمارتيا صن، كما يلي:
– لكل فرد الحق في الحصول على الحريات الأساسية على نحو متساوي مع غيره.
– هناك شرطان أساسيان يجب على التباينات الاجتماعية أن تستجيب لهما إن هي أرادت أن تحظى بقدر معقول من المشروعية؛ أولهما الحاجة إلى تعميم الاستفادة من كافة الفرص على جميع الأفراد، وثانيهما تمكين الفئات الأكثر تهميشا من الاستفادة بدورها من عائدات وخيرات تلك الفوارق9.
يحسن بنا بداية، أن ننتبه إلى المكانة الشرفية التي تتبوؤها الحرية ضمن هذا التصور حسب صن؛ إذ إن صاحبه أبى إلا أن ينأى بها عن اعتبارها مجرد وسيلة، من بين وسائل أخرى، يمكن الاعتداد بها لتحقيق غايات معينة(ص90). كما يجب أن نفطن إلى جملة الصعوبات المؤسساتية التي تمكنت نظرية راولز من التخفيف من حدتها؛ وبيانه أن تشديد المبدإ الثاني على حاجة العدالة إلى الانفتاح على فكرة تكافئ الفرص إنما عبر عن حاجة مؤسساتية لا يمكن تجاهلها في أي مجتمع، إذ من شأن ذلك أن يوقع في إخراج شرط المواطنة من سياقه السياسي ليغدو محكوما بأولويات لا سياسية كالعرق أو الدين أو الثقافة…الخ.
تتيح هذه النظرية إذن تعميم الاستفادة من الخيرات الأولية على الجميع، وهو ما يعني أن الإنصاف يتضمن تكافؤ الفرص بالضرورة. بيد أن المأزق الذي يستوقف تصور راولز في هذا المضمار هو أن الحرية تعتبر بدورها، وبجهة من الجهات، من جملة تلك الخيرات الأساسية التي يجب على الجميع الاستفادة منها، الأمر الذي يهبط بها إلى منزلة الوسيلة التي أطنب الفيلسوف الأمريكي في القول إنها مجافية لأهمية الحرية(ص90) ومقامها. وهو ما فطن إليه صن في تعليقه على مبادئ راولز، إذ يلحظ أن هذا الأخير يحشر الحرية ضمن الخيرات الأولية، كما أنه ينبه على جملة الاعتبارات الحقوقية التي لا يحتفل بها دون سبب يذكر، رغم علاقتها البينة بمسألة العدالة، والتي يبقى من بينها تصور الرجل لموقع الأفراد في الاتفاق التأسيسي الذي يحدد مستقبل العدالة بينهم.
هذه باختصار هي التقاسيم العامة لنظرية راولز كما حددها صن، ويبقى من النافل القول إن رؤيته هذه قد أسعفت البحث في مجال الفكر السياسي والفلسفة الأخلاقية بحل لكثير من القضايا التي ظلت عالقة، وذلك بأن ضخت جملة من المفاهيم الإجرائية يبقى على رأسها مفهوم الإنصاف الذي أعاد ترتيب أوضاع العدالة بأن فتح أمام تصورها آفاق التوزيع العادل وكشف عن شرط النزاهة كمحدد قبلي لفهم الأفراد لها. أضف إلى ذلك، ووفق رصد صن لمظاهر إسهام راولز، أهمية اعتداد هذه النظرية بمفهوم الموضوعية بحسبانه “العنصر الأول” الذي يعري على الحاجة إلى نقاش عمومي حر وواعي حول العدالة. ويمكن أن ننتبه في هذا السياق إلى أن تحصيل وعي بالموضوعية من شأنه أن يقود الأفراد إلى التفكير حتما في سؤال العقلانية؛ أي هل يمكن للاختيارات الفردية أن تخضع لمبدإ العقلانية في الحياة الاجتماعية اليومية أم لا؟ من المؤكد أن السؤال ينأى بنفسه، ظاهريا على الأقل، عن كل المقاربات المثالية، وقد يكون من علامات ذلك تمييز راولز الواضح بين العقلاني والمعقول، وهو تمييز سرعان ما يلقي بظلاله على فهم الرجل للحرية التي تحتل في كتاباته مقام الصدارة. ورغم الغموض النسبي الذي يكتنف موقفه بشأن ما إذا كانت الحرية من جملة الخيرات الأولية (الضرورية) التي يمكن تحويلها إلى وسائل، أم إنها تتنطع من شرنقة النظرة الآداتية لها، فإن الثابت في نهاية المطاف هو أن فيلسوفنا يكل إليها مهام أخرى على علاقة بما هو شخصي وفردي، حينها تغدو الحرية علامة على طبيعة العلاقة بين المجال العمومي والمجال الخاص، وهي بذلك تكشف لنا عن مقدار إنصاف الكل في ما يتعلق بحرياتهم الشخصية وانفتاحهم على الفضاء العمومي حسب صن(ص95). هذا ولا يمكن أن نذهل في نظر هذا الأخير عن أهمية سهم راولز في تنبيه العلوم الاجتماعية إلى مسألة اللاتكافئ، وذلك بأن نبه مبدأ الاختلاف كما رأينا على خطورة أن تهوي العدالة إلى دركها.
بيد أن أهمية هذه النظرية ليست تنحصر في ما أفادت به الفلسفة السياسية فقط، بل إنها تشمل الآفاق النظرية التي أتاحتها مساجلتها من طرف العديد من الفلاسفة، والتي ركزت على إظهار الثغرات التي تعتور تصور راولز. يميز صن في هذه الأخيرة بين ضربين؛ ثغرات يمكن تشذيبها لتجد مكانتها المنطقية ضمن عناصر النظرية، وأخرى سيكون من الضروري اعتبارها مظاهر أزمة تشي بإمكانيات مجاوزة نظرية راولز. كيف ذلك؟
نبادر أولا إلى التنبيه إلى بعض الأمور التي يمكن إعادة موقعتها ضمن نسق راولز في نظر صن، من قبيل مغالاته غير المبررة في الإعلاء من شأن الحرية قياسا بغيرها من الأولويات الضرورية10، وكذا تشديده على أسبقية التوزيع العادل للثروات الذي أفضى إلى عدم إعطاء القدرات الشخصية للفرد قيمتها الحقيقية. ويمكن أن نلاحظ أن السير بهتين القضيتين صوب تصور صن لا يقود بالضرورة إلى خلخلة نظرية راولس، بقدر ما يعطيها قوة إجرائية أوسع وأشمل.
في مقابل ذلك، يرصد الفيلسوف الهندي عددا من النقاط التي تعبر عن مأزق فعلي من شأنه أن يحمل الفكر السياسي على مجاوزة نظرية راولز، يذكر لنا من بينها مغالاة صاحبها في الإعلاء من شأن دور المؤسسات في تجسيد العدالة وتحديد معناها(ص100)، الأمر الذي يحجب عنا الدور الفعال الذي يؤديه سلوك الأفراد في نحت معنى هذا المفهوم. وبيانه أن اللهث وراء وضع مبادئ للعدالة لا يعني أبدا وضع اليد على وجودها الواقعي من جهة، ولا على تمثل الأفراد لها من جهة ثانية. لذلك فإن السؤال المطروح ليس ينحصر في اختيار المبادئ العقلانية للعدالة وتمثل الأفراد لها وكذا المؤسسات المتمخضة عنها، بل يستشكل بالدرجة الأولى كيفية “اشتغال المؤسسات التي تم اختيارها في عالم في عالم قد لا يتطابق فيه دائما السلوك الواقعي لكل فرد مع السلوك العقلاني المأمول في تحقيقه”(ص100). إن هذه الرؤية العقلانية المفارقة تجد جذورها في نظر صن في كون راولز ظل يبحث عن ذلك التعاقد الاجتماعي الذي يمكن للجميع أن يتقبله، على الأقل في ما يتعلق بالوضعية التأسيسية أو الأصلية. وذلك في مقابل التصور الذرائعي الذي عمل صاحب نظرية العدالة على إظهار تعارضه مع التصور التعاقدي.
يلاحظ صن أن التركيز على المقارنة بين هذين الموقفين قاد راولز إلى ارتكاب خطإ منهجي تمثل في إغفاله استثمار بعض المقاربات التي لا تقل أهمية عن التصور التعاقدي والذرائعي. ويمكن أن نشير في نظره إلى التصور الذي بلوره آدم سميث في أعقاب لجوئه لآلية “الملاحظ النزيه” من أجل تعميق النظر في مسألة الإنصاف. إن هذا النموذج لا يصدر عن مسلمات أية واحدة من المقاربتين، وهو ما يفسر لنا قدرته على فتح آفاق أمام التنظير للعدالة والإنصاف معا. الأمر الذي يؤهله إلى تحقيق أمور تقع خارج آفاق مقاربة العقد الاجتماعي. ويذكر صن من بين ذلك قدرته على إعمال مقاربات مقارنة عوض الاكتفاء بتقديم حلول متعالية(ص102). وكذا اعتماده على الموقف والمعطيات الاجتماعية بدل الاكتفاء بالاكراهات المؤسساتية والقانونية، الأمر الذي يتيح لنا إمكانية التفكير في العدالة انطلاقا من السعي إلى تبديد اللاعدالة. هذا بالإضافة إلى إمكانية الانفتاح على مواقف الأشخاص البرانيين عن الجماعة التعاقدية من أجل استشراف معالم عدالة موسعة أو عالمية خلافا لما ذهب إليه راولز. وبيانه أن مسلمات الوضعية الأصيلة لم يكن لها إلا أن تقود إلى حصر امتداد العدالة في الأفراد المشمولين بالتعاقد. يرفض صن هذه الرؤية الضيقة للعدالة بالقول إن النظر إلى العدالة داخل بلد ما لابد أن يجرنا إلى الخروج عن حدوده واستشراف معالم العالم الخارجي الذي ما ينفك يتدخل في مسار العدالة داخل هذا الوطن أو ذاك. أما مرد ذلك فإلى سببين في نظر الفيلسوف الهندي؛ أولهما أن كل بلد يمكنه أن يؤثر في غيره من حيث كيفية اشتغال مؤسساته السياسية، وهو ما يتبدى جليا من حدث كغزو العراق أو محاربة الإرهاب(ص103). وثانيهما يتعلق بقدرة الآخر على التأثير في المعايير والقيم الأخلاقية بالنسبة إلى كل كيان سياسي. لذلك قد يكون النقاش العمومي المنفتح على آفاق كونية أفيد من الاكتفاء بنقاش ذي بعد محلي، وهو العيب الذي ظل يسكن مقاربة راولز للعدالة، إذ سرعان ما هوت في رؤية ضيقة جعلت من العدالة مسألة جهوية. ولئن كان من الصعب اتهام راولز بجهوية مقاربته، وهو الذي ظل مهووسا بنظرية للعدالة شاملة، فإن الحديث عن كونية العدالة لا يخلو هو الآخر من مفارقات لم يعرها صن اهتمامها الذي تستحق في تقدري، إذ العدالة ليست مجرد فكرة يمكن أن نأقلمها دون أن تتلون بخصائص الفضاء الذي ولجت إليه11.
-2-
في الحاجة إلى الاختيار الاجتماعي
وبعد فراغه من بسط القول في نظرية راولز، عرج أمارتيا صن على النظر في واحدة من أبرز النظريات التي تمت بلورتها في تاريخ التفكير في سؤال العدالة، والتي نقصد بها نظرية الاختيار الاجتماعي التي تعود في أسسها إلى القرن الثامن عشر. هيمنت طموحات العقلانية الأنوارية على الجو الفكري الذي أينعت فيه هذه النظرية، وقد تبدى ذلك في رهانها على إرساء ركائز نظام اجتماعي معقلن، خاصة وأنها نشأت على وقع الاهتزازات العميقة التي خلخلت ثوابت المجتمع الفرنسي بعد ثورته السياسية. رمى منظرو الاختيار الاجتماعي، والذين كان بعضهم من بين وجوه الثورة البارزين ككوندرسيه، إلى عقلنة الحياة الاجتماعية من خلال عقل قانونها الذي بمقتضاه يمكن تجنب الاعتباط وعدم الثبات في الطرق المعتمدة في مجال الاختيار الاجتماعي(ص126)؛ أي “إن عملهم [=مؤسسي تلك النظرية] تركز في بلورة إطار لاتخاذ القرار العقلاني والديمقراطي، الذي يمكننا من أن نأخذ بعين الاعتبار رغبات ومصالح كل أفراد الجماعة”(ص126). ورغم الانطباعات المتشائمة التي هيمنت على نتائج أصحاب هذه النظرية، فإن جمهرة من المهتمين بمسألة العدالة في الأزمنة المعاصرة عملت على إحيائها وإعادة الاعتبار إليها، وقد كان من بين هؤلاء حسب صن كنث أرووKenneth Arrow الذي أعطى لنظرية الاختيار الاجتماعي صيغتها المؤسسة والتحليلية، وذلك بعد تشديده على إمكانية تلاؤم كل قرار اجتماعي مع جملة من الشروط القابلة للتطوير، وهذا ما وصفه هذا الباحث بالقرار العقلاني. عبرت هذه الرؤية عن محاولة للرهان على العقل والعقلانية من أجل تحقيق شعارات الأنوار، بيد أن مصيرها لم يحد عن المآل العام الذي كان في انتظار شعارات الأنوار غب اندلاع الحربين العالميتين، حيث نظر إلى مأساة الإنسانية بحسبانها سليلة المقامرة على العقل والعقلانية. ومهما يكن من أمر، فإن الملاحظ حسب صن هو أن منظري العدالة قد رغبوا عن نظرية الاختيار الاجتماعي بالنظر إلى طابعها العقلاني الفاقع، خاصة وأن ثلة ممن نحتوا مفاهيمها الأساسية كانوا رياضيي التكوين، فكان من المنتظر حسب خصومها أن تظهر هوة سحيقة بين المنهج الرياضي المعتمد في تحليلاتها، وبين الواقع الذي تروم فهمه وتغييره(ص130). كما كان من الطبيعي أن تبدو مواقف فلسفية على قدر أكبر من التعقيد والتجريد، من قبيل ما ألفه كانط وهوبس وراولز في شأن العدالة، أبسط وأدق من مقاربة نظرية الاختيار الاجتماعي للمفهوم12.
ههنا يكون فيلسسوفنا قد شخص أبرز الملامح العامة للرؤية السائدة عن العدالة في الأوساط الفلسفية الأمريكية المعاصرة، والتي تقوم في نظره على أنقاض الاختيار الاجتماعي، فسرعان ما تجد نفسها في مضمار مقاربة متعالية كانت أطروحة راولز من أبرز نماذجها. وضدا على هذا الموقف المتسرع من الاختيار الاجتماعي، يدعو صن إلى إعادة النظر في أهمية تلك النظرية، الأمر الذي يستدعي في نظره قلب الموقف الرافض لها، صادرا في ذلك عن اعتقاده بأن “في نظرية الاختيار الاجتماعي جوانب عديدة يمكن أن تجني منها نظرية العدالة فائدة كبيرة”(ص130). هكذا، يمكن القول إن الموقف من هذه النظرية يشكل واحدة من نقاط الخلاف بين صن وراولس، فما الداعي إلى إعادة الاعتبار إلى مثل هذه النظرية من طرف الفيلسوف الهندي؟
يعرف صن هذه النظرية قائلا: “تهتم نظرية الاختيار الاجتماعي، بحسبانها تخصصا معياريا، بالأساس العقلاني للأحكام الاجتماعية والقرارات العمومية التي ينبغي أن تجمع بين آراء عديدة. تقدم نتائج هذه النظرية نفسها في شكل ترتيب لمختلف الوضعيات انطلاقا من ‘وجهة نظر اجتماعية’، وذلك في ضوء آراء الأفراد المعنيين”، من هنا يمكن أن نلمس في نظره الفرق الكبير بين هذه المقاربة وتلك التي تبحث عن معيار مثالي للعدالة كالتي بلورها هوبس وراولز ونوزيك. إذ لم ير صن في محاولات راولز الرامية إلى الإجابة عن السؤال: ما هو المجتمع العادل؟ غير حضور لنزعة متعالية(ص132)، بل ومثالية، في تضاعيف نظرية هذا الفيلسوف. هذا في حين أن التصور الترسندنتالي للعدالة لا يمكنه أن يفيدنا في الرفع من منسوب العدالة في المجتمع ودرء اللاعدالة فيه، بمقدار ما يعمل على صياغة برنامج عمل متعالي عن الهموم التي تحمل الناس على الاهتجاس بسؤال العدالة أصلا، من قبيل التفكير في مسألة المجاعات والفقر والأمية والعنصرية وتهميش النساء والحرمان من التغطية الصحية…الخ(ص131). نعم، يمكن القول إن كتابات راولس تنضح باستحضار لمثل هذه الوضعيات الاجتماعية الحرجة، بيد أن صن لا يعتبر ذلك علامة فارقة على تحصيل وعي بالدرب الأقرب إلى فهمها وتحليلها، مادام أن صاحبها يصدر عن رؤية متعالية، ولا يكفي تشديد البعض على تضمن هذه الرؤية لمقاربة مقارنة، مادام أن بعضا من جهابذة هذه النزعة يقر بوجود قطيعة بينها وبين النزعة المقارنة.
يمكن القول إذن، وفي أعقاب ما تقدم، إن أمارتيا صن، وبموقفه النقدي من النزعة الترسندنتالية، إنما يفتح أفق المراجعة الشاملة لتاريخ الفكر السياسي والأخلاقي الحديث وللتقليد الذي ينتمي إليه، والذي ظل ينهل من مختلف روافد تلك النزعة. لذلك يبقى من البين بذاته أن سجال صن مع روادها إنما عبر عن محاولته الرامية إلى مراجعة واحدة من المسلمات التي ظل الفكر السياسي الحديث يصدر عنها في بلورته لمفهوم العدالة، وتبقى مسلمة المقاربة المتعالية من أظهرها؛ إذ تستمد شرعيتها من اعتبارها مسلمة كافية وضروريةللوصول إلى فهم معقول لمفهوم العدالة. فهي كافية، في نظر أصحابها، لأنها لا تستدعي غيرها من الأفكار والمسلمات في بلورة هذا مفهوم، وضرورية لأن هذا الأخير ليس من شأنه أن يكون بدونها، فهي مقوم من مقوماته الذاتية(ص133). بيد أن قراءة متأنية ونقدية لهتين الفرضيتين (الضرورة والكفاية) من شأنها أن تكشف لنا، حسب صن، عن الضعف الذي يعتور التصور الذي يقوم عليها. كيف ذلك؟
نبدأ أولا بالنظر في صفة الكفاية التي تؤسس للنزعة الترسندنتالية، إذ يبادر صن إلى القول إن ثمة من الفروق التي تظهر بين وضعيات الأفراد في المجتمع ما يتنطع عن آليات هذه النزعة(ص134). لذلك، ورغم اعتمادها على طريقة مقارنة الاختلافات والفوارق، ورغم تحقيقها بعض النتائج الجزئية، فإنها ظلت عاجزة عن تقديم فهم معقول لكيفية التعامل مع التباينات الاجتماعية التي يصدر عنها الأفراد في وعيهم بالعدالة. وقد كانت تلك حال نظرية راولز التي ارتكزت على فرضية التعاقد التأسيسي ورامت إعمال منهاج لفك شفرات العدالة الاجتماعية وتوزيع الخيرات، بيد أن هذه المناهج كانت وما تزال سليلة التصور المقارن للعدالة، وهي بذلك مجافية لروح المقاربة المتعالية التي صدر عنها راولز(ص135). إن هذه الأخيرة كانت تتغيا تحديد المجتمع الأعدل بامتياز، وهي من هذه الجهة تلهث وراء المطلق الذي لا مكان له في عالم الناس الذي لا يسعفنا إلا بالحديث عن مستويات للعدالة، لذلك فإن النظرية الأفيد في هذا الباب هي تلك التي تعلمنا كيف نقيس مقدار تطور مستوى العدالة ومنسوبها في المجتمع، وذلك من خلال عقد مقارنات بين مختلف الوضعيات، ودونما محاولة لإسقاط مفهوم متعالي عن العدالة والتنقيب عن ملامحه في هذا المجتمع أو ذاك. يقول صن في هذا المضمار: “إن اختيار ما هو مطلق، ما هو عادل بشكل متعالي، …يمكنه هو أيضا أن يتأسس على استدلال قوي…لكن من المؤكد أنه لن يفيدنا أبدا- وهذا هو الأهم في مقامنا هذا- في إنجاز تقديرات مقارنة لدرجات العدالة، وبالتالي في الاختيار بين السياسات الممكنة”(ص136). هكذا يكون العيب الأساسي الذي يعتور التصور المتعالي هو لهثه وراء تحديد، قبلي ربما، لماهية المجتمع العادل. وهو عينه ما يفسر لنا القصور الذي رشح أمره في فهم هذا التصور للعدالة، هذا في حين أن ما نحتاج إليه اليوم هو التفكير في سبل ناجعة للتقليص من حجم اللاعدالة في المجتمع. مما يعني أن العدالة تتحدد بنقيضها، ومعيار وجودها في المجتمع هو مقدار غياب ذلك النقيض؛ اللاعدالة.
الملاحظة عينها تنسحب على موقف صن من خاصية الضرورة التي غالبا ما تذرع بها أصحاب النزعة الترسندنتالية، إذ يؤكد، وخلافا لراولز، أن التوفر على تصور مطلق عن العدالة ليس من شأنه أن يكون ضروريا من أجل إقامة نظرية حولها. بذلك تفتقد هذه النظرية خاصيتي الضرورة والكفاية، وهو ما يشي بإمكانية الحديث عن مجاوزة لها بعد أن غدت مفتقرة إلى ما تحتاز به الشرعية. هاهنا يمكن لمعترض القول إن نقد صن للنزعة الترسندنتالية وعمله على الانتصار للتصور المقارن إنما يصدر عن تسليم بوجود قطيعة تامة بينهما، رغم إعلانه سلفا عكس ذلك. ولعل من آيات ذلك أن نقده للنزعة المتعالية تم بمعزل عن أي استدعاء لعيوب التصور المقارن، وكذا للعلاقات المتصورة ينهما، الأمر الذي من شأنه أن يحجب عنا حقيقة التداخل الحاصل بين الرؤيتين.كما من شأنه أن يغلق أمامنا أفق التفكير في مدى توفر النزعة المقارنة على تلك الشروط التي بين فيلسوفنا أنها تعوز التصور المتعالي. بيد أن صن يبادر إلى القول إن التداخل الموجود بين التصورين لا يعني أبدا أنه يمكن للمقاربة المقارنة أن تسقط في شرك التصور المطلق للعدالة على نحو ما تفعل نظيرتها الترسندنتالية(ص138). وإذا كانت صفة العقلانية هي أبرز ما يجمع بين وجهتي النظر تينك، فإن ذلك لا يعني أن ارتياد درب العقلانية لا يمكن إلا أن يقودنا إلى مآل متعالي، لذلك وجب التمييز بين المقاربة العقلانية للعدالة، كتلك التي تصدر عنها نظرية الاختيار الاجتماعي، وبين المقارنة المتعالية التي تفضل الإجابة عن سؤال ترسندنتالي يحدد أفق الجواب بشكل مسبق(ص142).
هكذا يحدد صن الإطار النظري الذي ستتحرك فيه مقاربته لمفهوم العدالة؛ إنه إطار نظرية الاختيار الاجتماعي التي، ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت لها، تبقى نظرية يمكن استثمارها كما سبق الذكر، في فتح أفق جديد للنظر إلى العدالة بعيدا عن أوهام النظريات الكليانية والمتعالية. كيف ذلك؟
يرى صن أن في نظرية الاختيار الاجتماعي جملة من المعطيات المهمة التي يجب على نظرية العدالة استثمارها إن هي أرادت أن تصير نظرية نافعة وفعالة. والتي يذكر من جملتها ما يلي: أنها تركز على التصور المقارن وليس على المقاربة الترسندنتالية؛ فهي من هذه الجهة تهتم بتحليل الكيفية التي يتخذ بها قرار الأفراد العقلاني واختيارهم الاجتماعي، عوض التساؤل عن السبيل إلى مجتمع عادل بإطلاق(ص142). كما أنها تتسم بالاعتراف بالمبادئ المنافسة لها في النظر إلى العدالة، إذ إنها تصدر عن تصور منفتح على التعدد والاختلاف بحسبانهما العمدة في مقاربة مثل هذه الإشكالية مما يتيح أمامها رسم أفق تأويلي شاسع(ص144). هذا إضافة إلى قدرتها على إعادة المراجعة والفحص المستمر، الأمر الذي يحول دون التخندق في قناعات نهائية من شأنها أن تحجب عنا التطورات الحاصلة على مستوى الواقع، لذلك فهي في حاجة إلى تبني الحلول الجزئية وفق ما تقتضيه استراتيجية عملها. فهي من هذه الجهة تقابل الحلول الشمولية والمتعالية وما يدخل في مضمارها من حديث عن بنية قاعدية أو اتفاق تأسيسي كلي…الخ13.
هكذا تتبدى أهمية التفكير العمومي (أو النقاش العمومي) باعتباره روح الممارسة الديمقراطية التي أينعت نظرية الاختيار الاجتماعي في تربتها؛ فهذه النظرية “تعطي الأولوية للنقاش العمومي رغم أن جل مؤسسيها كانوا رياضيي التكوين”(ص147). بل إن البرهان الرياضي أسهم في الدفع بالنقاش العمومي حول العدالة بعيدا جدا في نظر صن، فمفارقة كوندرسيه بخصوص التصويت، وكذا مبرهنة أروو مثلتا عدة منهجية أفاد منها ذلك النقاش كثيرا(ص147)، وهو ما يكشف عن الحاجة إلى إعادة النظر في اللغة باعتبارها المجال الذي يتحقق من خلاله النقاش العمومي حول العدالة14، الأمر الذي فطنت إليه نظرية الاختيار الاجتماعي بتشديدها على تدقيق الألفاظ المستعملة في مثل هذا النقاش درءا لكل ضروب المغالطات التي يمكن أن تنبع من سوء فهم لهذه الكلمة أو تلك(ص146). على هذا النحو من النظر ينأى صن بمقاربته للعدالة عن كل التصورات المثالية والمطلقة، ويأبى إلا أن يحدد إطارا عمليا لموقفه الذي، وبمقدار ما يروم الانفلات من قبضة العقلانية المثالية والمتعالية، فإنه لا يتنكر لمبدإ العقل ويعتبره تأسيسيا في كل نظرية عن العدالة. يقول صن في هذا المقام: ” يقدم هذا العمل نظرية عن العدالة بمعناها الواسع. وعوض اقتراح جملة من الأجوبة على بعض الأسئلة المتعلقة بطبيعة العدالة الكاملة، فإنه يروم بيان تحديد الكيفية التي تمكننا من الرفع من مستوى العدالة وتجنب اللاعدالة”(ص13).
إن النظرية التي يروم فيلسوفنا بلورتها إنما تحدد العدالة بالسلب؛ وذلك من خلال البحث عن آليات وسبل تمكننا من تقليص حضور اللاعدالة والظلم، والعمل في الآن ذاته على الرفع من منسوب العدالة في المجتمع. صحيح أن الرؤيتين معا، أي تلك التي رسخها راولز وتلك التي استلهمها صن من نظرية الاختيار الاجتماعي، تصدران عن نية واحدة تتمثل في الرقي بمفهوم العدالة والتأصيل لوجوده في ذهن الأفراد، بيد أن الطريق الثانية في نظر صن إنما تراهن على فهم سيرورة اشتغال المؤسسات في ضوء علاقتها بسلوك الأفراد وغيره من العوامل المسهمة، من قريب أو بعيد، في تحديد ماهية العدالة ودلالتها عند الأفراد(ص14)، وهي بذلك تتموقع في قلب التصور الأول دون أن تحتفظ بروحه المتعالية التي تتغيا وضع اليد على العدالة المثالية. إذ إن استيعابها للبعد المؤسساتي لعدالة لم يأل بها إلى عدم الاحتفال بفهم الأفراد للعدالة. يقول في هذا المعرض؛ “ترتبط العدالة، في نهاية التحليل، بالكيفية التي يعيش بها كل واحد منا حياته، وليس فقط بطبيعة المؤسسات المؤطرة لها. بيد أنه توجد، بين كبريات نظريات العدالة، غالبية تركز في المقام الأول على كيفية إنشاء “مؤسسات عادلة”، ولا تعطي للبعد السلوكي إلا مكانة ثانوية وهامشية”(ص15).
– 3-
في الديمقراطية والعدالة.
لم يتأت التفكير في العدالة إلا من وراء حجاب استشكال سؤال الديمقراطية الذي سيمثل، في متن صن، الوجه الآخر لموضوع كتابه فكرة العدالة. ولعل الملاحظ على مقاربة هذا الفيلسوف لمسألة الديمقراطية، وخلافا لغالبية الفلاسفة الذين انخرطوا في نحت مفهومها في الفكر السياسي المعاصر، هو انطلاقه من نقد النزعة المركزية الثاوية في أعماق الديمقراطية الغربية ذاتها. إذ يرصد صن مقدار حضور هذه النزعة مجسدة في قناعة رسخت في ذهن كثيرين، مضمونها أن الديمقراطية لا يمكنها أن تتحقق إلا في تربة العالم الغربي. وقد كشف فهم وضعية عراق ما بعد الغزو الأمريكي عن حضور مثل هذه القناعة في نظره(ص384). وتجدر الإشارة إلى أن صن يخوض في هذا المضمار سجالا ضد دعاة هذا التصور الغاية منه بلورة فهم للديمقراطية تغدو فيه هذه الأخيرة مكسبا إنسانيا. نقرأ لصن ما يلي؛ “سيكون من الصعب جدا إذن، أن نبرهن على صحة هذه الأطروحة التي تضفي نوعا من التشاؤم على إمكانية وجود ممارسة ديمقراطية في العالم…ولكي نفهم أصل الديمقراطية في مستواها العالمي، يجب علينا أن نهتم بتاريخ المشاركة الشعبية والتفكير العمومي في مختلف بقاع العالم. لنكف إذن عن التفكير في الديمقراطية من خلال مفاهيم التطور الأوربي والأمريكي، ولننظر إلى ما يوجد وراء ذلك”(ص385).
لا يجب على هذا التحفظ المنهجي أن يحملنا على الاعتقاد أن صاحبه ينكر العلاقة التاريخية الوطيدة بين الغرب والديمقراطية، إذ يدرك جيدا سهمه في بلورتها على الأقل من حيث المؤسسات، بيد أن هذا لا يأذن في نظره بحصر تلك الممارسة في الغرب دون غيره. صحيح أنه إذا فهمنا الديمقراطية بمعناها الصوري المجسد في الانتخابات، أمكننا القول إن الحضارة الغربية كانت الأظهر في نحت مفهومها، بيد أن هذا الفهم يبقى قاصرا على الإحاطة بكل أبعاد الديمقراطية، إذ إن هذه في جوهرها تدبير للشأن العمومي بواسطة النقاش والحوار والتواصل. بذلك يمكن القول إننا لا نعدم لها حضورا لدى الشعوب الأخرى، وقد استدعى صن جملة من الأمثلة على ذلك، استقاها من الحضارة الشرقية؛ الهندية وحتى العربية الإسلامية. يقول فيلسوفنا في هذا السياق؛ “إن للممارسة الانتخابية تاريخا طويلا في المجتمعات غير الغربية، بيد أننا عندما نحدد الديمقراطية بشكل أوسع، من خلال مفاهيم التفكير العمومي، فحينها سيغدو من السهل أن نبرهن على الفساد التام للنقد الثقافي الذي يحصرها في ظاهرة جهوية خالصة”(ص394).
هكذا يسعفنا الاعتداد بمفهوم النقاش العمومي بالتخلص، ليس فقط من التصور الشكلاني للديمقراطية، بل وكذا من حصرها في الممارسة السياسية الغربية دون غيرها من التقاليد المغايرة لها. بيد أن الناظر في الوسائل التي غالبا ما اعتد به النظام الديمقراطي في سبيل تحقيق أهدافه، التي تبقى الحرية من أظهرها، كالصحافة والإعلام، من شأنه أن يلاحظ غيابا لها في تلك التجارب التي استشهد بها صن ضدا على الرؤية الغربية الضيقة. لكن ذلك لا يغير في نظره أشياء كثيرة، مادام أن مبدأ النقاش العمومي ظل حاضرا فيها في نظره. أضف إلى ذلك أن الانتشار السريع الذي شهدته الديمقراطية في مختلف بقاع العالم جعل الجميع يجترع الحاجة إلى التوسل بصحافة حرة لبسط النقاش حول القضايا العمومية(ص399).
-أ-
في معنى الديمقراطية.
إذا كان تقويض المركزية الغربية في جملة الأسس التي أقام عليها صن فهمه للديمقراطية، فإن ذلك جره إلى إعادة النظر في مضمونها كذلك. ولعل العلامة الفارقة على ذلك رفضه الجهير للتصور الشكلاني للديمقراطية ناظرا إليها بحسباها “حكما، أو تدبيرا للشأن العمومي بواسطة النقاش”. لم يكن التركيز على هذا البعد في المنظومة الديمقراطية من بين مظاهر الجدة التي حملتها نظرية صن في طياتها، إذ سبق لكل من راولز وهبرماس، ومن قبلهما ستيوارت ميل، أن بسطوا القول في ذلك15. يعترف الفيلسوف الهندي بالانقلاب الذي أنجزه الفيلسوفان في مجال استشكال العدالة بأن ضخا فيه مفهوم النقاش العمومي، الأمر الذي قادهما إلى الانفصال عن التصور الشكلاني للديمقراطية. فغالبا ما يحصر هذا التصور الديمقراطية برمتها في الانتخابات وبعدها المؤسساتي حسب صن. وهو موقف دافع عنه وما يزال عدد كبير من منظري الديمقراطية كصمويل هيتنغتون(ص389). ورغم الصعوبات الجمة، والخلافات الجوهرية التي ما فتئت تفصل بين المقاربتين، فإن صن لم ير في ذلك مانعا يحول دون تطوير نظرية العدالة انطلاقا من مفهوم النقاش العمومي. وفي هذا السياق، يؤكد أن المشكل الجوهري الذي يستوقف الناظر في الديمقراطية إنما هو على صلة وطيدة بسؤال العدالة، أما وجه الارتباط في ذلك فمرده إلى مفهوم النقاش العمومي، الأمر الذي تتناسل عنه جملة من الصعوبات على قدر كبير من الأهمية، كمسألة المشاركة السياسية وعلاقتها بالحوار والتفاعل العمومي. إن هذا الضرب من التعالق من شأنه أن يجعلنا نفهم قدرة الديمقراطية على التصدي لكثير من المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي غالبا ما تعصف بالمجتمعات، كالمجاعات، والتطرف الديني، وخرق حقوق الإنسان، ونشأة الأنظمة الشمولية.
يعتد النظام الديمقراطي في سبيل تجنب هذه الاعضالات بكل وسائل النقاش العمومي التي يتربع على رأسها الإعلام والصحافة. إذ يجب أن ننتبه إلى الفعالية التي تتسم بها هذه الآلية في التأثير على المواقف وبلورة رأي عام، بل وجر الأفراد إلى التفكير في الشأن العمومي وتحويلهم إلى كائنات سياسية. لذلك فإن الرقي بحرية التعبير إنما يمثل بالنسبة إلى صن علامة على الرقي بجودة الحياة الذي يمثل أحد المقومات الذاتية للديمقراطية، خاصة عندما تكون هذه في حاجة إلى التواصل كما هو الشأن بالنسبة إلى الإنسان الحديث. أما في ما يتعلق بدور الإعلام في تحديد مضمون الديمقراطية ومستقبلها فإن صن يرى أنه يسهم في ذلك من خلال نشر المعرفة والاسهام في نقدها، وذلك لأنها تعمل على التعريف بما يحصل وتحفر الناس على التفكير فيه، بل والتدخل في مجراه كذلك(ص400) أضف إلى ذلك أن الإعلام من شأنه أن يشكل حصنا للمهمشين في وجه سلطان الدولة وقراراتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتزامها بواجب تدبير الأزمات كما هي الحال في المجاعات.
ولقد تمكن صن، وفي مضمار تحليله لكيفية تدبير الهند لمجاعة 1943، من البرهنة على أن غياب الإعلام كثف من حدة الأزمة الإنسانية هناك وتضخيمها(ص405). (أنظر كذلك تحليله لتدبير الصين لمجاعة 1958، 1961) إذ قاد ذلك إلى هيمنة نوع من الصمت على كل ما حدث، الأمر الذي قاد إلى غياب مساءلة ديمقراطية للقرارات السياسية. نقرأ لصن في هذا السياق؛ “إن شراسة مجاعة ما لا تأتي إلا على الجمهور الذي يعاني، ولا تمس الحكومة أو أصحاب النفوذ(…) بيد أن الحكومة عندما تكون مسؤولة أمام الجمهور، وعندما تتوفر صحافة حرة، وكذا نقد عمومي لا رقابة عليه، فحينها يكون المسئولون ملزمين ببدل أجود ما عندهم من جهد في سبيل درء المجاعات”(ص408). إن ما يجعل هذه الأخيرة كارثة سياسية، ليس مرده إلى معطيات طبيعية كما قد يغلب على الظن، بل إن العامل الرئيس في ذلك هو منسوب التفكير والنقاش العمومي، إذ بارتفاعه يخلَق حراك اجتماعي قادر على الاحتجاج وممارسة نوع من القهر على الإرادة السياسية. هكذا يسعفنا تداول المعلومة والتواصل من تحويل محنة بعض الأفراد إلى هم عمومي مشترك، يجتذب اهتمام الجميع من خلال النقاش العمومي حوله. كما يسعفنا ذلك بتحصيل أسباب الاحتراز من بعض المآسي الاجتماعية كالمجاعة. وقد كانت تلك في جملة ما جنته الديمقراطية من ثمار توظيفها لفاعلية هذا النقاش.
وعلى هذا النحو يمكن أن نلاحظ كيف أن الإعلام، وبالإضافة إلى كونه وسيلة ضغط جماهيري، فإنه يمكننا من بلورة نسق من القيم الأخلاقية تمثل قاعدة تصور الأفراد للعدالة. ذلك أن “المواقف الضرورية لوجود أحكام حول العدالة ليست نشاطا منعزلا، بل إنها حتما نتيجة النقاش…ليس من الصعب أن ندرك لماذا يمكن لوسائلِ إعلام حرة، حيوية وفعالة، أن تسَّهل بشكل ملموس هذه السيرورة الضرورية للنقاش. إن تلك الوسائل ليست مهمة بالنسبة إلى الديمقراطية فقط، بل إنها كذلك بالنسبة إلى البحث عن العدالة”(ص401).
إجمالا، ليس يسعنا إنكار سهم الإعلام، بكل قطاعاته وباختلاف مشاربه، في بلورة صرح الديمقراطية وتمكينها من التغلغل في عروق المجتمعات الحديثة. بل وتمكين منظومتها من القضاء على مختلف مظاهر الديكتاتورية والتسلط. الأمر الذي يجعل من حضور حرية التواصل والإعلام معيارا لمدى اجتراع هذا المجتمع أو ذلك للحاجة إلى الديمقراطية. لذلك لم يكن من باب الصدفة أن تغدو تلك الحرية، على ارتباطها بالنقاش العمومي والمشاركة السياسية، مؤشرا من مؤشرات التقدم التي نصبها صن في مقام أهم من ذلك الذي ما انفكت تتبوأه معايير أخرى، من قبيل المعايير الثقافية التي جرى الاعتداد بها، في أحايين كثيرة، في سبيل تبرير غياب النقاش العمومي.
يستفاد من كل ما تقدم إذن، أن النقاش العمومي يشكل المقوم العمدة لمفهوم الديمقراطية بالنسبة إلى صن، وهو بذلك يجتث معناها من براثين التصور الصوري، كما يسعفنا ذلك بالبحث للممارسة الديمقراطية عن أصول تقع خارج نطاق تاريخ الوعي السياسي الغربي، وفتح آفاق كونية أمام مفهوم الديمقراطية باعتباره الوجه الآخر المحايث لسؤال العدالة. لا يجب أن يفهم من هذا التحليل أن كل نقاش عمومي، وبغض النظر عن الآليات التي يعتد بها، من شأنه أن يفضي إلى عقد إجماع وتوافق مطلق حول القضايا موضوع الخلاف، لذلك يشدد صن على الحاجة إلى تعدد الرؤى ووجهات النظر في بناء الأحكام حول العدالة، ليس فقط بين أفراد الجماعة الواحدة، بل أحيانا، لدى الفرد الواحد في سياق حواره الداخلي مع ذاته، أي من خلاله16.
-ب-
بين الديمقراطية والعدالة والتقدم.
إذا كانت حال الديمقراطية في علاقتها بالعدالة إنما تستوي على مقتضى التلازم الجوهري بينهما، فإن هذا يعني بالضرورة أن بينهما مشاكل مشتركة يجب العمل على تذييلها، كما هو الشأن بالنسبة إلى علاقتهما بالتقدم والسلطة السياسية، وكذا بمسألة الأقليات وحقوق الإنسان. إن التفكير في هذه القضايا يبقى مهمة عاجلة يطلع بها الاهتمام بمفهوم العدالة كما هو واضح من أعمال راولز وغيره. يروم صن هو الآخر فتح آفاق أمام مفهوم العدالة من خلال استشكاله لعلاقة الديمقراطية بالتقدم أولا. إذ جرت عادة كثيرين على القول إن الديمقراطية ليست طريقا آمنة نحو التقدم، والشاهد من ذلك تجارب تاريخية كثيرة استدعى صن من بينها تجربة كوريا الشمالية وباكستان في مقابل تجربة الهند التي لم يتردد في وصفها بالتجربة الديمقراطية(ص412).
ومهما يكن من أمر هذا الوصف، فإن استدعاءه في هذا المضمار إنما كان يروم بيان الميز بين تصورين؛ أولهما يقوم على المماهاة بين الديمقراطية والتقدم، ناظرا إلى الأولى كشرط للثانية ومقوما من مقوماتها الذاتية، في حين أن الثاني يعول على آليات غير ديمقراطية من أجل تسريع وثيرة التقدم والرفع من منسوبه، اعتمادا على قوة الدولة التي قد يكون من لوازمها الحد من الحريات وتقليص فضاءات العدالة. يدرك صن خطورة الفصل بين التنمية والتقدم من جهة، والديمقراطية من جهة ثانية؛ ذلك أن “تقييم التقدم لا يجب أن يفصل عن حياة الناس المعيشة وعن الحرية الفعلية التي يمكن أن يستمتعوا بها. إذ سيكون من العسير أن نختزل التقدم برمته في ارتفاع منسوب الكماليات فقط”(ص413). يحسن بنا أن نفهم من هذا القول أن صن لا يفصل التقدم عن الحرية، من هنا تنبع الحاجة إلى الربط بينه وبين الديمقراطية. يقول فيلسوفنا في هذا المقام؛ “إذا ما فهم التقدم في معناه الواسع من خلال التركيز على الحياة الإنسانية، وليس فقط من انطلاقا من زاوية العلاقة الشكلية بين التقدم والديمقراطية، فسيتضح لنا حينها بجلاء أنه يجب أن ينظر إلى العلاقة بينهما تحديدا باعتبارها رابطة جوهرية، يكون بمقتضاها الواحد منهما عنصرا مؤسسا للآخر”(ص413). هكذا يمكن القول إن منظور صن يجمع بين مقتضيات التقدم، خاصة من الناحية الاقتصادية ورهاناته الاستراتيجية، ولوازم الديمقراطية التي تأتي على رأسها الحريات السياسية والحقوق المدنية.
بيد أن الاعتراف بهذا الترابط الجوهري بين الديمقراطية والتقدم من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل عن مفارقات الديمقراطية نفسها، إذ لا يمكن اختزالها في الحريات السياسية أو الحقوق المدنية، خاصة وأن تقدم الوعي السياسي الحديث سرعان ما كشف عن وجود حقوق وحريات أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، نذكر من بينها الحماية من الفقر والتغطية الصحية، وهو ما يكشف عن أهمية الدور الذي يمكن للدولة أن تلعبه في بلورة جو اقتصادي تسود فيه عدالة تجعل جميع الأطراف راضين على وضعهم الاقتصادي كما سبق لراولز أن بين من خلال مبدإ الاختلاف. لذلك يؤكد صن أن التباين بين سرعة التقدم وبطء الديمقراطية لا يجب أن يحملنا على ارتياد درب ديكتاتوري من أجل تبرير الحاجة إلى التقدم. بل ويذهب إلى حد القول إن “العامل الذي يسهل التنمية يتمثل في خلق جو اقتصادي ملائم، وليس في وحشية نظام سياسي لا يطاق”(ص415). من هنا الحاجة إلى استلهام روح الديمقراطية في كل محاولة تروم تحقيق أسباب التقدم.
ماذا نستنتج من كل ما سبق؟
لو كان علينا أن نبحث عن مظاهر الجدة التي حملتها مقاربة صن للعدالة، لكان علينا الاعتراف بأن الرجل نجح في التوفيق بين وعيه الدقيق بالحاجة إلى العدالة والحرية من جهة، والاكراهات التي ما انفكت تتناسل من العلاقة الذاتية التي تصل العدالة بالاقتصاد. لقد دعا هذا الفيلسوف إلى تخليق الاقتصاد، اعتقادا منه أنه لوحده يبقى غير كاف لتوفير كل الشروط الضرورية لتحقيق حياة عادلة. صحيح أنه يلعب دورا أساسيا في تحديد التقاسيم الكبرى للعدالة، خاصة في مستوى الحياة اليومية للأفراد، بيد أن الرهان عليه لوحده قد يجرنا إلى اللهث وراء جاذبية التقدم وإهمال الحريات ومنظومة الحقوق الضرورية لوجود العدالة. على هذا النحو من التفكير تكون العدالة عبارة عن محاربة للظلم وللاعدالة، إنها تجربة تعبر عن معاناة الإنسان إزاء راهنه السياسي والحقوقي. بيد أن السؤال الذي لابد وأن يطرحه القارئ في كتاب صن يرتبط بتحديد صاحبه لمفهوم اللاعدالة، إذ يبقى هذا الأخير غير واضح، رغم أن توظيفه عمق رؤية راولز للعدالة إذ جعلنا نفكر في نقائضها. لكن ما اللاعدالة؟ ومن له الحق في تحديدها؟ شأنها في ذلك شأن العدالة نفسها، التي يبقى الإشكال الأكبر فيها مرتبطا بالجهة التي تنصب نفسها الأحق، والأقدر، على تحقيقها. وأخيرا، أمام هذا الغموض الذي يكتنف مفهوم اللاعدالة، أليس من حقنا أن نتساءل عما إذا كان صن نفسه قد انطلق من مفهوم مجرد، يضارع مفهوم الإنصاف والعدالة كما حددهما راولز من حيث تعاليهما، الأمر الذي يعيدنا مرة أخرى إلى نقطة انطلاق راولز؛ كيف يمكن تحقيق مجمع عادل؟.
الهوامش:
1- إذ إنه حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، كما أن له مؤلفات جد مهمة في هذا الباب.
2- نحيل هنا إلى كتاب؛ مايكل ساندل، الليبرالية وحدود العدالة، ترجمة محمد هناد، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009.
3- Rawls, J. Théorie de La justice, Paris, Nouveau Horizons, 1987.
4- Oscar Ernesto Sanchez, El debate filosofico entre Jon Rawls y Amartya sen. Bocota, 2002. p. 4
5- هذا ما أقر به إرنيستو سانتشيز في مصدره السابق. أنظر، المصدر نفسه، ص. 5.
6- كما هو الشأن عند كانط
7- Rawls, Rawls, Justice et démocratie, Paris, Editions Seuil. 1993, p. 211.
8- Rawls, T. J. p. 9.
9- Rawls, Justice et démocratie, p. 211
10- كالتغطية الصحية والحماية من المجاعة.
11- تنطبق هذه الملاحظة على النموذج الهندي الذي اعتمد عليه صن، فبالإضافة إلى خصوصية الهند كنموذج ممكن للديمقراطية، يجب أن نعترف بأن
12- “إن النظريات الفلسفية السائدة حول العدالة تبدو إذن، لكثيرين، أقرب إلى الوقائع العملية على نحو يمتنع على نظرية الاختيار الاجتماعي”. صن، نفسه، ص. 130.
13- والإشارة إلى راولز واضحة
14- تتضح أهمية هذه المسألة عندما ننظر إلى العدالة في سياق الديمقراطية؛ فهذه بالنسبة إلى صن، وكما سنأتي على بيانه لاحقا، ليست مجرد نمط من الحكم يضمن القدر الأكبر من الحرية بمقدار ما إنها حكم باللجوء إلى النقاش العمومي وما يقتضيه من أساليب في البرهنة والتفكير
15- Jurgen Habermas and Jon Rawls, Debate sobre el liberalismo politico, Madrid, Paidos
16- يشير صن إلى النقاش الذي أثير حول هذه المسألة من طرف بعض المفكرين كبرنارد ويليام وإيزيل برلان، ويمكن أن نشير إلى مقاربة كل من ياسبرز وآرندت لهذا الموضوع كذلك من خلال تشديد الثانية على الحاجة إلى تجربة الفكر كحوار داخل.
المراجع والمصادر المعتمدة؛
أولا المصادر العربية؛
– مايكل ساندل، اللبرالية وحدود العدالة، ترجمة محمد هناد، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009
ثانيا؛ المصادر الأجنبية؛
– Jurgen Habermas and Jon Rawls, Debate sobre el liberalismo politico, Madrid, Paidos
– Oscar Ernesto Sanchez, El debate filosofico entre Jon Rawls y Amartya sen. Bocota, 2002.
– Rawls, J. Théorie de La justice, Paris, Nouveau Horizons, 1987.
– Rawls, J Justice et démocratie, Paris, Editions Seuil. 1993
– Sen, Amartya. Idée de Justice, Paris, Flammarion, 2010, p. 142