لا يستطيع أي باحث في التاريخ أن يخفي إعجابه بالمراحل الكبرى التي قطعها البحث في تاريخ الذهنيات والسلوكات الاجتماعية، وكذا بالنتائج التي توصل إليها المؤرخون الغربيون في هذا المجال، وبالقدر نفسه ذهوله أمام التطور البطيء لهذا الميدان في الدراسات التاريخية المكتوبة بالعربية. وقد ازداد انتباه الدارسين المغاربة بهذا المجال في السنوات الأخيرة، محكومين برغبة عميقة تروم اختراق المسكوت عنه والمعتم في الكتابة التاريخية، وفتح أوراش جديدة لم تسبر أغوارها بعد، وتجاوز حاجز ندرة المادة المصدرية وهزالة التراث المتوفر الذي طالما شكل حجر عثرة أمام انطلاق البحث في هذا الحقل التاريخي الجديد.
في هذا السياق، تأتي الدراسة التي أنجزها الباحث محمد حقي في موضوع الموقف من الموت في المغرب والأندلس في العصر الوسيط، ضمن سلسلة تندرج في إطارِ وسمه الباحث بـ”تاريخ الذهنيات”، وهو عمل أحسب، مع الباحث، أنه يمثل نقطة البداية في هذا المجال بالنسبة للدراسات التاريخية المغربية، على اعتبار أن ما كتب عن الموت لحد الآن لم يتجاوز بعض المقالات، أو الفقرات المبثوثة في بعض الأبحاث وإن اهتمت بدراسة المقابر أكثر من اهتمامها بموضوع الموت.
I – مضامين الكتاب
صدر الكتاب في طبعة تكشف عن بعضٍ من أحوال النشر والطباعة التي يعاني منها الباحثون في هذا البلد العزيز، على الرغم من أن الكتاب صدر بدعم، لا شك أنه ضئيل، من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي.
سعت هذه الدراسة إلى البحث في موضوع الموت بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط من خلال تتبع دقيق لأهم لحظاته بدءً باستعدادات الأفراد والمجتمع له، مرورا بمشهد الاحتضار والأسلوب المتبع في تجهيز الميت ودفنه وتأبينه، وصولا إلى القبر والمقابر، فضلا عن البحث في تصورات المغاربة والأندلسيين لمصير الإنسان بعد الموت، وكل ذلك من أجل بلوغ غاية معرفية حددها الباحث في إشكالية محورية كبرى هي: موقف أهل المغرب والأندلس من الموت خلال العصر الوسيط.
وقد آثر المؤلف اختيار فضاء زمني ممتد على مدى سبعة قرون يبدأ بنهاية القرن الثاني الهجري وينتهي بنهاية القرن التاسع أبحر فيه ذهابا وإيابا، معتبرا أن اختياره هذا وحده القادر “على الكشف عن موقف واضح وبارز المعالم من الموت”. (ص.5). كما وسع، للغاية نفسها، مجال الدراسة ليشمل المغرب والأندلس اعتبارا للعناصر المشتركة التي تجمع المجالين خاصة منذ القرن الخامس. ولتحقيق تلك الغاية، وسع الباحث دائرة القراءة لتشمل مختلف أنواع المصادر، كما مدد مجال إطلاعه ليشمل العديد من الدراسات المعاصرة خاصة تلك التي لامست بعض قضايا الموضوع، ومن مختلف التخصصات العلمية.
على المستوى المنهجي، اعتمد المؤلف على مقاربة منهجية تحرص على رصد الوقائع التاريخية من خلال الاعتماد على الجانب التوثيقي والتركيز على الوصف، لملأ البياضات الكثيرة في الموضوع، ثم التحليل والتركيب المقيد بشروط الزمن والمكان المدروسين. وعلى ضوء ذلك كله، قسم الباحث كتابه إلى ثلاثة أقسام، تناول الأول هاجس الموت واستعداد الإنسان لموته، وتطرق القسم الثاني لـ إعداد موت الغير وجهود التطهير. أما القسم الثالث، فعالج فيه موضوع “المدافن”. وذيل دراسته بفصل فريد عنونه بالموقف من الموت، وكان بمثابة عرض موجز لأهم ما توصل إليه في الفصول السابقة.
ومن خلال قراءة دقيقة لأهم مضامين هذا العمل يمكن تأطير ورصد موقف المغاربة والأندلسيين من الموت، حسب ما توصل إليه الباحث، في أطروحتين رئيستين استند في تأطيرهما على عاملي الثابت والمتحول في هذا الموقف خلال العصر الوسيط.
1- الثابت في موقف أهل المغرب والأندلس من الموت خلال العصر الوسيط
استهل الباحث القسم الأول الموسوم بـ”هاجس الموت واستعداد الميت لموته” بتعريف الموت في القواميس اللغوية، محددا إياه في “أن الموت ضد الحياة وانفصال الروح عن الجسد”. واعتمادا على كثير من الشواهد الشعرية، نعتقد أنها في حاجة إلى شواهد أكثر تنوعا، لتأكيد خلاصة توصل إليها الباحث مفادها أن المغاربة والأندلسيين خلال العصر الوسيط اعتبروا الموت قدرا محتوما لا مفر منه. لذلك، كان طبيعيا أن يتحول إلى هاجس سكن عقول الناس خاصة من كان في سن الشيخوخة منهم، وكان الاستعداد له وتحقيق ما سماه الباحث بـ”الميتة الحسنة” من أبرز ردود الفعل على حتميته. وقد حرص الناس، نتيجة لذلك، على استحضار الموت في كل لحظات يومهم ليكون لهم رادعا عن كل انحراف أو خطأ، كما سعوا إلى الإكثار من التعبد وإبداء مشاعر التوبة كلما تبدت لهم علامة من علامات اقتراب الأجل، فضلا عن إعداد الوصايا لحفظ حقوق الأحياء المرتبطين بهم، أو القيام ببعض أعمال البر والخير استعدادا لعالم ما بعد الموت.
واعتبارا لهذا كله، بدا الموت بالنسبة لأفراد مجتمع هذه المرحلة شغلا يوميا، لدرجة أصبح بإمكان البعض، ممن تحول الموت عندهم إلى هاجس وهوس، التنبؤ بلحظة نهايتهم أو نهاية غيرهم. كما أضحى من الطبيعي أن يصبح الموت أكثر ألفة يتقبله الإنسان المغربي والأندلسي بكثير من الهدوء والشجاعة. وهو ما أكده الباحث خاصة بالنسبة للمريض الذي أنهكه المرض، أو لمن قدر له أن يلاقي الموت في غير موعده الطبيعي إما جهادا أو قتلا أو إعداما دفاعا عن قضية، وذلك انسجاما مع قيم المجتمع التي تمجد الشجاعة وتنبذ الضعف والهوان.
وبكثير من الدقة في الوصف، يرسم لنا محمد حقي مشاهد ما قبل الموت المليئة بمشاعر الأسى التي تبدو على كل من يحضر مشهد الاحتضار، في الوقت الذي يكابد فيه المحتضر آلام النهاية القريبة، ويحرص على التوبة واسترجاع بعض ملامح سيرة حياته وتصحيح ما أمكنه من أخطاء، وإفشاء بعض أسراره لمن حوله طواعية منه أو هذيانا. ومن هذا المشهد الذي ينتهي بنهاية المحتضر، ينتقل بنا المؤلف إلى مشهد النعي وإعلان الوفاة الذي اتخذ أشكالا متعددة من قبيل النواح والصياح عقب حصول الموت، أو الإعلان عنه في المساجد والمنارات. وعادة ما يرفق نعي الميت بالحديث عما سماه الباحث بالميتة الحسنة التي اقترنت في ذهنية المجتمع المغربي والأندلسي بترداد المحتضر للشهادتين وتسليم الروح دون إغماء أو هذيان، والموت في رمضان أو في يوم الجمعة، أو بعد أداء فريضة الصلاة وغيرها.
وبأسلوب مليء بكثير من الرهبة، لا يخفى على القارئ تأثر المؤلف بها، يصر أن يحيط بكل التفاصيل المتعلقة بـإعداد موت الغير، حيث ينتقل إلى عالم الأحياء المحيطين بالميت لغرض البحث في دور المجتمع في تجهيزه، و”إيصاله إلى مثواه الأخير في أبهى وأقدس صور الطهارة والتقديس ومضاعفة حسناته… ليسهل مروره إلى العالم الآخر” (ص.53). ويستشف الباحث أن المجتمع كان يستعد للموت بدوره من خلال إحداث مهن تخدم الموتى تدر على أصحابها مالا ودخلا يكفلهم، من غسالين وحناطين وكفانين وحفاري القبور إلى جانب ممتهنات البكاء على الموتى وقراء القرآن على القبور وغيرهم، وإن كان معظم هؤلاء ممن يتشاءم عند ذكرهم الأفراد.
وتمثل عملية تطهير بدن الميت من الأدران أولى المهام التي يتكفل بها الأهل والأقرباء أو الأصدقاء، وهي العملية التي يقوم بها العارف بطريقة الغسل أو الممتهن لها، وتتم عادة في بيت الميت أو مغاسل خاصة بالمسجد أو المقبرة بالنسبة للفقير أو الغريب أو المجدوم. ويرفق بالغسل تحنيط جسد الميت باستعمال طيب يوضع على أجساد الموتى تطييبا له لا حفظا له من التفسخ كما اعتادت ذلك بعض الشعوب القديمة. ويعكس هذا الأسلوب، بالنسبة للمؤلف، رغبة أهل الميت في أن يقابل ربه في أطيب رائحة، غير أنها تخفي أيضا شعورا بالاشمئزاز من تفسخ الجسد ونتونته.
وإلى جانب غسل جسد الميت وتحنيطه، تطرق الباحث للكفن والتكفين مؤكدا حرص المغاربة والأندلسيين على الاهتمام بمواراة جسد الميت، بل وتوفير المال الضروري لشراء الكفن وإعداده قبل الموت بالمواصفات المطلوبة شرعا، مذكرا في هذا السياق بحالات كثيرة ممن لم يجدوا بعد وفاتهم كفنا يوارون فيه، فدفنوا في خرق أو أسمال أو حتى بدونها، غير أن التضامن الذي ميز مجتمع هذه المرحلة سمح بتوفير أكفان الفقراء والمحتاجين من أموال البر والإحسان.
ينتقل المؤلف في رحلة الميت من بيته إلى مثواه الأخير، للحديث عن الطقوس الدينية التي ترافق هذه الرحلة ليفصل الحديث في الصلاة على الميت، والتي كانت تقام في أماكن خاصة لها، ومن أكثرها شيوعا المقابر. ويمثل الموكب الجنائزي فرصة لمقاسمة أهل الميت مصيبتهم من خلال المشي في جنازته والصلاة عليه. وبوصول الموكب إلى مدينة الموتى، تبدأ عملية الدفن وإنزال الميت إلى قبره ومواراة جسده الثرى.
لا ينتهي الأمر بدفن الميت وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، بل يستمر من خلال الأحياء من أهله وقرابته، ومن خلال اهتمام أفراد المجتمع بمواساتهم. وفي هذا الجانب يبرز المأتم وتأبين الميت مجالا يبدي فيه أهل الميت مشاعر الحزن والأسى على فقيدهم، ويحرص أفراد المجتمع على تقديم العزاء ومواساتهم. كما تمثل زيارة القبر ورثاء الميت إلى جانب ما سبق أسلوبا لتخليد ذكرى الميت حزنا وتحسرا، وإظهار قوة وعز الأهل الأحياء رياء وتفاخرا.
في الفصل الثامن المعنون بـ “مصير الإنسان بعد الموت” غاص المؤلف في ذهنية مجتمع هذه المرحلة باحثا عن تصوره لمصير جسد الإنسان وروحه بعد موته، حيث توصل إلى أن الاعتقاد السائد يعتبر أن الأرواح لا تموت وتظل بجوار الأحياء تعايشهم وتتصل بهم عبر الأحلام، مما يكشف العلاقة الحميمية التي تجمع الأحياء بالأموات.
ينتقل الباحث في القسم الأخير الذي خصصه للقبر والمقابر للحديث عن “بيوت” و”مدن” الموتى، وبعد تحديده للأسلوب المتبع في اختيار مكان القبر والعناية به، وبكثير من التفصيل، تناول المؤلف أشكال القبور وشواهدها مؤكدا على العناية التي حظيت بها من قبل أفراد المجتمع المغربي والأندلسي، والتمايز الذي طبعها في شكلها وزخرفتها وجماليتها اعتبارا لمكانة صاحب القبر في مجتمعه. ثم ختم حديثه بجرد لأهم مقابر بعض المدن المغربية والأندلسية بعد أن أثبت الإهمال الذي عانى منها معظمها حين صارت ملجأ للمهمشين، ومجالا لانتشار بعض الظواهر التي يرفضها المجتمع.
2- المتغير في موقف أهل المغرب والأندلس من الموت خلال العصر الوسيط
يعتبر الباحث بداية القرن الخامس الهجري/ 11م نقطة التحول الكبرى في كثير من ملامح موقف المغاربة والأندلسيين من الموت، ففيه عرف المجتمع والذهنية الجماعية تطورات سريعة وعميقة أثرت على المراسيم الخاصة بالموت. إنه تحول عميق في الموقف من الموت دفع بالباحث إلى القول بإمكانية وضع أسس تحقيب مستقل لتاريخ هذه المنطقة. أما أسباب هذا التحول، حسب الباحث، فتأنق حضاري كبير عرفته الأندلس وبعدها المغرب منذ عهد ملوك الطوائف، إلى جانب التأثير المتزايد للحركة الصوفية، حيث أضحى الأولياء والمتصوفة يمثلون قوة مجتمعية مهيمنة ومؤثرة خاصة منذ القرن السادس الهجري/ 12م.
لا يفصل الباحث في هذه العوامل، بل يكتفي بالإعلان عنها كلما أراد تأصيل تحول ما في موقف أهل المغرب والأندلس من الموت. وعموما، فابتداء من القرن الخامس هـ/ 11م تحول الموت في ذهنية المغاربة والأندلسيين من ذلك الزائر الهادئ المقبول والمنتظر، والذي يستقبل بكثير من الرضا والاطمئنان إلى الموت القاسي والمتصلب الذي يأتي كأنه وحش مرعب ومخيف يتربص بالبشرية ويطاردها باستمرار. إنه انعكاس أمين، يقول الباحث، لحب الحياة الذي اجتاح المجتمع الأندلسي أولا وبعده المغربي، فصار يكره كل ما يمكن أن يحرمه من التمتع بالحياة، فضلا عن دور المتصوفة الذين عملوا على تهويل صورة الموت وترهيب الناس منه.
يستعرض المؤلف ملامح هذا التحول في موقف المغاربة والأندلسيين من الموت، ويحرص كثيرا على تأكيدها في مختلف فصول هذا العمل، معتمدا على منهج إحصائي يرصد حضور الظاهرة في المصادر التي اعتمدها بعد القرن الخامس الهـجري وغيابها فيها قبله، فيؤكد أن تحول الموت إلى عنصر مخيف جعل المغاربة والأندلسيين أكثر رغبة في الاستعداد له ماديا ومعنويا، فأضحى الناس أكثر اهتماما بتوفير تكاليف تجهيزهم وإعداد مستلزماتها بأنفسهم، بل ويعدون كل ما من شأنه استدرار الدعاء عليهم في موتهم، ويسهل عمليات المرور إلى العالم الآخر. وكثر البحث عن الوساطة والشفاعة من خلال رموز تدفن مع الميت في قبره، والتشفع بالأحياء خاصة الأولياء والمتصوفة منهم من خلال الإصرار على ضرورة حضورهم في الموكب الجنائزي، وفي عمليات الغسل والتكفين والصلاة والدفن، إلى جانب التشفع بالأماكن المقدسة من قبيل الدفن بجوار مسجد أو قرب ضريح ولي أو في زاوية أو رباط…
من جانب آخر، يؤكد المؤلف على ما سماه بتجاور الديني- الأخروي والدنيوي- المادي في الاستعداد للموت أو إعداد الميت وتجهيزه لدفنه أو بعد دفنه؛ فبعد القرن الخامس الهجري، أضحى حدث الموت يخدم الموتى والأحياء معا، حيث يحاول الجميع إبراز غنى الأسرة ومكانتها الاجتماعية الرفيعة من خلال الاهتمام بالمظاهر والمفاخرة في تجهيز الميت، أو بعرض أعماله، وبإحضار الرموز المقدسة في المجتمع خاصة المتصوفة في مشاهد الاحتضار أو في الموكب الجنائزي، كما أصبح البكاء على الميت والمواكب الجنائزية الضخمة والمآدب التي تقام في مأتمه مجالا للتفاخر بين الناس، فضلا عن التنافس في بناء القبور وزخرفتها واتخاذ الروضات وتجميلها والدفن في الدور والقصور والمساجد. لقد صار الموت، يقول الباحث، يخدم الموتى والأحياء على حد سواء.
II – في مناقشة الكتاب
لقد استطاع الباحث، بحق، أن يؤثث لمشهد واضح المعالم للموت في مجتمع المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط، منتقلا من التصورات الجماعية والقيم الخاصة بالموت إلى الإدراكات والأحاسيس المرتبطة به، ثم إلى السلوكات الجماعية المنبثقة عن تلك التصورات والمشاعر.
هكذا بدت لنا معالم هذا العمل الذي لا يدعي فيه المؤلف الاستيعاب الأمثل أو الرؤية الأشمل، وإنما يلقي بالفكرة على جهة الكشف والإيضاح مقتديا أحيانا قليلة بالنقد، مناقشا أحيانا أخرى، واصفا ومضيفا في الغالب بلا حصر، مالئا البياضات الكثيرة التي تفرضها جدية الموضوع، واضعا في النهاية لبنة أساسية لبداية تراكم معرفي في موضوع جديد بكل المقاييس كما أقر منذ البداية.
ولأنه موضوع جديد بكل المقاييس، فإنه مطالب بأن يقدم كل شيء ويروي ظمأ قارئ مستعد لأن يتلقف كل معرفة جديدة، لكنه مستعد أيضا لأن يقابلها مع ما استقر في ذهنه من أفكار أولية حول هذه المعرفة، وما يود أن يجده لا مع ما يجده. غير أن من قرأ ليس كمن غامر وبحث ثم استنتج وكتب. لذلك يجد القارئ نفسه يجاهد رغبة أنانية في مناقشة الباحث من خلال ما يريد أن يقرأه، لا من خلال ما قرأه في الكتاب. وفي كل الأحوال، فالمنتوج كاف وشاف بالنظر لطبيعة الموضوع وجديته، أما المطلوب فأعتقد أن الباحث أشار ووجه إليه عندما اعتبر أن الأمر يتعلق ببداية تراكم معرفي في الموضوع. غير أن ذلك لن يمنعنا من مناقشة الباحث في بعض رؤاه إغناء للموضوع وإثراء لأسئلته.
1- الموقف من الموت، أي موت؟
الحقيقة أن الباحث قدم معرفة دقيقة وأصيلة عن موقف المغاربة والأندلسيين من الموت خلال العصر الوسيط، لكن الموت المقصود هنا في الكتاب هو ذلك الموت الطبيعي الذي يأتي الإنسان على حين غرة طريح الفراش فيحتضر وربما يوصي ويتوب على ما اقترفت يداه، ثم يفارق الحياة [القسم الأول من الكتاب] لتقوم الأسرة بالبكاء عليه وتجهيزه، مساندة في ذلك من قبل المجتمع الذي وفر المهن المساعدة في ذلك، وأتاح بقيم التكافل والتضامن فرصة للكشف عن ذهنية جماعية اتجاه هذا النوع من الموت [القسم الثاني]، ثم يذهب به إلى المقبرة أو مدينة الموتى حيث يوارى الثرى إلى جانب من سبقه إلى الموت من أهله أو عشيرته أو من أفراد قريته أو مدينته [القسم الثالث]. وللقارئ أن يتساءل عن الموقف من الموت الجماعي بسبب الحروب أو الفتن أو الكوارث الطبيعية؟ عن هؤلاء الذين وثقت لهم النصوص بالمقابر الجماعية أثناء الأوبئة والمجاعات، وبالأكوام المتراكمة من أجساد الموتى التي يجمعها المنتصر في بعض المعارك؟ وعن الموقف من الموت كيف يبدو ثم كيف يتغير عندما ينمو الطفل مع مشاهد القتل والتقتيل والرؤوس المعلقة على أسوار المدن أو المطاف بها في الشوارع، والتي ميزت بعض فترات تاريخ المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط. وللقارئ أن يتساءل أيضا عن التغيرات التي ميزت الذهنية الجماعية مباشرة بعد وقوع بعض الأحداث الكبرى من قبيل الطاعون الجارف الذي طوى البساط بما فيه. حقيقة أن الباحث أورد بعض الحالات في هذا المجال، لكن السؤال يظل عالقا، وبالصيغة التي صمم بها المؤلف موضوعه، كيف احتضر المغاربة والأندلسيون زمن الكوارث والمحن؟ هل ثمة مجال للحديث عن الاحتضار، بالنسبة لقتلى الغزوات والمعارك؟ وعن التجهيز والموكب الجنائزي وشكل القبر ومكان المقبرة بالنسبة لقتلى المجاعة أو الوباء؟ وكيف جهزوا وكيف دفنوا؟ كيف تعامل المجتمع مع أجساد قتلى الموت الجماعي؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي لم نجد لها مكانا خاصا في هذا العمل.
2- الموقف من الموت في مجتمع المغرب والأندلس، أي مجتمع؟
لا يكاد يختلف اثنان في أن من أبرز ملامح المجتمع المغربي والأندلسي خلال العصر الوسيط عامة هو ذلك التعدد الإثني والديني الذي ميزه، حيث يمكن الحديث عن تركيبة بشرية معقدة مكونة من أمازيغ وعرب وسودان وروم وأتراك، معتنقين لديانات مختلفة. فهل وجدت هذه الفسيفساء الإثنية والدينية صدى لها في مؤلف “الموقف من الموت”؟ وهل يمكن الحديث عن مواقف متنوعة من الموت بتنوع ثقافة ومعتقد هذه التركيبة الإثنية الدينية؟ غير أن المطلع على الكتاب بمختلف أقسامه وفصوله لا يجد لهذا الاختلاف مكان، بل يبدو المجتمع المعني بالدراسة وكأنه مجتمع مسلم لا أقليات فيه. فهل يتعلق الأمر بنقص في المادة المصدرية والتوثيقية رغم اعتراف الباحث في مقدمته أنها مادة متنوعة وكافية للكشف عن موقف واضح وبارز المعالم من الموت. سأكتفي هنا بطرح أسئلة ترافق مختلف فصول البحث وعناصره، هل كل محتضر قبل موته يخشى الموت ويستحضره من خلال الاستعداد له بأعمال البر والصدقات ويسعى إلى تحقيق الميتة الحسنة ويهمه أن يتوب وينطق بالشهادتين؟ وهل كل مجالس الاحتضار تؤثث بتلاوة القران والأذكار؟ وهل كل ميت يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه بالطريقة الإسلامية؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تسعى إلى تأكيد حقيقة متداولة لدى معظم الباحثين، وهي ذلك الاختلاف الوارد ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين واليهود في المغرب والأندلس فيما يخص تدبير شؤونهم اليومية ومنها شؤون الموت والموتى؟ بل حتى بين سكان المغرب الذين غلبت عليهم آنذاك النزعة القبلية ثم البدوية وسكان الأندلس الذين طبعوا بميسم الحضارة وافتقدوا البداوة والعصبية. وبالجملة هل ثمة فروق واختلافات في الموقف من الموت بين مسلمي ومسيحيي ويهود المغرب والأندلس؟ ثم بين المغاربة والأندلسيين أيضا؟
ويبدو أن تعميم النموذج الإسلامي في تعامل الباحث مع موقف المغاربة من الموت أفضى إلى اندماجه أحيانا مع لغة المصادر، من قبيل حديثه مثلا عن المتصوف قاسم بن ثابت بن حزم العوفي حيث يصفه المؤلف بالمجاب الدعوة (ص.21). والقول بأن التوبة عند المغاربة والأندلسيين غالبا ما تتأخر حتى سن الشيخوخة أو العجز بسبب المرض دون الاعتماد على نص يؤكد ذلك (ص. 26). ووصف بعض السلوكات المرافقة لعمليات تجهيز الميت بالغريبة. إلى جانب استعمال وتبني كلمات ذات دلالة دينية من قبيل النجاسة والطهارة والتوبة والذنوب والمعاصي والتصرفات المشينة والموعظة وصلاة الفريضة والشعائر الدينية والانتقال إلى جوار الرب… إلى غير ذلك من الأمثلة التي تتطلب حياد المؤلف، وضرورة وضع مسافة كافية بينه وبين لغة وإقرارات المصادر.
3- ملاحظات في الإطار الزمني والمجالي
اعتمد المؤلف، انسجاما مع متطلبات البحث في المواضيع التي تخص الذهنيات والتي تفرض اعتماد الزمن الطويل، فترة تمتد على مدى سبعة قرون تبدأ بنهاية القرن الثاني الهجري وتنتهي بنهاية القرن التاسع، معتبرا أن اختياره هذا وحده القادر “على الكشف عن موقف واضح وبارز المعالم” من الموت (ص. 5). وإن كنت أعتقد، غير جازم، بأن للأمر علاقة بضعف المادة المصدرية وقلتها وما يفرضه ذلك من صعوبة في تناول موضوع مثل موضوع الموقف من الموت في زمن أقصر مما حدده الباحث. إنها فترة زمنية أحسب أنها طويلة جدا، رغم اعتقادي بأهمية الزمن الطويل في مقاربة المواضيع الاجتماعية والذهنية، فالبحث في زمن بهذا الامتداد لا شك أنه فوت على الباحث الكشف عن كثير من الخصوصيات التي ميزت كل مرحلة على حدة. إلى جانب ذلك يميل الباحث إلى القول بتحول كبير عرفه المجال المغربي الأندلسي خلال القرن الخامس الهجري دون أن يفصل فيه. وبهذا الإقرار يقسم الباحث مرحلة دراسته إلى فترتين زمنيتين كل منها تتصف بمميزات خاصة، وحتى إذا اقتنعنا بأهمية هذا التقسيم فسيصبح من الصعب إدراكه عندما يتعلق بمجال جغرافي اختاره الباحث كفضاء مكاني لبحثه وهو المغرب والأندلس. فالباحث يؤكد في حديثه عن دواعي الجمع بين المجالين، أن للأمر علاقة بالعناصر المشتركة الكثيرة التي تجمعهما خاصة منذ القرن 5 هـ/ 11م. وإذا كان من الممكن التسليم بمثل هذا الرأي، رغم اعتقادي بصعوبة اعتماده اعتبارا لخصوصية كل مجال، فما هي دواعي الجمع بينهما في الفترة السابقة، خاصة وأنها اعتبرت مرحلة زمنية أساسية بالنسبة للبحث في الموقف من الموت. إن ربط تغير موقف المغاربة والأندلسيين من الموت بعنصر أساس هو التأنق الحضاري الذي ميز مرحلة ما بعد القرن الخامس هو ربط يشوبه كثير من الغموض. فالتأنق الحضاري عرفته الأندلس دون المغرب خلال زمن الخلافة في القرن 4هـ/ 10م أي قبل القرن 5هـ/ 11م، كما تراجع هذا التأنق في الأندلس دون المغرب بعد هزيمة العقاب سنة 609هـ/1212م.
III – ملاحظات عامة
أدرك الباحث منذ البداية أنه يخترق موضوعا جديدا بالنسبة للدراسات التاريخية المغربية، إذا تجاوزنا بعض المقالات المنشورة في الموضوع لقلتها، وكذا أعمال الندوة غير المنشورة “الوفيات: مقاربات تاريخية وأنثروبولوجية”، التي نظمت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة في أبريل 2002. لذلك، كان طبيعيا أن تكون المادة المقدمة في الموضوع محكومة بما توفر للباحث من مادة مصدرية حرص على تجاوز ضعفها من خلال توسيع دائرة القراءة لتشمل أنواعا مختلفة من المتون، مع الانفتاح على نتائج علم الآثار والأنثروبولوجيا في هذا المجال. وكانت النتائج على قدر ما وفرته هذه المصادر، لا على قدر ما يطمح الباحث والقارئ إلى بلوغه وتحقيقه، خاصة إذا كان هذا الطموح يرنو إلى السير على خطى من تناولوا ظاهرة الموت في تاريخ المجتمعات الغربية من قبيل فيليب أرياس Philippe ARIES وغيره ممن شجعتهم الإمكانات المصدرية المتوفرة لديهم واحتكاكهم بعلمي الاجتماع الأنثروبولوجيا.
غير أن ندرة الأبحاث التاريخية المغربية حول موضوع الموت وقلة المادة المصدرية المتوفرة وجدة ما توصل إليه محمد حقي في موضوعه هذا، يدفعنا أكثر، في هذه الخلاصة، إلى التأكيد على محاذير منهجية تخص التعامل مع مثل هذه المواضيع، وفي مقدمتها ضرورة الانتباه لمخاطر الانزلاق في تعميم بعض النتائج على مجالات جغرافية مختلفة في مجال الغرب الإسلامي. ومن ذلك الاختلاف الحاصل مثلا بين المجتمع المغربي خلال العصر الوسيط الذي غلبت عليه الصبغة القبلية، والمجتمع الأندلسي الذي اندثرت فيه النزعة القبلية أو كادت، فضلا عن التنوع الكبير في مكوناتهما الاثنية وتركيبتهما الاجتماعية والثقافية مع ما يتبع ذلك من غلبة مكون أو تركيبة على أخرى في هذا المجال دون الآخر أو العكس. مما يدفعنا إلى الاعتقاد بصعوبة تعميم النتائج المتوصل إليها عن التصورات الجماعية والقيم الخاصة بالموت والإدراكات والأحاسيس المرتبطة به، ثم السلوكات الجماعية المنبثقة عن تلك التصورات والمشاعر على المجتمعين المغربي والأندلسي. إذ لا نشك في أن ثمة خصوصية لكل مجال، وإن كانت بينهما قواسم مشتركة.
وبقدر ما نعتقد بصعوبة الجمع بين مجالي المغرب والأندلس في دراسة تيمة الموت والمواقف والسلوكات والتصورات الجماعية الخاصة به، بقدر ما نؤكد أيضا على ضرورة الانتباه لما هو محلي وخاص وتمييزه عن العام في المجال الجغرافي الواحد، إذ أن الموت في ذهنية الإنسان البدوي بمغرب العصر الوسيط قد يختلف عن الموت في ذهنية الإنسان الحضري، والموت عند أهل فاس أو سبتة ليس بالضرورة كما هو عند أهل مراكش أو سوس، سواء تعلق الأمر بالتصورات والأحاسيس المرتبطة به أو بالطقوس المرافقة لاحتضار الميت أو تأبينه.
الاختلاف الآخر الواجب أخذه بعين الاعتبار، يتعلق بالتنوع الذي ميز التركيبة البشرية والدينية المكونة للمجتمعين المغربي والأندلسي، والذي لا يسمح بتعميم موقف واحد من الموت على مختلف مكونات هذه التركيبة. إذ أن الموت عند المغربي المسلم قد لا يكون نفسه عند المغربي اليهودي أو المسيحي أو عند العبيد الأفارقة أو الأغزاز الأتراك أو غيرهم ممن يشكلون الفسيفساء الاثنية والدينية المغربية والأندلسية خلال العصر الوسيط. ثم أليس في هذا التنوع داع كاف لبسط الأسئلة الخاصة بالموقف من الموت لتشمل البحث عما بقي راسخا عند بعض الأقوام ممن وفدوا على المغرب والأندلس، وتمييزها عما تغير بعد استقرارهم واندماجهم في هذين المجتمعين؟ ألا يمكن أن نفسح المجال هنا للمقارنة وتحديد أوجه التماثل والاختلاف في الموقف من الموت بين المكونات البشرية والاجتماعية والدينية والثقافية للمجال المتوسطي، والذي احتضن المغرب والأندلس كثيرا من عناصرها؟
علاوة على ما سبق، وفي السياق نفسه، ننبه إلى الصعوبات المرتبطة بتحديد الثابت والمتحول في تصور المجتمعين المغربي والأندلسي للموت على امتداد العصر الوسيط، إلى جانب صعوبة الجواب عن سؤال ما بقي ساكنا في هذا التصور، وما تغير منه سواء خلال العصر المعني أو حتى إلى يومنا هذا. إذ نعتقد أن كل مغامرة في هذا المجال، لا ينبغي أن تقتصر على الرصد البيبلوغرافي لتحديد التصورات المستجدة وتمييزها عن الحاضرة باستمرار، فحضور تصور ما اتجاه الموت في مصدر معين وغيابه في من سبقه لا يعني غيابه قبل ذلك بالضرورة أو حضوره. وعلى الرغم من إلحاحية مثل هذه المقارنات لتبين التطور الحاصل في مواقف المغاربة والأندلسيين من الموت، إلا أنها تستوجب قراءة شاملة لمختلف أنواع المصادر، مع الدقة الكافية في قراءتها وأخذ الاحتياط الكافي اتجاه نتائج الدراسات الأنثروبولوجية في هذا المجال.
أخيرا، وكما وثق لذلك الباحث في عمله هذا أثناء حديثه عن مهن الموت وحنطاته، من غسل وتحنيط وصناعة أكفان وحفر للقبور وبناء لها وتزيين لها والممولين لولائم العزاء وغيرهم من العاملين في مجال الموت والمستفيدين منه، هل يمكن الحديث عن بنية تحتية للموت عند المغاربة والأندلسيين رافقت الأبنية الفوقية المرتبطة بالذهنية الجماعية الخاصة بهذه الظاهرة؟ هل يمكن الحديث عن اقتصاد الموت بحنطات معينة ومهن خاصة؟
إنها بالجملة قضايا تحاور موضوع الموقف من الموت عند المغاربة والأندلسيين كما قدمه محمد حقي في كتابه، وفي الوقت نفسه مشاريع لبحوث جديدة تأخذ بعين الاعتبار تنوع واختلاف المجال والبشر والزمن مع ما يتبع ذلك، بالضرورة، من اختلاف في تصور الموت وإدراكه وإنتاج الأحاسيس الخاصة به، وكذا القيم والسلوكات الناتجة عنها. مشاريع قد تضيف لبنات جديدة على هذه اللبنة التي أحسن صاحب هذا العمل وضعها.