الحوار الذي نقدمه للقراء في هذا العدد يدور مع الأستاذ أحمد بوحسن، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس- أكدال بالرباط. ويعتبر من الباحثين في مجال الدراسات النقدية الحديثة أساساً، وفي مجال الدراسات الثقافية والدراسات المقارنة والترجمة كذلك.
وإذا كانت بيبليوغرافيا الأستاذ أحمد بوحسن تتوزع بين البحث والدراسة والترجمة، فإننا سنكتفي هنا بتقديم عناوين بعض مؤلفاته ومترجماته:
– المجتمع والمقاومة في الجنوب الشرقي المغربي ( ترجمة من الإنجليزية إلى العربية)(2006).
– في المناهج النقدية المعاصرة (2004).
– نظرية الأدب: القراءة – الفهم- التأويل ( ترجمة من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية) (2004).
– العرب وتاريخ الأدب: نموذج كتاب الأغاني (2003).
– الخطاب النقدي عند طه حسين (1985).
وله مقالات وأبحاث عديدة في المجلات الأدبية والفكرية المغربية والعربية والغربية.
ونذكّر بأنه عضو في هيأة تحرير مجلة رباط الكتب: ribatalkoutoub.ma
نص الحوار
* الأستاذ أحمد بوحسن، من موقعك كناقد وباحث وأكاديمي، لك اهتمام كبير بالدراسات الثقافية وأدوات النقد الثقافي، وساهمت بشكل مميز في إثراء الحركة النقدية والثقافية في المغرب والعالم العربي.
كيف تنظر إلى التحولات التي تعرفها الثقافة العربية المعاصرة، في سيادة التطور الكبير الذي عرفته الدراسات الثقافية بتياراتها المتنوعة في العالم العربي المعاصر؟
– الواقع أن الدراسات الثقافية في الثقافة العربية المعاصرة حديثة، ولم تعرف بعد تيارات كبيرة أو صغيرة، إنما هي مجهودات بعض النقاد العرب الذين حاولوا دراسة الأدب العربي من منظور الدراسات الثقافية في مستوياتها الأدبية في الغالب، مثل كتابات عبد الله الغذامي الذي طرق هذا النوع من الدراسة في كتابه المشهور عن النقد الثقافي، ثم تبعه آخرون في بعض الأقطار العربية. وبدأت تظهر بعض المقالات عن الدراسات الثقافية في بعض المجلات الأدبية والثقافية العربية. ويبدو أن النقد الأدبي العربي المعاصر لم ينتج بعد دراسات كثيرة ومتنوعة تسمح لنا بالقول بوجود تيارات للدراسات الثقافية.
* وما موقع الثقافة المغربية في هذه الدراسات؟
– موقع الثقافة المغربية في هذه الدراسات لا يختلف كثيراً عن موقعها في الثقافة العربية عامة، غير أن هناك بوادر للوعي بأهمية هذه الدراسات وإنشاء برامج للدراسات العليا في الجامعة المغربية تهتم بالدراسات الثقافية في شعب اللغات الأجنبية، واللغة العربية في بعض الجامعات. كما أن بعض الدراسات الواعدة بدأت تظهر من حين لآخر في الوسط العلمي الجامعي والوسط الثقافي. ولعل مرد تأخر ظهور الدراسات الثقافية في الثقافة العربية عامة والمغربية بخاصة، هو عدم انفتاح الدراسة النقدية العربية كثيراً على تداخل التخصصات، وانفتاح الدراسات الأدبية على المعارف الإنسانية والاجتماعية المختلفة. وأن الاهتمام ما زال منصباً أكثر على الدراسات النصية، والمونوغرافيات النقدية. وربما انصبت المجهودات النقدية العربية أكثر على النص الأدبي الشعري والسردي والمسرحي والرحلي والشعبي…، أكثر من الاهتمام بالنص الثقافي الذي يموقع النص الأدبي والظاهرة الأدبية في تعالقاته التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحثاً عن جمالية ثقافية واسعة تكشف عن مختلف السلطات التي تمسك النص الأدبي العربي المعاصر وتكبله في نفس الوقت. كما أن الدراسات النقدية العربية لم تهتم كثيراً بالنصوص الصغرى أو الهامشية في الثقافة العربية أكثر مثل اهتمامها بالنصوص المعيارية التي اعتبرها تاريخ النقد العربي المعاصر مناط التعبير عن الجمالية الأدبية واللغوية والفكرية العربية. ولكن التحولات الفكرية والجمالية التي عرفها النقد الأوروبي والأمريكي الذي يتفاعل معه النقد الأدبي العربي دائماً، وكذا الصراعات التي يعرفها العالم العربي، وبخاصة صراعه مع مختلف السلطات التي تكبله وتحد من تحرره وانطلاقه، قد ينتج دراسات ثقافية دالة في المستقبل، وكذلك عندما تتم ترجمة جملة من الدراسات الثقافية الأجنبية الأساسية إلى اللغة العربية.
* من المعلوم أن النقد الثقافي، في أمريكا وأوربا، أتى من رحم الجامعة، غير أنه لم يحدد علاقته بهذه المؤسسة العلمية بشكل واضح، علماً بأن أهم مبدإ ناظم لأطروحته هو نقض الخطاب المؤسسي أثناء بحثه عن الأنساق في الفكر والأدب والفن. فإذا كان مفهوم المؤسسة واضحاً في وعي وممارسة كل من السياسي والعامل والمثقف في الغرب، فكيف يمكن استنبات سياق مبني داخل تربة يغيب عنها أي ضمان لمعنى المؤسسة حتى في التاريخ؟
– البحث العلمي في الجامعة الأمريكية والأوروبية هو الذي ولد مختلف التيارات الفكرية والعلمية أولاً، ومن مهام البحث العلمي هناك، ثانياً، أن يحلل ويناقش مختلف القضايا التي تمس مختلف مظاهر الحياة، ولو كانت تمس بممارسات الدولة ومؤسساتها وسياستها، كما يتطلب ذلك النظام الديموقراطي عندهم. وإن كان البحث العلمي هناك مرهون بالتمويل من مختلف المؤسسات الخاصة والعامة. ولكن، مع ذلك، فقناعة الباحث أو الباحثة العلمية وحريتهما فوق كل اعتبار أساساً. وقد تكون لهما بعض التبعات أحياناً، مثلما حصل لمعهد الدراسات الثقافية في بريطانيا لما قطعت عليه الدولة التمويل لمواصلة أبحاثه الثقافية التي كانت تمس بالفعل ممارسات الدولة البريطانية وكل الممارسات الإمبريالية. ولكن، رغم ذلك، لم يتوقف البحث في الدراسات الثقافية، بل امتد إلى أمريكا وانتعش فيها أكثر، ثم وصل إلى أوروبا وأصبح منتشراً في مختلف الجامعات والمعاهد العلمية. ثم وصل إلينا في السنوات الأخيرة في بعض الجامعات العربية.
أما مسألة استنبات الدراسات الثقافية عندنا، في نسق ثقافي مختلف عن النسق الذي ظهرت فيه، فهذا ممكن. فحق نقل المعارف وترجمتها حق إنساني عام، يدخل في الحق في المعرفة من حيث المبدأ. واختلاف الأنساق السياسية والثقافية لا تمنع انتقال المعارف والأفكار والعلوم والفنون، ولكن الأمر يتعلق بمسألة النقل نفسه. ما هو نوع البنيات العلمية المستقبِلة وقدراتها وتحملاتها للاستيعاب والتمثل للنسق المراد استنباته. فمن الملاحظ أن الاستنبات الفكري والعلمي والثقافي يتم بشكل سليم وبشكل سريع أحياناً بين أوروبا وأمريكا، مثلا، لأن لها بنيات علمية ومؤسسات جامعية متقاربة تستوعب بسهولة الأنساق الواردة عليها. أما بنياتنا ومؤسساتنا العلمية فليست في مستوى البنيات المذكورة. ولهذا يكون استقبالها للبنيات العلمية متعثراً بحكم تاريخيتها وقوتها التنظيمية والمادية، وقوة باحثيها وباحثاتها، وقوة النظام السياسي والعلمي الموجودة فيه. ومع ذلك، فلا يمكن لاختلاف النسق السياسي والعلمي والثقافي أن يمنعنا من التطلع إلى إرساء بنيات علمية يراها الباحثون المغاربة والعرب صالحة ومفيدة لتطوير تصوراتهم العلمية والمعرفية، ومحاولة تمثلها، واستحضار الإمكانيات الذاتية وقدراتها المادية، وكذا قدراتها على تحمل مجالات علمية أو أخرى. ولنا في تاريخ الجامعة المغربية والعربية الحديثة، وفي تاريخ البحث العلمي العربي الحديث خير مثال على تعامله مع النسق الأوروبي الحديث. فجل النسق العلمي والجامعي قد استمد من النسق الأوروبي، مع احتفاظنا ببعض أنساقنا العربية الإسلامية الموروثة في بعض المجالات العلمية والمعرفية، والدينية بشكل خاص.
يبدو أن مسألة استنبات الدراسات الثقافية في النسق العلمي والمؤسساتي المغربي والعربي لا يختلف عن باقي الدراسات الأدبية الحديثة التي تم استنباتها من قبل بطريقة أو أخرى؛ فكان لها حضورها في المتن النقدي المغربي والعربي، مثل البنيوية والتفكيكية والدراسات السيميائية ودراسات التلقي وغيرها من الدراسات النقدية الحديثة. والذي يمكن أن نتساءل عنه هنا، هو هل تطورت قدرات مؤسساتنا العلمية والفكرية لتتمكن من الاستنبات بطرق مختلفة ومتطورة أكثر مما حدث مع استنبات الدراسات النقدية في العقود السابقة؟ من الصعب القول بتطور تلك البنيات بشكل كبير، ولكن الوعي بأهمية الاستنبات قد تقوى وحصل تراكم معرفي ومنهجي في ذلك، من شأنه أن يغني الدراسات النقدية المغربية والعربية، ويدفع الأجيال القادمة إلى البحث عن تطوير أكثر لبنيات ومؤسسات الاستقبال والاستنبات العلمي، بل والانتاج العلمي الأصيل. ولن يتأتى ذلك في النهاية ما لم تدرك الدولة ومؤسساتنا العلمية مدى أهمية تطوير بنياتنا العلمية والبحثية في جامعاتنا.
* الأستاذ أحمد بوحسن، كان اهتمامك بكتاب “الأغاني” كأهمّ كتاب في تاريخ الأدب العربي يلامس في عمقه مجال الدراسات الثقافية كما ذكرتَ، فهو بحث في أصولنا الثقافية وعمقنا الإنساني. ورأيتَ بأن هذا الكتاب يمتلك حظاًّ وافراً من التمثيلية لممارسة كتابة تاريخ الأدب العربي. فاعتمدتَ على تصوّرات مفهومية ومنهجية لعمل ضخم يتألّف من أربعة وعشرين مجلداً وأعدتَ قراءته بمنظور معاصر. هل يعني هذا نوعاً من الانتقال من جمالية التلقي الأدبي إلى التلقي الثقافي؟ وبالتالي هل يستطيع المصطلح النقدي الثقافي كغيره من مصطلحات العلوم المعرفية كشف أسرار الآليات المفهومية وتوظيفها بما يوافق الحقل المعرفي المنشود؟
– كتاب الأغاني، فعلاً، من أمهات الكتب الأدبية العربية الكلاسيكية، أي: أنه جمع حصيلة أكثر من أربعة قرون من الإبداع الشعري والثقافي العربي حتى القرن الرابع الهجري. فهو ديوان للألحان الشعرية العربية القديمة. ولكنه أثناء جمعه وترتيبه وتصنيفه للألحان والأشعار العربية الملحنة والمغناة، كان يؤثث ذلك التراث الشعري بقضايا تاريخية ودينية وفكرية ولغوية وسياسية تعطي للنص الشعري امتداداته في الثقافة العامة والمختلفة التي يتخلق ويتكون فيها ذلك الإبداع. ولهذا كنا لا نكتفى في كتاب الأغاني بالنص الشعري الملحن فقط، ولكن كنا نهتم كذلك بالاستطرادات، التي غالباً ما تعبر عن الملامح الثقافية التي يضعها النص في الهامش، أو يجعله حلية للنص الأصلي في نظره. وقد يسمى ذلك بهامش النص، ولكنه في الحقيقة ، هو أيضاً نص جامع حسب تعبير جيرار جينيت؛ نص يجمع عدة متون متداخلة ومتفاوتة في الدلالة، ولكنها منغرسة في التربة الثقافية العامة التي تعبر عن المجتمع العربي القديم البدوي والقروي، والحضري كذلك، ومنغرس في الأجناس المختلفة التي أنتجت تلك الأشعار والألحان المختارة؛ العربية وغير العربية، ووضعها المسلم والمسيحي واليهودي أو وضعتها المرأة كذلك. ومن مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية.
كان كتاب الأغاني يختار من الثقافة العربية أحسن الألحان والأشعار. ولهذا تبنى معيار القيمة الفنية والإبداعية، لا القيمة التاريخية؛ السابق أو اللاحق، القديم أو الحديث، العربي أو غير العربي، المسلم أو غير المسلم، الوضيع أو الشريف، الفقير أو الغني، همه كان النص الشعري الملحن المشهود له بجودته وقوة تداوله في الفضاء الثقافي العربي القديم إلى عصر الأصفهاني. بهذا المنظور وجدتُه يحمل بذور التصور الثقافي الذي يهتم بإنتاج المجتمع في كليته، مركزه وهامشه، ولا يعير للعرق أو الدين أهمية كبيرة، ما دام الإنتاج له ما يؤهله جمالياً ودلالياً باللغة العربية المحمَّلة بجماليتها المثلى. وليس معنى هذا أن صاحب الأغاني قد سبق إلى الدراسات الثقافية، وأن الثقافة العربية سبقت النظريات الحديثة للدراسات الثقافية، بل قراءتنا الحديثة المحملة بمفاهيم الدراسات الثقافية الحديثة هي التي وجدت في نص الأغاني بعض الملامح التي تستجيب لذلك التصور. أما التنظير الذي انطلق منه صاحب الأغاني فهو تنظير يقوم على المفهوم النقدي العربي القديم المتداول في زمانه. ولم يكن همه أو وعيه النظري أن يضع تصوراً للدراسات الثقافية المعاصرة.
* وما مدى توفق النقد الثقافي في الكشف عن مضمره النسقي وتحقيق ما عجز عنه النقد الأدبي؟
– يبدو لي أن دور المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة والتصورات الأدبية المعاصرة، هو تبين وإدراك قدراتها العلمية على مقاربة النص، أي نص؛ قديماً كان أم حديثاً. ولكن بوعي نقدي وثقافي وتاريخي للنصوص المعالجة، وإخضاعها لمتطلبات تلك المناهج الحديثة، ومعرفة حدودها في نص دون آخر. وبهذا سنتجنب الإسقاط والتسرع في القول إن أي ظاهرة أدبية أو فكرية قد سبقت إلى هذا أو ذاك. الثقافة العربية الكلاسيكية كانت محكومة بزمنها وتاريخيتها وتصوراتها المنهجية والنظرية والجمالية، وكانت تتعامل مع متلقيها الضمني والمثالي الذي تستطيع تصوره إلى حد ما. صحيح أن بعض النصوص الكبرى الإنسانية قد تخرج عن تصورات وتوقعات زمانها، ولكنها تبقى نادرة في الثقافة العربية والإنسانية، وتسمى نصوصاً إنسانية، لأنها تتجاوز ذاتها وتاريخها ووضعها إلى أوضاع إنسانية واسعة. والأغاني فيه كثير من ملامح النص الإنساني العربي، والإسلامي، مع ملامح أخرى إنسانية عامة. ويمكن القول إن كتاب الأغاني يمثل في الأدب العربي والثقافة العربية الإسلامية ما قدمه ابن خلدون في الثقافة العربية الإسلامية التاريخية والاجتماعية.
أما تعويض التلقي الأدبي بالتلقي الثقافي الذي قد يشير إليه كتاب الأغاني، وفق ما رأيت؛ فأعتقد أن منتهى ما كانت تطمح إليه نظرية التلقي أو نظرية استجابة القارئ هو أن تصل إلى قارئ مثالي. والقارئ المثالي لا يمكن أن يتحقق إلا باستحضار القارئ للنص؛ ليس في نصيته الملفوظة فقط، ولكن في نصيته المضمرة في دلالات اللغة الأدبية وإيحاءاتها الثقافية البعيدة. وأعتقد أن الدراسات السيميائية قد قدمت لنا تصوراً دقيقاً يغني مفهوم النص ويكشف فيه عن تلك الأبعاد الثقافية الدقيقة. ويمكن للدراسات الثقافية أن تستغل ذلك في بناء مفهومها للنص الثقافي الذي لا يعوض أي مفهوم آخر للنص، ولكنه تصور من ضمن التصورات الحديثة للنص الأدبي الذي تريد الدراسات الثقافية أن توسعه ليشمل فضاءات أخرى غير ملفوظة ولا متوقعه أو منسية ومهمشة في حياة النص. والدراسات الثقافية، إذ تستفيد من الرصيد النظري الذي كونته الدراسات البنيوية والتفكيكية والتأويلية والسيميائية واللسانية لتشيد تصوراً أوسع للنص وينفتح على العلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفة والسياسة وغيرها. وهذه مهمة علمية صعبة، ولا شك، ولكن المنجز في مفاهيم تعدد التخصصات وتداخلها، ومفهوم الآخر، والهجنة، ومفهوم الذات/الآخر، وغيرها من المفاهيم الحديثة للإنسان وللعالم، وتوسيع تلك المفاهيم قد تغني تصورنا للأدب ولذواتنا ولمجتمعنا ولثقافتنا في النهاية. كل ذلك من أجل إبداع فكري وعلمي وأدبي وثقافي، مشبع بالمشترك الإنساني الذي تعبر عنه النصوص الأدبية والثقافية.
* هذا مطلب أساس لمعرفة الإمكانات التي تتيحها النصوص العربية القديمة، في أفق انفتاح القراءة والتلقي على العلوم المعرفية. ومما لاشك فيه أن توسيع المفاهيم عمل شاق بحكم تنوع المصادر واختلاف الأنساق، الفلسفية والتاريخية والأنثروبولوجية وغيرها، وهو أمر يتطلب فرق بحث مختصة لا نجدها في الجامعات المغربية، رغم بعض المجهودات الفردية القليلة التي تنتهي غالباً قبل أن تبدأ عملها. فعالم المعرفة يتطور بشكل لافت ومدهش، ولكن الاشتغال الفردي يعوقه عامل الزمن في تحصيل المعلومة وتداولها وتأملها وإنتاج الخطاب النقدي حولها. فهل تحتاج الدراسات الثقافية إلى تعدد مراكز البحث، أم إلى تعدد استراتيجيات التفكير بما يلائم راهن المشترك الإنساني، أم إلى إعادة تقويم علاقتنا بالمنجز كله جملة وتفصيلاً؟
– نحن نعرف جيداً وضعية جامعاتنا وإمكانيات مراكز بحثنا العلمية. مثلها مثل مستوى تطور مجتمعنا الذي يسير ببطء، ولكنه يسير، على كل حال. وحتى الذي تحقق في مستوى بحثنا العلمي تحقق في ظروف صعبة، وبمجهودات فردية في الغالب. ومع ذلك، فلا يمكن أن نبخس من هذا القدر من المجهود الفردي الذي لا يذهب بعيداً في البحث العلمي الذي يمكن أن يلحق بمستوى البحث المتعارف عليه عالمياً. ولهذا فتصنيف جامعاتنا وبحثنا العلمي تصنيف يقع في المستويات الدنيا التي لا تشرف جامعاتنا ولا بحثنا العلمي.
وما دمنا في مجال الدراسات الثقافية وكيف يمكن تطويرها في جامعتنا وتطوير البحث العلمي فيها، فعلى الأقل لا بد من أن نعمل على الوعي بأهميتها في مجالاتها المعرفية والعلمية، وإدخالها في برامج الدراسات الأدبية العربية وغيرها في جامعاتنا بشكل أوسع، وأكثر مما هي عليها الآن في بعض جامعاتنا. ولن يتم ذلك إلا بتوسيع مفهومنا للدراسات الأدبية العربية، والانفتاح أكثر على العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية والدراسات الفلسفة والفنية التي ستغني تصورنا للإنتاج الأدبي الذي هو مكون أساس في الدراسات الثقافية.
أما تعدد استراتيجيات التفكير وتعدد مراكز البحث فهو رهين بالبرامج التي يراد إنجازها والأهداف العلمية المبنية عليها. نحن نعرف أن ثقافتنا المغربية والعربية الإسلامية المعاصرة قد اغتنت بالخطابات المتنوعة والمختلفة؛ شعبية ومحلية وتاريخية وتراثية، وبخطابات ما بعد الاستعمار التي يجب تفكيكها، والخطابات الدينية القديمة والحديثة، والخطابات الهجينة التي تتداخل فيها المستويات السياسية والدينية والاجتماعية بسرود مختلفة يتفاوت فيها البعد الجمالي. فمثل هذه الخطابات تكون حمالة لمراجع ومستويات ثقافية مركبة لا بد من دراستها وتحليلها لتبين ما يخدم ذاتنا المغربية المركبة الغنية في نفس الوقت. وكل هذا من أجل توسيع رؤيتنا لخطاباتنا الغنية التراثية والتاريخية والحضارية، وخطاباتنا الراهنة التي توجه وعينا وتصوراتنا لعالمنا والعوالم الأخرى المحيطة بنا.
* عملت إلى جانب ثلّة من المفكرين المغاربة على الوعي بأهمية تطوير مجال الدراسات الثقافية بإدخالها في مجال الدراسات الأدبية العربية من خلال مجموعة من الأبحاث والمؤلفات، كما هو الشأن في كتاب “العرب وتاريخ الأدب” وبرجوعنا إلى هذا الكتاب الذي استأثر باهتمام العديد من النقاد والذي اخترت فيه النظر في تاريخ الأدب العربي من خلال نموذج “الأغاني” الذي اعتبرته مؤسساً لتاريخ هذا الأدب، هل يعني هذا إعادة خلق لهذا التراث وتنبيه للقيمة الرفيعة والاستثنائية لحضور هذا الماضي في الحاضر؟
– عملي في كتاب الأغاني كان يهدف إلى التوصل إلى النسق الذي يقوم عليه هذا العمل الضخم الذي يمثل جزءاً هاماً من التراث الشعري واللحني العربي حتى القرن الرابع الهجري. بحثت عن مكونات هذا النسق الشعري اللحني الفني، والثقافي في النهاية. حاولت أن أشيد المفاهيم الأساسية التي انبنى عليها هذا النسق الثقافي، فوجدته يقوم على مجموعة من المفاهيم والتصورات التي كان الشعر العربي يقوم عليها، ويُلحِق بجانب الشعر بعداً فنياً هاماً هو الألحان التي ميزت شعراً على آخر. ومن ثم كان ترتيبه للشعر من حيث أهميته في تاريخيته يعتمد على الجودة في الألحان التي تغنى بها الشعر، أي: الجودة الفنية وليس الأسبقية الزمنية، أو الانتماء إلى طبقة من الشعراء، أو الأحكام النقدية التي سطرها النقاد القدامى. ولم يكن ما قمت به هنا يهدف إلى إثبات حاضرية هذا الكتاب في زمننا الأدبي أو الفني، وإنما كان دراسة تجربة هامة في التعامل مع تراثنا الشعري والفني والثقافي في مرحلة تاريخية هامة، وفي كتاب هام، هو الأغاني، الذي يبدو أنه كتاب خاص بالأشعار والألحان، ولكنه في نفس الوقت كتاب لتمثلات ثقافية متنوعة ومختلفة وغنية، هي التي أنتجت ذلك العمل. وكان هذا الكتاب محكوماً بزمنه ومفاهيمه وقيمه العربية الشعرية والفنية والثقافية العربية والإسلامية، ولا يمكن إعادة إنتاجه. ولكن الذي يمكن أن يستخلص منه هو دور التمثلات الثقافية في إغناء الممارسة الأدبية، الشعرية واللحنية وغيرها.
* قدّمت في كتابك “نظرية الأدب” تصورات نظرية جديدة للأدب من خلال ترجمة العديد من الأبحاث والمقالات عن الإنجليزية والفرنسية وهي أعمال كبيرة كشفت عن نظريات جديدة لأدباء ساهموا فعلاً في تطوير مجال الدراسات الأدبية على الصعيد العالمي. هل لاشتغالك على هذه الترجمات أثر على ما كتبت؟ وبالتالي هل يمكن وضع منظومة ثابتة لنظرية الأدب ما دام لا يوجد تاريخ محدد لهذا الأدب؟
– من الصعب وضع منظومة ثابتة لنظرية الأدب، لأن الأدب فعل إنسان، والفعل الإنساني ذاتي أولاً، ومتغير ثانياً، في الزمان والمكان والحال. وهذه خاصية الآداب والفنون، بشكل خاص، وكذلك العلوم الإنسانية التي تهتم بفعل الإنسان في الزمان والمكان وبتقلبات أفعاله المرتبطة بالذات، وعدم ثباتها. ولهذا فتاريخ الأدب بدوره متغير بتغير الآداب في الأزمان والأمكنة والأحوال، وإن كان كل أدب وكل تاريخ أدب يشتغل وفق أنساق محددة منغرسة في النسق الثقافي العام.
الترجمة هي نقل للمعارف وتبادل للخبرات والتجارب الإنسانية. والأعمال التي ترجمتها هي الأعمال المتصلة بنظرية الأدب التي قد تنطبق على مختلف الآداب الإنسانية، ومنها الأدب العربي. ومن المؤكد أن التنظيرات الأدبية التي حاولت التعامل معها باللغات الأجنبية والتي تمكنت من نقل بعضها، أو دراستها في لغاتها، كان لها دور أساسي في تعاملي معها، وفي محاولتي استنبات تصورات بعض تلك النظريات في أدبنا العربي. مثل نظرية التلقي أو النظرية التشييدية في الأدب أو الدراسات الثقافية وغيرها. وبهذا النوع من التثاقف مع منجزات الآخر الفكرية والنظرية نستطيع تطوير تصوراتنا الفكرية والأدبية وممارساتنا الثقافية وإغنائها. ومن المؤكد أن الانفتاح على ثقافة الآخر هو الذي يضع الذات أمام ذاتها وأمام الآخر. ومن ثم يشتغل فعل المقارنة وفعل النقد، فتتولد ضرورة انتقاء العمل الفكري أو النظري الذي يغني الذات بترجمة نص من النصوص الأجنبية.
* ولكن بعض الترجمات التي تفد علينا بين الفينة والأخرى، ومن أماكن مختلفة، تعوق هذا الإغناء، ولا نظفر منها بشيء عدا اللفظ المنقول إلى العربية. ألا ترون أن ممارسة الترجمة فعلٌ نسقي، ذو صلة باللغة ونظرياتها، وبالفكر المنقول ومرجعياته، حتى تتمكن هذه الممارسة من بسط خصوصيتها رغم تعدد نظريات الترجمة؟
– الترجمة فعل إنساني فكري لغوي ثقافي وفني؛ وككل فعل من هذا القبيل نجد فيه الغث والسمين، ولهذا نجد في ترجماتنا العربية ما هو جاد ورصين وما هو دون ذلك. ولعل نقد الترجمة هو الكفيل بالفرز بين الترجمات الجيدة وغير الجيدة. وهذا النوع من النقد لم يتطور كثيراً عندنا، ولكن ليس معنى هذا أن تتوقف الترجمة، بل أن تواصل الترجمة فعلها ودورها، وتاريخها مرتبط بتطور المعرفة في العالم العربي، وهي جزء من تلك المعرفة.
صحيح أن الترجمة فعل نسقي لغوي فكري وثقافي وفني، بل يتعدى ذلك إلى ما هو خارج لغوي مرتبط بالنسق الفكري لكل لغة، ولكن ذلك لا يقف دون الترجمة، وإنما إدراك ذلك يجعل الترجمة فعلاً منتجاً في اللغة المنقول إليها. وكلما كان الوعي قوياً بالنسق المصدر والنسق الهدف في الترجمة، كلما كانت الترجمة سوية وسليمة. فالترجمة لا تقوم بالنقل اللغوي ونقل المعنى فقط، ولكن نقل المقابلات النسقية التي يحصل لها تحوير وتغيير أثناء عملية النقل. واللغة ليست محايدة عندما تقوم بفعل النقل، لأن اللغة لها فعلها في ذاتها، في معجمها وتراكيبها وصوتها ودلالاتها، ومن ثم تنتج دلالاتها التي لا يمكن للغة المصدر أن تتحكم فيها أو تفرض عليها فعل نسقها كما هو عندها. هنا نكون أمام مادتين لغويتين حاملتين لمضامين وأفكار وإحالات لا تضبطها اللغة نفسها، وأن ما تضبطه اللغة هو نسقها السطحي، وأن الذي يضبط نسقها العميق هو القارئ والمتلقي، وبخاصة المترجم في وضع الترجمة. ولما كانت الترجمة تقوم على فعل التلقي المغاير والمضاعف، فإنه هو الذي يقوم بفعل التحويل النسقي للنص المصدر إلى نسق النص الهدف. نلاحظ هنا أن الترجمة فعل مركب وفعل متحرك، وأنه في هذا الوضع غير القار الذي يخلقه فعل الترجمة تكمن عبقرية الترجمة وعبقرية المترجم، وتكمن أهمية الانتقال من نسق إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. وهذا ما يساعد على خلق حركة وخلخلة داخل النسق الأصل والنسق المستهدف، كما يساعد على خلق حوار بين النسقين، ومن ثم فعل التبادل الخلاق بين اللغات والثقافات. وكلما أخضعنا فعل الترجمة، بالصورة التي ذكرناها، للدراسة والتنظير، كلما تطور فعل الترجمة وأصبح دورها قوياً.
* صحيح أن الترجمة الأدبية كباقي العلوم الإنسانية عمل نسقي. لكن إذا رجعنا إلى ترجمة الشعر كمكوّن من مكوّنات النسق الثقافي المتعدّد، نجد أن الشعر أكثر الأجناس الأدبية التي عملت على تعميق التفاعل الثقافي بين الشعوب والحضارات. إلا أن ترجمة الشعر عملية إبداعية بالغة الصعوبة لخصوصية اللغة الشعرية التي هي لغة غنية بالتخييل والتعابير الاستعارية، فمعظم الترجمات الشعرية المتوفرة في المكتبات ترجمات غير جيدة. فإلى أي حد يمكن أن تحقق هذه الترجمة الجودة والجمال؟
-إن الشعر، فعلاً، يساعد على تعميق التفاعل الثقافي بين الشعوب والحضارات. وربما كان دوره في ذلك قديماً أكثر مما هو عليه الآن. ولكن الشعر المغنى والملحن هو الذي يلعب اليوم دوراً أكثر من الشعر المقروء أو المنشد. ومع ذلك، فالشعر مكون أساس ضمن المكونات الخطابية الإنسانية المتبادلة بين الثقافات والشعوب. والترجمة هي التي تقوم بدور نقل الأشعار من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى. وقد عرفنا الشعر اليوناني والأوروبي والفارسي وغيره من الأشعار الإنسانية من خلال ما ترجم منها إلى العربية، كما عرف الآخر الشعر العربي من خلال ترجمته كذلك. وأن ما كوناه من تصورات عن شعر الآخر قد كوناه من خلال الترجمة، وإن كان البعض منا يستطيع الاطلاع عليها في لغاته الأصلية، وبخاصة من يتقن لغة المصدر، وهم قلة.
ومهما قيل في ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، وكذلك مدى صعوبة ترجمة الشعر، فإنه رغم اعتراف المتخصصين في ترجمة الشعر، أو الذين مارسوا ترجمة الشعر، فإن ترجمة الشعر حاصلة وقائمة منذ زمن بعيد، وليس هناك بد من ترجمة الشعر إذا أريد له أن يلعب دوره في نشر التفاعل بين الثقافات. صحيح أن المنظرين لنظرية الترجمة قد انقسموا حول ترجمة الشعر؛ من قائل بصعوبته، بل باستحالة ترجمته، ومن قائل بإمكانية ترجمته من لغته الأصلية إلى لغة أخرى. والحق أن المشكل يكمن دائماً في المترجم الذي يقوم بترجمة الشعر ونقله، ولكن هذا لا يختص به الشعر وحده. نعم هناك كثير من الأشعار المترجمة غير موفقة في جميع اللغات، ولكن مع ذلك، هناك كثير من الترجمات التي توفقت في نقل معاني الأشعار بشكل دقيق، وبخاصة عندما يقوم بها الشعراء أو الخبراء بالشعر وصناعته. ترجمة الشعر هي من نوع الترجمة الفنية التي تتطلب ذاتاً مترجمة لها قدر كبير من الإحساس الفني الذي يختص به فن الشعر، وهم موجودون، مع ذلك، رغم قلتهم. وأولئك هم المؤهلون بالقيام بترجمة الشعر ونقل قدر كبير من خصائصه الفنية المحملة به في لغته الأصلية.
* يرى بعض المشتغلين بنظريات الترجمة أن المترجم، مهما يكن عمله جيداً ومتقناً، يبقى في منطقة الظل دائماً، لا يلتفت إليه كصاحب العمل. فهل تعد هذه الوضعية حالة أكاديمية، أم أنها صورة نمطية لسلوك ثقافي اتخذها مواضعة بوعي أو بدون وعي؟
-وضع المترجم في منطقة الظل أو منطقة الضوء لا يقلل من عمل المترجم، لأن المترجم لما ينقل نصه من النص الأول، يصبح نصه هو، ويستقل عن الأصل من حيث اللغة والصياغة، ومن حيث المتلقي الموجه إليه هذا النص الهدف. هناك نظريات كثيرة حول الوضعية الاعتبارية للمترجم كناقل، ووسيط، ومؤلف ثان، وغيرها من الأسماء. ولكن هذا المترجم بكل الأسماء والنعوت الاعتبارية التي تلحق به، فهو يشتغل في فضاء خاص يختلف عن فضاء المؤلف للنص الأصل؛ ومن هذا الفضاء الخاص، المختلف والمؤتلف مع النص الأصل، يتشكل عمله وتتحدد وضعيته الاعتبارية، وبالتالي يستمد قيمته الخاصة به التي تتجلى في الفعل الذي يقوم به، ولا يقوم به غيره. وفعله الترجمي فعل أساس في الحياة العلمية وفي ربط العوالم المختلفة، وتقريبها من بعضها البعض. مهنة المترجم، أو حرفته لا تختلف عن مهنة التأليف، لأنها بدورها نوع من التأليف المختلف. أما حكم القيمة على المؤلف وعلى المترجم، فهو حكم يقوم فقط على نسبة الأهمية إلى أي منهما. المؤلف، نعم، هو الأول، والمترجم هو الثاني. ولكن النص المترجم يصبح نصاً أولا في اللغة المترجم إليها، ويستمد من ذلك أوليته كذلك. فالنص الأول لما يكتب له أن يصبح نصاً آخر مترجماً تتضاعف قيمته، ويكون تأثيره أقوى في لغات مختلفة ومتلقين مختلفين آخرين، وهذه قيمة مضافة إنسانية وعلمية تحسب للنص الأصل بفضل المترجم. وهناك بعض النصوص المترجمة تصبح في مرتبة النص الأول عندما تصل الترجمة إلى الحد الذي تبرز فيه النص الأصل وتوضحه أكثر، كما أن هناك نصوصاً مترجمة أصبحت نصوصاً أولى لما ضاع أصلها بفضل ترجمتها التي حافظت عليها. وعلى كل حال، فلا يمكن للمترجم أن يحل محل المؤلف، ولا يمكن للمؤلف أن يحل محل المترجم؛ لكل دوره ومجاله، ولكل قيمته العلمية فيما يقوم به. والمعرفة الإنسانية في حاجة إليهما معاً. فإذا نظرنا إلى الحضارات التي تقدمت قديماً أو حديثاً، فإننا نجدها هي تلك التي اهتمت بالتأليف وبالترجمة معاً.