يعمل محمد الدكالي حاليا أستاذا للفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس-أكدال، كما سبق له أن عمل أستاذا لمادة استكمال التكوين بكلية علوم التربية لمدة عشرين سنة. ويمكن اعتبار “أنماط العلاقات بالحقائق”، هو الموضوع الفلسفي الذي يوحد اشتغاله وكتاباته الفلسفية ذات النكهة الخاصة، كما يحكم تدخلاته في المجال العمومي عبر حواراته ومداخلاته في الندوات الفكرية وفي البرامج الإذاعية والتلفزية.
محمد زرنين:
عودتنا، محمد الدكالي، على الانتباه للكلمات والتحفظ المبدئي بخصوص المعاني التي تتقدم بها، أو بالأحرى تُقدم لنا بها، فلنمارس هذا التمرين ولنسألك: بأي معنى يصح الحديث عن مجال عمومي عندنا، الآن وهنا؟
محمد الدكالي:
إذا كنا نقصد بالمجال العمومي) (l’espace public حياة الناس خارج بيوتهم، أي الأماكن والأنشطة والأعمال والسلوكات التي يشترك فيها عدد كبير من الناس خارج البيوت، وخارج المجالات الخاصة (المقهى، الشارع، السوق، النادي) فهو موجود، لكن المجال العمومي يتضمن كذلك ما نسميه بالإدارة العمومية، التي تكون وظيفتها الأولى هي تسيير أو تقنين أو التحكم فيما ذكرت، أي الأماكن والأنشطة والأعمال والسلوكات. فهي إذن جزء مما يمكن أن نسميه المجال العمومي؛ وينتسب إلى هذا المجال كذلك، ما نسميه بالقوة الإعلامية، حتى لو كان عملها يتم في أماكن منعزلة وفي قاعات مغلقة لأسباب تقنية ومهنية، لأن مجال انتشارها وتأثيرها هو المجال العمومي. فهي تنتسب بالضرورة إلى المجال العمومي.
ولا أريد، هنا، أن أفتح هذا المفهوم لكي يتضمن كل شيء. فالبيت، مثلا، بيت أي أحد من الناس، ليس مجالا عموميا. لقد قال هيجل: عندما اكتشفت الإنسانية الباب خلقت فصلا بين ما هو خارجي وما هو داخلي، بين ما هو مشاع بين الناس، من جهة أولى، وبين ما هو خاص ببعضهم، من جهة ثانية؛ باكتشاف البشرية الباب خلقت الفصل بين مجالي “الموضوعية” و”الذاتية”، إذ يمكن لأي أحد أن يرتدي ما يشاء في بيته، ولكنه يكون مجبرا على الخضوع للنظام الموضوعي الخاص باللباس والسير والحديث عندما يغادر بيته، عندما يخرج من بابه ويغلقه.
مثلا عندما تتدخل السلطات العمومية، في سياق تدبير المجال العام، وتغلق مكانا ما كمقهى، أو مدرسة أو بيت، نظرا للأخطار التي قد تمثلها بنايات هذه المؤسسات على المواطنين، أو للأضرار الصحية الناتجة عن سوء التدبير أو التسيير، فإن ذلك يكون بدافع الحفاظ على المجال العمومي.
وعندما تمنع السلطات العمومية، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، شخصا ما من الرجوع إلى مجاله الخاص وتبقيه، بشكل أو بآخر، في مجال ليس هو بالمجال الخاص تماما، ولا بالمجال العام تماما، كالسجن، مثلا، فإنها تعمل بمبدأ ضمان الأمن واحترام القوانين داخل هذا المجال العام وحتى داخل المجال الخاص. فعندما يُسجن أحدهم وتسلب حريته، فإن ذلك يعني سحبه من المجال العمومي كما يقال، لإعادة تربيته أو لمنعه من الإضرار بالناس. إذن، بهذا المعنى، المجال العمومي طبعا موجود، والدليل أننا نوجد في مقهى، في هذا المجال العمومي، ولم يأت أحد ليقول لنا: لا تدخلا هذا المكان، بل هناك قوانين تعاقب بشدة من منع أناس لأسباب عنصرية أو عرقية من ولوج الأمكنة العمومية. إذن هذا المجال العمومي موجود. لكن ليس السؤال هو هل يوجد هذا المجال العمومي أو لا يوجد، إنما السؤال هو كيف هو هذا المجال العمومي؟ هل هو مناسب؟ هل هو ملائم؟ هل هو منظم؟ هل تنتظم فيه السلوكات والأعمال والأنشطة والأجسام والنوايا وكل ما يحدث فيه على قاعدة تقول بأن الناس أناس عقلاء ويبحثون على خلق تلاؤم، على الأقل، على مستوى الحد الأدنى بين حرياتهم وبين مصالحهم التي كثيرا ما تكون متضاربة في المجال العمومي؟ ثم إلى أي حد يكون هذا المجال غنيا بإمكانيات وفرص وسلوكات تفيد، إن لم نقل كل من يؤمون المجال العمومي، فعلى الأقل تفيد أغلبيتهم مثلا: هل يحظى الإنسان في المقهى بخدمة ترضيه كما يتصور ذلك؟ ثم هل هو يتصرف بشكل يحفظ للمكان رونقه وجماليته ولطف الإقامة به ولو لفترة وجيزة؟
إن هاته السلوكات التي تبدو بسيطة هي التي تعطي للمجال العمومي ليس فقط وجودا عينيا، بل طابعا راقيا ونكهة خاصة وقوة وسلاسة تجعل الناس يرغبون فيه ويجدون متعة وإفادة في ولوجه، أو عكس ذلك، فترى الناس متشنجين غير راضين عن هذا المجال العمومي. خذ مثالا آخر غير المقهى، وهو مثال السوق العمومية. طفل صغير، من أصل مغربي كما يقال، لكنه فرنسي الجنسية، جاء مع والده إلى المغرب، وكان في سن الثالثة أو الرابعة قال لوالده: أنا لا أريد أن أعود إلى ذلك السوق، وهو يقصد سوق (السويقة) بالرباط، فسأله أحدهم لماذا؟ فأجاب: لأن الناس يضعون الصناديق في أي مكان، وقد اصطدمت بصندوق وسقطت وجرحت وبكيت! تأمل قولة هذا الطفل، وهو يصدر حكما قاسيا على واحد من أهم مكونات المجال العمومي!
إذن المجال العمومي هو كأي مجال له وجود قبلي كما يقول كانط. وهنا، عندما تغادر عتبة بيتيك، فأنت في المجال العمومي، ولكن لو مرت سيارة قبالة بيتك وبدأ أصحابها يستعملون المنبه بشكل غير مقبول، فإن هذا المجال العمومي يصل إلى قلب بيتك بشكله السيئ. المجال العمومي، إذن، هو مجال سلوكي. وهذا هو الأهم. طبعا يكتسي المجال العيني أهمية خاصة. أمامنا، وغير بعيد عنا توجد حديقة كانت تعرف بأشجارها الكثيفة والمخضرة؛ وكان الناس يستظلون بها، وتكثر بها أعشاش الطيور، لكن ذات يوم تم اقتلاع تلك الأشجار! ولم يفهم أحد لماذا حدث هذا؟ لماذا تم المس أو المساس، أولا، بالجانب الجمالي لمجال العمومي، ثم، ثانيا، بحق الناس في الاستجمام؟ إذن فالمجال العيني من طرق، وحدائق، ومقاهي، وشوارع، وأمكنة يؤمها الناس، له أهمية فيزيقية، ويعتبر غاية في الأهمية، لكن ما يعرفه ذلك المجال من سلوكات، وما ينتشر فيه من رغبات، وما تُعاش فيه من تطلعات، كل هذا يعطي الطابع الأهم لذلك المجال…
محمد زرنين:
إذن، هنا، تكون قد أشرت إلى الطريق، وقدمت تعريفا للمجال العمومي، كمجال متملك من خلال سلوكات وممارسات تعطيه مواصفاته السلبية الإيجابية، صفاته القريبة أو البعيدة من المتعة أو العذاب الخ. طيب، كيف تحضر الفلسفة من حيث هي طريقة معينة في التشخيص والتحليل والنقد في هذا المجال العمومي المتميز بهذه المواصفات وهذه الممارسات؟
محمد الدكالي:
هل يخص سؤالك مجالنا العمومي الذي كنت بصدد التحدث عنه، أم أنه يخص المجالات العمومية في مجتمعات أخرى؟
محمد زرنين:
سؤالي يخص المجال العمومي الذي نتحدث عنه، الآن…
محمد الدكالي:
أولا، لابد أن نتحدث بنوع من المرح ونحن نتساءل: لماذا لا يتساءل أحد عن حضور دراسة الكهرباء أو العروض بالمجال العمومي، رغم أن هذه أمور تدخل في مكونات المجال العمومي، بل وحتى المجال الخصوصي، فالشاعر يحتاج لمعرفة العروض، وأنت وأنا نحتاج إلى معرفة بعض الأمور في الكهرباء إلخ، ومع ذلك، فلا أحد يتساءل، مثلا: هل تحضر الجغرافيا أو تغيب؟ هل يحضر درس النحو أو الكيمياء؟
لكن الغريب والطريف، في نفس الوقت، هو أنه كلما تعلق الأمر بالفلسفة، إلا وتساءلنا هل تحضر أو لا تحضر؟ وغالبا ما يختفي سؤال آخر، وراء سؤالنا الأول، سؤال يقول: هل ينبغي أن تحضر الفلسفة في المجال العمومي أم أنه من المستحسن أن تغيب عنه؟ وأنت تعلم أن حضور الفلسفة تحيط به دائما أسوار كثيرة من الحذر، بل ومن الريبة!
رغم ذلك فإن حضور الفلسفة في المجال العمومي تأكد منذ وقت طويل، أي منذ أن انتقلت الفلسفة مع أحاديث الحكماء الذين كانوا يمشون ويتحدثون، ومع سقراط المحاور المتهكم، ومع السوفسطائيين الذين كانوا يعلمون الناس فنون القول وطرق الإقناع، بالمعنى القوي والنبيل لهذه الكلمة، حتى نخلصهم من نظرة أفلاطون الاحتقارية، إلى الساحة العمومية، وإذا نظرنا إلى العدد الضخم لمحاورات سقراط، فيمكننا أن نتصور بسهولة أن سقراط أقام مدرسة حقيقية في الشارع، أي في المجال العمومي، وأنه كان هناك من يحضر بانتظام؛ ومن هؤلاء أفلاطون الذي أعجب بسقراط، وسقراط بدوره أعجب به كثيرا، إذ قال له: “لقد حلمت بطائر جميل نزل على كتفي ولم يغادرني قط” وأنهى أفلاطون اهتماماته الهندسية والمسرحية والشعرية، وظل يلازم أستاذه حتى مقتله.
يمكن القول، إذن، إن سقراط أسس لحضور الفلسفة في المجال العمومي، عبر حواراته في الساحة العمومية، ولم يفعل أفلاطون شيئا آخر غير توفير البناية الضرورية لها. إن نشر الفلسفة داخل المجال العمومي كان قائما كممارسة فعلية بدليل عدد المحاورات السقراطية التي لم تتم في يوم واحد.
وكانت الأكورا (الساحة المركزية) هي المكان الذي يلتقي الناس فيه ويتحدثون على أساس أن كل أحاديثهم يجب أن تكون مبنية على الحجة، والمنطق، والقدرة على التبيين، وليس فقط الإقناع. فمع سقراط تحول المجال العمومي(الأكورا) إلى شكل من أشكال المدرسة التي تقننت أكثر مع أفلاطون، ثم مع أبيقور.
ثم أخذ حضور الفلسفة شكلا تدريسيا منظما مع أرسطو، إذ تحول أرسطو إلى أول أستاذ يدرس نوعا خاصا من الطلبة في مجال محدد. ففي كل هذه الحالات، وإلى يومنا هذا، يكون المجال الأول للفلسفة هو مجال التدريس. وهو ما كان يجعل أفلاطون يقول: “إنني لا أحب أن أكون كاتبا، فأنا بالدرجة الأولى أستاذ متحدث إلى طلبتي”.
فالمعنى الأول لحضور الفلسفة في المجال العمومي يتجلى بالضرورة في ممارسة التدريس. وتتولد ضرورة التدريس من ضرورة داخلية خاصة بالفلسفة تجعلها تتطلب، كما يقول هيدجر، البطء. فالفكر الفلسفي يشتغل حسب وتيرة بطيئة! يمكنك أن تفكر في قضية ما وكأنك تقوم بعملية حسابية، باعتبار أن العملية الحسابية لها ضوابط، ويمكن أن تعرف هل النتيجة خاطئة أو صائبة؛ و لكن في تفكيرك، فإن هذا التمييز هو فقط تمييز مؤقت ودافع من دوافع العملية سرعان ما يرتفع عندما يتعلق الأمر بقضايا أساسية، بل إن نيتشه يستغرب بضجر شديد كيف أن التأمل أصبح سريعا، وكأن في رؤوسنا آلة تدور بسرعة وترغمنا على القيام بعمليات تفكيرية لا تمت إلى التفكير بصلة! بل، إنه يقول: “إن السرعة أفقدت التأمل هيبته ونبله”.
إذن فالمدرسة، حسب هذا الفهم، هي المجال الذي يتيح للمتعلم والمدرس الوقت الكافي للتمرس على التفكير، والفلسفة هي هذا التمرس. كما يسميها بيير أدو. فالمرء يتمرس، في المدرسة، على معالجة الأمور، نفس الأمور التي تشغل الناس جميعا في المجال العمومي، لكن بطريقتها الخاصة، فهي تدخل المجال العمومي وتخرج منه. وتفترض هذه الطريقة، أولا، انتزاع هذه القضايا من المجال العمومي وإخراجها منه، أي من دائرة الدوكسا، وإرجاعها إلى نفس هذا المجال بعد الاشتغال عليها. فكل واحد يمكن أن يتحدث عن الزمن، أو عن الحب، أو عن التاريخ! فما الذي أضافه افلاطون، أو شيلر، أو شوبنهاور، أو نيتشه وهم يتحدثون عن الحب، أو الزمن، أو التاريخ؟
إن تدريس الفلسفة في المدرسة هو في الحقيقة دخول إلى المجال العمومي وخروج منه، في نفس الآن؛ إنه اقتراب وابتعاد؛ إن عمل الفيلسوف يشبه على مستوى معين، عمل الموسيقي الذي يبتعد عن الضوضاء وينتزع منها انتزاعا أصواتا وأنغاما متناثرة ويحولها إلى تركيب موسيقي. إن هذه العملية (العزلة) ضرورية لأي عمل. فلابد أن ينسحب النادل ويبتعد ليرجع إلى الزبائن. إنه شرط من شروط الاشتغال، أكان الاشتغال بسيطا أو معقدا
لكن لا يمكننا أن نتحدث عن حضور الفلسفة في المجال العمومي من دون أن نستحضر تحولا حاسما في الأزمنة الحديثة، وخصوصا في بداية القرن الماضي. يتعلق الأمر بشيء رائع وجميل نكاد ننساه لأننا اعتدنا عليه، وهو جعل المدرسة التي ظلت لقرون مجالا خاصا، إلى مجال عمومي. فقد بدأت، منذ “كوندونسي، فكرة التعليم العمومي تأخذ طريقها نحو التحقق وتشق طريقها بصعوبة كبيرة لكون الناس كانوا مقتنعين بأن التعليم خاص فقط ببعض أبناء الأرستقراطية،. إما لعدم توفر الإمكانيات، أو لعدم توفر القدرة على إشاعة هذا التعليم على العموم. لقد أصبحت المدرسة مجالا عموميا فقط مع “جول فيري” حتى بداية 1901-1905، وظلت طيلة ثلاثين سنة الأولى محصورة في عدد قليل من الناس. إذن انتقلت المدرسة إلى المجال العام.
محمد زرنين:
المدرسة ، إذن، حسب هذا العرض، هي التركيب الأرقى بين الفلسفة من جهة أولى، والمجال العمومي، من جهة ثانية….
محمد الدكالي:
نعم، إن المدرسة هي المعمل، أو الورشة، أو المجال الذي تمارس فيه الفلسفة ويتم فيه تعلم التفكير، ولكنه تفكير يجد مآله في الوصول إلى المجال العمومي. كان باسكال يهتم كثيرا بالرياضيات؛ ولهذا نصحه القساوسة بأن يهتم بالرياضيات أكثر من اهتمامه بالفلسفة. وكان هو يساعد والده الذي كان تاجرا، فاخترع أول آلة للحساب خاصة بوالده، فإذا بها تصبح ما يسمى واحدة من الكونيات بفضل تعديها المجال الخاص إلى المجال العمومي بفضل النشر، وأصبحت تهم الناس جميعا. فالفلسفة، كآلة حساب باسكال، تنتشر بانتشار التعليم. ويلزمنا وقت طويل لنتحدث عن هذه العمليات.
أنت تعلم أن فيلسوفا عملاقا كهيجل كثيرا ما لم يتجاوز عدد طلبته 15 طالبا؛ ولكن الشيء الأهم، هو أن تلك الأفكار والنظريات التي تصاغ وتعرض وتدرس داخل حلقات الدرس لم تبق محصورة في حلقات الدرس وبين الجدران، بل انتشرت ووصلت إلى مجال عمومي أوسع من مجال المدرسة. ويمكن أن نقول نفس الشيء عن نظرية كانط عن الواجب التي لو لم تخرج إلى المجال العمومي لبقيت مجرد أحاديث شيقة ودراسة معمقة للمفهوم، ولظلت حبيسة قاعة الدروس، ولما كان لها أثر في صياغة النفسانية الذاتية الأولى؛ فأفكار كانط عن الواجب انتقلت إلى ذهنية الناس وسلوكاتهم.
لنستحضر حالة النادل الذي يتقن عمله، فينظف الطاولة ويقدم الخدمة بتفان واحترام، رغم أنه يمكنه أن يسلك سلوكا عكس هذا بدعوى عدم احترام مشغله لبعض الشروط. ولكن إذا ما طرحت عليه السؤال: لماذا تقوم بعملك بهذه الكيفية رغم الشروط التي لا تساعد؟ أجابك بكل سرور: هذا واجبي. فهذه العبارة تحمل داخلها نظرية كانط في الواجب، باعتبار أن الواجب هو التأكيد الفعلي لاحترامك للأخر وعدم اعتباره مجرد وسيلة يستعملها المرء ويتخلص منها.
إن هذه الأفكار الفلسفية تنتقل إلى المجال العمومي بوسائل متعددة. كان فوكو يدرس تاريخ العقل، وتاريخ الجنون، وتاريخ المراقبة والعقاب، وكان من الممكن أن تكون تلك الكتب والأحاديث الرائعة موضوعات تنحصر فقط في الكتب والندوات المتخصصة وفي الكوليج دو فرانس، غير أن هذا الاهتمام النظري الفلسفي تحول إلى مساءلة لواقع السجون ومؤسسة العدالة والأمن. فما كان يدرس داخل حلقات الدرس لفئة محصورة من المتخصصين انتقل، عن طريق قنوات الصحافة والأحاديث والشروح والمناقشات، إلى المجال العمومي ليصبح فاعلا في جانب مهم من حياة هذا المجال عندما أصبح الناس، وليس فقط مجموعة من المفكرين والفلاسفة يتساءلون: هل أحوال المجانين عندنا أقل سوءا مما كانت عليه في العهد الكلاسيكي؟ وهل حالة السجناء عندنا اليوم مختلفة عما كانت عليه في الماضي؟
هكذا تنتقل الفلسفة من حيث هي تفكير نقدي ومنهجي بني ببطء وتقدمه كتب تقرأ، إلى المجال العمومي للأحاديث والمناقشات فتقتحم الفلسفة المجال العمومي وفي نفس الآن، المجالات التي تود السلطة أن تجعلها بعيدة حتى عن اهتمامات المجال العمومي، كمجال السجون، والمستشفيات، والأمراض العقلية وغيرها. وهذا ما يعطي الفلسفة امتداداتها وتأثيراتها في المجال العمومي. وينبغي أن لا ننسى أن حضور الفلسفة في المجال العمومي يتم بعدة أشكال، نركز، هنا، على الشكل الأكثر عمومية، لكن هناك من يتخذ من الفلسفة والكتابات الفلسفية طريقة لفهم قضية ما تخصه هو بنفسه؛ وهناك من يعتبرها مجالا معرفيا يكتشف فيه معارف مثيرة؛ وهناك من يستمتع بها، وهذا ما ننساه، فجل إن لم نقل كل الكتابات الفلسفية تكتب بإتقان وإمعان وجمالية باهرة. فقراءة النصوص الفلسفية مصدر لمتعة لا توازيها إلا متعة قراءة الأعمال الأدبية الجميلة والكبيرة والهامة والمتنوعة؛ وهكذا لا تحضر الفلسفة في المجال العمومي كتفكير منهجي ونقدي للظواهر وما تخفيه وراءها، بل تحضر كمتعة!
محمد زرنين:
لقد قدمت، في إطار جوابك عن السؤال الأول، عرضا نظريا حلل وشخص كيفيات حضور الفلسفة في المجال العمومي وتبعات هذا الحضور؛ وركزت على حسناته، مما يغري بطرح سؤال: ماذا لو حولنا جغرافية هذه العلاقة، ماذا لو حولنا الحديث عن هذه العلاقة إلى بلاد المغرب؟
محمد الدكالي:
أولا، من حسن حظنا في المغرب أن للفلسفة تاريخ تدريسي طويل مرتبط بالوجود الفرنسي، وثانيا، كون الوجود التدريسي للفلسفة بقي مستمرا إلى يومنا رغم فترات تمت الإساءة إليها ومحاصرتها؛ فقد بقي المشتغلون بها يعملون بعزيمة وذكاء، وكانت هناك مجلات شيقة كأقلام، مثلا، يتداول الناس فيها أفكارا فلسفية. إن مثل هذه المجلات هي التي أغنت المجال العمومي بقراءات وكتابات.
إلا أنني أود أن أحدثك عن شيء تعرفه، وهو حاجز نفسي بالأساس: إنه ادعاء صعوبة الفلسفة! إن تجربتي المتواضعة كمدرس للفلسفة جعلتني أعاين، لسنوات طويلة، مظاهر اعتقاد الناس في أن الفلسفة مادة معقدة، ومجردة، وخاصة بفئة محددة. وكثيرا ما يساهم في تقوية هذا الاعتقاد طريقة معينة في تدريس الفلسفة بحيث يعطي المدرس للناس صورة تفيد أن الفلسفة كلام غامض، وخوض في المتاهات كما قال أحدهم يوما! لكن لو أننا اهتدينا إلى تدريس الفلسفة بأسلوب آخر، وأن نقول للناس إن الفلسفة تهتم بأمور شديدة العينية.
مثلا عالج بلوتارك في محاضرته في فن السماع سؤالا هاما نجده اليوم في التدريس، ألا وهو السؤال التالي: ما هي الحاسة الأكثر قدرة على تمكيننا من المعارف؟ أهي حاسة النظر أم حاسة السمع؟ وأنت، عندما تقرأ هذه المحاضرة الجميلة جدا، تجد أن بلوتارك حلل هذا السؤال، وأجاب عنه بدقائق الأمور، وبتحليل لأمثلة المؤيدة والمعارضة.
ونفس بلوتارك يعود في كتابة أخرى ليتساءل عن الفرق بين الصداقة والمحبة والحب؟ و عندما تكون العلاقة بين ذكر وانثى هل هناك حدود للصداقة؟ هل هناك فواصل؟ هل هناك امتدادات؟هل هناك مجازفات في الانتقال من حالة إلى أخرى؟
أليست هذه مسألة تهم الناس جميعا؟! بل إن محاورات أفلاطون التي قد تبدو (نظرية)، ومغرقة فيها هي نفس المحاورات التي تتناول قضايا من هذا القبيل، شديدة الوقع على حياة الناس، لكنها معالجة بطريقة فلسفية. وأنت تعلم أن هناك أعمالا أدبية أكثر تعقيدا من الكثير من الكتابات الفلسفية! يقول فتجتشتاين: ليست الفلسفة هي المعقدة، وإنما المواضيع التي تتناولها هي المعقدة. وينبغي التأكيد على هذا المعطى لأن له علاقة بأبعاد حضور الفلسفة في المجال العمومي.
لنتوقف، مثلا، عند مواصفات الطبيب الجيد لأن لذلك علاقة بما نحن بصدده. ما الذي يميز الطبيب الجيد عن غيره؟ إن الطبيب الجيد هو الذي يتابع تعقد حالة ما قد تبدو له غير مفهومة، فيقوم بتحليلها وتشخيصها ويتابعها في تعقيداتها حتى يصل إلى معرفة طبيعة المرض، أو التعب، فيختار الدواء الذي يلائم الحالة. والواقع أن ما يقوم به كل متفلسف عندما يعالج قضية ما ويحاول فهم أبعادها واتخاذ الموقف العقلي المبني منهجيا، يشبه ما يطلبه الناس من الطبيب، لكن الناس عودوا أنفسهم على التبسيط والهروب من المواضيع الشائكة.
فأنت بمجرد ما تبتعد في حديثك مع صديقك عن المألوف، يتضايق منك ويقول لك: هذا تفلسف، هذا إغراق في التعقيد والتجريد! ولكن لنأخذ كلام أي فيلسوف، سنجد أن كلامه مسترسل ويشهد على حرص شديد على الإقناع والتوضيح، ولكن القضايا التي يتناولها هي التي تكتسي طابع التعقيد، وتعقد أو صعوبة التناول تأتي من صعوبة الموضوع. فكلما كان تركيب الموضوع معقدا، كلما كان مطلب القدرة على الالتقاط والفهم والاشتغال قويا.
فمن حق الفلسفة، إذن، أن تواجه هذا التعقد بالتحليل، وأن تعلم الناس كيفية التدرب على متابعة التعقيد ومحاولة فهمه. بهذا المعنى، تدخل الفلسفة إلى المجال العمومي باعتبارها ما يعلمنا الاقتراب وإجهاد النفس، ولو نسبيا، في خوض أمور تبدو لنا لأول وهلة صعبة ومعقدة تتجاوز قدراتنا لكننا نكتشف بعد العناء حلاوة فهم التعقد، ولكنها تعلمنا أيضا الارتباط الوثيق بالحياة. وأستحضر بهذه المناسبة حادثة تستحق أن تروى. بعد وفاة سارتر، كان صحفي التلفزيون الفرنسي يسأل الناس في المترو وفي غيره عن رأيهم في الفلسفة؟ كان الناس يجيبون: “أنا أسمع بها فقط”؛ “أنا لا أحب دراستها لأنها تشعرني بالدونية”؛”أنا أخاف من الفلسفة”؛ أما جارة سارتر فقالت عندما رأت الصحافيين يغرقون منزل جارها: “ذلك الرجل، الشيخ القصير، هو فيلسوف بهذا الحجم! كان رجلا طيبا، يشتري دائما خبزه، وشديد الأدب، ويضحكني، ولم أعتبره يوما ما أنه فيلسوف” فقال لها الصحفي:كيف تتصورين الفيلسوف؟ فأجابت:”من الآن سأتصوره كسارتر”.
إذا ارتبط حضور الفلسفة في المجال العمومي بنماذج حياتية راقية وأساليب تميز المشتغلين بالفلسفة، وإذا تم تدريسها بطريقة تراعي مطالب التفلسف وتربطها بالمعيش، فإن الفلسفة تصبح مصدر تعلم وتأمل وإمعان نظر وإمتاع، فتنتشر وتكبر الحاجة إليها في المجال العمومي إلى أن تصبح كالحاجة إلى الغناء أو الرقص أو المشي، فمثلا كثير من الناس يسخرون من المشي ومن الرياضة، ولم يكونوا يرو للأمر ضرورة، لكن عندما أصبح المشي يقترن بالتخفيف من مرض ما أو تفاديه أصبح المشي مطلبا عاما، ولم تعد له الغرابة التي كانت له في المجال العمومي.
ومع ذلك، لابد من التـأكيد على أن أساليب الفلسفة وانتشارها يجب أن لا تختلط مع أساليب ووسائل انتشار ممارسات أخرى كالصحافة والتلفزيون وغيرها. وليس في هذا الأمر تمجيد لجانب، وتحقير لآخر، بل هو ضرورة حتى لا تتحول الكتابة الفلسفية عن مجالها في صياغة المفاهيم والتصورات بناء على تحليل ونقد للممارسات والخطابات. لهذا، فأنا أرى أن حضور الفلسفة في المجال العمومي المغربي، قد يتقوى بقدر انتشارها وتعميم تدريسها في المدرسة وتدعيم مكانتها، وقد يتقوى كذلك بتقوية معرفة الناس باللغات الأجنبية لأن الكتابات الفلسفية الهامة تكتب وتنشر بلغات أجنبية، وحتى إذا قيل: ولماذا لا نترجمها؟ فلا بد من أناس يتقنون لغات إنتاج الفلسفة واللغة العربية أو غيرها. إن انتشار الفلسفة انتشارا جديا يفترض المعرفة بلغاتها، أو على الأقل، بواحدة من لغاتها مما يمكننا من نشر الأفكار ويخلق امتدادات للفلسفة باتقان وواجب في المجال العمومي.
محمد زرنين:
إن الفلسفة، كتفكير تحليلي ونقدي، تدخل بالضرورة في مواجهات؛ كيف تميز بين المواجهات الفعلية والحقيقية والمواجهات التي يمكن أن تكون زائفة داخل المجال العمومي؟
محمد الدكالي:
إذا أمعنت النظر بعض الشيء في الكتابات الفلسفية، وفي أعمال واهتمامات الفلاسفة، تجد أن بينهم مواجهات لامتناهية. فمثلا تجد نيتشه واجه وجابه جل التيارات وجل الأفكار وما تعارف عليه الناس بالمحطات الأساسية في تاريخ الفلسفة؛ فنيتشه جابه هيجل، وسقراط، وأفلاطون؛ وجابه بقوة شديدة مفكري التيار المسيحي؛ وجابه الليبراليين؛ وجابه الإشتراكيين؛ وجابه غيرهم؛ وجابه حتى من اعتبره في لحظة ما أستاذه، وهو شوبنهاور؛ بل جابه بقوة شديدة فاغنر الذي كان مثله الأعلى في الإبداع والصداقة عندما بدأت موسيقى وأعمال وأفكار صديقه تتخذ منحى وطنيا. إن هذه المجابهات والمواجهات تُغني المجال الفلسفي وما يروج فيه من أفكار ومذاهب واجتهادات؛ ثم إن الفكر الفلسفي، والتدريس الفلسفي، والتأليف الفلسفي قد يفرض عليهم الانخراط في مجابهات خارجية كمجابهتم لسلطة الإدارة.
فمثلا في المغرب اصطدم تدريس الفلسفة والعمل الفلسفي بقرارات إدارية(مخدومة) تعبر عن رغبة في التنكر أو السكوت عن اجتهادات الفلسفة، أو الرغبة في إبعادها ما أمكن عن المجال العمومي. فوجدت الفلسفة نفسها مقحمة في هذه المجابهة التي يصعب أن نقول عنها هل هي زائفة أم غير زائفة؟ ولا يمكن أن نقول إن موقف الإدارة وموقف الأطراف التي جابهت الفلسفة كان موقفا غير عادل، وغير متأن، وغير متعقل، وغير عاقل.
ففي هذه الحالة، كانت المواقف العدائية من الفلسفة مجحفة في حقها؛ وألحقت الضرر ليس فقط بالتدريس الفلسفي، بل بحق الناس في الانفتاح على أفكار قد تتلاءم مع رغباتهم وقد تتعارض مع هذه الرغبات والتطلعات. كما نجد في هذا الحصار أحد صيغ احتقار الناس وفرض الوصاية عليهم؛ فهؤلاء الناس يمتلكون عقولا تفكر، وبالتالي فهم لن يبتلعوا سموما؛ وهم يدرسون الفلسفة عن وعي وإدراك، علما أن الفلسفة تدرس في كل المجتمعات الراقية. ويعني هذا أن المجتمعات الراقية لا تجد في الفلسفة أمرا ينبغي التنكر له، أو إبعاده، أو إسكاته، أو محاربته، أو مجابهته. طبعا، قد تكون هناك بعض ظروف الصراع الاجتماعي والسياسي التي تسهل عمليات الاستثمار السياسي للفلسفة، لكن هناك فرق عظيم بين التفكير الفلسفي في السياسة، وتفكير السياسة في الفلسفة.
ففي السنوات الأخيرة، كثرت بعض الأحاديث الضوضائية التي هي من باب اللغو، عن مجابهة الفلسفة للظلامية! ولكن لنتساءل ولنفكر أولا في الأمر….
محمد زرنين:
أي لنمارس حذرنا الفلسفي من المعاني التي تُقدم بها كلمة “الظلامية”… محمد الدكالي:
تماما، أولا، لنقف عند ما كان يقصده مفكرو القرن الثامن عشر ب”الظلامية”؛ وقبل أن أحدد بعض الأفكار بالنسبة لهذه النقطة، لنتساءل عن مفهوم الظلامية نفسه. يقترن الظلام بغياب الضوء، وبصعوبة الحركة، وبكل المخاوف التي تقترن بالظلام والتي نسيناها، نحن اللذين نعيش في هذا القرن مستمتعين بالأضواء الكهربائية وكأنها أمر طبيعي، وعادة ما ننسى أن تاريخ البشرية ظل تاريخا مقترنا بالظلام لمدة طويلة.
ثانيا، لنستحضر أن كل مستمع للأغاني المتداولة يعرف اقتران الظلام بالشعر في لحظات الراحة والحب. إن الحب بالمعنى الجسدي والروحي والجنسي مقترن بالظلام؛ ولقد ظل الناس منذ ملايين السنين، وإلى يومنا هذا، يمارسون حياتهم الجنسية في الظلمة أو ما يقاربها. وهناك بعض أوجاع الرأس التي لا تذهب إلا عند الارتخاء في الظلام. ولا يعني هذا التحليل حبا للظلام أو كراهية له، وإنما الإشارة إلى كون الناس يجدون الكثير من الراحة أو من دواعي الاسترخاء في الظلام. ولعلك تعرف الجدل الفلسفي الذي قام بين بعض مفكري القرن السابع عشر الذين عُرفوا بالمتحررين، ومنهم كاساندي، ضد فكر أفلاطون الذي ربط الجمال والحب بالبصر. فقد انتقدوا أفلاطون في ربطه الجمال والحب بالبصر، واعتبروا أن أعلى درجة في الحب هي تلك التي ينسحب فيها البصر، ويغمض العاشقان عيونهما تاركين للحواس الأخرى مجالا للاشتغال.
كان فلاسفة الأنوار يقصدون بالظلامية قوى القهر والظلم والطغيان والاستبداد، أيا كانت نوعية هذه القوى وطبيعتها، وأيا كان المجال الذي تنتشر فيه وتستبد به. وهي قوى تلجأ إلى التضليل والأكاذيب والخرافات والخوارق ما فوق الطبيعية لإحكام قبضتها والإبقاء على سيطرتها، مما يحول دون استعمال الناس لملكاتهم بشكل ايجابي وحر، فينغمسون في الغموض والخلط، وتنطلي عليهم الحيل ويحيط بهم سياج خانق.
ونحن عندما نقرأ الفلاسفة بتمعن نجد الكثير منهم(ديكارت، مالبرانش، اسبينوزا، ليبنتز) يكرر عبارة:”النظر بوضوح وتمييز”. وربما كانت هذه الأفكار تمهيدا لما سيعرف لاحقا بفكر الأنوار المناهض للظلامية. بهذا المعنى، وإذا تأملنا ما يحدث حولنا منذ عقود، لاحظنا أن أكثر الأساليب تقنية وكثير من المهارات والاختراعات استعملت لينغمس الناس في ما حددناه كظلامية، أي أن لا يفهموا، وأن لا يدركوا، وأن لا يحللوا، وأن تنتشر بينهم أفكار مغلوطة ومغالطة.
وهذا أمر لا يخص مجتمعاتنا فقط؛ والدليل على ذلك ما سمي بالتضليل الإعلامي الذي يعتمد الوسائل التكنولوجية المتطورة. ولعلك تتذكر ذلك الطائر المطلي بكامله بالنفط والذي حرك عواطف العالم، أو جزء منه، وتبين فيما بعد أنها صورة أنتجتها حواسيب البانتجون!
ولكن لنترك ما يقع حولنا، ولنرجع إلى ما يقع عندنا وبيننا. أريد التأكيد على أنه من غير الصائب التركيز على أن هناك فئة من الناس تختص لوحدها بالظلامية كما حددناها أعلاه، أي الميل إلى الاستبداد والبطش والمغالطة والبهتان؛ صحيح أنه قد تكون هناك بعض الميولات لدى البعض أكثر مما هي عليه عند البعض الآخر، لكن من الصعب جدا حصرها في دائرة محددة من الناس. إن الظلامية، بهذا المعنى، قد توجد بشكل صارخ لدى البعض، بل وقد تنتقل عدواها من البعض إلى البعض الآخر، فهي ليست قارة ولا ثابتة، إنها تتحرك، وقد توجد بشكل جزئي، بل بشكل ميكروسكوبي بحيث تصعب ملاحظتها بالعين المجردة، مما يتطلب مجهر الغربلة والفحص والنقد.
فقد تجد أناسا يتقمصون أدوارا نبيلة كرعاية مصالح الناس لكنهم يخفون وراء هذه الخدمة أشكالا بشعة من الظلامية. ولنعد إلى الدعوى الباطلة القائلة بمواجهة الفلسفة للظلامية. إن الفلسفة من حيث منطقها تواجه كل أشكال الظلامية، الكبيرة والصغيرة، المباشرة وغير المباشرة، لأنها تعتمد التحليل والنقد والتساؤل؛ فهي تأخذ مختلف دواعي الاستبداد، والطيش، والاستفراد بقول ما يطرح كحقيقة، والكذب، والغموض، واللبس وتحاول الكشف عنه والوصول إلى أسبابه الحقيقية من دون أن تكون مسخرة من طرف البعض ضد البعض الآخر. إن الفلسفة فكر حر، وليست خادمة لأحد. إنها مجهود متعلق بمحبة الحقيقة والشغف بالمعرفة
محمد زرنين:
تتحدث كثيرا عن “شرط المعرفة” كشرط إلزامي، ولكن الشروط التي تشرط حضور معرفة حقيقية في المجال العمومي لا تكون دائما متوفرة، سيما ونحن نسجل الميل المتنامي لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة إلى توجيه تفكير الناس وتنميطه أكثر من ميلها إلى تدريبه على تحليل المواد ونقدها. فكيف ترى، في هذا السياق، إمكانية تحقق “شرط المعرفة” كما تحدده وتحلله في مجال عمومي تكاد تصل فيه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة إلى “درجة الصفر” في مراعاة شروط توفر معرفة حقيقية؟
محمد الدكالي:
لقد ميزت، منذ زمن غير قصير، بين مجتمعات القوة، من جهة أولى، ومجتمعات الذكاء، من جهة ثانية. وقد جاء أحدهم ذات يوم للرد علي وقال: “لا بد أن تكون لنا دولة قوية”. والخلط، هنا، مثير للضحك والضجر في نفس الوقت. فنحن لا نتحدث عن قوة الدولة أو ضعفها!.طبعا لابد أن تكون الدولة قوية لتقوم بوظائفها الأساسية. وكنت، ولازلت من أشد معارضي منطق جنون السوق مقابل إضعاف الدولة، وخصوصا عندما تصبح بعض الإرادات الشخصية والجماعية تختفي تحت غطاء السوق مستبدة بمصائر الناس جميعا. وهذا ما نسميه بالدارجة:”الديب تحت القفة”! إن مجتمعات الذكاء هي المجتمعات التي أدركت أن منطق القوة منطق نرجسي شديد النرجسية، وأن للقوة أسرارها التي لا تقتسم ولا تقبل الإقتسام، أو بالأصح لم تعد تقتسم. إن مجتمعات الذكاء تدرك وتعي تمام الوعي أن نادي مجتمعات القوة أغلق بابه، ويمنع من الوصول إليه كل من يحاول ذلك، بل يحارب لكي لا يكون مفتاحه في أيادي أخرى غير أيادي أعضاء النادي. وأقصد، هنا، بالقوة كل أنواع القوة التي تتمثل في العلم، والمال، والاقتصاد، والسياسة، والأدب، والتقنية والتكنولوجيا، والفن.
طوال تاريخ البشرية، لم تجتمع هذه القوى لدى أمة واحدة. كان الإغريق على قدر كبير من الذكاء والموهبة والقدرة على الإبداع، ولكن قوتهم العسكرية كانت هزيلة مقارنة بالقوة العسكرية للفرس! لكن اليوم، وبفعل سحر التاريخ، وليس بفعل مكره، اجتمعت لدى بعض المجتمعات كل أنواع القوة والأسرار التي تقود إليها! ولم يبق للآخرين إلا أن يركبوا مركب المعرفة والذكاء لا القوة الذي قد يعني البحث عن التدمير عوض البحث عن القوة. إن اختيار الذكاء هو اختيار الطريق الأسلم، أي طريق توجيه الناس نحو العلم والمعرفة، وتدريبهم على الفهم والإدراك والاستمتاع بالمعارف بما يمكنهم من إيجاد الحلول المناسبة لأوضاعهم، ويجعلهم أكثر هدوءا وأقل توترا.
وهنا، ترى دقة هذا التشخيص، فالمجال العمومي يعاش ويمارس بشكل إيجابي عندما يوفر شروط هذه الحالة، أي حالة مجتمع الذكاء، لكن المجال العمومي لدينا ولدى المجتمعات التي تشبهنا، تخترقه تيارات متضاربة، لا تجعله يستقر على حال، وتشوش عليه للاشتغال على ذاته. لكن حالة الاضطراب هذه ليست مسألة إرادية.
إن هذه المجتمعات، تعرف ما يتعارف عليه أهل الطيران بمناطق الاضطراب. وهنا تكمن أهمية الطموح إلى مجتمع الذكاء، أي العمل على أن تنتشر لدى الناس معارف وإدراكات وأساليب في التحليل ووسائل الإدراك الوجيه تمكنهم من تلمس أحسن السبل لحماية مصالحهم، وفهم واستباق ما قد يعاكس هاته المصالح، أو يجعل تحقيقها غير ممكن في لحظة ما.
وهنا تلعب المدرسة دورا حاسما، لأننا نعيش زمانا كان من الممكن أن ينبهر له سوفوكل، أو أرسطو، أو سقراط، أو الجاحظ؛ فهذه العقول الجبارة ستنبهر مطلق الانبهار عندما ستعرف كم وكيف هي المعارف التي تتداول بين الناس بيسر وسرعة. إلا أن السؤال المطروح هو كيف نستفيد أكثر، في المجال العمومي، من هذه الإمكانية الهائلة(من معارف، وإدراكات، وأساليب في الإدراك والفهم) والتي توفرها ما يسمى اليوم بوسائل الإعلام وآليات التواصل. ويبقى على المدرسة أن تعلم من ينتمون إليها، كيف يستفيدون من هاته الإمكانيات الهائلة. وأسطر، هنا، على كلمة هائلة.
أما التلفزيون فدوره حاسم، لدرجة تجعل البعض يقول: لو اختفى التلفزيون، ذات يوم، لافترق أغلب المتزوجين، لأن هذا الصندوق العجيب يتكلف بالامتاع والمؤانسة والفرجة! و أظن أن هارون الرشيد لو كان اليوم أمام شاشة التلفزيون يشاهد قناة فضائية لتنكر لشهرزاد، ولانشغلت شهرزاد عنه بقنوات فضائية أخرى؛ وربما لالتقيا كثيرا في بهو جميل لاستوديو إحدى المحطات التلفزية. وهنا، يظهر لنا أن التلفزيون يمكنه أن يساعد المدرسة في القيام بمهامها، إذ يمكن للتلفزيون أن يعلم الناس بنوع من المرح تهيئ له المدرسة، ويمكن لهذه الأخيرة أن تعلم الأطفال الصغار والكبار، بشكل خاص، والشيوخ في حالة توفر برنامج خاص بهم، كيف يستفيدون من كنوز التلفزيون في اكتساب المعارف الجميلة والدقيقة بما ينمي ملكات التحليل والنقد.
فمن واجب التلفزيون، عندنا بالخصوص، أن يصبح “مربيا” للناس جميعا، و ليس آلة لإنتاج سكيتشات لا تضحك إلا البعض، إن هي أضحكتهم. يمكن، دائما، للتلفزة أن تتحول في المجال العمومي إلى آلية معرفية إشعاعية تشخص السلوكات والممارسات والنزوات وتحول الضحك والفرجة إلى مناسبة بيداغوجية رائعة تجعل الناس ينظرون إلى أنفسهم وأفئدتهم وأهوائهم في المرآة قائلة لهم: إنكم تتصرفون هكذا، بشكل غير معقول، وغير منطقي، وغير مقبول، فأصلحوا أنفسكم من دون التصريح، بهذه ال:”أصلحوا أنفسكم”. وهكذا، يمكن للتلفزة أن تساهم في بيداغوجية الحاضر والمستقبل…
محمد زرنين:
عفوا محمد، إنك تتحدث عن المدرسة، وعن التلفزيون، ولكنك تنسى الراديو، تنسى بطل سنوات طفولتنا جميعا، ماذا عن هذا الصندوق المتكلم الآخر؟
محمد الدكالي:
أولا، أنا صاحب مذياع؛ وأذكرك، وأنت تعلم هذا، أنني عندما اشتريت لأول مرة سنة 1996 البارابول، كان أول ما إشتغلت به هو المذياع، لم أهتم بالتلفزة، وكان أول برنامج استمعت إليه هو حديث مع الفيلسوف جاك دريدا؛ وعندما حدثته عن هذا الأمر، عند زيارته الأخيرة للمغرب، سر للأمر سرورا كبيرا. فأنا رجل مذياع، أستمع كثيرا له، أستفيد منه وأتعلم منه الكثير…
محمد زرنين:
كيف تعتبر المذياع قادرا على الاستجابة ل”شرط المعرفة” كما حددته؟
لقد بدأنا هذا الحوار بالذكرى الطيبة لببلوتارك الذي تأمل مسألة السماع؛ وأنت تعرف قولة فولتير:”أنت تعجبني مرة عندما تحدثني، وتعجبني كثيرا مرتين عندما تستمع إلي”. فالاستماع والقدرة على الاستماع لهما قيمة أساسية. فأنت تعلم أنه في حجرة الدرس، أيا كان مستوى هذا الدرس، ينبني التعلم على البصر والاستماع أو الإنصات؛ وأن التركيز يأتي عن طريق الانصات والتعلم، ولكنك تعلم أن الأذن تلعب دورا حاسما في مجالنا العمومي، إذ تنتشر الإشاعات التي لم يرها أحد، سماعا، ويمكن أن تجعل من رجل طيب شخصا مكروها يخاف منه الناس عن طريق إشاعة مغرضة. وتنتشر الإشاعة عندنا لكون السماع لدينا غير محصن بقدرة الغربلة والفحص والنقد. وتنشر الإشاعة ما لا تقدر على نشره الصحف والتلفزيون والمجلات والجرائد. فقد يتحدث أحد ما عن أحد ما، فيقول الأول للثاني أتعلم أن الشخص الفلاني هو كذا، وكذا، وكذا؛ و عندما يتحدث الشخص الثاني لشخص ثالث. يكون قد أضاف من عنده ما لم يجد به الأول!
وهكذا، نرجع لتلك الحكاية المغربية التي تقول إنه يحكي في قديم الزمان وسالف العصر والأوان أن واحدا من السلاطين القدامى تولدت له بيضة، وعند باب القصر كانت قد تولدت لديه بيضتان، ثم ثلاثة، وما إن شاع الخبر حتى كانت أربعون بيضة! هذه هي قوة السماع غير المدرب نقديا. وقد انتبه إلى هذا الأمر ولهايم رايش الذي حلل قدرة الفاشية على استعمال الإشاعة والسماع لمحاصرة خصوم الفاشية. ولكن يبقى السماع كذلك مصدر متعة لا توصف عند الاستماع للموسيقى والشعر والأحاديث الجميلة، وفي التعلم، أيضا. فرجل مثل هوميروس، أو المعري، أو هاميلتون، أو طه حسين، أو غيرهم كان السماع هو وسيلتهم الوحيدة للتعلم، إذ لم تكن هناك طريقة أخرى ممكنة.
تأمل اليوم معي أن التقنية تسير في اتجاه تحويل الآلات إلى كائنات تكاد تكون بشرية تستفيد من حواسها جميعها! بدأنا بالسينما الصامتة، ثم السينما الناطقة، والآن السينما التي تخرج من مجال الشاشة وتنتشر في القاعة؛ ثم بدأنا بحاسوبات كآلات للحساب تقوم بعمليات متنوعة إلى ألآت ناطقة بأصوات جميلة ونسائية تقرأ لك وتمتعك؛ وغدا، قد ينتج الحاسوب الذي يستأنس الناس بوجوده كصديق أو مرافق!
هكذا تسير التقنية نحو أنسنة الآلة في الوقت الذي تصنع فيه بقوة أكبر أدوات لا تُلحق الضرر فقط بإنسانية الإنسان، بل بالإنسان والطيور والأشجار والجبال وغيرها! لن تجد من وسيلة لمحاربة ما نسميه، مثلا بـالسوقية والبداءة غير التربية والسماع وتهذيب الذوق. وكما تعلم، فإن مسألة السماع تأسست لدى كبار الصوفية وعشاق الفن والشعر.
بناء على كل هذه الحيثيات، يبقى المجال العمومي في حاجة إلى مذياع يربي الذوق، ويعلم الناس ليس السماع بذوق فقط، بل بذكاء. فإذا ما سمعت خبرا أو تعليقا أو إشاعة، قلت لنفسك: ماذا يعني هذا؟ ولماذا ينتشر هذا الخبر أو التعليق أو الإشاعة الآن؟ وما هي مقاصد هذا الظهور أو الانتشار؟، فتفلت من شباك تريد أن تجعل منك مجرد آلة غبية تنشر كلاما مسيئا أو غير مبني وغير مفكر فيه!…
محمد زرنين: هل تعتقد أنه لا يزال أمام المذياع أدوار ومهام وفرص تؤهله لكي يبقى شخصية أساسية من شخصيات المجال العمومي في القرن الواحد والعشرين؟
محمد الدكالي:
وفي كل القرون القادمة، وبدون تحفظ. أنظر إلى ما يقال عن السينما، يقال إنها فن مرئي ومسموع audiovisuel. في السينما جزءان: البصر والسمع بحيث أن كبريات الأعمال السينمائية لا تفهم بالمشاهدة فقط، بل ترتكز كذلك على الحوار والكلمات والأصوات. وستبقى الصور تحمل معها أصواتها التي ستتفاعل مع بعضها البعض…
محمد زرنين:
إن الحديث عن الأصوات المتفاعلة داخل قاعات العرض كقاعات تنتمي إلى المجال العمومي، تجعلني أفكر في هذه التعددية وفي ضرورة تنظيمها أو تأطيرها من أجل إنصات متبادل، أو بالأصح إنصات مقتسم، وهو ما يطرح سؤال الديمقراطية التي تفترض في هذه الحالة شرط البيداغوجية كشرط أساس لقيام الممارسة الديمقراطية. فكيف ترى مواصفات بيداغوجية المجال العمومي؟ وكيف تفهم علاقة الديمقراطية بالبيداغوجية؟
محمد الدكالي:
لربما اقترنت البيداغوجيا بالديمقراطية لصعوبة الممارسة الديمقراطية. لو كانت عملية التعليم والتعلم في أي مجال مسألة سهلة، لما كانت هناك من حاجة إلى البيداغوجيا؛ ولو لم تكن هناك صعوبة داخلية في عملية التعليم والتعلم، تنبع من صعوبة المادة المدرسة، أو من أسلوب التدريس، أو من رغبة أو عدم رغبة المتلقي، أو من قدرة أو عدم قدرة المدرس، لما كانت هناك من حاجة إلى ابتكار أساليب متنوعة في البيداغوجيا.
ولابد أن نتذكر هنا ما يقوله كانط عن البيداغوجيا: ”ليس هناك من بيداغوجيا مجردة، فهي تصاغ دائما حسب الجمهور الذي تستعمل لصالحه”. كان ريمون أرون يقول: “أنا عندما أعد حديثا أو خطابا أو درسا، أفكر قي من أوجه إليه خطابي وأكتب على ذلك الأساس”. فكلما كان إدراكنا للصعوبات إدراكا سليما وعميقا، كلما اهتدينا إلى أساليب بيداغوجية ملائمة نتغلب بها على الصعوبة. وأنت تعلم مدى اشمئزاز الناس من فكرة الصعوبة. فكثيرا ما يفضل الناس الوهم السحري للسهولة على الصعوبة؛ وإذا ما “أغرق” أحدهم في تحليل صعوبة ما، قيل له:إنك متشائم! لابد، إذن، من التخلص من هذه العوائق التي تحول دون فهم الصعوبة، وتحول دون إيجاد الحلول الملائمة للتغلب عليها.
والديمقراطية ليست كما يقال حكم الشعب للشعب، فلا يمكن أن نتصور مليار وأربعمائة مليون صيني يحكمون مليار وأربعمائة صيني. إن الديمقراطية هي الاهتداء إلى أكثر الأساليب في الحكم اعتدالا و نجاعة. ونعطي مثالا على ذلك: قد تتناقض مصالح الناس وتتضارب رغباتهم في بناء خط حديدي للسكة الحديدية، فيرفض، مثلا، بنو قرية ما أن يخترق القطار قريتهم لما ينتج عن ذلك من عواقب؛ وقد يرفض البعض هذا بدعوى الآثار الإيكولوجية المضرة؛ وقد يعترض كذلك على الثمن؛ وقد يقول أحد لآخر: لماذا اختاروا تلك القرية ولم يختاروا قريتنا، هل لأن القطار سيدر علينا أرباحا ومداخيل الخ؟ يظهر في هذا المثال، كيف لا تكون القرارات الهامة سهلة، لأنها تفترض النقاش، وتبادل المشورة، والاستماع المتبادل، أي تفترض ممارسة ديمقراطية.
لكن هناك قرارات تفرض وتبنى للمجهول من دون أن يعلم من قرر ولماذا قرر!. فكثير من السياسات والقرارات تبنى للمجهول من دون أن تكون هناك حاجة إلى أي شكل من أشكال المشاورة. فيكون اتخاذ القرارات الفردية والمستعجلة بدون مناقشة باقي الأطراف سمة من سمات الاستبداد، وفي هذا الأمر إضرار أكيد بمصالح الناس.
وتستحق هذه النقطة أن أتوقف عندها بعض الوقت لأنها تطرح الصعوبة الأساسية التي تواجهها الديمقراطية. يمكننا في الهندسة، وكما يقول ديكارت، البحث عن ”وسط هندسي”، سواء تعلق الأمر بخط مستقيم أو دائرة؛ ففي الحالتين يمكن بالحساب والرسم أن نجد الوسط الهندسي، ولكن هذا أمر لا يوجد في تسيير الحياة الجماعية للناس، وفي ما نسميه السياسة. فالبحث عن قيمة مشتركة، إنما هو بحث دؤوب وشاق ومتعب ومستمر لإيجاد هذه القيمة التي تجعل القرار “محسوبا”، ومن هنا تنبع أهمية المناقشة، والتشاور، والتداول إلا أن هذه الممارسات ليست مجرد ثرثرة أو تمثيل، فليس الأهم في المناقشة أن نبين للناس أن أطرافا في الحياة السياسية والاجتماعية يتذاكرون، وقد يتذاكرون بشغب، فهذا أمر نسبي الأهمية، فالمقياس الحقيقي هو البحث الفعلي عن الحلول وأخذ الآراء الأخرى بعين الاعتبار.
وكما أشرت، فإن المناقشة يجب ألا تكون غطاء لتصلب كل طرف لأرائه. يأتي الناس إلى المناقشة لأنه يصعب عليهم إيجاد الحلول لوحدهم، فهم يعبرون عن آرائهم، وينتقدون أراء الآخرين معتبرين أن رأي الأخر إمكانية من ضمن إمكانيات أخرى؛ ثم إن المناقشة ليست هي الأسلوب الوحيد لإيجاد هذه الحلول. فهناك ما يسمى بالاقتراحات، وهناك ما يسمى بالتحليلات التي قليلا ما تؤخذ بعين الاعتبار، لأن الناس يعتبرون أن مجال التحليل مجال خاص، ومجال التنفيذ والفعل مجال عام، وبالتالي لا داعي للربط بينهما. وتشبه هذه الحالة حالة الطبيب الذي يطلب من المريض أن ينجز تحليلات على مسائل تتعلق بصحة جسمه وعند إنجازها من طرف المريض لا يأخذها بعين الاعتبار في وصفته الطبية!
إن انفصال القرار عن التحليل أمر شديد الوقع في حياتنا السياسية. فمجال التحليل لا يؤثر كثيرا في مجال التسيير والتدبير، ومن هنا افتراق وابتعاد الجامعة، كمجال يعلم التحليل وينشده، عن ما يسمى بالهيئات السياسية، أيا كانت طبيعتها حكومية، أو برلمانية أوغيرها.
إذن، إذا انطلقنا من أن الديمقراطية هي البحث على التغلب على الصعوبات التي تعترض كل قرار، فلا يستطيع طرف لوحده، أيا كانت إمكانياته، أن يتغلب عليها لوحده، وإلا لما احتاج للآخرين. تنبع ضرورة البيداغوجية للديمقراطية، إذن، من ضرورة التغلب على الصعوبة المزدوجة، صعوبة اتخاذ القرار، وصعوبة النقاش والإقناع، مادامت ضرورة البيداغوجيا تنبع من ضرورة التغلب على صعوبة التلقين والتعلم، كما شرحنا ذلك سابقا.
العلاقة بين الديمقراطية والبيداغوجية علاقة داخلية وصميمية: كيف يمكن أن تقنع الناس بضرورة وضع ثقتهم في شخص، أو فكرة، أو برنامج ؟ فإما اتباع طريق الديماغوجية والكذب، وهذا الطريق ليس هو طريق البيداغوجية، وإما عرض الصعوبات وتحليلها وتبين الحلول الممكنة والتداول بشأنها.
وهذا يفترض أن القائم على هذا الشرح قد فهم الأمر بنفسه؛ وهنا تصبح البيداغوجية مطلبا ملزما وعملية تتوجه إلى ما يسمى بالمدعي السياسي le pretendant politique فالمدعي السياسي الذي يود أن يكون برلمانيا، أو وزيرا، أو حاكما، أيا كانت هذه المجالات، لابد له من أن يسائل نفسه، وهي مساءلة غاية في الصعوبة: إلى أي درجة أنا مقتنع بصواب ما أقدمه؟ وهل أنا قادر على التعلم من غيري؟ وهل أنا قادر على الاستماع للتحليلات الأخرى؟ وهل أنا قادر على إدراك نوعية المشاكل ومدى صعوبتها مما يجعلني أكثر قدرة على إيجاد الحلول المناسبة، وإن كانت حلولا جزئية ولكنها مناسبة فعلا؟ هنا تلتقي البيداغوجيا بالممارسة الديمقراطية. وفي البيداغوجيا إمكانية هامة جدا لأن يدرك المرء إلى أي حد أخطأ؟ وإلى أي حد أصاب؟ وكيف يمكنه أن يتعلم من أخطائه تعلما فعليا وليس مجرد كلام يقال في المناسبات؟
إذن البيداغوجية تمنحنا إمكانية إدراك نقائصنا و أخطائنا، وتعطينا إمكانية فعلية للتصحيح. وعندما نتحدث عن السياسة، وعن ضرورة الديمقراطية داخل المجال العمومي، تكون البيداغوجية في قلب الممارسة، أو هكذا ينبغي أن تكون…
محمد زرنين:
ما هي أهم الخصائص التي ترى ضرورة توفرها في النقاش العمومي؟ ما هي الخصائص البيداغوجية ذات الأولوية القصوى، ان شئت، التي من اللازم توفرها في النقاش العمومي؟
محمد الدكالي:
أنت تعلم أن الحمى التي تلازم الرغبة في النفوذ والتطلع إلى الجاه وامتلاك قسط من السلطة تفعل فعلها في كل ساع لها، فبفعل هذه الحمى قد تغيب هاته الأمور كلها. وكما قال عنها أحدهم منذ مدة ونحن نتحدث عن وسائل الإعلام في جريدة ما، أنها تجريدات…
محمد زرنين:
تقصد وصفه لتحليلاتك الفلسفية لهذه المسألة…
محمد الدكالي:
نعم. فمثل هذا الكلام، مثلا، الربط بين الديمقراطية والبيداغوجية ونتائج ذلك سياسيا وأخلاقيا، وصفها هذا الشخص بأنها مجرد “تجريدات”! وطبعا، فالشخص لا يعي الدور الهام الذي لعبه التجريد في بناء المعرفة البشرية وتطوير الممارسة، ويعطي التجريد معنى سلبيا! إنه واحد من النعوت التي نلجأ إليها كلما لم نفهم شيئا أو لم يرضنا تحليل. وهو من النعوت المضرة والقاتلة لفرص إغناء الحوار. مما يحول دون إقامة بيداغوجية جدية في الحديث والفهم والفعل.
لنترك جانبا من يقولون هذا الكلام، ولنسجل أن سيد هذه السلوكات هو الانفعال الشديد، الانفعال المضر. و يتغذى هذا الانفعال المضر، من تصور مغلوط لعلاقتنا بالغير حيث يسود الاعتقاد أن قاعدة اختلاف الآخر معنا هي الخبث، أو قلة الفهم، أو نوايا غامضة! إننا لم نتعلم أن ننطلق في أي نقاش، أيا كان مستواه، حتى لو أتى الناس فيه بأفكار غامضة وبنوايا مبيتة، من افتراض أنه ستصبح سطوحا قابلة للملاحظة، ذلك أن دينامية النقاش الحقيقي قادرة على الوصول إلى عمق النوايا السيئة، أو على الأقل الوعي بوجودها، ففي حالة النقاش نكون أقرب إلى الحالة التي نذهب فيها إلى الطبيب لنعرف طبيعة المرض فيشخص الطبيب الحالة التي قد يجد لها علاجا أو لا…
محمد زرنين:
لكن ماذا لو ظل الناس حتى في النقاش غامضين؟!
محمد الدكالي:
سنقول آنذاك: أن “راديو” التشخيص به عطب، وننفي عن العملية صفة النقاش. ونقول إنها مجرد عملية متعبة. لابد أن نعترف أن على الناس أن يأتوا إلى النقاش في أي مستوى كان، برغبة الإفصاح عن أفكارهم، وأن لا يكون النقاش عندهم مشروطا بقبليات تحدد النتيجة سلفا. حين أقول لك سأناقشك، فهذا يعني أني تقاسمت معك قواعد ما سأقوله، ولكن عندما أقبل مناقشتك لفرض فكرتي أو اقتراحي فرضا، فأنا ألغي النقاش سلفا. إن عملية النقاش وبيداغوجيته وسحره وما يخلق فيه وما ينتج فيه هي العوامل المحددة لقيمته، أما النوايا والأفكار والآراء والحلول فهي أمور تبنى وتتحرك مع النقاش، فتصبح ناتجة عن الحوار. إن هذه السيرورة هي قاعدة بيداغوجية الحوار. أما إذا أتى الناس إلى الحوار، وانصرفوا منه كما جاؤوا بل، أكثر من هذا، انصرفوا وهم يقولون لقد كسرت حججه، لقد أربكته، وأحس كل واحد منهم وكأنه حقق انتصار القرن؛ فهذه الحالة لا تمت إلى ما نقوم به بصلة.
ثم يجب ألا تتحول البيداغوجيا والديمقراطية إلى مجرد تمثيلية! فالمدرس إذا ما جاء إلى قسمه أمام تلاميذه، وقال نفس الكلام الذي نتبادله اليوم، في بداية السنة الدراسية، وفي آخر السنة الدراسية، ظل تلامذته يعانون من نفس النقائص ومن نفس الصعوبات في التعلم. فهذا ليس بمدرس، وكلامه يكون من باب اللغو.
كذلك الأمر في السياسة، إذ لا توجد سياسة ممتازة وسياسة سيئة جدا، على اعتبار أن كل سياسة أراد المرء أو لم يرد هي تجريبية. ولكن نحتكم للنتائج. لماذا؟ لأنه لا يوجد دواء رائع ودواء سيئ، إنما جودة الدواء أو سوءه يتبين لنا من خلال آثاره على من يتناوله، حتى لو قيل لنا إنه دواء سحري يشفي من المرض بشكل نهائي، فإذا ما ثبت أن لذلك الدواء أضرار كثيرة أصبح ذلك الدواء سيئا ولو كانت له فعلا تلك الخصائص الطيبة؛ كذلك الأمر في السياسة. لابد أن يدرك المشتغلون بالبيداغوجيا، أو بالسياسة، انه لا يمكن أن نستمر إلى ما لا نهاية في الحديث عن سياسات وبرامج ونقاشات ومؤسسات دون أن يكون لها وقع ايجابي وطيب على حياة الناس اليومية، يلمسه كل الناس، لا نحتاج في هذا الأمر إلى متعلم أو ساسة “نخبة” للتدليل عليه، إنما يلمس الناس في حياتهم اليومية شيئا إيجابيا وعاما.
وهنا، أعطيك أمثلة بسيطة جدا تبين مدى صعوبة هذا الأمر وإمكانياته المتعددة كذلك. انظر إلى بعض الأعمال التي قد تبدو بسيطة لأنها غاية في الأهمية في تلقين الناس مسألة بسيطة في الحياة الجماعية الذكية ألا وهي احترام الآخرين مما يقود المرء إلى احترام نفسه بنفسه. وهنا ألاحظ، مثلا، في الأعياد والعطل وغيرها يتم في بعض محطات القطار تنظيم الناس حتى لا تكون مناسبة شراء تذكرة السفر مناسبة للهمجية والحيوانية، علما أن الكثير من الحيوانات تنضبط لضوابط يعرفها العلماء ويمكن التعرف عليها بمشاهدة الأفلام الوثائقية. فتوضع حواجز تسهل هذا التنظيم، ولكنك تلاحظ مقاومة البعض أحيانا بشراسة، فقد صرخ أحدهم في وجه شابان يسهران بصعوبة جمة على هذا التنظيم: “لست أنت الذي ستعلمني كيف انتظر دوري، ولن انتظر دوري”.
إذا ما تغلبت بيداغوجية السياسة على هاته النزوات المضرة بالآخر وبالذات نكون قد خطونا خطوة نحو الوقع الإيجابي للسياسة الذي يجب أن يضعه المشتغلون بالسياسة نصب أعينهم، إذ سيكون من العبث إقناع الناس بما لا يقع…
محمد زرنين:
يفترض جوابكم أن الحكم على الأداء السياسي في المجال العمومي، وقواعد هذا الحكم ترجع إلى استحضار الحس السليم، وهنا، يتراجع دور الخبير في الأمور السياسية ويظهر أنه بقليل من الذكاء والحذر والحس السليم يمكن حل الكثير من المشاكل التي قد لا يحلها أو لا يرقى إليها تقرير الخبير أو استشارته…
محمد الدكالي:
سبق لنا أن تناولنا مسألة الخبير والسحرية التي تحيط بهذا المفهوم. أولا، لنفترض وجود خبير فعلي على اعتبار أنه إذا كانت لك شركة أو مقاولة فلابد أن تتوفر على خبراء في المحاسبة والتسيير والدعاية، وهذا أمر، ليس موضع تحفظ، إنما أن تحل أراء الخبير التي قد تكون مبنية على تحليلات مؤقتة وعلى ما يتوفر لديه مؤقتا من معارف، محل الحقيقة، فهذا يجب أن يكون موضوع تحفظ قوي. فرأيه هو مساهمة في إدراك الحقيقة، فقط، متى كان خبيرا حقيقيا. وهذا أمر لا يتنكر له أحد.
إن الخبير في نظري في الميدان السياسي، وفيما يخص الأمور التي نتحدث عنها، يشبه التقني الذي تذهب عنده بسيارتك، يجب أولا أن يكون خبيرا فعليا بالميكانيك، فكل شبه خبير يقود إلى تخريب السيارة وتعريض حياة الناس وصاحب السيارة إلى أخطار كثيرة. إذن، لنتيقن، أولا، انه فعلا خبير في الميكانيك، لكن بعد إصلاح السيارة وإعطائك الأمر بالإقلاع وتزويدك بالنصائح التي تجعل منك قادرا على تجنب العطب الذي وقع لك بالإهتمام بالسيارة في الوقت المناسب، وكثير من النصائح التي تمس قيادة السيارة. هنا يتوقف عمل الخبير في أي مجال كان.
لنقرأ المجال العمومي، وطبعا المجال العمومي هو هذا المجال الحيوي من أزقة وطرق، بخبرة السلطة أو السلط التي تسيره. أنظر إلى كثير من الأمكنة الشديدة الأهمية في حركة السيارات والراجلين. نلاحظ أن أصحاب السيارات والراجلين يجدون صعوبة جمة في السير بأمان، وتتعرض حياتهم للخطر وهم يجتازونها كل يوم، وكأن لا أحد ينتبه إلى هذه الصعوبات رغم أن هناك من المسؤولين من يمر مئات المرات في الشهر، أو في الأسبوع من هذه الطرق والشوارع؛ وقد تكون الحلول بسيطة من الناحية التقنية وغير مكلفة، ومع ذلك تجد أن الساهر على الأمر، أكان من هذه السلطة أو تلك، تصلب وتغاضى عن الأمر. وهذه من أصعب الصعوبات التي يجب أن يواجهها الاقتران الناجح للبيداغوجيا بالديمقراطية، أي التغلب على التصلب في اتخاذ القرارات، وعلى اللامبالاة، وعلى العقلية التي تقول:”بما أن الأمر لم يصدر عن جهازنا أو سلطتنا أو شخصنا فالأمر لا يعنينا، وعلى أي حال فالأمر يعني الآخرين ولا يعنيني أنا”. إن هذا النمط من التفكير يعتبر من أصعب العقبات التي تحول دون تحمل مسؤولية التسيير داخل المجال العمومي.
ثانيا، إن المجال العمومي، كما قلنا، هو ما يروج فيه من سلوكات، فلا بد أن يسائل الناس أنفسهم، أفرادا وجماعات، عن مدى مسؤوليتهم عن استمرار هذه السلوكات في المجال العمومي. وهنا أردد جملة رائعة لبرجسون قالها في إحدى محاضراته سنة 1911:”لا يوجد وعي دون انتباه إلى الحياة”
محمد زرنين:
أطرح عليك السؤال الأخير: هل ترى أن القضايا الأساسية التي تهم المجتمع المغربي تحضر بالفعل كموضوعات، وكأسئلة، وكقضايا داخل المجال العمومي المجسد في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؟ وكيف تقيم أو تشخص مساهمة المشتغلين بالفلسفة في هذه المناقشة، ثم هل هم ملزمون بأن يتدخلوا في هاته القضايا التي تعتبر مهمة وأساسية، إن لم نقل مصيرية؟
محمد الدكالي:
هذا السؤال، هو أصعب سؤال تطرحه علي لأنه يفترض متابعة قوية لما يروج في المجال العمومي، لكن ملاحظاتي وإدراكاتي الجزئية تجعلني لا أجزم بجواب عام وشامل، ولكني ألاحظ أن المناقشة التي تتم، هنا وهناك، تطبعها المشاكسة؛ والمشاكس لا يبحث على إدراك الأمور والاهتداء إلى الصواب بقدر ما يبحث على قهر الآخر والتظاهر”بالتفوق والانتصار” و هذا نوع من “الصبيانية”.
إن الأمور أصعب من أن ينتصر فلان على فلان في مشاكسة تنقلب إلى مزاح ونكت بين الأطراف عند إنتهائها، وهذا أمر يجب التسطير عليه، إذ ليس لهذه المشاكسة حتى طابع المشاكسة الفعلية…
محمد زرنين:
هل لهذا التشخيص علاقة بما سبق لك أن نعتت به عناصر الأنتلجنسيا المغربية عندما قلت إنهم مقارنة بالأنتلجنسيا الروسية، مثلا مجرد جماعة من اللطفاء والظرفاء؟
محمد الدكالي:
يبدون لطفاء وظرفاء، في النهاية، ويبدون مشاكسين جدا في البداية، لكن المجال العمومي ليس في حاجة إلى هذين النعتين معا. إن المجال العمومي يحتاج إلى أناس جادين وصارمين في طلب الحق والتعبير عنه، وفي بناء الموقف. يستعمل ديكارت، عندما يتحدث عن التخلص من الأفكار المغلوطة لديه كلمات كالحرية، والجدية، والصرامة، والجرأة. فالمشاكسة تنعكس على إدراك الناس لقضاياهم وتشوش عليهم.
ثم أقول لك رأيا أتحدث به مرارا إلى بعض أصدقائي الذين يشتغلون في الصحافة، وهو ضرورة تفادي الحدة في الحديث، والبحث عنها. فالبحث عن الحدة والإثارة لا يعني بالضرورة الحرية والجدية والصرامة. ولابد من القيام بهذا التمييز الشديد الدقة. ثم أنا ألاحظ أن المناقشات يطبعها ما يتنافى مع طبيعة المناقشة نفسها. وهو مبدأ الإقتناع. فلا يتحدث طرف إلى طرف، أو يجادله، أو يخاصمه إلا لإبداء ما يقتنع به “بشكل نهائي”؛ وإذا كان لا يوجد شيء نهائي في الحياة فهو في المجال السياسي.
ثالثا، إن المجال العمومي يجب أن يعني بالنسبة لمن يشتغلون بالسياسة، ومن يطمحون إلى الحظوة، وتسيير الآخرين ضرورة عدم تناسي وجود الناس، وخصوصا، وجود عموم الناس؛ لابد أن لا يغيب عن ذهن المشتغل بالسياسة والبيداغوجيا وجود الآخرين اللذين يوجدون دون أن تكون لنا صلة بهم، كالمدرس اللذي يدرك أن واجبه هو التوزيع العادل للمعارف، وليس صنع النجباء، أو الاهتمام فقط بالقلة التي يفضلها. إن مثل هذا المدرس ليس بمدرس، وبيداغوجيته قتل للبيداغوجية والتدريس.
فالقاعدة الإيتيكية للبيداغوحيا والديمقراطية هي العمل الجاد والصعب والدؤوب لتحقيق أكبر توزيع عادل ممكن للمعارف وللإمكانيات. وهنا، يجب أن نكون صارمين مع كل من يرغب في عكس ذلك؛ فإذا قال أحدهم إن الغلاء ضرورة يمليها السوق، قلنا له: إن الغلاء هو الوجه الآخر لتقليص التوزيع العادل. إن من الأشياء التي تنشر قهرا عما يشمل الناس جميعا هي مسألة الغلاء. لقد كان أحد رجال السياسة مرشحا لرئاسة الجمهورية الفرنسية في الخمسينات بفرنسا وضع نقطة واحدة في برنامجه ترجمها في شعار: pour une vie pas chère فهؤلاء اللذين أشير إليهم يشهرون ضد كل من انتبه إلى ما يخفيه الغلاء دعوة الشغب، ولكن لحسن الحظ أن هذه الحيلة لم تعد تنطلي على أحد.
محمد زرنين:
كيف يمكن للغلاء أن يكون مشكلة فلسفية؟
محمد الدكالي:
قلت لي كيف يمكن لصاحب الفلسفة أن يشتغل بجدية وبصرامة وحرية في المجال العمومي بالنسبة لهذه القضايا. إن عمل المشتغل بالفلسفة كعمل الموسيقي أو الراقص أو الصيدلي يشتغل بجدية وانتظام ورغبة في الإتقان، بعيدا عن الأضواء كأي شغل، ثم يأتي إلى الناس بمنتوج عمله. قضية الغلاء نشتغل عليها فلسفيا. فلنقرأ مثلا ما كتبه القديس طوماس الإكويني وليس كارل ماركس. فهذا أحد أئمة المسيحية، ومن العقول الجبارة في تاريخ الفكر، عندما تسائل: هل من حق من جاع أن يسرق؟ و قال، ضدا، على القساوسة الكاثوليك: “من جاع حق له أن يسرق”، و ذكري لهذا الجواب ليس دعوة للسرقة ولا تمنع من السرقة كذلك؛ إن من جاع يسرق، علما أن الكثير ممن يسرقون لا يجوعون! إذن، إذا سايرنا ما أسميته بالانفعال المسيء الذي كثيرا ما يكون جماعيا، فنيتشه يقول:”لا يكون الحمق إلا جماعيا”، فسنقول كيف هذا؟ هناك من يتحدث و..و..إلخ، ونعود إلى الشنآن والكلام الخبيث أي الحيلولة دون معالجة القضايا التي تمس الناس جميعا.
وإذا ما اهتدينا، وأظن أنه في المغرب، اليوم، إشارات كثيرة تفيد أن الناس يهتدون شيئا فشيئا لسلوك مسلك الإيجابية المبني على اقتران الديمقراطية الجادة بالبيداغوجية الفعالة، حيث يمكن للناس أن يقولوا: هذا ليس قدرا؛ ومن حق الناس أن يعبروا عن فرحتهم، ولكن كذلك من حقهم التعبير عن ما يضر بهم كالغلاء الفاحش، دون رغبة في الإفساد أو الإتلاف أو الاعتداء أو خلق التوتر. ومن واجب المشتغلين بسياسة الشأن العام، أيا كان مستواهم، أن يبحثوا في هذا الأمر، وسيعتبر انشغالهم هذا دليلا على نضجهم وذكائهم؛ فيكون المجال العمومي مجالا لاقتران الديمقراطية بالبيداغوجية، والناس أكثر طمأنينة، وهذه من أروع كلمات اللغة العربية التي قليلا ما تجد لها مقابلا في اللغات الأخرى، فالشعور بالطمأنينة إذا ما استطاع الذكاء الجماعي والمحبة الجماعية، التغلب، ولو بقدر بسيط، عن هذا القهر الذي هو الغلاء الذي لا يقدر أحد أن يقول إنه ليس قهرا.
محمد زرنين:
ترى أن الغلاء قضية أساسية ويمكن الاشتغال عليها فلسفيا، ويمكن تحليلها، لكن هناك قضايا أخرى كقضية الإصلاح السياسي، مثلا، كيف ترى كيفية تناولها داخل المجال العمومي؟ فبعد مرور نصف قرن على استقلال المغرب، ونظرا للتحديات التي يواجهها النظام السياسي المغربي في سياقيه الإقليمي والجيوستراتيجي الدولي، وفي إطار التحول الذي تعرفه الحياة السياسية المغربية، هل ترى أن موضوع الإصلاح السياسي عندنا قد نوقش بما فيه الكفاية وبعمق التحليل اللازم؟ وهل يمكن للفلسفة وللمشتغلين بالفلسفة أن يساهموا في هذا النقاش؟ وهل ساهموا فيه بالفعل؟
محمد الدكالي:
أنت تتذكر أن كلمة إصلاح في السبعينات كانت مثار اشمئزاز ونقد وسخرية، باعتبار أنها أقل أهمية من كلمة ثورة أو تغيير جذري. وأنت تعلم كذلك أن كبريات الثورات قامت بإصلاحات! العلاقة ثورة/إصلاح علاقة ملتبسة، ولكن لنعد إلى كلمة إصلاح في مجال السياسة أو غيره من المجالات الأخرى. الإصلاح! أنت لا تصلح سيارتك وهي صالحة، فهناك حالة ميكانيكية محددة ترغمك إرغاما على إصلاح سيارتك: إما عطب بدأت آثاره جلية فتبادر إلى الإصلاح تفاديا للتعقيد؛ أو أنه عطب حدث بدون انتباه منك؛ أو عطب نتيجة لإهمال.
لا يقوم المرء بإصلاح أمر ما إلا وهو مجبر على ذلك إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. إلا أن كلمة “مجبر” في ميدان السياسة لها دلالة خاصة بحيث يفهم منها أن البعض يرغم البعض الآخر على القيام بإصلاح ما؛ ومن يرغم أو يطالب بإصلاح ينظر إلى الإصلاح كأنه تنقيص من مكانته وقيمته وقدرته؛ وهنا تكمن المشكلة، فمن يطالب بإصلاح يبدو وكأنه سيرغم الآخرين إرغاما على إنجاز ذلك الإصلاح؛ ومن يطالب بالإصلاح ينظر وكأنما ذلك الإصلاح مساس به وبقدرته ونفوذه.
لو تركنا جانبا، أو استطعنا الإفلات من قبضة هذين التيارين معا، وتساءلنا، في إطار حديث رزين وهادئ كالذي يتم في الفلسفة، أين وما هي الأعطاب التي تفرض ضرورة الإصلاح؟ إن هذا يفترض نقاشا كما حاولنا رسمه أو الإيحاء به في هذا الحديث المشترك بيننا حول أي عطب نود إصلاحه، ثم لماذا؟ فإذا ما حصل اتفاق حقيقي، وليس اتفاقا مفتعلا، حول طبيعة العطب، تشخيصا وإدراكا، اشترك الناس في القول به، وفتح باب النقاش آنذاك حول الإمكانيات: فلو قال لك أحدهم إن سيارتك يمكن إصلاحها بثمن لا تستطيع أنت أدائه بحثت عن إصلاح آخر دون أن تكون كلفته مرهقة لك، اللهم إذا كانت هناك ضرورة قصوى بحيث لن تشتغل سيارتك بدون ذلك الإصلاح الذي وجدته مكلفا، فتقوم بمجهودات إضافية غير معتادة لحل مشكل علاقة الكلفة بالإصلاح.
ولكن دعني أتوقف عند مشكل آخر أكثر خطورة. تحدثنا معا، منذ سنوات طويلة، عن الحلول السحرية، كأن يقول المرء “إذا ما تحققت الديمقراطية، من دون أن يحدد ويعطي معنى دقيقا لهذا التحقق، حلت المشاكل إتباعا”! هذا القول من باب الحلول السحرية.
هناك قضايا جزئية تنخر المجتمع في المجال العمومي، ومنها ما أتحدث عنه باستمرار، وهو اقتناع البعض وتبنيه المعلن لعدم احترام القانون. إن من لا يجعل من مركزية الحق والقانون قاعدة للسلوك في المجال العمومي، يفسد، أكان ذلك إراديا أم غير إرادي؛ وكثيرا ما يكون الأمر إراديا! إن بعض الناس يعتبرون أنفسهم، إلى هذه اللحظة التي نتحدث فيها ونحن نرغب في إصلاحات فعلية لا تضر بمصلحة أحد، إنهم في غير حاجة لاحترام القانون بدعوى “بين قوسين” استثناءات لا نفهم معناها، وليس لها معنا أصلا.
هؤلاء الناس، وهذه السلوكات، أيا كان مجالها، ضرب موجع للرغبة في الإصلاح، أيا كان نوعه، وأيا كانت ضرورته، وأيا كان مستواه. وهنا ينبغي أن نعود إلى ديكارت لنذكر بـالصرامة والجدية في التعامل مع مثل هذه الحالات، إذ لا يمكن أن نقبل بما يتنافى مع قاعدة أساسية من القواعد التي تضمن سلامة السلوك في المجال العمومي، وهي مركزية القانون بالنسبة للجميع. وأقول إن هذه السلوكات لا تعتبر فقط مثالا للسلوكات السائبة، بل هي سلوكات ظالمة، أيضا. ومن الواجب علينا أن نكون صارمين في مواجهة هذه السلوكات المرفوضة والمدانة. ولابد أن نتعامل بصرامة مع مركزية الحق والقانون.
يمكننا، دائما، أن نناقش مدى فعالية وعدل قانوننا، لكن، وكما يقول المشرع، مادام هناك قانون فمن الواجب، احترامه. إن احترام القوانين من طرف الجميع يضمن مصلحة الجميع، ويحد من رغبة الإضرار بالغير التي تكون قوية لدى البعض.
أجرى الحوار:
محمد زرنين