Régimes d’historicité. Présentisme et expériences du temps, Paris, Seuil, « La librairie du XXe siècle », 2003.
يتميز فرانسوا هارطوغ François HARTOG بموقع خاص داخل وسط المؤرخين الفرنسيين المعاصرين. فهو من الباحثين القلائل الذين تعودوا التنقل باستمرار بين حقبتين تاريخيتين متباعدتين، حيث أنجز كتبا متعددة حول اليونان القديم وفرنسا القرن التاسع عشر.
وفي مستوى المواضيع، ركز هارطوغ على تاريخ الكتابة التاريخية. ومعلوم أن هذا الحقل يتوزع إلى ثلاث مقاربات على الأقل. تكتفي الأولى باستعراض المؤلفين والإنتاج حسب التقسيمات المتداولة، وتتناول الثانية اجتماعيات التأليف التاريخي أي العلاقة بين المؤرخ والبنيات الاجتماعية وتحولاتها، وتسعى الثالثة إلى إعادة تركيب ذي منحى ثقافي وابستمولوجي.
تنتمي أبحاث هارطوغ إلى المقاربة الثالثة، وخلافا لمؤلفاته السابقة التي اتخذت طابعا مونوغرافيا، من خلال نماذج مثل هيرودوت وأوليس وفوستيل دي كولانج، فقد جاء كتابه حول أنظمة التاريخية في شكل تركيبي، أو لنقل أنه اقترح فرضية تهم العالم المعاصر، وتتبََّعها بشكل استرجاعي حتى اليونان القديم.
منذ القرن التاسع عشر، ساد في الفكر الأوربي تمييز بين المجتمعات التاريخية والمجتمعات اللاتاريخية. واتخذ هذا التمييز أشكالا وأسسا نظرية مختلفة، فنحن نجده في فلسفة هيغل، مثلما نجده في أنثروبولوجية ليفي- ستروس التي كانت تقر بثنائية المجتمعات “الساخنة” ذات الوعي التاريخي وهي موضوع المؤرخين، والمجتمعات “الباردة” التي لا تاريخ لها، وهي موضوع الأنثروبولوجيين.
ثم ظهرت اجتهادات أخرى تقول بتعددية أنماط العلاقة مع الزمن وتجربة الزمن، وهي تعددية تشهد على اختلاف الثقافات، مثلما تشهد على التحولات التي قد تمر بها ثقافة محددة مثل الثقافة الأوربية التي ظلت عند البعض نموذج الثقافة التاريخية بامتياز.
هذه إذن هي الملامح العامة لمفهوم “أنظمة التاريخية” الذي ساهم فرانسوا هارطوغ في بنائه إلى جانب آخرين، وبواسطة هذا المفهوم ساهمت الأنثروبولوجيا التاريخية في “تفجير مفهوم التاريخ”، وتناولت التاريخ الثقافي لأوربا والغرب على العموم.
استفاد هارطوغ كذلك من أعمال الباحث الألماني المتميز رينهارت كوزيليك الذي أغنى بأعماله حقل “دلاليات الزمن التاريخي”1 . يذهب كوزيليك إلى أن تجربة الزمن لدى كل مجتمع تتحدد في العلاقة والتمفصُل اللذين يُقامان داخل حاضر معين، بين طريقة استحضار الماضي وطريقة استحضار المستقبل، وأو بعبارة أخرى بين “حقل التجربة” و”أفق الانتظار”. إن اختلاف أشكال التوتر بين هذين المستويين هو الذي ينتج تعددية “أنظمة التاريخية” السالفة الذكر.
نلاحظ إذن أن فرضية كوزيليك تساعد على استكشاف “أنظمة التاريخية” في إطار التطور التاريخي للمجتمعات، وهو ما قام به الباحث الألماني نفسه بالنسبة لألمانيا وأوربا بشكل عام. فقد اعتبر أن هناك “نظاما قديما” ساد حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهو يقوم على صورة التكرارية، وهيمنة الأنموذج الذي ينبغي الاقتداء به ، ويتم فيه تأويل الحاضر والمستقبل على ضوء الماضي.
ومع “الأزمنة الحديثة”، أي منذ القرن الثامن عشر، حصل تغيير جوهري في البنية الزمنية، وهو تغيير أساسه بروز فكرة التقدم، وانفتاح المستقبل، وتسارع وتيرة التحول، والانتقال من “تعدد التواريخ إلى وحدة التاريخ”، والتاريخ هو الثورة، والديموقراطية، وبناء الدولة-الأمة.
كل هذا أدى إلى حدوث تفاوت كبير بين الماضي والمستقبل في مستوى الوعي بالزمن. فقد نشأت معادلة جديدة تضاءل فيها حضور “فضاء التجربة”، وتضخم فيها حضور “أفق الانتظار”. والنتيجة هي قراءة الماضي وتأويله على ضوء المستقبل، أي هيمنة منظور المستقبل في إدراك الماضي.
دامت هذه البنية زهاء قرنين، بين حدثين مؤشرين، وهما الثورة الفرنسية (1789) وسقوط جدار برلين (1989). ومنذ المنعطف الأخير، كان الانتقال إلى نظام زمني جديد سمَّاه هارطوغ “الحاضرانية”. لقد أصبحت هناك “بين حقل التجربة وأفق الانتظار مسافة قسوى تكاد تؤدي إلى وضعية القطيعة. وبذلك أصبحنا أمام وضعية أشبه بتوقف توليد الزمن التاريخي. وربما كان ذلك سبب وجود هذه التجربة المعاصرة التي تتميز بحاضر أبدي، يستعصي على الإدراك ، ويكاد لا يعرف الحركة، ومع ذلك فهو يسعى إلى إنتاج زمنه التاريخي لفائدته. وكأنه لم يعد هناك سوى الحاضر…” (ص. 28). “نحن ننظر باستمرار إلى الأمام والخلف، لكن دون مغادرة الحاضر الذي جعلنا منه أفقنا الوحيد” (ص. 217).
ما هي مؤشرات بنية الحاضرانية؟ يبرز هارطوغ ثلاثة مستويات. يتعلق الأول بكتابة التاريخ، والثاني بالذاكرة، والثالث ببعض المفاهيم الجديدة التي تتصل بالعلاقة مع الزمن.
ففيما يخص كتابة التاريخ، هناك آثار الثورة الإعلامية، أي هيمنة الصحافة ووسائط الإعلام الجديدة، ولاسيما القنوات التلفزية والمعلوميات والأنترنيت. وهي كلها وسائل تعطي الانطباع بتسجيل الحدث في صفائه وفي لحظة وقوعه.
إنها “تقنيات حذف الزمن”، أي حذف المسافة بين الماضي والحاضر، وتوليد الشعور بأننا نشاهد الحاضر وهو يتحول أمام أعيننا إلى تاريخ. وفي نفس الوقت، ظهر تيار كتابة “تاريخ الزمن الحاضر”، وهو يعني التاريخ الذي لا يزال فاعلوه وشهوده على قيد الحياة. وقد تغيرت كذلك هوية كاتب التاريخ، من المؤرخ إلى الصحفي، والشاهد، والضحية، والمؤسسة القضائية التي يُطلب منها أن تبث في قضايا وسؤوليات تتعلق بالماضي.
وتعرض هارطوغ لموجة “تاريخ الذاكرة” التي اكتسحت الحقل الجامعي والثقافة الفرنسيين2 ، ولاحظ تزامنها مع سياسة “الميراثية” أي تحويل مظاهر عديدة من المجال إلى ميراث (patrimoine). وذهب المؤلف إلى حد اعتبار تضخم ظاهرة التخليد واستحضار الذاكرة من قبيل المؤشر على اتجاهها نحو الاختفاء، بمعنى أن تحول التاريخ إلى ميراث يدل في الواقع على إقبار رمزي لذلك الماضي، وربما اقترن هذا التحول من الأمة إلى “الأمة-الميراث” (nation-patrimoine) بتحوُّلات سياسية قيد الإنجاز من قبيل الانتقال من الدولة-الأمة إلى الكيان الأوربي الأوسع.
وسجل هارطوغ بروز مفاهيم جديدة مثل المسؤولية و”واجب الذاكرة” (devoir de mémoire) بالنسبة لوقائع تنتمي إلى الماضي، والاحتراس والحذر وافتراض الاحتمالية (probabilisme) بالنسبة لآفات يفترض وقوعها فيما يأتي مثل آفات البيئة. ومعنى ذلك أن الحاضر يتسع في اتجاه الماضي والمستقبل.
إن كتاب هارطوغ يكتسي أهمية بالغة في عدة مستويات. فهو ثمرة تفكير واشتغال وتركيب في مجال علاقة المجتمعات والثقافات بالزمن. وقد اتخذ المؤلف عددا من الاحتياطات المنهجية ليستبق بعض الاعتراضات الممكنة.
فالبنيات التي وصفها هي بنيات لا تظهر في الواقع بنفس الصفاء المفترض، لأنها مبنية وفق الأنموذج الفيبِري الذي يختزل الواقع من أجل ابتكار أدوات تساعد على فهم منطقه الداخلي. ومعناه أن ظرفية تاريخية محددة يمكن أن تتعايش فيها بنيات متعددة.
وفي مستوى آخر، استعار هارطوغ من المفكرة الألمانية حنا أرنت Hannah Arendt مفهوم “الفجوة” (بالفرنسية:césure / بالأنجليزية:gap) للدلالة على لحظات تاريخية تعبِّر عن الانتقال من بنية زمنية إلى أخرى، وتحددها “أشياء لم تعد موجودة وأخرى لا زالت غير موجودة”.
وعلى هذا الأساس، بنى هارطوغ الفصول الأولى من كتابه والتي خصصها لأنظمة ما قبل “الحاضرانية”. وقد تناول بإمعان، في امتداد زمني واسع، بعض النصوص المعبِّرة التي تتضمن توترا وشهادة على الانتقال من موقف إلى آخر. هناك على سبيل المثال أُوليس الذي ارتبطت عنده تجربة العودة والتذكر ببروز عنصر الزمن ، والقديس أغُستين الذي عمق مفاهيم الانتظار والزمن الخطي وتاريخ الخلاص ، وشاطُوبريان الذي عبر بقوة عن التوتر بين زمن “النظام القديم” وزمن “الثورة”.
وما دام هارطوغ يعاصر الحاضرانية موضوع دراسته، فهل يتعلق الأمر بفجوة جديدة أم بنظام جديد؟
ما هو السياق التاريخي لبنية الحاضرانية؟ يذكر هارطوغ جملة من العناصر مثل العولمة والدمقرطة، غير أن تحليله يوحي بخاصية الاستقرار، وكأن الحاضرانية لها صلة ما بمفهوم “نهاية التاريخ”. بيد أن المجتمعات الغربية مثل فرنسا لا تعرف انتقالا بسيطا من الدولة-الأمة إلى الكيان الأوربي الأوسع، بل نراها تعيش توترات تتصل بإعادة تحديد الهوية الوطنية، وهو ما تعبر عنه ظاهرة الشرخ الاجتماعي وانتفاضات الضواحي والصراعات الفكرية المتعلقة باستحضار المرحلة الاستعمارية.
أين تكمن خصوصية حالة فرنسا؟ كيف يمكن مقارنتها مع بقية الثقافات الأوربية والغربية؟ ما هو القاسم المشترك بين المجتمعات المعاصرة في علاقتها بالحاضر والماضي والمستقبل؟
ثم أين تكمن خصوصية حالة فرنسا؟ وكيف يمكن مقارنتها مع بقية الثقافات الأوربية والغربية؟ وما هو القاسم المشترك بين المجتمعات المعاصرة في علاقتها بالحاضر والماضي والمستقبل؟
وفي مستوى آخر، حملت العولمة وبنية القطب الوحيد توترات دولية من نوع جديد، فإلى أي حد يمكن تغييب قوة الوعي بالماضي من هذه الصراعات التي تخترقها الأصوليات عبر كافة المجالات الدينية الكبرى؟
إن تعدد الأسئلة التي يستدعيها كتاب هارطوغ يعني أننا أمام إضافة نوعية في مجال التفكير في الكتابة التاريخية، والتفكير في تاريخية علاقة المجتمعات والثقافات مع الزمن، وهو مجال لم يجد بعدُ الاهتمام الذي يستحقه في الدراسات المغربية والعربية-الإسلامية بوجه عام.
1- . انظر على سبيل المثال: Reinhart Koselleck, Le futur passé : Sémantique des temps historiques, Paris, éd. E.H.E.S.S., 1990.
2- يشير هارطوغ إلى التأليف الضخم حول “مواقع الذاكرة” الذي أشرف عليه بيَار نُورا، بمساهمة أكثر من مائة مؤرخ. ويتكون المنتوج من سبعة أجزاء، تتوزع إلى ثلاثة محاور، وهي الجمهورية( 1984)، والأمة (1986) ، وفرنسا بصيغة الجمع (1992). انظر: Pierre Nora (dir.), Les lieux de mémoire, Paris, Gallimard, 1984-1992.
من أهم أعمال فرانسوا هارطوغ:
Le Miroir d’Hérodote (1980), nouvelle éd., Paris, Gallimard, 1991, coll. «Folio», 2001.
Mémoire d’Ulysse. Récit sur la frontière en Grèce ancienne, Paris, Gallimard, 1996.
L’histoire d’Homère à Augustin, préfaces des historiens et textes sur l’histoire, Paris, Seuil, 1999.
Le 19e siècle et l’histoire : Le cas Fustel de Coulanges, nouvelle édition, Paris, Seuil, 2001.