عز الدين الشنتوف، “شعرية محمد بنيس: الذاتية والكتابة” ، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2014
تُشكل كتابات محمد بنيس في الشعر كما في التنظير مادة أساسية في مقاربة التجربة الشعرية المغربية منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ يتكامل فيها النظري والإبداعي لبناء جغرافيات فترةٍ ممتدةٍ لأكثر من أربعة عقودٍ تُسائِل عوالم الأدب والشعر. لقد كان لأعمال محمد بنيس حضورها الخاص والمتفرد في المشهد الثقافي المغربي، وفي حركية الشعر الحديث بالخصوص، إذ يمثل متنُ الشاعر في عموميته شعر الذات بامتياز، في البعد النظري، والإبداعي، والتربوي المعرفي؛ فهو متعدد النصوص والأبنية، وفي الآن ذاته مازال يتحقق بالممارسة في الزمن. هذه الأسس كانت هي الدعامة التي ارتكز عليها الباحث المغربي عز الدين الشنتوف في مقاربة المتن الكامل لمحمد بنيس في كتاب جاء بعنوان “شعرية محمد بنيس: الذاتية والكتابة“*.
1- وصف الكتاب:
صدر مؤَلَّف “شعرية محمد بنيس الذاتية والكتابة”عن منشورات دار توبقال سنة 2014، ويحوي في طياته 456 صفحة، تضمنت ستةفصول خُصّص قسم منها للجانب النظري، بينما جاء الشقّ الثاني تطبيقياً درس فيه الباحث الممارسة النصية عند محمد بنيس. وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب كان في الأصل عبارة عن أطروحة لعز الدين الشنتوف في موضوع “الذاتية والكتابة” بإشراف كل من الشاعر محمد بنيس وعبد الجليل ناظم.
وقد حاول عز الدين الشتنوف تتبّع مفهوم الذاتية في هذا الكتاب، بالارتكاز إلى ذاتية محمد بنيس المنعكسة في متنه الإبداعي ضمن شعرية الذات من منظورٍ متمرد على كل أشكال النمطية أو التبعية، يعالج قضايا منهجية ونظرية حول الذات والكتابة. لذلك فقد صاغ الناقد مشروعه لشعرية محمد بنيس الذاتية وِفْق بناءٍ منهجيٍّ محكم التصميم تتكامل أجزاؤه في شكلٍ هندسيٍّ تام التشكيل، كأنه جسد واحد يقدّم المعنى واضحاً متكاملاً منذ لحظاته الأولى في أفق الشعرية المفتوحة.
2- الموضوعات:
في مداخلةٍ لعبد الجليل ناظم ضمن حفل تقديم الكتاب الذي نُظِّم خلال فعاليات المعرض الدّولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء 2014، قال: “إن لمن الصعب الدخول إلى عالم محمد بنيس دون معاناة، فعز الدين الشنتوف داوم على دراسة شخصية محمد بنيس، وهاته الشعرية مجهود سنوات وسنوات متتالية من الدراسة، فالغاية من وراء هذه الشعرية هو القراءة والكشف عن الممارسة النصية عند محمد بنيس وأهم وظائف خطابه النقدي”. من هذا المنطلق تغدو الممارسة النصية غايةً في ذاتها تثور على كل أنواع الوثوقية المعيارية، لأن الذاتية لا يمكن رصدها في شكلٍ، أو عنصرٍ، أو دالٍّ، أو نصٍ حسب عز الدين الشنتوف، إنما هي كل تلك التصورات متداخلةً فيما بينها تُسائل الأزمة والخلل في تمثُّلاتنا المسبقة حول الشعرية في جلّ مظاهرها. لذلك فقد حاول الناقد صياغة أسئلة كبرى تكون أساساً في عملية البناء هاته، يقوم عليها المشروع النقدي وتنمو في ثناياه إلى أن تكتمل الإجابة عنها مع اكتمال فصول البحث.
وقد استهل عز الدين الشنتوف بحثه بمقدمةٍ جعلها إطاراً عاماً للنص، وضع فيها تصوره العامّ لسير العمل داخل المؤَلَّف، محدِّداً الموضوعَ وأسباب اختياره ثم وضَعَ الإشكال الذي بنى عليه أطروحته قبل أن ينتقل لإضاءة المتن الذي اشتغل عليه في الجانب التطبيقي، مبينا بعد ذلك آفاق هذا العمل.
وعموماً، فإن عز الدين الشنتوف يرى بأن معالم العلاقة التي تربط بين الذات والبناء ترتسم نظرياً وإجرائياً عبر مستويين: أولهما، هو الذاتية كتأسيس معرفي. أما الثاني، فيتحدد في علاقة الذات بالبناء.
ليست الذاتية هي التجريب، لأنها إذا وُسمت بذلك فهي تفقد معناها الحقيقي وتخرج عن إطارها الأساسي، لأنها “ترتبط بتأملٍ موسّعٍ لفعل الكتابة والممارسة في جانبها التنظيري وفي علاقتها بالبناء النصي. وفي ضوء هذه الاستراتيجية يكون التوجه إلى الشعر من حيث هو شعر يفكّر في ذاته، ومن ثم تبتهج الشعرية بدراسة الأعمال وتأسيسها انطلاقاً من فعل الذاتية كممارسة داخلية مستمرة”.[i] فالذاتية هي الدّافع نحو مُساءلة المتن المتجدد عبر عملية القراءة، تحكمه إعادة النظر في المعرفة الشعرية السابقة عن كل ممارسة نصية. وهي ليست فعلاً سابقاً عن البناء، كما أن البناء لا يكون سابقاً عنها. وهذا ما جعل الناقد ينطلق في أُطروحته من الفرضية القائلة بأن الذاتية لا تتشكل إلا أثناء البناء حيث يصاحب بعضهما الآخر.
إن طبيعة الاختيار جعلت الباحث يسعى إلى تحقيق التوازن في استقراء الظاهرة الأدبية مخافة السقوط في المحاذير التي قد تتولّد خلال مقاربة المتن لِما لَه من خصوصية تضبط إيقاعاته وتنوعاته. من هنا ينبثق تحذير منهجي يلحّ على تجنّب المقارنة، لأنها قد تنعكس سلباً على المتن فتهدم مفهوم الذاتية المتشكل عبر تناسل البناء، ولأنها لا تخدم البحث في ظل خصوصية المتن الشعري الذي يصاحب فيه التنظير الممارسةَ لتأسيس معالم الذاتية؛ وهذا عامل آخر استوجب من الباحث النظر في كل دواوين الشاعر رغم تفاوتها في الزمان والمكان.
الذات، الذاتية، الكتابة، والبناء هي مفاهيم ذات بعد وظيفي في المقاربة النسقية للشعرية عند محمد بنيس، تقوم على مساءلة الدلالة في أفق الشعرية المفتوحة. فرغم تفاوتها في الحضور ضمن تقابلاتٍ متعددةٍ في وضعية الكتابة، إلّا أنها تروم تحديد الغايات والأهداف لاستجلاء تجليات شعريته الذاتية.
إن تعدد المفاهيم واتساعها، جعل الباحث يخصص الفصل الأول والثاني لضبطها والإمساك بها حتى لا تنفلت في خضمّ تطبيقها إجرائيا على المتون المدروسة. من هنا جاء هذا الفصل ليُسائل البعد الفلسفي في تبنّي مفهوم الذات والذاتية في علاقتها بالإنسان والوجود والزمن واللغة. ولَمّا كان المتن المدروس عربيَّ اللغة والحضور، فقد كانت المُساءلة تنطلق من الخطاب العربي لتنفتح على إطارٍ فلسفيٍّ عامّ من خلال المراجعة النقدية لبعض مدارس فلسفة الذات في أوضاعها الإبستمولوجية، وطرائق إدراكها لخطاب الذات، بما هو خطاب منفتح على حقولٍ معرفية مختلفة منها: الفلسفة، والتاريخ، والأدب، والفن… قبل العودة لمحاورة الخطاب العربي حول القدر الذي استطاع به العرب استيعاب مفهوم الذاتية ضمن نسقٍ شبه معقّد من العلاقات التي تحكمه؛ منها: المعتقد، والهوية، والفكر.
إذا كان القسم الأول من هذا البحث قد أثار العديد من القضايا النظرية ذات الصلة بالمفاهيم النقدية التي يتم تبنيها إجرائياً ضمن تطبيقات المتن المدروس لمساءلته حول علاقة الذات بالبناء؛ فإن الباحث انتقل في الشق الثاني إلى الممارسة النصية، حيث خصص الفصل الثاني لوضعية الكتابة عند محمد بنيس، وهي وضعية لا ينفصل فيها التنظير عن الإبداع، إذ يغدو الشعر مختبراً لتطبيق تلك التأملات النظرية؛ تغنيه إعادة الكتابة التي تعطي النص ديناميةً وحركيةً عبر التمحيص وإعادة البناء، ومن هذا المنطلق “يسعى تأمل ممارسته إلى الوقوف عند الذاتية حيث هي تأسيس معرفي يتخذ أوضاعاً مختلفة حسب النصوص والدواوين. والنظر إلى طرائق البناء عند محمد بنيس هو الذي يمكننا من ملامسة ذلك التأسيس المعرفي، حيث يتغير البناء من نص إلى آخر حسب اشتغال الدّوال والعناصر فتتغير أماكن الذاتية معه. ويعني ذلك أن الذاتية تتشكَّل أثناء البناء…”[ii].
أما الفصل الثالث فقد خصصه الباحث للمستوى الصوتي في بناء الإيقاع بنوعيه لدى محمد بنيس، حيث يشتغل الإيقاع كدالّ من الدوّال البانية للنص تنتظم ضمنه البنى الصغرى لتُشكّل نسقاً عامّاً. وقد كان الوزن أحد تلك العناصر المشكِّلة للبناء في صِيَغٍ متعددة؛ منها البسيط والمركب.
ويرى عز الدين الشنتوف بأن الإيقاع أوسع من العروض، لذلك فقد اشتغل على تركيب الوزن الذي ينسجم، عنده، مع البناء النصي؛ وذلك من أجل تعرُّف طرائق بناء البيت الشعري عند بنيس. فبالقدر الذي يلتقي فيه تركيب الوزن مع التشكيلة الوزنية، فهو يختلف عنها في القدرة على “استيعاب مختلف الاحتمالات التي يختبرها النص داخل مسار تجهل الذات الكاتبة تفاصيله“[iii]. وإذا كان البيت كذلك، فإن المكان له دوره في بناء استنتاجات حول الذات والكتابة، ومن بين عناصره: الوقفة، وعلامات الترقيم، ووقفة البياض، وفسحة الكتابة، والقافية والتكرير. وهذه كلها عناصر اشتغل عليها عز الدين الشنتوف في هذا الفصل لصلتها الوثيقة بإنتاج الدلالة، وتنظيم الخطاب، ومن ثم بناء الاستنتاج الذي يرى من خلاله الباحث بأن هناك مجموعة من القوانين المتولّدة عن البناء الوزني؛ منها ما له علاقة بالخطاب، ومنها ما هو مرتبط باللّغة، وهي قوانين متجاوبة مع بعضها بدرجات متفاوتة يقتضيها بناء البيت وما يتولّد عنه من تعدّدٍ للبناءات داخل النصوص كخصيصة مميزة لمحمد بنيس في الكتابة.
إن اتساق النص، وانسجامه، قادا إلى الحديث عن ذاتية الكتابة في الفصل الرابع من هذه الدراسة، وهي ذاتيةٌ تُمثلها القصيدة ذات التركيب المتعدد، أو ما يسميه بها الباحث بكونها قصيدة خِلاسيَة للتداخل بين العناصر المكونة لها. وقد كانت الغاية من الدراسة في هذا المستوى هي البحث في تعدد تركيب القصيدة كطريقة من طرق البناء عند محمد بنيس، ومن ثم اختبار ممكنِهِ في الممارسة الشعرية.
إضافةً إلى القصيدة ذات التركيب المتعدد، فقد درس الباحث القصيدة البصرية؛ لما بين القصيدتين من تواشجٍ يرتسم في بياضات الصفحة وسوادها، يتجاوب فيه المرئي واللامرئي، فيصبح الشّكل لغةً، والخطّ أيقونا، والحبسة بناءً.
وفي الفصل الخامس من هذا البحث انتقل الباحث إلى مستوىً آخر من مستويات الدراسة، اعتمد فيه على وضعية اللغة وبناء الخطاب في شعر محمد بنيس؛ فاللغة حسب عز الدين الشنتوف “لا تكون ممارسةً خاصة للإيقاع إلا إذا كانت ممارسةً خاصّة للذات، وبهذا تغدو اللغة نشاط نسقٍ وبناءٍ داخل الخطاب. فالقصيدة معرفة لا نعرفها ولا نستطيع فحصها لأنها معرفة المستقبل، ولهذا السبب لا نكتب ما نريد أو نطمح إلى كتابته بالأحرى“[iv].
إن الحديث عن اللغة في القصيدة هو حديثٌ عن التركيب في مستويات متعددة، والانتقال من الاستعارة إلى التركيب يُمثّل خصيصةً أساسيةً قدّمت تجلياتها في الممارسة النصية، حيث الاتصال والانفصال، وخرق البنية النموذجية من خلال الإدماج والتحويل جعل اللغة الشعرية عند بنيس تتشكّل في إطار التركيب الشعري.
يصل الباحث في الفصل الأخير الذي عَنْونَهُ بدلائلية الأهواء إلى البحث في دلائلية النص، من خلال فضاء اللوعة وفضاء الموت. إذ النص مُفعم بالحياة المتولّدة عبر الكتابة، ولأهوائه دلائليتها التي تُغذّيها لغة الجسد (جسد النص وجسد الشاعر)، فهناك يمارس النص هواية الإمتاع، ويمارس الشاعر هواية الإبداع ضمن دلائلية الأهواء، حيث الإيقاع المتجدد، والبياض، والفراغات، كلها تجلياتٌ لهذا الدّفق الشعوري المتحوِّل عبر محاورة العالم، ومُساءلة الإبداع الإنساني، وتجديد اللغة، وتمثُّل الذّات في الخطاب.
بعد هذه المراحل من الدراسة والتحليل، يتوقّف الباحث في نهاية هذا البحث لصياغة خلاصات تركيبية خرج فيها بمجموعة من الاستنتاجات التي تؤكّد صحة الفرضية التي انطلق منها معتبراً أن هذه الدراسة لا تعو تكون مجرّد مدخلٍ للتعرّف على أسئلة محمد بنيس، بينما التأمل والنّقد مكانهما هو الكتاب الذي سوف يُصدره بعنوان “مادية الكتابة”.
3- مناقشة:
إن محاورة عملٍ نقدي من حجم كتاب “شعرية محمد بنيس الذاتية والكتابة” لمؤلِّفه عز الدين الشنتوف، تقتضي الفهم والتمحيص الجيّدين لموضوعاته قبل الخوض في مقاربته ضمن نسقٍ من التساؤلات والاشكالات التي أثارتها فصوله؛ وهذه مُهمَّة تقتضي التأمّل، والفهم العميق الذي لا يتأتّى إلّا عبر إعادة القراءة، لذلك فإن ما قمنا به في هذه المقالة هو مجرّد قراءة استطلاعية للإحاطة بمضامين الكتاب. نخلُص من خلالها إلى بعض الاستنتاجات العامة، وهي:
– تمتاز لغة عز الدين الشنتوف بالرصانة العلمية وقوة الأسلوب، رغم ما يطبعها من الاستطراد والإطناب والإسهاب والتَّكرار في بعض المواقع؛ غير أن هذه الأساليب لا تحمل معنىً قدحياً، هنا، بقدر ما هي ضرورة تقتضيها طبيعة البحث الذي يسعى إلى توضيح الفكرة قدر المستطاع حتى يتلقاها القارئ سهلة الفهم.
– زاوج الناقد بين الأسلوبين الاستقرائي والاستنباطي في الاستدلال على صحة الفرضيات التي ينطلق منها في كلّ مرّة للوصول إلى تأكيد الأطروحة، معتمداً على حقولٍ معرفية متنوعة غذّت معجم النص بمصطلحات نقدية فلسفية، وعلمية (علم الاجتماع- الأنثروبولوجيا…)، وأدبية.
– تتضمن هذه الدراسة ستة فصولٍ خصصها الباحث لرصد مظاهر الذاتية في الكتابة من خلال مستوياتٍ مختلفة تُبيِّن بأن الذاتية تتولّد خلال البناء، وليس قبله أو بعده.
– يقدم المؤلِّف في هذا الكتاب مشروعاً فكرياً لمقاربة الشعر من زاويةٍ تختلف عن الدراسة النمطية؛ يُمَثِّلها البناء والنموذج المدروس (محمد بنيس).
– يَحرص الكتاب على بُعدٍ منهجيّ واضح في المزاوجة بين الشقين: النظري والتطبيقي، للدلالة على صحة الفرضيات المطروحة، وبناء الاستنتاجات.
– ِنفتح الباحث على حقولٍ معرفية متعددة منها: الفلسفة، والتاريخ، والأدب، والفن…، مما أغنى مضمونه الفكري ووسَّع بُعده النظري والتطبيقي.
– على الرّغم من اتساع وطول المتن الذي اعتمد عليه الباحث في دراسته لمحمد بنيس، فقد كان دقيقاً في اختياراته المنهجية بما يتماشى مع موضوع البحث.
—————————————————-
* عز الدين الشنتوف، شعرية محمد بنيس الذاتية والكتابة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2014.
1- نفسه، ص. 10.
2- نفسه، ص. 95.
3-نفسه، ص. 149.
4-نفسه، ص. 287.