Fatima Mernissi, Le Maroc raconté par ses femmes, Rabat, S.M.E.R, 1986
يعود البحث اليوم من جديد إلى الاهتمام بالبيوغرافيا، وترتبط هذه البيوغرافيا بالفرد أي بالميكرو اجتماعي كمسار فريد. والسؤال المطروح هو كيف المرور مما هو فردي، فريد وذاتي إلى المجتمع أو إلى الماكرو اجتماعي؟ السؤال مزعج بالنسبة للمؤرخ المومن بالموضوعية والهارب من الذاتية. والواقع أن الأمر مرتبط بمنهج المؤرخ وانفتاحه على المناهج وعلى العلوم الأخرى. فعن طريق مسار الفرد يمكن الوصول إلى ما هو مؤسساتي ومجتمعي.
انطلاقاً من هذه الملاحظة نودّ تقديم مؤلّف الباحثة فاطمة المرنيسي “المغرب محكى من طرف نسائه” “Le Maroc raconté par ses femmes” والذي صدر في طبعته الثانية بالفرنسية في 1986. ويتكون من قسمين : القسم الأول خصصته المؤلفة للتحليل وسمّته “مغرب النساء”، والقسم الثاني يتضمن الاستجوابات التي قامت بها.
يدخل هذا المؤلف المبني على استجوابات أنجزتها الباحثة خلال السبعينيات من القرن الماضي، ضمن الأعمال التي تهتم بالبيوغرافية الاجتماعية وقد تناولتها في مستويين: في المستوى الأول، عن طريق النساء المستجوبات. فمن خلال مسار كل واحد منهن يستطيع الباحث أن يتلمس بعض مظاهر المجتمع المغربي في تعقيداته المتعددة والمتنوعة، كما ألحت المؤلفة على ذلك غير ما مرة. وأما المستوى الثاني فإننا نلمسُه من خلال تتبع مسار المؤلفة نفسها، لأنها اختارت قصداً أن تدمج مسارها كباحثة في التحليل.
الأطروحة المركزية التي بنت عليها المؤلفة عملها، تتلخص في إعطاء الكلمة لنساء مغمورات لم تُعْط لهن فرصة الجهر بالكلمة، لتخرجن من “الحجاب الأبدي”، حسب تعبير عبد الكبير الخطيبي في تقديم الكتاب. واستعملت المؤلفة في العنوان كلمة الحكي لتحيل إلى أمية أغلبية النساء المستجوَبات. وكانت غاية المرنيسي الأساسية هي كسر الصمت الموروث عن الأجداد، والرد على أولئك الذين يدافعون عن المواقف الجامدة ذات الطابع الرسمي باسم العلم والموضوعية. وانطلقت من أسئلة يمكن تلخيصها كالتالي: ما هي طبيعة المغرب وخصوصياته في خطاب نسائه؟ وهل هذا الخطاب يشبه المغرب في الخطاب الذكوري أم هو مغرب مجهول ومهمل؟
سنحاول استخراج عناصر أجوبة المرنيسي في مرحلتين: تقديم معطيات عن مسار المستجوبات، ثم الخلاصات التي توصلت إليها الباحثة في تحليلها لما جاء في أقوال هؤلاء النساء؟
بلغ عدد النساء المستجوبات اثنتي عشر، وتتراوح أعمارهن ما بين 25 و65 سنة، وقد ازدادت أغلبيتهن في فترة الحماية، ثمانية منهن من البادية: من الأطلس المتوسط، وسوس، والصحراء، والحياينة..، وقد هاجرت أغلبيتهن إلى المدينة. وأربعة من المستجوبات من الحاضرة: اثنتان من فاس وثالثة من آسفي ورابعة من الجديدة.
المستجوبات من عائلات متواضعة أو فقيرة باستثناء اثنتين، وأغلبيتهن أميات أو ترددن على “المسيد” أو المدرسة الابتدائية لمدة قصيرة، باستثناء اثنتين تابعتا دراستهما العليا، فأصبحت إحداهما محامية والأخرى أستاذة. أغلبية هاته النساء تشتغلن، ومنذ سن مبكر، سواء في البادية حيث تقمن برعي المواشي والسقي والقطف والجني، أو في المدينة حيث تترددن على دار “الْمْعَلّْمَة” لتعلُّم إحدى الحرف، ومنهن من تشتغل كعاملة في إحدى المعامل، أو خادمات، وهناك مستجوبة “شوافة”. نستثني واحدة منهن، الباتول جلونة التي عاشت طفولتها وسط الحريم، ثم انتقلت بعد زواجها إلى حريم الزوج. كل المستجوبات تزوجن في سن مبكر، باستثناء واحدة لم تتزوج أبداً، ولهن عدد كبير من الأطفال، وعشن بدورهن وسط عائلة تتوفر على عدد ضخم من الأولاد، قد يصل إلى خمسة عشر أو ستة عشر، كما أن ظاهرة تعدد الزوجات كانت شائعة، وخاصة في الأوساط الميسورة.
فما هي أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها الباحثة من خلال هذه الاستجوابات؟ وما هو المنهج الذي اتبعته في تحليلها؟
ملاحظات عامة
كانت المؤلفة على وعي تام بأنها قامت في سبعينيات القرن الماضي بعمل غير مألوف، حيث استجوبت قاعدة بشرية منسية، مع العلم أن هذه القاعدة تشكل نصف المجتمع المغربي، ولربما تشكل هذه الاستجوابات ، حسب الباحثة، انعكاساً لواقع مغربي غير معروف. فعنوان الكتاب يُحَدِّد التوجه العام الذي أرادته المرنيسي لعملها: المغرب محكي من طرف نسائه وكأنها تقول: «إننا لا نعرف إلا المغرب المحكي بلسان ذكوره. لقد استعملت في أول جملة شخصية معروفة في الثقافة الإسلامية بالقسوة والعدالة، حيث انطلقت بقولة لعمر بن الخطاب تكرس النظرة الذكورية للمرأة: “إن الحوار بين الجنسين، حتى وإن تَمّ فإنه يخفق ويصبح مونولوجاً، حسب عمر بن الخطاب العادل”» (ص 13)«Le dialogue entre les sexes même s’il a lieu il doit avorter en monologue selon Omar Ibn Al Khattab le juste».
لنلاحظ كيف استعملت في حق عمر بن الخطاب صفة عادل في كلامها، عن موقف يجسد انعدام العدل في حق المرأة. واستغلت الإطار لتطرح سؤالاً عميقاً: كيف نفهم صمت المرأة في الحضارة العربية الإسلامية؟
لاحظت الباحثة أنه بالإمكان استغلال المعطيات المحصل عليها من هذه الاستجوابات بعدة طرق، فهي تمكن من مقاربة المرأة في الشغل، والتعليم، والحياة الزوجية، أو بعبارة أخرى في حياة النساء اليومية. ويمكن استغلال هذه المعطيات من الناحية العاطفية أو السيكولوجية، إلا أن المرنيسي اختارت الاهتمام أساساً بالبُعد الذهني، فاهتمت بالتمثلات لما لهذا البعد من وقْع على حاضر المغرب ومستقبله. «اخترت أن أحدد تحليلي في الاهتمام بالجانب المتعلق بالتمثلات، لا لأنه أهم من الواقع المعيش، ولكن اخترت السير في هذا الاتجاه لأن تشريح هذه التمثلات مفتاح لثورة ثقافية» (ص 15). وتقر المرنيسي بأن مشكل المغرب ليس اقتصادياً أو تقنياً، بل هو مرتبط بهذه التمثلات التي تبرر إهمال ما يزيد على نصف المجتمع، وبعدم أخذ المخططين والسياسيين والمثقفين بعين الاعتبار أولويات هذا النصف الصامت. وقد لاحظت المؤلفة أن ما يسيطر في هذا الخطاب الذكوري المهيمن، عند حديثه عن المرأة هو حَصْرُ المشاكل والصراعات التي تحرك حياتها في بحثها عن الطرق واستعمالها كل الوسائل لتكون محبوبة معشوقة من طرف رجل يتوفر على إمكانيات مادية لشراء “المرأة الجسد”. فالخطاب المنتشر والمدعّم هو خطاب يجعل المرأة مجرد بضاعة، ويجعل جمالها وجنسها محور حياتها الأساسي. غير أن الاستجوابات التي قامت بها المؤلفة قد أظهرت أن هذا الخطاب جد محدود وفي طور الانقراض، وأن السواد الأعظم من المستجوبات أظهرن أن هاجسهن الأساسي هو البحث عن لقمة العيش بكرامة، وأظهرن أنهن تناضلن من أجل الحصول على راتب مهما كانت قيمته. ومن خلال هذا المعطى – تقول المرنيسي – فإن المرأة فاعل اقتصادي يجاهد ضد البطالة وضد الفقر، ويناضل من أجل الاستقرار. وقد لاحظت المرنيسي أن فكرة الاستقلال المادي أصبحت طاغية كذلك حتى في الأوساط البورجوازية التي يستطيع فيها الرجل إعالة زوجته. فالمرأة أصبحت تطالب وبإلحاح وقوة بهويتها الاقتصادية (ص 14). وقد عادت المؤلفة إلى تاريخ المغربلتبين أن المرأة كان لها دوماً حضور اقتصادي بارز، وأن الأسر ذات الدخل المحدود – حسب هذه الاستجوابات – تكون فيها مساهمة المرأة أحيانا أقوى من مساهمة الرجل تحت ضغط البطالة والهجرة. لقد استطاعت المرأة أن تحدث انكسارات وتحولات في المجتمع الغربي، حيث تمكنت من اتخاذ المبادرة والولوج إلى عالم الشغل، وفرضت نفسها في واقع ما زال مشحوناً بذهنية ذكورية، كما يتضح ذلك في علاقات الرجل بالمرأة.
علاقات الجنسين من خلال الاستجوابات
يظهر من خلال الاستجوابات اختلاف واضح بين الخطاب الذكوري والخطاب النسوي فيما يتعلق بالأدوار المنوطة بالجنسين؛ ففي رأي الخطاب الأول، الجنسان غير متساويان: فالجنس القوي هو الرجل والجنس الضعيف هو المرأة؛ وعلى عكس هذا الطرح فإن الخطاب النسوي يحاول أن يبرز أن المرأة لا تقف في صراعها اليومي ضد الوحش المهول أي البطالة والفقر بل ضد أي عمل مهين (ص 17).
أوردت المرنيسي نموذج عائشة الحيانية التي غادرت بيتها القروي وسنها لا يتجاوز تسع سنوات لتشتغل كخادمة عند إحدى الأسر الفاسية، ومع ذلك فإن عائشة في حديثها تتذكر صِبَاها وانسجامها مع وسطها القروي، وتتذكر أنها كانت تساهم في رعي الغنم وجمع الحطب، وعصر الزيتون… حيث كانت لها مساهمة فعالة وكاملة. ومن خلال نموذج عائشة تؤكد المرنيسي دور المرأة كفاعلة اقتصادية بامتياز ومثيلاتها كُثُر، في حين يُغَيِّب الخطاب الذكوري هذا البعد ليركز على دور الرجل في ضمان الحماية والعيش للمرأة.
وتوقفت المرنيسي عند نموذج المرأة المثقفة ربيعة الأستاذة التي حرص زوجها في البداية على أن تشتغل، وتراكمت المشاكل بعد الزواج وانتهت بالطلاق، ولكن ربيعة اعترفت بأن وظيفتها هي التي دعمت موقفها، وإرادتها الملحة في الطلاق. اقتبست المريني عن ربيعة القولة التالية: «اكتسبنا الحق في أن نقول للرجل ما نفكر فيه، وهو حق لم تكن تتمتع به أمُّهَاتُنَا. ويتلخص هذا الحق في إمكانية المرأة طلب الطلاق بالرغم من تَحَمّلها كل تبعات هذا القرار، لكن الأهم أن المرأة أصبحت قادرة على القيام بذلك» (ص 17).
ونددت فاطمة المرنيسي بالخطاب الذكوري الذي يركز على قصور المرأة وانعدام فعاليتها، حيث تبقى حسب هذا الرأي تحت حماية الرجل اقتصادياً واجتماعياً. وأظهرت من خلال نماذج مأخوذة عن المستجوبات أنه رأي خاطئ لأنه يُهَمِّش اندماج المرأة في الصراع الاقتصادي، لأن المرأة تختلف عن الصورة التي يحملها الخطاب الذكوري، وكأنها جالسة على جانب الطريق، «فالنساء في اندماج فعال من أجل كسب الصراع الاقتصادي لضمان المعاش والحياة الكريمة» (ص 19).
يتبين إذن التناقض الواضح بين الواقع النسوي وبين التمثلات الذكورية المعبر عنها في الخطابات الرسمية.
فإذا كانت الاستجوابات قد أوضحت هذا الفرق على مستوى الجنس فما هي الحالة بالنسبة للتمثلات المتعلقة بخلية المجتمع أي الأسرة؟
الرجل/ المرأة/ بناء الأسرة
لا يعطي الخطاب الذكوري أهمية للتكامل والتعاضد والتعاون من أجل بناء أسرة متراصة. فالزوج في هذا الخطاب هو المسؤول عن تأسيس الأسرة متى شاء، وهو المسؤول اقتصادياً وعاطفياً على هذا البناء. اقتصادياً: لأنه هو الممول، وتبقى المرأة باستمرار في حاجة إلى عطائه، ومرتبطة به، لأنه هو الغني وهو المدبر. وعاطفياً: لأن من حقه أن يتزوج بأربع نساء، وباستطاعته أن يطلق متى شاء لأن السيادة في يده، وأما الخيانة الزوجية، فتعني المرأة ولا تعنيه هو. وقد لاحظت المرنيسي أن زواج المرأة كعقد، كان يتم بين رجلين أي بين الزوج والولي (ص 21). هذه المعطيات نجدها في التمثلات الذكورية. فما هي الحالة بالنسبة للمرأة ؟
اعتماداً على الاستجوابات، قد نلمس مواقف شغب وتحدي في خطاب النساء سواء تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي أو العاطفي، والملاحظة الأساس المستخرجة من أقوال النساء، هي إجماعهن على التركيز على أهمية الأسرة والعمل الدائم على حصانتها.
اقتصادياً: أظهرت المستجوبات مشاركتهن الفعالة في تموين الأسرة.
وعاطفياً: أجمعن على أن الأهم في الحياة الزوجية ليس غنى الزوج بل وفاءه ووُدَّه وتفهمه. قدمت الباحثة نموذج الطاهرة من الأطلس المتوسط التي اشترطت على زوجها أولاً وقبل كل شيء الوفاء، على أساس أن تعيش الأسرة متراصة مهما كانت الظروف (ص 20). وأشارت إلى نموذج عائشة الشرقاوية التي تحملت وحدها كل الصعاب، لأن الزوج كان عاطلاً، وذلك لتحافظ على تماسك الأسرة. وحبيبة الشوافة قبلت بزوج عاطل ومصاب بعاهة، وقد عملت كل ما في وسعها لصيانة الأسرة.
من خلال هذه النماذج يتضح أن المرأة تتميز بواقعية وتتعامل بمنطق المصلحة، أي مصلحة الفرد، على أساس أن يكون مُؤمناً بالتعاضد، يأخذ ويعطي، ويساهم في بناء خلية الأسرة. فإذا كانت الأسرة متماسكة، فإنها تساهم في بناء مجتمع قادر على ضمان العيش الكريم لكل أفراده من نساء ورجال.
انطلاقاً من هذه الخلاصات قد نتساءل عن المنهج الذي تبنته فاطمة المرنيسي في عملها هذا: هل هو مأخوذ من النمط الأمريكي كما هو شائع عنها؟ أم من المدرسة الفرنسية؟ أم أنها اتخذت في منهجها طريقاً آخر؟
المرنيسي: سيرة باحثة
تتحدث المرنيسي عن نفسها كامرأة صارت قادرة على الكتابة والنقد، في وقت كانت فيه الريادة في الكتابة من نصيب الرجال. ورفعت صوتها في وجه من يقول إن تاريخ المجتمعات الإسلامية يتوفر على عالمات، بل هي، حسب قولها، مجتمعات ظلامية ومجحفة في حق نسائها. تساءلت: كيف يمكن لامرأة مثلي ازدادت في أربعينيات القرن العشرين، بالقرب من جامعة القرويين في وسط بورجوازي، ومع ذلك فرض عليها الجلباب وسنها لا يتجاوز الأربع سنوات. وانتقدت المؤلفة بشدة من سمته «السيد الذي يحمل المواصفات الإرهابية» (ص 27) وكامرأة متعلمة، صارت تدرك إرهاب الرجل الذي يختفي وراء الخطاب، ويناهض كل انفتاح بدعوى أن ما تقوله المرنيسي كباحثة، مستورد وغير معبر عن الحقيقة الاجتماعية. فهذا السيد يفرض نفسه كمحافظ على التراث، ويعطي لنفسه سلطة الإقصاء، ويضع نفسه كحارس عام للعلم والمعرفة والحقيقة. إنه يرغمُك على السكوت وعدم المطالبة بالتغيير. نددت المرنيسي كثيراً بهذه السلوكات في المؤتمرات والندوات والمحاضرات، وكان صوتها وحيداً، واعتبرت هؤلاء الدعاة مجرد استمرار للأجداد (ص 28).
وركزت المرنيسي في نقدها على أولئك الذين يتهمون أعمالها بانعدام التمثيلية. ولاحظت أن هذا الطرح يتبنى المنهج الكمي الإحصائي، ويعتمد على تقنيات خاصة، واستخلصت أن هذا المنهج ينطلق من مواقف سياسية لا علمية، فالمنهج الكمي تقول المرنيسي أمريكي النشأة، هدفه الأساسي ضمان الربح ودعم الاستهلاك. فإذا كان المجتمع الأمريكي قد توصل إلى توافق واختار النظام الملائم له، فمن حقه أن يتبنى هذا المنهج، وأما المواطن المغربي فكيف له أن يأخذ هذا المنهج في غياب الشروط المصاحبة له؟ ومن أجل ذلك فضلت الباحثة اعتماد المنهج الكيفي في عملها. فهي لا تدعي أن الاستجوابات التي أنجزتها تعبر عن تمثيلية ما، ومع ذلك فإنها لا تخلو من الطابع العلمي ما دام أحد معايير البحث العلمي، هو الوصول إلى تلمس الواقع. فالواقع الاجتماعي معقد والإحصائيات في نظرها، مهما كانت دقتها، فإنها لا تمكن من معرفة هذا الواقع.
انطلقت المرنيسي من الدراسة التي قامت بها المندوبية السامية للإحصاء حول استهلاك ونفقات الأسر المغربية، وقد اهتمت هذه الدراسة بـ 2960 أسرة من المدينة، و3349 من البادية، وأعطت مجموعة من الجداول وتوصلت إلى خلاصة مفادها أن الأسر تخصص 40 % من دخلها للاستهلاك. وتساءلت هل هذا يكفي؟ وبينت من جهة أخرى أن استجواب الطاهرة بنت محمد أعطاها معلومات عن الاستهلاك الأسري وعناصر أخرى لا يمكن للجداول أن تصل إليها. وأكدت في كلامها أنها لا تريد أن تدافع عن المنهج الكيفي، ولكنها تناهض المنهج الكمي، لأنه رسمي ومستورد من المدارس الأمريكية والفرنسية (ص 29). فهي ترفض هذا المنهج لأنه لا يترك الخيار للمستجوب، بل يفرض سلطة الباحث الذي يجعل المستجوب تحت رحمته. وبالتالي فإنه يؤدي إلى انعدام الثقة بين الطرفين، ويعرقل التواصل بينهما، وقد يؤدي ذلك إلى تشويه المعطيات وتشويه الواقع. فالمنهج الكمي يعتبر المستجوب مجرد وحدة إحصائية، وآلة ميكانيكية تجيب بنعم أو بلا عن الأسئلة التي اختارها الباحث وبالتالي فإن هذا الأخير لا يأخذ بعين الاعتبار أهمية وأولويات الإنسان المستجوب.
بناء على هذا، ماذا تقترح المؤلفة؟ إنها تعتز بالاستجوابات التي أنجزتها، لأنها ظلت وفية للبحث عن الواقع الذي تعيشه المرأة، وقد تخلت فيها وبطريقة نهائية عما تعلمته في باريس ونيويورك أو كما تقول: «قمت بخيانة أول قاعدة أو معيار علمي تعلمته بالسربون وبالجامعات الأمريكية والتي تعتبر الإنسان المستجوب مجرد موضوع» (ص 31). فهي لا تريد أن تجعل المرأة مجرد موضوع، لأنها تشعر إزاءها بعلاقة عاطفية، بل تجد نفسها فيها، تتقاسم معها نفس الهوية وتنتميان لنفس الجيل، وقد نجت من الأمية بقدرة قادر (ص 31). فالمؤلفة في هذه الاستجوابات تشعر بأنها متواطئة بشكل أو بآخر مع المستجوبات، مما قربها منهن، وقد اتخذت هذا القرار لتترك لهن هامشاً من الحرية، ولتجعلهن تكسبن الثقة في النفس عن طريق الحوار، فكن يتعاملن معها معاملة الند للند. لقد رفضت الباحثة اللجوء إلى مراقبة أقوالهن كما تَحُثُّ على ذلك المدرسة الفرنسية والأمريكية، وهما من المدارس التي تؤمن بمبدأ التنبؤ وتطالب بإدخال قوانين من أجل مراقبة مسلسل التواصل مع المستجوبات. لقد علمتها هاتان المدارستان حِيل المراقبة، ولكنها اقتنعت أن أهم قانون بالنسبة للاستجواب هو التخلي عن حيل المراقبة. تعلمت أن لحكي الأميات إيقاع خاص، فاحترمته وصانته، وعلمتها التجربة أهمية العمل بمبدأ النقد الذاتي لتصحيح المواقف من الآخر.
خلاصات
أعتقد أن الخلاصة الأولى هي التي جاءت على لسان المرنيسي حين أنهت كلامها قائلة: لا أدّعي من خلال هذه المحاولة المتواضعة أن هذا هو الواقع الذي تعيشه المرأة المغربية. ولكن أقول أنها محاولة تساهم قدر الإمكان في إدراك عناصر من الواقع المعقد، ومحاولة لدعم، وتشجيع العمل في هذا الاتجاه (ص 32).
وفيما يخص المنهج الذي اعتمدته المرنيسي: هل هو مقاربة أمريكية كما هو شائع؟ أم فرنسية أم مقاربة أخرى؟ لقد رفضت المرنيسي المنهجين معا، واقترحت منهجاً مفتوحاً على كل المقاربات، وهو منهج يقربنا من الحقيقة، وقد استعملت كلمات مقتبسة من المعجم الديني، لترقى بها إلى النهج العلمي حيث قالت: لا يجب فقط استعمال المقاربات والمناهج والتقنيات المتعددة، ولكن وكمواطنة تنتمي للعالم الثالث أرى أن من واجب الباحثين أن يعتمدوا الاجتهاد والابتداع (l’innovation =) قصد تشجيع الباحثين الشباب على الابتكار والتجديد. (ص 31).