تاريخ المغرب بين السرد والاستشكال[i]
بدأ دنيال ريفي بتأليف أطروحة مؤسسة حول مرحلة ليوطي (1912-1925)، ثم تناول مجموع مرحلة الحماية، ودرس بعد ذلك التجربة الاستعمارية في مجموع بلدان المغرب الكبير، وها هو يتحفنا بكتاب مرجعي حول تاريخ المغرب. هكذا انتقل ريفي بطريقة تدريجية ومتقنة من المونوغرافيا إلى التركيب، وهو ما يذكرنا، في المجال السينمائي، بحركة الكاميرا التي تنتقل بشكل تدريجي من اللقطة التي تركز على الجزء إلى اللقطة التي تصور المشهد العام.
يعلن المؤلف في بداية الكتاب الجديد أنه يسعى إلى استثمار ما أنجزه المؤرخون الفرنسيون الذين عاصروا الحماية، ثم المؤرخون الجامعيون المغاربة الذي يتخلصون شيئا فشيئا من الخطاب الدفاعي الذي يركزعلى مساجلة المقولات الاستعمارية. وإلى جانب الكتابات التاريخية، هناك النظريات الأنجلوساكسونية التي أثرت إلى هذا الحد أو ذاك في الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية لبلدان المغرب الكبير.
منذ الصفحات الأولى، نشعر بهاجس استشكال كتابة تاريخ كيان وطني في الوقت الراهن. ثم ينتقل بنا المؤلف إلى عملية السرد. وكلما تقدمنا في قراءة الكتاب، كلما شعرنا بأننا أمام مقالة مجددة نجحت في كسب رهان التوفيق بين عمليتين، وهما التفكير في تاريخ المغرب وسرد نفس التاريخ.
يقوم بناء السرد على ثمان مراحل. تجمع مرحلة الانطلاق بين الحضور الروماني وبدايات الأسلمة. ثم تأتي مرحلة الإمبراطورية، ثم الانشطار مع المرينيين. وابتداء من القرن السادس عشر، هناك “القرن السعدي الممتد”، وبدايات العلويين (القرن السابع عشر والثامن عشر)، وبعدها قرن التغلغل الأوربي الذي انتهى بإقرار السيطرة الفرنسية، ثم الحماية وبعدها مرحلة ما بعد الاستعمار.
كيف يمكن التوفيق بين تحقيب يقوم على تسلسل العائلات الحاكمة، وبين نظرة تهتم باستجلاء البنيات المتعددة التي تؤطر الأحداث وتتفاعل معها ؟ لقد وظف ريفي عدة استراتيجيات في الكتابة والعرض. فقبل الخوض في تاريخ الأحداث، خصص فصلا بالغ الكثافة لاستعراض الثوابت، وهي إكراهات البيئة، وتعدد المكونات البشرية، والعلاقة بين القبيلة والدولة التقليدية (“المخزن”)، ومركزية العلاقة بين الإسلام والمجتمع والدولة السلطانية. والملاحظ أن هذه المحاور تلتقي مع أهم القضايا التي يتناولها النقاش العمومي في السنوات الأخيرة، مثل الجهوية، ومطلب الديمقراطية، والعلاقة بين الإسلام والحكم في السياق المغربي.
وفي مستوى آخر، إذا كانت الحبكة الأساسية تقوم على التاريخ السياسي، فإن المؤلف اعتمد عبر جل فصول الكتاب محطات خصصها لتسليط الضوء على التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا نلتقي مع اللوحة التي رسمها الجغرافيون العرب في القرنين العاشر والثاني عشر، ثم “نظرة على المغرب في نهاية العصر الوسيط انطلاقا من ليون الإفريقي (الحسن الوزان)”، ثم مكانة الفقهاء والأولياء في مناخ القلق الذي ساد خلال عصر السعديين، ثم المورفولوجيا الاجتماعية للحواضر والبوادي في القرن السابع عشر، ثم تحول المجتمع خلال الحماية، و”التحول الصامت للمجتمع” خلال عهد الملك الحسن الثاني.
وفي مستوى ثالث، تأتي خصوصية كتابة ريفي التي تجمع بين السرد والتحليل، وترصد الجزئيات المعبرة عن المعيش الجماعي، وتوظف الصورة التي تحيل إلى حالات التماثل مع ثقافات أو حقب أخرى. نحس عند المؤلف بحساسية شديدة وقدرة كبيرة على تقمص أحوال ومشاعر المجتمع المدروس، وهو ما يذكرنا أحيانا ببعض كتابات جاك بيرك، مع أن ريفي يتميز في كثير من الأحيان بفرادة النظرة وآفاق التحليل. ونلاحظ كذلك أن ريفي يقيم حوارا مستمرا مع النظريات التفسيرية السابقة على طريقة عبد الله العروي في كتاب مجمل تاريخ المغرب.
لكن ما يمثل قوة المقاربة التي اعتمدها ريفي، هو طريقة التمفصل بين مختلف المراحل التي تقوم عليها بنية الكتاب. ويتبين أن عهد كل عائلة حاكمة يحمل عنصر تطور معين، وبالتالي فهو يمثل لحظة من لحظات متتالية في عملية “ترسُّب” تاريخي. وهكذا يبدو تاريخ المغرب بمثابة سيرورة اشتغلت في مستويين، وهما مستوى التكون المجالي ومستوى تشكل الدولة.
فيما يخص المستوى المجالي، نتتبع مع ريفي مراحل بروز الكيان المغربي الذي ظل خلال مدة طويلة “بناء سياسيا ذا شكل هندسي متحرك”. فقد تفاعل المغرب مع الفضاء المتوسطي منذ ما قبل السيطرة الرومانية التي جاءت في وقت متأخر، وظلت محدودة من ناحية امتدادها الجغرافي في المغرب. وتعامل الرومان مع “موريتانيا الطنجية” كجسر يسمح بالعبور نحو شبه الجزيرة الإبيرية. ولما قدم الفاتحون العرب، كان المغرب إقليما، واستعملت عبارة “المغرب الأقصى”. وأنتجت المرحلة الإسلامية عدة نماذج من الكيانات السياسية، مثل خوارج سجلماسة، وبرغواطة تامسنا، والمملكة الإدريسية الزيدية. ثم كان الانتقال من فسيفساء “شعوب القبائل” و”دويلات المدن” (القرن العاشر)، إلى إمبراطورية لعب المغرب فيها دور قطب الرحى بالنسبة لمجموع منطقة الغرب الإسلامي. ومع دولة بني مرين، برز “كيان ترابي مُنكَّث (مرسوم بالنُّقط)” en pointillé، و”واقع جيوسياسي واع بذاته”. ومع السعديين، تم “ترسيخ المكونات الترابية”، ووظف المغرب موقعه كدولة حاجزة بين إسبانيا وتركيا العثمانية، ومع حملة أحمد المنصور، انتقل الطموح الإمبراطوري المغربي في اتجاه الجنوب.
ورصد ريفي تطورا تراكميا في مستوى الدولة. تميزت تجربة الموحدين بالعبقرية التنظيمية التي أبان عنها المهدي ابن تومرت وعبد المومن، حيث تم الربط بين بنية قوية أقرب إلى بنية حزبية وبين إيديولوجيا انتقائية كشفت عن عدم تناغمها مع المجتمع، مما أدى إلى إضعاف الدولة وظهور مد أول للحركة الصوفية. وبعد ذلك أنجز بنو مرين منعطفا هاما حيث انتقلوا من قيادة الإمام والمهدي إلى قيادة سلطان استفاد من نمط جديد يقوم على استعراض السيادة وبداية عملية التقديس للعلاقة القائمة بين العاهل ورعاياه. وقد تم تأكيد السيادة مع السعديين الذين أنجزوا الانتقال من أساس “قبلي- أمازيغي” إلى أساس “عربي- شريف”. وانخرط أحمد المنصور في سياسة تعمل على دفع المجتمع نحو الحداثة، غير أن عهده توقف بسبب الطاعون وحروب الخلافة بين الأمراء في مناخ ساد فيه شعور بنهاية العالم. وجاء العلويون ليؤطروا عودة إلى التقليد. وقد حاول إسماعيل أن يقيم تنظيما عسكريا مشابها للنموذج الإنكشاري، غير أن هذا العهد انفجر انطلاقا من مركز الدولة المخزنية. واستعادت العائلة الحاكمة المبادرة بفضل محمد بن عبد الله الذي اكتفى بدور الحَكَم، وانفتح على أوربا. ومع سليمان كان الاحتراز، وكانت تأثير الحركة الوهابية من خلال سياسة مواجهة الزوايا، وانتهى هذا العهد بطريقة متعثرة. وخلال القرن التاسع عشر، تم تأخير السيطرة الاستعمارية في مستواها السياسي، لكن المخزن فشل أمام تحدي الإصلاح بسبب عدم الانسجام بين الدولة والمجتمع.
كانت الحماية تتويجا للضغط المتعدد الأشكال الذي خضع له المغرب طيلة القرن التاسع عشر. وعمل النظام الجديد على “ترميم” المخزن ووضعه تحت “مراقبة” سلطة تتوفر على أدوات الدولة الترابية. وتم إرساء اقتصاد استعماري يقوم على ثنائية السهول الأطلنتية والجبال، وهي ثنائية تسببت في تفكيك البنيات الاجتماعية. وكان فشل “الحماية المستحيلة”. وقد استعادت الملكية بريقها مع الحركة الوطنية، واستعادت زمام المبادرة بعد الاستقلال، وجمعت بين أدوات المخزن والحماية معا. وأصبح النسق الجديد يقوم على دولة تتفوق قوتها على قوة المجتمع. وهنا يميز ريفي بين أربع مراحل: ملك يتولى التحكيم داخل الحقل السياسي (محمد الخامس)، ثم “ملكية دستورية تقوم على الحق الإلهي”، ثم إعادة بناء المشروعية ابتداء من المسيرة الخضراء، ثم تطور نحو “المصالحة” مع المجتمع ابتداء من 1990.
أود الآن أن أناقش الكتابة انطلاقا من مسألة البعد الخلدوني. هل يصح القول مع ريفي بأن دولة المرينيين كانت تمثل النموذج الخلدوني بامتياز ؟ أليست دولة الموحدين أقرب إلى الخطاطة التي رسمها صاحب المقدمة، مع عناصر مثل الدعوة، وتفكك الملك انطلاقا من الأطراف؟ وربما وجب إدخال قدر من النسبية على مسألة القطيعة مع النموذج الخلدوني ابتداء من الدولة السعدية، لأن العصبية ظلت تشتغل في مستوى القبائل الداعمة لسلطة العائلة الحاكمة، كما هو الشأن بالنسبة لقبائل أيت إدراسن مع العلويين. ومن ناحية أخرى، يعتبر ريفي أن المرحلة المرينية دشنت ثنائية المخزن / السيبة، ويؤول المؤلف هذه الثنائية كمرادف للتوتر بين قوى التوحيد وقوى التفكك، ومعنى هذا الربط بين السيبة وهجرة القبائل العربية ابتداء من القرن الثاني عشر، بيد أن عددا من الأبحاث الحديثة أظهرت أن ظاهرة التمرد القبلي تحيل إلى عوامل معقدة، وتعكس نمطا في تدبير العنف داخل سياق يتسم بغياب الأدوات الكفيلة بتيسير المراقبة الشاملة للمجال الترابي.
ونشير في الختام إلى أن كتاب ريفي جاء في الوقت المناسب لإغناء موجة جديدة من الكتابات التركيبية التي تناولت تاريخ المغرب في السنوات الأخيرة.
من أعمال دنيال ريفي:
– Lyautey et l’institution du protectorat français au Maroc-1912-1925, 3 vols., Paris, L’Harmattan, 1996.
– Le Maroc de Lyautey à Mohammed V. Le double visage du protectorat, Paris, Denoёl, 1999.
– Le Maghreb à l’épreuve de la colonisation, Paris, Hachette, 2002
أعمال مهداة إلى دنيال ريفي:
– Dominique Avon et Alain Messaoudi (dir.), De l’Atlas à l’Orient musulman. Contributions en hommage à Daniel Rivet, Paris, Karthala, 2011.
———————————-
[i] قراءة في كتابRivet (Daniel), Histoire du Maroc: De Moulay Idrîs à Mohamed VI, Paris- Fayard, 2012.