مغرب القرن 19م والحماية: قراءة جديدة[1]
ازدانت روضة التاريخ مؤخرا بصدور كتاب “تاريخ المغرب. تركيب وتحيين”، الذي أنجز تحت إشراف الأستاذ محمد القبلي مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، بمشاركة نخبة من الباحثين المنتمين لحقل التاريخ وتخصصات أخرى مختلفة.
الكتاب إنجازٌ “لمشروع متكامل لإعادة قراءة تاريخ المغرب”، أملته ظروف استعجالية ناجمة عن “الرغبة العارمة المعبر عنها من قبل سائر الشرائح الاجتماعية التواقة إلى الأخذ بناصية ماض ظل دون مستوى الإدراك المتمكن” (ص XVIII من التقديم).
تتشكل البنية الأساس في هذا الكتاب، الذي يسعى لرصد تاريخ المغرب من البدايات الأولى للبشرية إلى أواخر القرن العشرين، من عشرة فصول، خصص الأول منها، وهو يقع تحت عنوان “من الدينامية الطبيعية إلى المجال الترابي” (ص5 – 34) لدراسة المجال الطبيعي في علاقته بالتاريخ وتشكل الدولة ، أما الفصول التالية، فقد وزعت على حقب ومراحل تاريخية، إذ تناول الفصل الثاني والثالث على التوالي قضايا “مغرب ما قبل التاريخ من الأصول إلى القرن 8 ق م “(ص 35- 79)، و”المغرب والعالم المتوسطي قبل الإسلام” (ص81-141). وخصص الفصلان التاليان للعصر الوسيط، من أجل استجلاء ملامح التطور السياسي (الفصل الرابع، ص143- 214 ) ، و”المجتمع والحضارة” (الفصل الخامس، ص.215 -297). يلي ذلك، الفصل السادس، الخاص ب”منعطف القرن التاسع الهجري/الخامس عشر للميلاد” (ص 299-370)، الذي مهد للانتقال من العصر “الوسيط” إلى “الحديث”، والفصل السابع الخاص ب”الأزمات ومحاولات الاستدراك” بين القرنين السادس عشر والثامن عشر للميلاد. أما الفصول الثلاثة الأخيرة فتنتقل بنا من القرن التاسع عشر إلى الحماية، ومنها إلى “المغرب المستقل” (الفصل العاشر).
لن ينصب اهتمامنا في هذا المقام إلا على فصلين فقط من الفصول العشرة المذكورة أعلاه: الفصل الثامن الذي يمتد على 77 ص(ص445-522)، وعنوانه “القرن التاسع عشر الممتد : بين التغلغل الأجنبي ومحاولات الإصلاح (1204-1330/1790-1912)”؛ والفصل التاسع، الذي يحمل عنوان ” الحماية: الغزو والمقاومة والتحولات”. وهو يشتمل على 99ص (ص525-616). وسنحاول من خلال هذه القراءة تقديم المضامين وتقييم الحصيلة المعرفية في الفصلين، ثم تسليط الأضواء على الجوانب المنهجية واستراتيجية الكتابة؛ وفي مرحلة ثالثة سوف نتناول إشكالية الخرائط وطريقة تمثل المجال، لما تطرحه من أسئلة وعلامات استفهام.
I – الحصيلة المعرفية
1- مضامين ومحاور الفصلين
يتحدث الفصل الثامن عما سمي ب”القرن التاسع عشر الممتد”، الذي قسم إلى ثلاث مراحل . يدرس في المرحلة الأولى ” أزمة النظام التقليدي 1790-1830″، على مستوى بنيات المجتمع بنسقه التقليدي العتيق، و”مستوى الوعي بالذات” والوعي بـ”الآخر” في ظرفية دولية جديدة، أظهرت تفوق الغرب المسيحي. ويرصد الفصل في مرحلة ثانية، “الضغوط الخارجية والتغلغل الأجنبي”، من احتلال الجزائر سنة 1830 إلى وفاة الوزير باحماد سنة 1900.وفي هذا السياق تم استعراض الكثير من المعطيات التي تتعلق، أولا، بالوقائع الكبرى من معركة إسلي واتفاقية التجارة والمهادنة مع الانجليز … إلى حرب تطوان، والتطورات المرتبطة بالمنافسة بين القوى الاستعمارية حول المغرب وظروف البلاد بعد وفاة مولاي الحسن سنة 1894؛ وثانياً، بـ”الهوية الثقافية و”الانتقال”المحدود، “من عالم المخطوط إلى عالم المطبوع”، وأيضا بـ”محاولات الإصلاح “المخزنية والصعوبات التي اعترضتها”. وفي المرحلة الثالثة التي تحمل عنوان “عشرية القلاقل قبل الحماية 1900-1912 “، درست الأحداث المتعلقة باحتلال واحات توات وتدويل المسألة المغربية و” اللحظة الحفيظية ” والظروف المؤدية إلى فرض نظام الحماية.
أما الفصل التاسع الخاص بفترة الحماية، فقد تناول في قسمه الأول، التطورات المتعلقة بقيام نظام الحماية والتقسيم الاستعماري للبلاد، وما ارتبط بهما من غزو ومقاومة. أما القسم الثاني، فقد خصص للتحولات الداخلية، بدءاً بالجوانب الإدارية والسياسية، ثم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وقدمت في هذا الإطار، الكثير من المعطيات ، المدعمة بالجداول والأرقام ، عن النمو الديمغرافي وتطور “العادت والعلائق السوسيو- ثقافية والتهيئة العمرانية. وفي القسم الأخير من الفصل، تم استعراض معلومات مختصرة عن الحركة الوطنية ونضالها الثقافي والسياسي. وعن السلطان سيدي محمد بن يوسف وحركة الفداء وجيش التحرير.
2- ملاحظات عن الحصيلة المعرفية
تتعلق أول ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا الباب، بقلة المعلومات عن الأطراف والهوامش، وبالجهات ((الجبال والصحراء)، خصوصا بلاد شنكَيط، التي لا نجد لها أثرا حتى على مستوى الخرائط، بالرغم من انتمائها للمجال المغربي في القرن 19،على الأقل. وبالنسبة لمرحلة الحماية، أدى التلخيص والتعميم إلى استئثار المنطقة السلطانية بأكثر المعلومات،على حساب المنطقة الخليفية ، وخصوصا المناطق الصحراوية الخاضعة للإسبان والتي لم تحظ إلا باهتمام ضعيف.
وتهم الملاحظة الثانية المجتمع وتحولاته؛ إذ لم يسع الفصل الثامن لنحت ملامح المجتمع في تغيره، على إثر الهزة الاستعمارية التي تسببت في اختلال التوازنات التقليدية. وغاب الحديث، من جراء ذلك، عما عرفته التراتبية الاجتماعية من اضطراب ناتج عن إثراء التجار الكبار والتفقير العام الذي تضررت منه فئات واسعة من المجتمع. والمفارقة المثيرة للانتباه في نفس السياق، تكمن في حضور الاهتمام بالأقلية اليهودية وغياب الحديث عن وضعيات العبيد والحراطين والمرأة.
تجدر الإشارة من جهة أخرى إلى أن المعلومات المقدمة بخصوص الإدارة والتحولات الإدارية بالمنطقة السلطانية في فترة الحماية، تثير الكثير من علامات الاستفهام. يكفي أن نشير في هذا الباب إلى أن الفصل تجنب الحديث عن ازدواجية النظام الإداري، وعن الإدارات الشريفية الجديدة، وأيضا عن “الكتابة العامة للحماية” و”إدارة الشؤون الأهلية ومصلحة الاستخبارات”، بالرغم من أهمية دورهما في النسق الاستعماري. كما أنه لم يتحدث عن الوزارات والمصالح المخزنية، والأسس المالية والبشرية للإدارة الاستعمارية، ومراجل التطور الكبرى التي عرفتها هذه الأخيرة.
نشير أيضا إلى أن الحديث عن المقاومة لم يعط صورة جامعة أو شاملة عن مجموع المقاومات، التي اختزلت في أسماء وحركات قليلة منتقاة ، فلم تستعرض بالتالي، أغلب نماذجها، مما حال دون استخلاص الخلاصات المتعلقة بصفاتها وخصائصها.
وتتعلق الملاحظة الأخيرة ببعض المصطلحات، التي استعملت في غير سياقها الزمني نذكر من ذلك، مصطلحي “وزارة العدلية” و “الصدارة العظمى”، اللذين استعملا، في سياق الحديث عن إصلاحات القرن التاسع عشر ، بالرغم من أنهما لم يظهرا إلا مع قيام الحماية. كما استعمل مصطلح الملكية مع بداية الفصل التاسع ، بالرغم من أنه لم يفرض نفسه رسميا، على المستوى المؤسساتي، إلا مع بداية مرحلة الاستقلال.
II-المقاربة والاختيارات المنهجية
يبدو من مقدمة الكتاب بأن مشروع الكتاب لم يتبلور إلا على مراحل، إذ بدأ الأمر “بتقويم الوضع الحالي” وحصر ” الأسئلة النابعة من عمق الموضوع “. وبناءً على ذلك، تمّ وضع تصور للمشروع يضبط خطوطه العريضة و مستلزماته المنهجية. أما “الفرق المتداخلة الاختصاصات” المكلفة بالإنجاز، فلم تتشكل إلا بعد أن اتضحت ملامح المشروع وشروط الإنجاز.
تحددت هذه الشروط ، أولا، في نهج مقاربة شمولية متكاملة المبنى، قائمة على مبدأي التحيين والتركيب؛ وثانيا، في اعتماد التقسيم الموضوعاتي للفصول، التي رتبت محاورها بشكل قد يبدو مناقضا لمنهج التركيب. وقد تقرر، في هذا السياق، إعطاء الأولوية، في ترتيب محاور كل فصل، “للشق السياسي المشرّب بكل من الشقين الديني والعسكري “(المقدمة ص2)، أما المكونات أو العناصر الأخرى، الاقتصادية فالاجتماعية ثم الثقافية، فقد تقرر، منذ البدء، التطرق إليها بعد الانتهاء من الشق السياسي؛ وثالثا، في العناية الفائقة التي حظيت بها مسألة التحقيب لما لها من أهمية في تنظيم الفصول وضبط تمفصلات موضوع انتظمت معظم معطياته في مراحل وحقب. نشير في هذا الصدد، إلى أن واضعي الكتاب، الذين قدموا ،من خلال “تحقيب لم يسبق إليه”، “بدائل قابلة للنقاش” (المقدمة ص1)؛ رابعا، في التعامل المنهجي الصارم مع مصادر ومراجع الكتاب، التي تعتبر معطياتها الأساس المعرفي المعتمد عليه. وقد أبدى المؤلفون، في هذا الاتجاه، حرصاً شديدا على الاعتماد على “بيبليوغرافيا مختارة” وانتقاء “أجود” الدراسات و”أفضل” المصادر .
لا جدال في أن هذه الضوابط أو الهواجس المنهجية كانت حاضرة في فصول الكتاب، ولو بدرجات متفاوتة. لكن ما يهمنا بالأساس، في هذا المقام، هو درجة حضورها في الفصلين الثامن و التاسع، وهذا ما سنحاول إبرازه ومناقشته من خلال النقاط والملاحظات التالية:
– أولا، يعتبر الفصل الثامن من الفصول التي طبقت فيها الاجتهادات أو البدائل المقدمة في مجال التحقيب. إذ استعمل في عنوانه، مصطلح “القرن التاسع عشر الممتد” “، المقتبس من التقسيمات الزمنية الأوربية التي تبدأ هذا القرن من سنة 1789، باعتبارها منطلقا للثورة الفرنسية، المحرك القوي لما عرفته أوربا والعالم من تحولات. أما هذا الفصل، فقد حدد بداية القرن التاسع عشر في سنة 1790 التي اعتبرت بدلا من سنة1822 أو 1830، ـــــــــ لأسباب واعتبارات قابلة للنقاش ـــ، نقطة انتقال من العصر الحديث إلى القرن التاسع عشر .
– ثانيا، تميزت كتابة الفصلين بإيقاعاتها المتباينة ، إذ انطبع القسم الأول من الفصل الثامن، ــــــ الذي انحاز للحديث على البنيات ومستويات الوعي والدين والإصلاح ـــــــ، بالميل للتركيب ولتقنيات التاريخ البنيوي سعيا لاستكشاف العوامل الكبرى الخفية ذات البعد الاستاتيكي. أما القسمان الثاني والثالث من الفصل، فقد هيمن فيهما منطق التاريخ السردي ذي النفس القصير ، غير المنسجم مع مبدأ التركيب، إذ طغى فيهما الحديث عن الأحداث الكبرى المؤثرة في التطور السياسي العام ، وعن المخزن في مواجهته للضغط الاستعماري، بشكل خاص . وهذه المقاربة تنسجم نوعا ما مع التقسيم الزمني المعتمد في الفصل، الذي انتظمت معطياته في مراحل ثلاث تمتد من سنة 1790 إلى سنة 1912، بخلاف الفصل التاسع الخاص بحقبة الحماية، الذي فضل التقسيم الموضوعاتي، ولو أنه لم يلتزم التزاما تاما بالشروط المنهجية المنصوص عليها في مقدمة الكتاب؛ إذ انتظمت محاوره في خانات متمايزة ومنعزلة عن بعضها، بدءاً ب”الشق السياسي ” (والإداري) فالاقتصادي، ثم الاجتماعي والثقافي…طبقا، لما هو منصوص عليه في تلك الشروط. لكن القسم الأخير من الفصل سجل العودة إلى “الشق السياسي”، من خلال الحديث عن السلطان والحركة الوطنية والسير في درب الاستقلال .ونتيجة لهذه المقاربة، التي عرفت هيمنة منطق السرد والوصف، لم يستطع الفصل الإمساك بدينامية التطور العام واستجلاء العوامل الكبرى المتحكمة في سير الحماية ورصد المنعطفات التاريخية الأساسية والمؤثرة في المسار العام ، بالرغم مما طبع هذا المسارــــــ من بدايته إلى نهايته، ـ من تحولات ناتجة عن عوامل متداخلة ــــــ وغير منفصلة عن بعضهاــــــــ غيرت ملامح البلاد تغييرا شاملا .
– ثالثا، تطرح علينا مسألة المصادر والإحالات أسئلة كبرى، تستدعي الوقوف عندها والبحث فيها. نلمس ذلك، بشكل جلي من خلال الفصل الثامن، الذي تقلصت دائرة مصادره ومراجعه بالرغم مما أشار إليه الفصل نفسه في مقدمته من أن القرن التاسع عشر عرف على المستوى الأكاديمي، “كثافة” في الدراسات التاريخية ” و”…نال … حصة الأسد من الأبحاث التاريخية التي لا يزال معظمها حبيس الرفوف في صيغته المرقونة”(ص446). فهذه الأبحاث، في معظمها، لم تستغل، بالرغم مما يمكن أن توفره من فرص لتجديد معرفتنا بتاريخ المرحلة. وهذا العزوف عن استغلال الدراسات الأكاديمية المغربية، بالرغم من أن بعضها منشور ومتداول، نلمسه أيضا في الفصل التاسع. وعلى العموم، فالكتاب ككل، اعتمد على بيليوغرافيا منتقاة، مكونة من دراسات أنجزتها “نخبة” مختارة من الباحثين المغاربة، بالإضافة إلى مؤلفين فرنسيين وإنجليز لا تتساوى كتاباتهم من حيث الأهمية. وفي هذا السياق، أشار الأستاذ محمد القبلي، مدير المعهد، إلى أن “العمل على استغلال المساهمات العلمية المتمكنة دون غيرها يعد مركبا صعبا …لم يكن منه مناص”(التقديم، ص XVII-XVIII) .
III– التمثيل الجغرافي للمجال: إشكالية الخريطة
تجدر الإشارة إلى أن الكتاب، ومنه الفصلان الثامن والتاسع، يزخر بالجداول والإحصائيات والوثائق البصرية أو الإيقونوغرافية. فهو يحتوي على 166 شكلا مرسوما و مصوراً، بالإضافة إلى 37 خريطة. وهذه كلها أدوات ووسائل تعبر عن عمق العلاقة بين البحث التاريخي وبيداغوجية الصورة. أما الأدوات الخرائطية، التي تعد من أقوى مرتكزات الكتاب، فقد كانت بالإضافة إلى ذلك، من أهم العناصر المعبرة عن عمق العلاقة بين التاريخ والمجال.
انسجاما مع هذا المعطي، الذي يرمز لحضور هاجس الجغرافيا في الكتاب، جرى التأكيد منذ البداية (المقدمة، ص1)على”أهمية البعد المجالي” وعلاقته بـ” البعد الزمي”. ودعما لهذه الرؤية، خصص الفصل الأول، الذي يحمل عنوان :”من الدينامية الطبيعية إلى المجال التراب”(ص5 – 34)، لدراسة المجال الجغرافي ومراحل تشكله والتأثيرات المناخية و”الهشاشة الديمغرافية” وعلاقة المغاربة بالبحر… ونتيجة لذلك، تضمن الفصل الكثير من العناصر ذات الصلة الوثيقة بالفصلين، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، المعطيات المتعلقة بالخرائطية وتمثل المجال، و”محاولات تنظيم التراب”،والعلاقة بين اتساع المجال ووسائل السيطرة السياسية.
وتأسيسا على هذه الاعتبارات، كان الحرص قويا، منذ البداية، وفي صفحات مختلفة من الكتاب، على الربط بين الهوية والمجال والتاريخ، من خلال التأكيد على “الوحدة المجالية” و”الانسجام الذاتي”(الفصل7، ص 371). وكانت الخرائط من الأدوات المدعمة لهذا التصور المجالي للمغرب.
بدا هذا التصور واضحا في الفصول الأولى من الكتاب، التي بينت من خلال خريطة المرابطين والموحدين، مثلا، بأن حدود المغرب كانت تصل جنوبا إلى وادي السينغال (ص 169) . ووردت في الكتاب معلومات تدعم هذا المعطى، نذكر منها على سبيل المثال الإشارات الواردة في الفصل السابع، والمتعلقة بالدعم العسكري الذي قدمه السلطان مولاي إسماعيل إلى أمير الترارزة سنة 1724. وقد ذكر، في هذا السياق، بأن الغاية من هذا الدعم “مقاومة الحضور الفرنسي على الضفة اليسرى لنهر السينغال…”. والدفاع “عن مجال مغربي”، تستعمل فيه ” العملة والمكاييل والأوزان… (الـ)مغربية”( ص421-422)[2].
بيد أن هذا التصور أصبح، ابتداءً من الفصل الثامن، عرضة للخلل والالتباس. فخرائط هذا الفصل، وهي في معظمها مقتبسة من كتب أخرى، تطرح علينا أسئلة تستدعي الوقوف عندها وتعميق النقاش فيها، لأنها ترمز لما يكتنف تصور المجال وامتداداته، في ارتباطه بقضايا الحدود أو الهوامش والأطراف، من التباسات مثيرة للاستغراب. وأهم نقطة تثير الانتباه في هذا الصدد، ترتبط باستعمال الفصول الثلاثة الأخيرة لإطار خريطة مغرب اليوم، بحدوده الحالية التي ما زالت مثار شد وجذب، كأن امتداد التراب المغربي، من القرن التاسع عشر إلى الآن، لم يتغير، ولو بشبر واحد. كيف يمكن أن نمحو من خريطة هذا القرن شنكيط وتيندوف وتوات التي لم تقتطع من المجال المغربي إلا على مراحل، ابتداءً من سنة 1899؟ وكيف نتعامل، من هذا المنظور، مع خريطة ” المغرب التاريخي” التي تشبث بها الوطنيون في مغرب الاستقلال وحاول جيش تحرير الصحراء، الذي وصل بعملياته الحربية إلى موريتانيا الحالية، بلورتها على أرضية الواقع، بالسعي إلى استرجاع المجالات المغتصبة، التي لم يراوده أي شك في مغربيتها.
تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن هذه الالتباسات المثيرة للتساؤل موجودة أيضا في دراسات وكتابات مغربية مختلفة[3]، ومنها المؤلف الجماعي عن “تاريخ المغرب” الصادر سنة 1967[4]. فهذا الكتاب، المدافع عن الرؤية الوطنية للتاريخ، والهادف إلى تزويد الطالب والباحث المبتدئ بالمادة التي تساعده على استيعاب التاريخ الوطني، استعمل الخرائط بشكل ملحوظ. لكن المقاربة المتبعة في هذا الشأن كانت حذرة، بحيث أننا لن نجد في صفحاته الخاصة بالتاريخ المعاصر أي خريطة للمغرب في حدوده التاريخية، التي تحتضن في امتدادها بلاد شنكيط (بلاد البيضان) وتيندوف وتوات … وبموازاة ذلك، لا يتحدث الكتاب في الغالب، في ملامسته للقرن التاسع عشر إلا عن مجال محدود جنوبا بوادي درعة، ولا تفسح خرائطه المجال لفضاءات أوسع إلا عندما يتعلق الأمر بالمسالك التجارية التي تصل المغرب بالعوالم المحيطة به.
المفارقة المثيرة للانتباه في هذا الباب، تتمثل في أن هذا التصور، الذي يقلص من مساحة المجال المغربي في القرن التاسع عشر، صمد بقوة، بالرغم من النقاش السياسي والدبلوماسي المثار حول الموضوع ، ومن تكاثر الأحاديث والدراسات عن المقاومة في الجهات التي بترت من المغرب في ظروف الاستعمار، ومنها ما كتبه علال الخديمي، تحت عنوان “مقاومة القبائل الصحراوية للاحتلال الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين”. فقد ألح فيه، بالاستناد إلى ” الحقائق التاريخية “، على أن المقصود بـ” جنوب المغرب” ، في تلك الفترة، هو “الجنوب الصحراوي إلى حدود السينغال”[5]. وهذا الطرح لا يتناقض مع ما سبق أن ذكره المرحوم محمد المنوني ، في سياق حديثه عن سياسة المغرب الخارجية بعد سنة 1860، إذ أكد بأن أهداف هذه السياسة تتمثل في “المحافظة على حدود المغرب التاريخية…في سائر جهاتها”، وأول هذه الجهات “إقليم شنجيط الذي استمر حتى هذا العهد نافذا فيه حكم ملوك المغرب إلى نهر السينغال”[6].
من البديهي أن نسيان هذه “الحقائق”، التي ترمز لما تعرضت له من بتر واقتطاع أراضي واسعة ـ كانت منتمية بشكل من الأشكال للمجال المغربي، يعني انتزاع مساحات واسعة من تراثنا وذاكرتنا الجماعية والتاريخية. والأدهي أن هذا “النسيان”، الناتج ربما عن نقص في المعطيات، لم تسلم منه حتى بعض الجهات الممثلة في خرائط الكتاب. نلمس ذلك على سيبل المثال لا الحصر، من خلال تفحص المعطيات في الخرائط، وفي الكتاب ككل، عن الحركة الجهادية التي تزعمها الشيخ المجاهد ماء العينين. ففي الخريطة رقم 30 مكرر، الواردة في فصل الحماية (ص 539) إشارة أو علامة تشير إلى أن السمارة (الساقية الحمراء) من “أهم معاقل المقاومة”. لكن الفصل بأكمله لم يذكر شيئا عنها أو عن زعيمها، باستثناء الإشارة الواردة في سياق الحديث عن ابنه الشيخ المجاهد أحمد الهيبة، وهي تشير فقط إلى أنه “مرابط صحراوي” توفي بتزنيت في أكتوبر 1910. أما الخريطة رقم 29، المثبتة في الفصل الثامن (ص 505)، والمتعلقة بـ” التغلغل الأوربي بالمغرب 1884-1911، فلا أثر فيها لحركة ماء العينين، بالرغم من أهميتها، من الناحية الجهادية والجيوسياسية. والغريب أن بصمات هذه الحركة لم تمح من الخريطة فحسب، بل من الكتاب ككل! بالرغم من أنها ترمز بقوة لذلك التفاعل القوي، المتحدث عنه في الكتاب، بين المجال والهوية والتاريخ.
وبالرغم من ذلك، فإن الفصلين اللذين ظلا،على غرار الفصول الأخرى، وفيين لخطة منهجية هدفها “الأول، … إنارة الوقائع الظرفية قبل غيرها…”(الخاتمة، ص 733)، يتضمنان الكثير من الإيجابيات والمزايا. نلمس ذلك، من خلال المعطيات الغزيرة المقدمة والاجتهادات المعبر عنها في مجال التحقيب والتوثيق المصدري والإيقونوغرافي… وعلى العموم. فإنهما حلقتان في كتاب يعد، في رأيي، بادرة طلائعية محمودة ولبنة مدعمة لصرح الكتابة التاريخية. وهو يشكل من هذه الناحية امتدادا لتقاليد في الكتابة التاريخية المغربية، وحلقة في سيرورة تاريخية موشومة بما عرفه مغرب الاستقلال من إصدارات منشغلة بتاريخ المغرب العام ومعتمدة في أسلوبها ومنهجها، غالبا، على المقاربة الشمولية و الرؤية التجميعية. نذكر منها كتاب “المغرب عبر التاريخ” لإبراهيم حركات[7]، والمؤلف الجماعي السابق الذكر، الصادر سنة 1967،وكتابي بيرنار لوكَان[8]Bernard Luganوميشيل أبيبطبول Michel Abitbol[9]. وهناك أيضا كتاب عبد الله العروي، الصادر بالفرنسية، في سنة 1970، تحت عنوانHistoire du Maghreb. Un essai de synthèse[10]، الذي أدخل المغرب في سياق تاريخ المغارب، ومؤلَّف دانييل ريفي Daniel Rivet[11] الصادر سنة 2012، الذي يقدم نموذجا آخر في الكتابة التركيبية، تنبني على خلق تفاعل بين الثوابت والمتغيرات و التوفيق بين تاريخ الدول والتاريخ البنيوي، والمزج بين الحكي والتأمل في المحكي. وعموما، فإن هذه الكتابات، التي لا تخلو من اختلافات، مليئة بالمعطيات والإضافات التي من شأنها فتح آفاق جديدة أمام البحث التاريخيبالمغرب.
[1]قراءة للفصلين الثامن والتاسع من كتاب تاريخ المغرب: تركيب وتحيين، الرباط- منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 1911. [2]لكن هذا الفصل نفسه قدم معطيات تشير إلى ما أصاب هذا التصور، المبني على وحدة المجال واتساعه وانسجامه، من خلل والتباس. نلمس ذلك، على المستوى الاصطلاحي، من خلال تعميق النظر في معنى لفظ/مصطلح “الجنوب”، الوارد في الفصل. ففي سياق الحديث عن مؤشرات الحيوية الجهوية، ذُكر بأن “الجنوب المغربي” عرف صراعا شديدا بين ابن أبي محلي ويحيى الماحي وبوحسون السملالي (ص 393). يبدو الأمر هنا وكأن رقعة المغرب جنوبا قد انكمشت، لأن المقصود ب”الجنوب” في النص هو سوس. [3]انظر، مثالا على ذلك، “الخريطة رقم 1: المغرب في بداية القرن التاسع عشر”، في كتاب المغرب قبل الاستعمار: المجتمع والدولة والدين 1792-1822، للدكتور محمد المنصور. ترجمة محمد حبيدة، ط 2006 ( ص.25). رسم د. المنصور داخل إطار كبير خريطة للمغرب لا تتجاوز جنوبا وادي درعة. وفي إحدى زوايا الإطار، وضع خريطة صغيرة صماء (فارغة) تطابق حدودها المغرب الحالي. [4] Brignon (Jean), Amine (Abdeaziz), Boutaleb (Brahim), Martinet (Guy), et Rosenberger (Bernard), avec la collaboration de Terrasse (Michel), Histoire du Maroc, Hatier, Paris VI, Librairie Nationale, Casa, 1967. [5] انظر: https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/YxpXz3mh8bA [6]المنوني(محمد)، مظاهر يقظة المغرب، الدار البيضاء- شركة النشر والتوزيع-المدارس، وبيروت- دار الغرب الإسلامي، 1985، ج 1، ص. 50-51. [7] الدار البيضاء- دار السلمي للنشر والطباعة، 3 أجزاء، 1965-1985. [8] Lugan (Bernard), L’histoire du Maroc: des origines a nos jours, Criterion, 1992, 2000, 2011. [9] Abitbol(Michel), Histoire du Maroc, Perrin, 2009 [10] François Maspero, Paris, 1970 [11] Rivet(Bernard), Histoire du Maroc, Fayard, Paris, 2012.