تقديم
أصدر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، سنة 2011، الكتاب الجماعي تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، الذي أشرف عليه محمد القبلي وقدم له. ويأتى هذا الإصدار في سياق دقيق بالنسبة للبحث في تاريخ المغرب ولجماعة المؤرخين المشتغلين عليه. وقد استبشر الباحثون في حقل العلوم الاجتماعية بصدور باكورة إنتاج المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الذي عزز وجوده مكونات فضاء البحث في هذا الحقل المعرفي، التي كانت مقتصرة من قبل على عدد من المؤسسات الجامعية والجمعية المغربية للبحث التاريخي وقلة من المعاهد والمراكز ذات الصلة. وجاء الكتاب بعد طول انتظار، إذ تكاد الكتابة الشاملة والتركيبية لتاريخ المغرب تقتصر على ما أصدرته المرحلة الكولونيالية المطبوعة بحمولاتها النظرية[1]، وعلى منتوج بعض الرواد من الباحثين المغاربة المحكوم بوضع البحث التاريخي ومصوغاته في سنوات الاستقلال الأولى[2]. وكان هذا النمط من الكتابة قد شهد بعيد ذلك لحظتين مركزيتين، الأولى سنة 1967، مع صدور المؤلف الجماعي والتركيبي Histoire du Maroc [3]، والثانية سنة 1970، مع صدور مؤلف عبد الله العروي التركيبي L’histoire duMaghreb[4]. ويأتي الكتاب بعد أن حقق البحث في تاريخ المغرب تراكما ملحوظا في العقود الثلاثة السابقة لصدوره، في شكل تحقيقات ومونوغرافيات وأعمال تركيبية، أعاد بعضها الاعتبار للبحث الأثري وفن العمارة وانفتح على العلوم الاجتماعية واقتحم الزمن الراهن وكسر طوق مقولات المدرسة الوطنية، وإن لم ينتظم بعد في إطار مدرسة واضحة المعالم.
تكمن قوة هذا الكتاب في كونه عملا جماعيا غير مسبوق من حيث عدد الباحثين المشاركين في تحريره وتنوع تخصصاتهم، كما تتجلى في أنه يعبر عن “نظرة/مقاربة” مغربية خالصة لتاريخ المغرب، علما بأن هذه الصفة- الميزة لا تعني الانغلاق داخل دائرة البحث الهوياتي.
وتكمن قوة الكتاب أيضا في إعلان أصحابه عن تبنيهم اختيارا منهجيا مؤسسا على أربع غايات مركزية، هي:
– التحيين، باعتماد آخر الدراسات وأوثقها وتجنب التقوقع في “الذاتيات” البحثية، بحيث يصبح الكتاب محصلة/ bilan، ممثلا ومجسدا للمعرفة المتراكمة في البحث في تاريخ المغرب، إلى غاية تاريخه.
– التركيب، بهدف تجنب القراءة الأحادية والابتعاد عن التاريخ الحدثي والسردي.
– إعادة النظر في الموروثات والمسلمات، وتثمين الاجتهادات التي توصل إليها الباحثون في تاريخ المغرب.
– رصد المنعطفات المؤشرة على التحول والتغير داخل زمن المغرب المديد، مع ربطها بالتاريخ المحلي والإقليمي والعالمي.
ملاحظات عامة
أستهل هذه القراءة ببعض الملاحظات العامة التي عنت لي بعد القراءة المتأنية للكتاب، وأجملها في أربعة مآخذ:
1- إطلاق بعض الأحكام المجانبة للصواب والمجحفة والمخلة باختيارات الكتاب المنهجية باعتباره محصلة لتراكم حاصل. ومن ذلك القول، في بداية الفصل السادس، عند استهلال الحديث عن القرن 15م وسياقات ظهور الدولة السعدية: ” يعد هذا القرن من الحلقات المعتمة في تاريخ المغرب، إذ لا نتوفر على ما يكفي من مادة مصدرية قمينة بإضاءته وتبديد غموضه فبالأحرى إبرازه كمنعطف حاسم. ويرجع السبب في ذلك إلى شح إسطوغرافيته المترتب عن ضعف الدولة المركزية، لذا فانه لا سبيل إلى تناول قضاياه بالصورة المرغوبة إلا بالإفادة من مصادر لم تحظ حتى الآن بكل ما تستحقه من عناية ومنها كتب التصوف والنوازل والأحكام والوثائق والبدع وبعض التصانيف المشرقية، ثم المصادر الأوربية…”(ص. 299-300). ومنها القول، في بداية الفصل السابع، عند تناول بيعات السعديين الأولى وما تمثله من تحول عميق: “هنالك سنة مغمورة تم المرور عليها حتى الآن مر الكرام وإن كانت قد أعلنت عن تحول عميق تمثل في اللجوء إلى محمد القائم بأمر الله، جد الملوك السعديين، وذلك برسم مطالبته بقيادة الحركة الجهادية” (ص. 372)….
هناك فعلا دراسات عديدة واجتهادات قوية، أعطت الأهمية العلمية المطلوبة لمصادر المرحلة بأجناسها المختلفة، ولم تمر مر الكرام على الحدث المنعطف، وكانت متداولة زمن إعداد الكتاب ومعلومة وسط الجماعة التي حررت الفصلين معا.
2- تقليص مادة البيبليوغرافيتين المذيلتين للفصلين، إذ يقتسم لائحة الدراسات المغربية في الفصل السادس كاتبان بمؤلف ومقال لكل منهما، ويقتسم اللائحة في السابع ثمانية مؤلفين، في حين ذيل القرن 19م لوحده بـ 15 دراسة مغربية من دون احتساب المترجمات. هذا مع أن الكتاب اختار منهجيا أن يكون محصلة/ lieuxétat de، ومع وفرة الأعمال المؤسسة والجادة المخصصة للمرحلة، وعلما بأن البيبليوغرافيا كما هو متعارف عليه في مثل هذا الكتاب وعالميا لا تقل أهمية عن المتن وتركز أساسا على الدراسات لا المصادر.
3– يتميز الكتاب باختياره تحقيبا مؤسسا على المنعطفات الكبرى، التي شهد فيها المغرب متغيرات فكرية-ثقافية واقتصادية وسياسية متراكبة، مما يبرر الاختيار الموفق للفصل السادس الذي يعتبر سنة 1415 منطلقا لهذا المنعطف. غير أن الفصل السابع أعاد فتح النقاش حول إشكالية التحقيب وفق محددات مغايرة. إذ بعد أن أبرز الأهمية التي تعطى لسنة 1492 كمنطلق تحقيبي، اعتبرها لا تشكل قطيعة ضمن المتغيرات المحددة لتاريخ المغرب، وفضل عليها سنة بيعة السعديين، المعبرة في رأيه عن متغيرات في مشروعية الدولة وقوة الزوايا ودور الشرف وتراجع العصبية القبلية كمحرك فاعل (ص. 372).
والملاحظ أيضا أن التحقيب المقترح، والمشغل في الفصلين معا، انعكس سلبا على التأريخ للدولتين الوطاسية والسعدية، إذ تم عمليا في الكتاب إنزال الوسيط المريني إلى الحيز المخصص للدولتين المذكورتين، كما تم إلحاق جزء هام من تاريخ العلويين بهذا الحيز. زاد هذا الاختيار من أزمة معرفتنا بالوطاسيين وكرس الغبن الذي يعرفه التأريخ للسعديين. نعم للتحقيب المعتمد، لكن مع تخصيص حيز أكبر للزمن الممتد من 15 إلى 18م، أي إعادة الاعتبار لأربعة قرون ولدولتين.
4- تخللت الفصلين بعض الهفوات، من قبيل تحديد تاريخ موت السلطان الوطاسي محمد البرتغالي في شعبان سنة 933 هـ/ ماي 1526 م ( ص. 376)، في حين أنه توفي في ربيع الأول سنة 932 هـ / يناير 1526. كما أن الحدث لم يسفر فقط عن بيعة أبي حسون وعزله، بل انتهى إلى مقتله مباشرة، وبهذا التحديد يتبين أن لا علاقة بين أبي حسون المذكور والأمير الوطاسي الذي حمل نفس الاسم واستعاد مدينة فاس من السعديين مدة قصيرة منتصف القرن 16 م . ومن هذه الهفوات القول إن اتفاق رسم حدود فاصلة بين الوطاسيين والسعديين تم في معركة أبي عقبة قرب وادي العبيد أواخر سنة 942 هـ/ 1536م ( ص. 376). في حين أن الاتفاق على قسمة البلاد تم قبل ذلك في صلح وليس معركة، وهو صلح أنماي سنة 937 ه/ 1530م. أما معركة مشرع أبي عقبة التي انهزم فيها الوطاسيون هزيمة ثقيلة سنة 943 هـ/ 1536م، فقد ترتب عليها فيما بعد إعادة النظر في التقسيم المذكور بما يناسب انتصار السعديين.
في تيمة الدولة/المخزن الشريف
اختارت هذه القراءة أن تتمحور حول تيمة الدولة/ المخزن الشريف، في معنى الدولة الاصطلاحي لا في دلالته المفاهيمية رفعا لأي لبس. وينبثق الاختيار من كون التيمة مركزية في الكتاب، بحيث تكاد كل القضايا الأخرى تتقاطع عندها. وتنتهي بنا القراءة من هذه الزاوية إلى رسم مسافات للنقاش المتفاعل مع قضايا الكتاب الكبرى، التي نجملها في القضايا الثلاث الآتية:
1- انتهاء دورة العصبية وبداية دولة الشرف
جدد الكتاب طرح السؤال المحير والمشوق في نفس الآن: لماذا عجزت العصبية/ القبيلةمطلع القرن 16م بالضبط عن إنتاج الدولة بل وتأسيس الإمبراطوريات كما كان عليه الحال من قبل؟ كيف استطاعت أسرة مغمورة في مجال من الهامش، لا يتجاوز عدد المعروف من أفرادها الثلاثة أن تؤسس دولة ولج بها المغرب الأزمنة الحديثة؟
قبل أن نعرض لمساهمة الكتاب في الإجابة، والتي خص لها الفصل السادس بأكمله وجزء من الذي تلاه، نلاحظ أن الحدث المذكور خضع لقراءات عديدة. ففي فترة الحماية، نسب هذاالتحول إلى مقاومة الاحتلال. غير أن القارئ لأدبيات هذه الفترة يلاحظ بالخصوص ذلك الربط المتين الذي عقدته بين الانتقال والتصوف، بحيث ولدت الانطباع بأن الحدث مجرد كرامة تحققت أو رؤيا صدقت، وكأن هذه الكتابات استكثرت على مغاربة الوقت أنيخططوا بـ “عقلانية” لإنتاج مشروع سياسي من هذا القبيل. وفي الثلاثينيات، بعيد الظهير البربري، قرئ الحدث باعتباره دالا على اختيار المغاربة الناجح الاجتماع والالتفاف حول مشروعية فوق عصبية تضمن الوحدة بين مكونات المجتمع من أمازيغ وعرب، وهي الشرف. وفي بدايات الاستقلال، قرئ الحدثعلى أنه دال على تحقيق المغاربة لمشروع “وطن” و”وطنية”، بالاجتماع حول شخص السلطان الشريف- المجاهد- الممثل للجميع. وابتداء من السبعينيات ثم الثمانينيات هيمنت وسط الباحثين في العصر الوسيط أو الحديث قراءة تؤكد على دور فاعلين اجتماعيين إثنين في إنجاز هذا الحدث، وهما:الزوايا وصوفيتها بالدرجة الأولى، باعتبارها المحرك، والشرفاء بالدرجة الثانية، باعتبارهم الأداة. وميزة هذه القراءة أنها جعلت بروز هاتين الشريحتين الاجتماعيتين نتيجة لسيرورة تعود إلى العهد المريني، مرتبطة بأزمة مشروعية هذه الدولة وبعلاقاتها مع المكونات والقوى الاجتماعية وبالمشاكل التي كانت تعترضها.
فرضت هذه القراء الأخيرة نفسها في إجابة الكتاب عن السؤال المركزي المهيمن والمذكور سابقا. ويستشف ذلك من خلال ثلاثة مستويات/ سياقات، وهي:
– التوصيف الدقيق للظرفية التي أفضت إلى الانتقال من دولة العصبية، وهي ظرفية تميزت بـحتمية طبيعية بالغة القسوة، وضعف الدولة وعجزها وتفتتها، وتفاقم الاحتلال الأيبيري، وغلبة البنيات العتيقة والبداوة، وانتشار الخراب، وانكماش العصبيات الكبرى. وأنتج هذا الوضع حالة قلق ويأس وإحباط من جهة، وميل جارف من جهة ثانية نحو التطلع إلى المنقذ- المخلص في شخص المهدي المجدد القادر على تحقيق الآمال في دولة مثال.
– المتابعة الدقيقة للتحولات التي طرأت على التصوف المغربي إلى أن انتهى إلى الطريقة الجزولية التي رسم قطبها شروط الإمام القادر على تلبية الآمال وتحقيق الخلاص، وبالتالي إقامة دولة شريفة ومجتهدة ومصلحة ومجاهدة. وكل ذلك في مسرد دقيق مفصل، ركز على حيوية التصوف زمن الأزمة مقابل عجز المخزن والقبيلة في القرن 15.
– سعي هذه الطريقة الجزولية إلى تحقيق مواصفات هذا الإمام- المخلص، بحيث تقمصها محمد بن سليمان الجزولي نفسه، فقتل. ثم دفعت الطريقة بعده شريف فاس محمد بن عمران الجوطي إلى تحقيق هذا المطلب، ففشل بدوره. وانتهت الطريقة نفسها إلى اختيار بديل- نموذج آخر، فكان دعمها لشرفاء مغمورين من درعة، حملتهم على “أكتافها وفتحت لهم أبوابها” إلى أن كونوا الدولة المرجوة.
ويقدم الكتاب محمد بن المبارك الأقاوي شاهدا على ترشيح الصوفية الجزولية للسعديين بديلا ومساندتهم لهم أول ظهورهم. وكان بالإمكان أن يضيف الكتاب شاهدا ثانيا هو أبو بكر التيدسي، فقد كانا حسب متن مناقبي متأخر ممن أشارا على أهل حوض درعة الأوسط والغربي ببيعة جد السعديين الأول وتأييده. غير أن الكتاب لم يكن في مقدوره إضافة نماذج أخرى تستجيب لنفس البناء التاريخي، ولها قوة الإقناع، وتقع في نفس الحيز الزمني من السياق، لأنها غير متوفرة، ولأن الطريقة الجزولية ممثلة في كبار أقطابها لم تكن تدعم الشرفاء السعديين أول قيامهم، ولم تحول ولاءها عن خصومهم الوطاسيين إلا بعد سقوط مراكش في يد الشرفاء، وكان الأمر قد قضي أو كاد.
إن ظهور دولة الشرف في المغرب ظاهرة مجتمعية معقدة ومركبة، لا يمكن تحجيم تفسيرها في بشارة قطب أو إشارة ولي، بل تتعدد شروطها وتتضافر بالتفاعل مع عوامل أخرى مثل ضعف العصبية القبلية وهشاشة البنيات المخزنية، وتحول المسالك التجارية وضغط الاحتلال الأجنبي والكوارث الطبيعية. ونود في هذا الإطار الإشارة إلى إغفال الكتاب للدور الذي قام به العلماء في قيام الدولة السعدية، وإن كان قد أشار، عوض ذلك وخارج السياق وبإحالة ملتبسة مشوبة بالغموض، إلى استعانة السعديين بهم بعد القيام (ص. 376-377).
من خصوصيات هذه اللحظة الانتقالية تعدد الفاعلين/ les acteurs، وأبرزهم العلماء، في سياق ظرفية عرف فيها حوض درعة الأوسط والغربي نهضة علمية مثيرة للانتباه، وتحققت فيها لهذه الجهة الهامشية هوية ثقافية ميزتها عن غيرها. وفي خضم ذلك كله أنتج علماء هذا المجال الذي احتضن السعديين الأوائل مشروعا متدرجا، بدأ بالاستماع إلى هموم الناس وانتقل إلى العمل على حل مشاكلهم وانتهى إلى اختيار دولة بديلة بمشروعية جديدة.
حول هؤلاء العلماء الفقه، وهم يفتون في قضايا الأعراف وحكم الخروج عن الإمام وحلية الفراغ السياسي والإذن بالجهاد وفريضة بيعة إمام بديل جديد…، إلى فقه حي واقعي، وإلى “خطاب” غير صوفي، تناقله المشايخ والتلامذة، الذين انتظموا في شبكات تواصلية تنقل المعرفة إلى جانب الاختيارات والمواقف السياسية.
والملاحظ أن الكتاب مهدلتفسيره السابق الذكر بترسيخ “مسلمة” وقوف الحركة الصوفية وراء وصول الشريف الجوطي إلى حكم فاس خلال ما يعرف بثورة 1465م. وبالرغم من إشارته إلى أن الدارسين ذهبوا إلى تأويل حيثيات هذا الحدث مذاهب شتى، فقد انحاز إلى تفسير الغالبية (ص. 304-305 و346 و350 و352)، وتجاهل اجتهاد “الأقلية”. هذا مع العلم دائما أن هذه الاجتهادات متداولة، وأن المسلمة المذكورة مثل سابقتها لا تنفرد بالتفسير لافتقادها بمفردها قوة الإقناع، كما أن فرضية الأكثرية لا تقوم دليلا مقنعا في مجال البحث العلمي.
2- الشرف كمؤثث للمشروعية وآلية للتحكم في التراب وتدبيره
أنتج هذا العصر، مثل العصور السابقة، كرامات التأسيس/ les mythes fondateurs. وما يجب التنبيه إليه هنا أن التجربة العلوية استنسخت حرفيا الروايات المؤسسة للسعديين القائمة على مفهوم البركة وليس العكس. وتدفعنا الملاحظة إلى التساؤل عن عمق التغيير الذي طرأ على مزاولة الحكم بإدخال مشروعية جديدة هي الشرف. فالملاحظ في هذا الباب أن دولة الشرف، كما جاء في الفصلين، لم تشذ عن سابقاتها فيما يتعلق بتوظيف مشروعيات التأسيس. إذ سرعان ما يتوارى الشرف بعد استيفاء الحاجة إليه، حيث تعتمد الدولة على الآليات المعتادة وأساسا الغلبة/عنف الدولة في القيام بتدبير متطلبات الحكم، ومن عنف الدولة توسيع الوعاء الضرائبي وإحداث الجيش “النظامي” المنصوري والإسماعيلي. وبالتالي ما لاحظه الكتاب حول تحول الجهاد والشرف والتقاليد المخزنية إلى هامش ضعيف في العهد العلوي الأول يصدق على الدولتين معا (ص. 403-405).
ويشير الكتاب، من جهة ثانية، إلى امتداد التراب، في عهد الإمبراطوريتين المرابطية والموحدية، أي قبل منعطف القرن15. ويسجل بداية تقلصه في العهد المريني، ثم انكماشه الفعلي بدءا من العهد الوطاسي، في إشارة إلى انتهاء وحدة الغرب الإسلامي الثقافية والسياسية. كما يسجل بالمقابل أن إنجاز الفترة السعدية والعلوية يتمثل في تحقيق وحدة مجالية مستقلة عن المغارب سياسيا واقتصاديا وثقافيا (ص. 371).
نتلمس في هذه التاريخ المفصلي، وقبل القرن 19م، حيرة وجدانية ونوعا من الارتباك لدى السلاطين، يتمثل في الاستكانة إلى هذا التراب الضيق، و”الاقتناع” بأن دائرة الإمامة وبلاد إمرة المومنين ودار الخلافة قد لا تتجاوز حدود ما تصله يد السلطان، بالرغم من التعبير غير ما مرة عن الرغبة في منافسة قوى الجوار بسلاح مشروعية رمزي، غايته ترتيب البيت الداخلي بالدرجة الأولى. ومن هذا المنطلق قد نعيد النظر في استنتاج الكتاب أن اغتيال الأتراك للسلطان محمد الشيخ سنة 1564م اغتيال لمشروع سعدي يسعى إلى توسيع المجال المغربي ويرمي الخروج عن الطابع المحلي للدولة وتجاوز التقسيم السياسي الذي برزت معالمه في المغارب خلال القرنين 14-15 (ص. 379).
وفي علاقة بامتداد التراب، يقف الكتاب، من جهة ثالثة، وقفة حذرة وهو يتناول قضيتين “محرجتين” تتعلقان بالتنازل عن التراب وبحملة السودان الغربي.
برر الكتاب، في القضية الأولى، إقدام عبد الله الغالب السعدي على تسليم حجر بادس للإسبان سنة 1564 وخذلان انتفاضة المورسكيين بالأندلس، المتسببتين في نعته بـ المتخاذل، بإتباع هذا السلطان سياسة الواقع ووضعه مصالح الدولة فوق كل اعتبار (ص. 380)، في حين قد نعيد النظر في هذه الخلاصة إذا ما وضعنا الحدث في سياق أوسع، بتضمينه وعود المتوكل الترابية للبرتغال قبيل معركة وادي المخازن وإقدام محمد الشيخ السعدي على تسليم مدينة العرائش للأسبان، داخل حيز زمني يقارب نصف القرن.
واستعرض الكتاب، في القضية الثانية، أسباب حملة أحمد المنصور على بلاد السودان الغربي، غير أنه قلص المساحة المتوقع تخصيصها للنتائج. اختار الكتاب كلمات الحديث عن الحملة بعناية فائقة وحذر كبير، بحيث يشعر القارئ وكأن النص هذب أكثر من مرة قبل الاعتماد. وتجنب الكتاب الرد على ما هو متداول في بعض الكتابات الأجنبية بالأساس من اتهام “مغرب حملة أحمد المنصور” بالغازي والمدمر والممتحن للعلماء والممهد لاستعمار الغرب لبلاد السودان الغربي. واكتفى، وهو يتجنب قدر الإمكان الخوض في هذا النقاش التاريخي والراهن والمشترك، بمقدار ما يملأ الفراغ. وذلك حين أوكل مهمة الخروج من حالة “الانزعاج” إلى نصين قصيرين لمؤرخين متأخرين، الأول هو الافراني المدافع عن الحملة من منطلق الإيمان بوحدة دار الخلافة، والثاني هو المجهول المعترض عليها لأنها تسببت في حرب بين المسلمين عوض حرب الكافر المحتل. وأضاف الكتاب تعليقا مختزلا، مفاده أن أحمد المنصور سلك مسلك منطق الدولة، وأن هدفه من الحملة الاقتداء بأسلافه، وربح رهان تقوية الدولة بتمكينها من موارد مالية من أجل مواجهة المشاكل البنيوية والظرفية، والانخراط في الزمن المركانتيلي الرابط بين عظمة الدولة ومدى ثروتها، وضم مجال اعتبره السلطان امتدادا طبيعيا للبلاد (ص. 387-390).
ونتساءل، لم لم يناقش الكتاب الجوانب المهملة المؤسسة على وقائع تاريخية حمالة لتأويلات شتى، علما أن في ذلك استجابة لاختياره التحيين منهجا وغاية، خصوصا وأن الجامعة المغربية وفرت إنتاجا محترما في هذا الموضوع؟ وهل تفي “مقاربة” الكتاب بالمقصود، خصوصا وأننا لا ننفرد بقراءة هذا الحدث، بل نتقاسمها مع أفارقة وغربيين، لا نشاركهم أحيانا لا طبيعة التأويل ولا حمولة الاستنتاج ولا الغايات الوظيفية؟
وفي علاقة بالتحكم في التراب يفيد الكتاب، من جهة رابعة، تعدد الثورات فيما بين القرنين 15 و18م، مما تسبب في تشتت التراب وتفككه ولو مؤقتا. ويسرد الكتاب حالات النزاع المفضي إلى هذه الحالة على امتداد العصرين الوسيط المتأخر والحديث. وينتهي إلى خلاصة هامة مفادها أن الثورات باختلافها لا تأخذ قيمتها من الثوار أنفسهم، وإنما من المجالات الترابية التي احتضنتهم، وغالبها مجالات هامش، وتأييدها بالتالي يعبر عن احتجاج مجتمعي بالدرجة الأولى، وليس عن موقف مؤيد للثائرين على الإطلاق.
والملاحظ في هذا الباب أن الدولة كانت تتجنب التكلفة المرتفعة والدائمة اللازمة للتغلب على هذه الثورات، إذ لم يكن في مقدورها دائما تغطية متطلبات الجيش والحركة والحرب إجمالا. لذلك كانت تعتمد في كثير من الأحيان سياسة التفويض، أي الاعتماد في مراقبة المجال والتحكم في التراب على زعامات محلية، من قبيل شيوخ القبائل وأقطاب الصوفية وأرباب البيوتات الكبرى. ومما شجعها على هذه السياسة عدم انتماء أسرتها الحاكمة للعصبيات القبلية الكبرى، وإدراكها أن هذه الزعامات أعرف بالمشاكل المحلية وأقدر على إيجاد حلول لها. غير أن السلطانيين أحمد المنصور والمولى إسماعيل شذا عن القاعدة بإنشائهما جيشا “نظاميا”.
تسبب هذا الجيش المستحدث، خصوصا في العهد الذي اكتمل فيه مشروعا قائم الذات أي في العهد الإسماعيلي، في أزمات عميقة، نتيجة ولائه لشخص السلطان المؤسس وليس للدولة، ولارتهان ولائه بتوفير رواتبه التي شكلت عبئا ثقيلا على بيت المال وأفضت إلى الإجحاف في الجباية، ولوقوفه وراء فوضى قوضت أركان الدولة.
يقدم الكتاب تفسيرات للأزمة التي أعقبت وفاة المولى إسماعيل، من بينها أن جيش البخارى لم يكن له انتماء، وشكل بالتالي جسما غريبا في المجتمع، مما حوله، بمجرد وفاة السلطان، إلى جيش مرتزق ومخرب ومبتز. وخلص إلى أن هذا الجيش تحول إلى حجر عثرة بعد أن كان مشروعا للتغيير (ص. 423-425)، مما دفع السلطان محمد بن عبد الله إلى التحرر من ثقله ومخاطره.
يعزز هذه القراءة، في اعتقادنا، أن جيش العصبية والفريضة والمتطوعة، كان بالمقابل مناسباتيا لا يرهق كاهل المخزن، يعود بعد كل حركة إلى حضنه القبلي، القادر على احتوائه من جديد وإعادته إلى فضاءه الأول الكفيل بإدماجه وإعالته وضبطه.
3- تجذر الهشاشة ومحاولات النهوض
يشير الكتاب غير ما مرة إلى تجذر أزمات المغرب وعمق مشاكله واتساع الفارق “الحضاري” بينه وبين جيرانه خصوصا في الضفة الشمالية. ويفصل في الأزمة العميقة التي أصبحت ماثلة للعيان منذ مطلع الأزمنة الحديثة، ويخلص إلى تعاقب أزمنة القوة والاستتباب مع أزمنة التأزم وتشرذم المجال.
ويستعرض الكتاب جملة من التدابير التي اتخذها بعض السلاطين لاستدراك الخلل وتقليص هوة التجاوز. غير أن تحجر البنيات وهشاشة النظم طبعت محاولات الاستدراك، خلال قرون 16-18، بـ “المؤقت” الدائم و”الهشاشة” و”المحدودية”، وحولت لحظات الاستقرار والاستقواء إلى مجرد “لحظات انفراج” عابرة. ويعدد الكتاب من مظاهر التأزم مشاكل بنيوية من قبيل انتقال الحكم وتداوله الكارثي، وارتباط الدولة والجيش بشخص السلطان بشكل مفرط، والثورات والكوارث الطبيعية… كما يعدد منها معيقات هيكليةتتمثل في عدم تطابق الموارد المالية مع متطلبات الدولة، خصوصا مع تصلب المنظومة الفقهية في تأويل قضايا الجباية.
ويستنتج الكتاب، في خلاصة جامعة، أن “جملة التطورات التي عرفها هذا الزمن لم تنفذ إلى عمق البنية الاجتماعية التي تبدو خلال هذه المرحلة وكأنها دخلت في مسار قرني من التفكك والهشاشة، إذ لم تلبث عقود التأزم أن تلت مراحل الانتعاش، حتى أن مسار التاريخ المغربي قد اصطبغ وقتئذ بطابع الدائرية، وبـ “سمة الاختلال بين المجتمع والدولة”.
يعلل الكتاب تحكم دورة الأزمة في مجتمع هذا العصر بعدم حصول تراكم. لكننا قد نذهب إلى أن التراكم كان حاصلا لكن في بنية راكدة تعيد إنتاج نفسها، وأن ما لم يحصل هو القطيعة/la rupture. ونستشهد بإشارة عابرة ولكن بالغة الأهمية، وردت في هامش للكتاب ومكانها المتن، وتفيد أن المخزن الشريف أخفق في استنبات برجوازية ولم يستطع التغلب على هشاشة النسيج الحضري والحد من طغيان البداوة ( ص. 388). وبالفعل، ما أخفق فيه المخزن وعجز عنه يتطلب القطع مع سياسة رعاية الرعية والبحث عن القرين في القوة والنفوذ والشريك في المصالح والمنافع…
حقق كتاب تاريخ المغرب: تحيين وتركيب إنجازا غير مسبوق في مجال كتابة تاريخ المغرب الشامل التركيبي. ويتطلع الباحث الأكاديمي وكذلك القارئ العادي إلى يوم تحفل فيه أروقة خزاناتنا العمومية بكتابات أخرى مختصرة أو مطولة، جماعية أو فردية، حمالة لمقاربات متنوعة ومختلفة. كما يتطلع القارئ إلى يوم تنجز فيه كتابات تركيبية شاملة لتاريخ المغرب الديني والاقتصادي، ولتاريخ البادية والمدينة والحرف…، حتى لا يشعر بنوع من الفارق حينما يزور مكتبات الجيران…
[1]مثلا وليس حصرا:
Julien (Charles- André), Histoire de l’Afrique du Nord, 2 tomes, Paris, 1931 ; Terrasse (Henri), Histoire du Maroc: des origines à l’établissement du protectorat français, 2 tomes, Paris, 1950.
[2]مثلا وليس حصرا:حركات (إبراهيم)، المغرب عبر التاريخ، الدارالبيضاء، 1965؛ بنعبد الله (عبد العزيز)،تاريخ المغرب، جزءان، الدار البيضاء- مكتبة السلام / الرباط- مكتبة المعارف، من دون تاريخ النشر. [3] Brignon (Jean) et autres, Histoire du Maroc, Paris- Hatier, 1967. [4] Laroui (Abdallah), L’histoire du Maghreb, 2 tomes, Paris- Maspero, 1970.