إدموند بورك، الاحتجاج والمقاومة في مغرب ما قبل الاستعمار (1860- 1912)، ترجمة محمد أعفيف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2013[1].
بعد مرور ما يقارب أربعة عقود على نشره بلغته الأصلية، تضاف إلى الكتابات التاريخية عن المغرب، الترجمة العربية لكتاب إدموند بورك Edmund Burke، الاحتجاج والمقاومة في مغرب ما قبل الاستعمار. وهو ثمرة عشر سنوات من الدراسة والبحث الميداني في كل من المغرب وفرنسا (1965- 1967) في شكل أطروحة دكتوراه ناقشها المؤلف بجامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية.
حاول بورك بنظرة محايدة تحليل الأسباب التي أدت إلى انهيار الدولة المغربية ومهدت للحماية، وذلك عبر دراسته للمناخ العام الذي ساد في الفترة التي تخطى فيها المغرب بتردد عتبة العصر الحديث، مسلطا الضوء على عملية التغيير في نطاقها الواسع، ومنتقدا تحيز المصادر الأوروبية والخلاصات التي توصلت إليها. وبهدف التخفيف من طابعها الأصلي، فقد اعتمد على عدد كبير منها. إضافة إلى ذلك، اعتمد المؤرخ على الكثير من المصادر المغربية، مع استجوابه لعدد كبير من ضباط الشؤون الأهلية والمجاهدين[2] المغاربة، وعلى الأرشيفات الفرنسية والبريطانية والألمانية، مما جعل تأليفه موثقا بشكل جيد. كما تعامل المؤلف مع الحدث التاريخي بموضوعية وتحليل رصين. فجاء الكتاب كمحاولة لمراجعة بعض الطروحات لتفسير الأزمة المغربية في سياق التراكمات التي عرفها القرن التاسع عشر، والتي تتلخص في آثار عولمة الاقتصاد.
يذكر المؤرخ بأن التغيرات التي عرفها المغرب بسبب عولمة الاقتصاد خلال فترة 1860- 1900 هي التي أدت إلى انهيار الدولة المغربية خلال فترة حكم السلطان عبد العزيز، ومهدت الطريق إلى الهيمنة بشكل كلي على التراب المغربي وإقرار نظام الحماية، وذلك على خلاف جل الروايات التاريخية التي كتبت بعد سنة 1900، وركزت على ضعف السلطان عبد العزيز، والتي يعتبرها المؤلف أنها تقدم نظرة مبالغة في التبسيط. في هذا الإطار يُبين إدموند بورك أن التيارات الكبرى التي كانت سائدة في عهد الإمبريالية والتوسع التجاري الأوروبي، والتنافس بين القوى الغربية، إضافة إلى تأثير فعل الإصلاح في المغرب لعبت مجتمعة دورا في انهيار الدولة المغربية بعد سنة 1900. وهو مضمون يدعو إلى إعادة النظر في كتابات المغاربة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من أجل تقريب الصورة من الواقع التاريخي لهذه الفترة الغامضة من تاريخ المغرب.
وبحسب المؤرخ، عرف المغرب ثلاث مجموعات متداخلة من التغييرات التي نتجت عن التدخل الأوروبي خلال الفترة التي اختارها لدراسته ( 1860 – 1912)، والتي أضعفت المغرب التقليدي وأدت إلى تفكك الإدارة والاقتصاد، وهو ما يسميه بأزمة النظام القديم، وقد وظفه المؤلف كمفهوم رئيسي للدراسة. تمثلت المجموعة الأولى في الدخول المكثف للمصنوعات والرساميل الأوروبية إلى الأسواق المحلية، مما كان له وقع مدمر على البنيات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وتمثلت المجموعة الثانية في جهود التحديث المنبعثة داخليا، والتي ظهرت آثارها في تقويض البنيات الإدارية القديمة، وإطلاق برنامج التحديث. وتمثلت المجموعة الثالثة في وضع آلية الهجوم الكولونيالي الفرنسي موضع التنفيذ بعد سنة 1900. وتقاطع هذه المجموعات من التغيير، بحسب بورك، هو الذي أدى إلى انهيار المغرب القديم وميلاد مغرب جديد. حيث يبين بأن تصادم هذه التغيرات ظهر في حصيلة من ردود الفعل السياسية، تمثلت في الإصلاحات، والمقاومة، والانتفاضة الشعبية، وخلع السلطان، وأخيرا عدم رضا معظم النخبة المغربية.
ولتفصيل هذه التغيرات، وبكثير من الوقائع الدقيقة والموثقة بشكل محكم، يعتبر المؤلف بأن المغرب قبل سنة 1860، لم يكن معرضا بشكل كبير للمؤثرات الأوروبية، وذلك بسبب محدودية علاقاته مع الغرب. لكن بعد معركة إيسلي، تم توقيع اتفاقيات غير متكافئة مع الدول الأوروبية، وبدأ التدخل التجاري الأوروبي في المغرب يتزايد. هذه الاتفاقيات تلتها حرب تطوان بين المغرب وإسبانيا، والتي استنزفت خزينة المغرب وتسببت في أزمة نقدية بسبب الغرامة الباهضة التي فرضتها إسبانيا على المغرب بموجب معاهدة السلم. وإلى جانب ذلك، يذكر بورك أن المغرب في تعامله مع المجموعات الصغيرة من التجار الأوروبيين المقيمين بالموانئ، وقع على معاهدات الاستسلام، والتي منحتهم وضعا قانونيا خاصا يخرجهم عن حكم الدول التي يقيمون بها. ونتيجة لهذه الاتفاقيات، امتلكت الجماعات الأوروبية المقيمة بالمغرب قوة ضغط وتأثير في القضايا المحلية. وفي الجانب الاقتصادي، تمكن التجار الأوروبيون من امتلاك عقارات واسعة في المدن الساحلية، وعملت ممارساتهم التجارية على تآكل أنماط العمل الاقتصادية والاجتماعية المترسخة في المغرب منذ زمن بعيد.
ويضيف المؤلف بأن تنامي حجم المبادلات التجارية مع أوروبا وارتفاع عدد الأوروبيين المقيمين في المغرب أديا بسرعة إلى تقويض نظام حماية الأفراد الذي كان معمولا به في البداية، وذلك بسبب الاستغلال السيئ. كما أن جماعة المحميين المغاربة تطورت إلى بورجوازية تختلف عن البورجوازية المحلية في ضمان استمرارية ثروتها ووصولها المباشر إلى أموال الأسواق الأوروبية. وبالمقابل حُرم المخزن من دخل الجبايات الواجبة في حق كل المحميين، في الوقت الذي ارتفعت فيه احتياجاته من المداخيل. وبعد سنة 1880، أطلقت كل من بريطانيا وفرنسا حملة دبلوماسية للحصول على وضع متميز في المغرب، يشمل حق الاستئثار برعاية سلسلة الإصلاحات. حيث تم الشروع في التطرق لقضيتي الحقوق التجارية الخاصة وإدخال برنامج الإصلاح بصورة جدية.
هذه التراكمات هي التي أدت، بحسب بورك، إلى انهيار الدولة المغربية خلال فترة حكم السلطان عبد العزيز، حيث أن التغيرات التي يقدمها الكتاب لمرحلة ما بعد سنة 1900، تبين من جهة، انهيار الدولة المغربية بسبب التراكمات السابقة، ومن جهة أخرى تأثير فعل الإصلاح، وكيف ساهمت هذه المرحلة بسبب الاضطرار إلى طلب قروض من أجل تمويل مشاريع الإصلاح في فقدان المغرب لسيادته. هذه التغيرات، يمكن تصنيفها، بحسب معطيات الكتاب، إلى أربع مراحل.
تمثلت المرحلة الأولى في الآثار البليغة لبرنامج الإصلاح الذي تم تبنيه بدعم من بريطانيا في مرحلة حكم السلطان عبد العزيز، والتي شملت الإدارة والاقتصاد والجانب الدبلوماسي. حيث أدت إلى تقويض البنيات الإدارية القديمة وإطلاق برنامج التحديث عوض تقوية الإدارة المخزنية وحفاظ المغرب على استقلاله. كما أن المبالغ المالية الكبيرة التي كانت ضرورية لتمويل برنامج الإصلاحات الداخلية، أفرغت الخزينة بشكل سريع وأدت إلى انهيار الاقتصاد المغربي. إضافة إلى ذلك، استغل الفرنسيون، فشل الإصلاحات البريطانية للقيام بهجمة دبلوماسية على المغرب، عبر إطلاق سياستهم الخاصة (“التدخل السلمي”) لبسط هيمنتهم، وقد استغلوا في ذلك حاجة المغرب إلى قروض من أجل تمويل مشاريع الإصلاح. وقد ركزت هذه السياسة على آليتين، هما توقيع اتفاقيات مع القوى الغربية كي تتخلى عن التزاماتها في المغرب، وتعزيز النفوذ الفرنسي عبر إبرام قروض كبرى مع المخزن وإدخال إصلاحات بتعاون معه.
وقد تجلت نتائج السياسة الفرنسية في توقيع الاتفاق الفرنسي الإنجليزي، الذي يمثل، برأي بورك، البداية الفعلية للمقاومة، والتي بدأت تتبلور داخلها ملامح مناهضة فرنسا. ويذكر صاحب الكتاب أن المخزن كان منقسما حول المسار الواجب سلوكه. وقد زاد من حدة هذه المعارضة قرض 1904 الذي تضمن شروطا قاسية وغير متوقعة، وأثار استياءً كبيرا بسبب الضمانات الكبرى المتمثلة في مراقبة الجمارك المغربية، وما يعني ذلك من تهديد للسيادة المخزنية. وهكذا بدأ تيار المقاومة داخل المخزن يتحرك من أجل الوقوف في وجه الخطر الفرنسي.
المرحلة الثانية من التغيرات التي يبينها الكتاب، شملت ردود الفعل حول الإصلاح الذي قدمته فرنسا، وذلك عبر تشكل حركة معارضة تضم علماء وأعيان فاس، واستفادة المقاومة المغربية من الظهور المفاجئ لألمانيا على الساحة المغربية، مما غيَّر من المعادلة التي كانت تهيمن عليها فرنسا. هذا ما يفسر وقوف المخزن في وجه الضغوط الفرنسية، ورفضه لمقترحات الإصلاح الفرنسية بصفة نهائية، ليتم الإعلان الرسمي عن فشل مشروع الإصلاح.
لكن هذا التوجه سيدخل منعطفا حاسما وغير متوقع في مقاومة الهيمنة الفرنسية، وهو ما يشكل المرحلة الثالثة من التغيرات. وتشمل فترة ما بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي أثبتت أجندته النهائية نجاح الدبلوماسية الفرنسية، حيث أكدت أن ما يجب مناقشته ليس مسألة الهيمنة الفرنسية، ولكن الطريقة التي يجب أن تمارس بها الهيمنة. وقد تمثل هذا النجاح أيضا في مصادقة المغرب على مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء رغم مقاومة أعيان فاس، والتي شكلت قطيعة بين السلطان والجناح المؤيد للاستمرار في مقاومة فرنسا. في هذا السياق اتُهِم عبد العزيز بالعجز عن مقاومة الضغوط الفرنسية، ودعا مناهضوه، بزعامة عبد الحفيظ، لخلعه. ورغم انتصار عبد الحفيظ ووصوله إلى السلطة، فقد ظلت المشاكل المستعصية على حالها. واضطر عبد الحفيظ بدوره إلى قبول شروط المؤتمر بسبب ربط الفرنسيين مسألة الاعتراف به كسلطان بالمصادقة على مقرراته، وكذلك بسبب احتياجات الخزينة. وفي ظل هذه الإكراهات التي واجهت السلطان الجديد، يذكر المؤرخ بأن أكبر خطورة تمثلت في إخضاع الخزينة المالية للمغرب لهيمنة أبناك باريس الكبرى، التي سددت ضربة قوية لسيادة المغرب.
هذا الوضع، كما يذكر المؤلف، كان يدفعه إلى قبول كل طلب تتقدم به فرنسا إن كان يرغب في إيجاد إمكانية للحصول على اتفاق بشأن قرض مالي. وبذلك استسلم للضغوط الفرنسية سنة 1910، لكن شروط القرض الثاني لهذه السنة كانت قاسية. فبموجب التوقيع عليه، تم حذف كل ما تبقى مما يملكه المغرب من موارد استقلاله الاقتصادي. وفي آخر المطاف قدمت فرنسا مقترح إصلاح جيش المخزن.
أما المرحلة الرابعة فهي التي وضعت حدا نهائيا للإصلاح الذي تبناه المخزن سنة 1910 بسب التيار المعادي للتدخل الفرنسي. ففي 30 مارس 1912، تم التوقيع على وثيقة الحماية التي اعتبرت على المستوى الشعبي بمثابة “صفقة بيع قام بموجبها الإمام أمير المؤمنين ببيع قسم من دار الإسلام للنصارى”. وفي هذا السياق تطورت المقاومة المغربية للتدخل الفرنسي عبر التحامها وتنظيمها، حيث ظهرت حركتان، هما تمرد فاس، وجهاد الهيبة بالجنوب. لكن بعد الانتصار على قوات الهيبة واحتلال القوات الفرنسية لمدينة مراكش، كما يبين بورك، ترسخ نظام الحماية بشكل متين، وأزيحت المخاطر التي تتهدده. فقد قام ليوطي بإزاحة السلطان عبد الحفيظ، وتعويضه بمولاي يوسف، لأن بقاءه في فاس، وفق ما جاء في الكتاب، كان من شأنه أن يدفعه إلى الالتحاق بالقبائل وإعلان الجهاد.
وفي الختام، جاءت هذه الترجمة لتسد ثغرة كبيرة بالنسبة للمراجع المتوفرة باللغة العربية. فإذا ما اعتبرنا تاريخ تأليف هذا البحث (1970)، وتاريخ صدور طبعته الأصلية باللغة الأنجليزية (1976)، وجب الاعتراف بأننا أمام عمل رائد ورصين ودقيق التوثيق في مجال إعادة كتابة تاريخ التمهيد للحماية وبدايات المقاومة الوطنية بالمغرب.
[1]Edmund Burke III, Prelude to protectorate in Morocco: precolonial protest and resistance, 1860- 1912, Chicago and London, University of Chicago Press, 1976. [2]- في المؤلف الأصلي، كما يشير المترجم، جاءت عبارة “المجاهدون المغاربة”، ذلك أن المقاومة في الأصل ارتبطت على المستوى الشعبي بفكرة احتلال النصارى لأرض الإسلام. فسلاطين المغرب باعتبارهم زعماء شرعيين لأمة المسلمين، ينحدرون من سلالة الرسول، كان مطلوبا منهم القيام بهذا الدور، وقصورهم قي الدفاع عن أرض الإسلام كان سببا في إعلان التمرد، واعتباره سببا شرعيا لخلعهم.