الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » مسارات الليبرالية

مسارات الليبرالية

“ما الليبرالية”[1] كاترين أودار

 كاترينأودار:

فيلسوفة فرنسية تخرجت من مدرسة المعلمين العليا ومن جامعة السوربون الفرنسيتين. تدرّس الفلسفة الأخلاقية والسياسية في كلية لندن للاقتصاد منذ عام 1991. أحد مؤسسي منتدى الفلسفة الأوروبية. تركّز أبحاثأودارعلى القضايا المعيارية في النظرية السياسية: العدالة والمساواة، التعددية الثقافية، الليبرالية، والديمقراطية التداولية.تَرجمت الى اللغة الفرنسية بعض كتب جون رولز: “نظرية العدالة” و”الليبرالية السياسية”، وكتاب جون ستيوارت ميل “النفعية”.

وألَّفت كتاب “ما الليبرالية؟” (دار غاليمار عام 2009)، و”جون رولز، السياسية والميتافيزيقيا”(2004)، وأونطولوجيا تاريخية ونقدية لمذهب النفعية في 3 أجزاء (1999):

-جيرمي بنثام وأسلافه،

– النفعية الفيكتورية،

– موضوعات ونقاش حول النفعية المعاصرة.

كتاب”ما الليبرالية”:

kiraat_0515_01تقول كاثرين أودار “إن الليبرالية المعاصرة تبدو في آن واحد وكأنها غير موجودة، وموجودة في كل مكان” (ص. 18). ولفهم هذا الفكر، تقترح الكاتبة تتبع مساره التاريخي. فالليبرالية، منذ ولادتها في القرن السابع عشر، واصلت بسط نفوذها. لكن القرن العشرين قلّص قوتها السياسية بعض الشيء، ثم فقدت مصداقيتها على نحو متزايد، خصوصا مع الأزمة العالمية ابتداء من عام 2008.

في كتابها هذا تحاول أودار إثبات وجود مجموعة متماسكة من الأفكار التي يمكن أن يطلق عليها اسم “الليبرالية”. وقد تطورت هذه الأفكار خلال ثلاثة قرون وَفقاً للظروف التاريخية، وهو ما يفسر أشكالها المختلفة، من الليبرالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية في أواخر القرن العشرين، مروراً بـ “الليبرالية الجديدة” منذ أوائل القرن العشرين.

ينعكس الهدف من هذا الكتاب الذي يمثِّل تقديم قراءة نقدية لمغامرة الليبرالية وآمالها، في بنية الكتاب نفسها. فالفصول الأولى الثلاثة تتضمن مناقشة أفكار مؤسسي الليبرالية الكلاسيكية: “سيادة الفرد” الفصل الأول، “حرية الحداثيين” في الفصل الثاني، و”سيادة القانون” في الفصل الثالث. بعد ذلك، وبالنظر إلى التغيرات العميقة التي أفضت الى الثورة الصناعية الثانية (1870-1914)، أثبتت الليبرالية، حسب أودار، قدرة غير عادية على التحول وتخطى الصعاب، واقتربت من الاشتراكية بطابع “ليبرالي”، وهذا هو موضوع الفصل الرابع. لكن هذا التحول أزعج النيوليبرالية التي رأت فيه خطرا على الحرية الفردية فنادت بضرورة العودة إلى القيم الليبرالية “الكلاسيكية”، أي إلى دولة الحد الأدنى، والتجارة الحرة، وحماية الملكية الخاصة (الفصل الخامس). في مقابل هذه الاتجاهات طَرحت “الديمقراطية الليبرالية” لجون رولز نفسها للتوفيق بين الحرية الفردية والنضال ضد اللامساواة الظالمة من جهة، والكفاءة الاقتصادية من جهة أخرى. ولا يزال هذا هو البرنامج الذي تطمح إليه الليبرالية اليوم (الفصل السادس). بعد ذلك تنتقل الكاتبة الى الكيفية التي تسعى بها الليبرالية لمعالجة بعض تحديات المجتمع المعاصر من تضامن وطني وآخر دولي (الفصل السابع)، والتعددية والمطالبة بالاعتراف (الفصل التاسع)، والديمقراطية الانتخابية (الفصل العاشر).

وبغية الإحاطة بتحولات الفكر اليبرالي عبر التاريخ الحديث، اعتمدت أودار علىأعمال المفكر الأنجليزي مايكل فريدن، وتحديدا كتابه “الايديولوجيا والنظرية السياسية”، الصادر عن جامعة أكسفورد سنة 1996، فحلّلت بنية المجالات الإيديولوجية كمفاهيم أساسية، بالإضافة إلى المفاهيم المجاورة التي تفرزها التقاربات المنطقية والظروف التاريخية، وأخيراً، المفاهيم الهامشية، والمستعارة غالبا من الأيديولوجيات الأخرى. بهذا تكون أية إيديولوجية سياسية إيديولوجيةً علائقية إلى حد كبير. وإذا لم يتغير جوهرها فإن المفاهيم المجاورة والهامشية تمثل مصدرا للتغيير والارتباك أيضا. وما يهم بالفعل هو تحديد المفاهيم الأساسية كعناصر تميز إيديولوجيا ما.

وتطبيقا لهذا التحليل النظريتوصلت أودارإلى استنتاج مفاده أن الليبرالية نظرية فكرية وخطاب سياسي وسياسة فعالة ومنطق اقتصادي في آن واحد. بهذا المعنى تكون الليبرالية نظرية أخلاقية تتجسد في السياسة، وتتطور في برامج العمل الاجتماعي والاقتصادي.

تحدد أودارالسيادة الفردية كمفهوم رئيسٍ لليبرالية يعني أنه “ليس هناك تبعية طبيعية للبشر. ولكل فرد سيادة وحرية في أن يقرر لنفسه في مقابل جميع السلطات […] وتستند هذه السيادة غير المحدودة الى مفهوم الطبيعة البشرية التي هي فردية قبل أن تكون اجتماعية” (ص 29). وعليه، فإن السيادة الفردية، التي تقوم على الفردانية، تنطوي على مبدأين أساسيين: الحرية والكرامة المتساوية.

غير ان المؤلفة وخلافاً للاعتقاد الشائع، تؤكد أن الليبرالية لا تدافع عن الفرد اللا-اجتماعي، وعلى الرغم من أن طبيعة الفرد هي طبيعة ماقبل-اجتماعبة، فإن الليبرالية تستند الى أطروحة تجعل من الطبيعة البشرية مفهوما معياريا وأخلاقيا وسياسيا. فهي تؤسس لعلاقة جديدة بين الذات والآخرين، على أساس الملكية، من خلال موضوع مقنن قانونياولكن هويته علائقية دائما. اما احترام السيادة الفردية فيمرعبر استقلالية المجتمع المدني ودولة القانون.

في الواقع، يتطلب إنجاح هذه “السيادة غير المحدودة” للفرد فرض سيادة محدودة للدولة. لذا تُعرَّف الليبرالية بأنها إرادة المقاومة ضد السلطة السياسية، وتتبلور في مجال آخر غير مجال الدولة وهو المجتمع المدني. وهذا ما تصفه أودار بـ “حرية الحداثيين”، حيث لا يكون النظام الاجتماعي هو المقصود في المقام الأول، وحيث يكون التعاون بين أفراد المجتمع نتيجة “عاطفة تعويضية” مستوحاة من هيوم، وتُحدِث تأثيراً مماثلاً لما يسميه سميث بـ “اليد الخفية”. بهذا يصبح المجتمع نظاما عفوياً وغير مبرمَج، وأي إكراه أو تدخل من قبل الدولة سيربك سيره السليم.

ولكن هذا لا يعني أن أودارترفض أي دور للدولة. فهي تؤكد ان الليبرالية ليست لاسلطوية (فوضوية)، على الرغم من وجود تقاليد أناركية ليبرالية، وهو ما يعبر عنه أحيانا بالتحررية. فهناك قوانين تحدد هيكل العلاقة بين المجتمع والدولة، وهذه الاخيرة تخضع لها على الرغم من أنها هي نفسها مصدر من مصادر القوانين المدنية.

ومن خلال دراسة تاريخ هذه القوانين، من ​​ماغنا كارتا الى مواثيق القرن العشرين، تبين أودار كيف أن الليبرالية أوجدت مفارقة الدولة الراعية للحرية. وتتتبع المؤلفة بالتالي تشكّل النموذج الفكري لليبرالية الكلاسيكية وتطور نفوذها إلى أصبحت في أواخر القرن التاسع عشر قوة سياسية رئيسة.

تتضمن هذه الليبرالية الكلاسيكية عنصراً أرستقراطياً: فهي تدافع عن المساواة الشكلية وتبرر اللامساواة الاجتماعية. إلا أن الخطاب الليبرالي فقد، في عصر الطبقة العاملة، سحره مع تنامي الخطاب الاشتراكي، واضطر لتغيير شكله وموقفه السياسي المهيمن. وأضحت الليبرالية حركة فكرية ذات وجوه عديدة: من نظرية “دعه يعمل دعه يسير” إلى القبول بسياسة عدم تدخّل السلطة التنظيمية للدولة. ومن خلال هذا التحدي ظهرت “الليبرالية الجديدة” التي، وَفقًالأودار،نجد أفضل تمثيل لها عند كينز، الذي جمع بين الليبرالية الاقتصادية وتدخل الدولة. وتُبرِز الليبرالية الجديدة قدرة الفرد على العيش في المجتمع، مثلما تحاول التوفيق بين الليبرالية والديمقراطية، من أجل تعويض النقص في الليبرالية الكلاسيكية. بهذا أصبحت “الليبرالية الجديدة” ترتبط بنظرياتالرعاية الاجتماعية، والدفاع عن دولة الرفاه.

وعليه، تبيّن أودار نشوء “ليبرالية اجتماعية” هي ليبرالية جيدة، ولا تتعارض مع دور الدولة، وأن الليبرالية الكلاسيكية نفسها اعترفت بأهمية دور الدولة بوصفها حامية للحرية. كما أنها ليست “اشتراكية ليبرالية” ما دامت تقوم على السيادة الفردية، في حين أن “الاشتراكية الليبرالية” تعطي الأولوية للجماعة على الفرد.

ولكن الحل المقترح من طرف “الليبرالية الجديدة” لم يستمر. فقد انهارت مع انهيار نظرية دولة الرفاه أواخر أعوام الثلاثين المجيدة (1945-1973) وأزمة السبعينات 1970.

في خضم هذه التحولات الأساسية ظهر توجهان يناديان بالعودة إلى الليبرالية الكلاسيكية، لكنهما متناقضان. الأول هو النقد النيوليبرالي، ويتزعمه فريديرتش هايك، ويدعو إلى السيادة الفردية للهجوم على تدخل الدولة. فحسب هذا التوجه، يتعذَّر التخطيط معرفياً، ويبقى غير فعال عملياً.  تميز أودار بين نوعين من النيوليبرالية: نيوليبرالية هايك التي أثّرت في نيوليبرالية نوزيك الداعي إلى جعل الحرية الفردية حرية مطلقة؛ والليبرالية المتطرفة التي نظّر لها ميلتون فريدمان، أو ما سمتها حكومات تاتشر وريغان “النيوليبرالية “. وقد تخلى هذا التوجه عن الحرية الفردية كمبدأ مركزي، ودافع عن الحرية الاقتصادية في المجتمع المدني.

أما التوجه الثاني، كردٍّ على أزمة الفكر الليبرالي، فهو فلسفة رولز الذي يغرف من الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة معاً. ولكن رولز ينتقد أيضا أوجه القصور في مسألة اللامساواة الاجتماعية والمواطنة السلبية التي ظهرت في تطبيقات الليبرالية. وإذ يؤكد رولز من جديد على أولوية العدالة والكرامة المتساوية للمواطنين، فهو ينتقد النفعية الموجودة في الرعاية الاجتماعية لدولة الرفاه.

وقد طور رولز نظرية مضادة للنفعية وهي نظرية إجرائية، مساواتية وجمهورية تميز بين الفوارق غير العادلة والفوارق الضرورية، وتعمل على تحسين وضع الجميع، وخصوصا من هم الأسوأ حالاً في المجتمع. بهذا يعوّض رولز الليبرالية الكلاسيكية بـ “الديمقراطية الليبرالية”.

من جهة ثانية، ومن خلال تطوير فكرة العقل العام، يلتقي رولز بنظريات هابرماس في “أخلاق المناقشة”، ويفتح الباب لنشر الحرية الفردية الحقيقية المتوخاة منذ القرن السابع عشر. لهذا، وحسب أودار، يمكن النظر إلى رولز بوصفه تجسيدا للجهد الليبرالية الجديدة الأصيل، وبالتالي لتكييف الليبرالية الكلاسيكية بمصطلحات القرن العشرين ومفاهيمه.

 

[1] – Audard, Catherine, Qu’est-ce que le libéralisme ?, Paris, Gallimard, 2009, 864 p.

- محمد أوريا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيربروك الكندية. صدر له بالفرنسية: ـ "المؤامرة في المخيال العربي-الإسلامي" (2012)، ـ "رجل دين في قلاع السياسة" (2014).

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.