“فلسفة الدين” [1] لجان غروندان
كتاب “فلسفة الدين” للفيلسوف جان غروندان (أستاذ الفلسفة بجامعة مونتريال الكندية) هذا عميقٌ رغم صغرحجمه (128 ص)، سلسٌ رغم صعوبة موضوعه. لقد اتبع الكاتب نهج التسلسل الزمني في عرضه لمسألة التفكير في الدين وجوهره، من خلال الفكر الفلسفي في العالمين اليوناني واللاتيني، مروراً بالقرون الوسطى والحديثة. وقد سبق أن أصدر غروندان كتاباً بعنوان “في معنى الحياة” (2005) ناقش فيه السؤال القديم/الجديد عن معنى الوجود.
في كتابه الذي بين أيدينا يخالف غروندان جوهر الخطاب الغربي الحديث عن المسألة الدينية الذي يحاول أن يضع الدين في درجة أدنى من درجة العقل في الفكر الغربي المعاصر. إذ يقول “إن استمرار الدين في العالم الحديث واقع” (ص 14).
يبين الفيلسوف الكيبيكي (نسبة إلى مقاطعة كيبيك الكندية) أن هناك ثلاثة أنواع من الردود/ الإجابات الدينية المتعالية والمتسامية لمعنى الوجود التي سادت عبر مختلف الثقافات والعصور. وتضع الإجابات العلمانية، مثل تيار الإنسية أو المتعة والتمتع كالمذهب الهيدوني، نُصْب عينيها تحقيق السعادة البشرية. وأخيرا هناك الإجابات التي يقلل غروندان من أهميتها والتي تقول بعدم جدوى طرح السؤال عن معنى الحياة من أصله، لأنه غير ذي أهمية. في هذا الاتجاه، يفتح غروندان الباب على مصراعيه للدين من خلال التفكير الفلسفي، مركّزا على معنى الحياة، على الرغم من هيمنة العلم في الفكر الحديث. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفكر الحديث، منذ الفلسفة الوضعية التي أسسها عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، يضع الدين في تعارض مع العقل العلمي بالضرورة.
ونظرا لصعوبة وضع تعريف واضح للدين (كثير من الكتب الفلسفية يقرّ بهذه الصعوبة، فيما تعريف المؤمنين واضح وسهل، لا يحتاج إلى كبير عناء)، يعرض غروندان بعض الخصائص التي تهم الحقل الديني، كخصوصية العالمية: بمعنى أنه موجود في كل مكان وزمان. كما أن هناك تنوعاً لا حصر له في الشعائر التي تقام هنا وهناك وعبر العصور باسم الدين، فضلاً عن إقرار غروندان باستحالة وجود الإنسان “من دون أي شكل من أشكال التدين” (ص 37). وأخيرا، فإنّ مبدأ الخلاص التي تقول به الأديان جميعاً، كل منها على طريقته، هو نفسه مبدأ عالمي. ويضيف غروندان أنّ للدين بعدين أساسيين هما: العبادة والإيمان. هذان البعدان هما قطبا الدين المتلازمان دائما. ولئن كان البعد الأول (العبادة) قد هيمن في الديانات القديمة، فإن “أحدث أشكال التدين أكثر تركيزاً على البعد الإيماني” (ص 33).
سنعرض في هذه المقالة لأهم ما جاء في كتاب “فلسفة الدين”، ولكن بعد تقديم نبذة مختصرة عن مؤلفه.
جان غروندان فيلسوف متخصص في فكر كل من إيمانويل كانط (يُعدّ مرجعا عالميا في الفلسفة الكانطية)، وفكر هانز جورج غادامير (يساهم في مشروع ترجمة أعماله إلى الفرنسية منذ سنين)، وفلسفة مارتن هايدغر. وتتركز أبحاثه على التأويل والفينومينولوجيا والفلسفة الكلاسيكية الألمانية وتاريخ الميتافيزيقيا. في رسالته لنيل شهادة الدكتوراه (جامعة توبنغن الشهيرة، سنة 1982) دافع غروندان عن مفهوم الحقيقة في التأويل. وفي تلك الجامعة درَسأيضا فقه اللغة وعلم اللاهوت. ويدرِّس جان غروندان في جامعة مونتريال منذ عام 1991. كما أنّ كتبه ترجمت إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.
- الدين عند الفلاسفة اليونان:
لم يكن مصطلح “الدين” religionموجودا في العالم اليوناني. كان هناك مفهوم التقوى “eusebeia” الذي مهَّد للفلسفة من خلال مقولة أنّ آلهة الاولمب هي المسؤولة عن الطبيعة والروح والمدينة، ومقولة الفصل القائم بين عالم الإنسان وعالم الآلهة. كان هذا واضحاً تماما عند الفلاسفة قبل السقراطيين، ومنهم كزينوفانيس الذي اتهم الشعراء، من أمثال هوميروس وهيزيود، بأنهم يعزون إلى الآلهة خصائص إنسانية.
يستمد أفلاطون أدلته الأساسية على وجود الآلهة من حركة الأجرام السماوية (بالقول إنّه لا بدّ لحركتها العالية الدقة من آلهة تديرها)، فيقترح مرشحين لشغل المنصب الإلهي: فكرة الخير التي تهيمن على عالم المُثل، وفكرة الديميورغوس (خالق الكون المادي) أو الحِرَفي الأعظم، مكوِّن هذا العالم. يهتم الديميورغوس وآلهة أخرى معه، حسب أفلاطون، بما خلقوا (أي بالموجودات)، وتبقى إقامة العدل في الأرض خيرَ عبادة يمكن تقديمها لهم.
من جانبه، يطرح أرسطو سببين لوجود الإله: انتظام حركة النجوم وقدرة الروح على التنبؤ بالمستقبل. ويبقى الإله في الفكر الأرسطي، متعالياً، ومحرِّكاً رئيساً، هو السبب الأول الذي إليه ترجع جميع الموجودات. بعد ذلك تأتي المدارس الفلسفية الهيلينية، ما بعد الأرسطية، التي أظهرت مزيداً من الاستيعاب للدين الذي أفضى، مع الفلسفة، إلى شكل من أشكال السعادة. وقد اتخذت علاقة الدين مع الإله شكل علاقة شخصية تتبلور أكثر فأكثر.
- الدين عند المفكرين في العالم اللاتيني
في العالم اللاتيني، ظهر مصطلح دين ” religio” في كتابات المفكرين في ذلك الوقت حاملاً معاني عدة. فالكلمة، عند شيشرون، مشتقة من relegere وتعني القراءة (بعناية وتركيز). وعليه، يسعى شيشرون إلى التمييز بين الخرافة والدين الذي يرقى إلى مستوى “قراءة عاقلة”. وهو، إذن، يدافع عن المقاربة الفلسفية للدين. أما عند لاكتانتيوس الأفريقي، فالمصطلح مشتق من كلمة religare وتعني إعادة الربط (أو إعادة الارتباط، لأن لاكتانتيوس يقول بأن الإنسان فاقدٌ الارتباط بخالقه). هذا الارتباط هو التقوى “لانّ الله يربط (religaverit) الإنسان إليه بالتقوى. “(ص 74).
في نهاية هذه الفترة، يأتي القديس أوغسطين (354-430) الذي لا يمكن الاستغناء عن كتاباته لمن أراد فهم فلسفة الدين. فيسلط غروندان الضوء في معرض حديثه عنه (وهو صاحب كتاب “مدينة الله”) على ما عاشه القديس أوغسطين من تحول فكري وديني وقع على عدة مراحل: تجسّد في المرحلة الأولى تحوله إلى الفلسفة بصفة عامة. وفي المرحلة الثانية تبنيه الأفلاطونية التي قربته إلى المسيحية وعلّمته “أنّ الله هو الخير الخالص”، كما يقول غروندان (ص 76). وثمة مرحلة أخيرة هي اعتناقه المسيحية. هذا التقارب بين الأفلاطونية والمسيحية عند أوغسطين، دفع غروندان لإثبات أن الدين مع أسقف هيبون “أصبح نفسه يفهم كفلسفة” (ص 79-80).
- تطور الدين في العصور الوسطى
ستحدد العلاقة في العصور الوسطى ، بين الدين والفلسفة بشكل أوضح. وسيبقى أفق الفلسفة دينيا عند فلاسفة الإسلام. فابن رشد (1126-1198)، في “فصل المقال”، لا يرى تعارضا بين الدين والفلسفة، أو بالتعبير الرشدي: بين الحكمة والشريعة. وإذا كان هناك ثمة تعارض فهو في الظاهر فقط. وهذا ما يستوجب تأويل النص القرآني. والجدير بالذكر هنا، كما أشار غروندان، أنّ فيلسوف قرطبة يقول بعدم التناقض بين الدين (الموجَّه للعامة) والفلسفة (الخاصة بالنخبة) في البحث عن الحقيقة.
في السياق نفسه، يأتي كتاب “دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون (1135-1204)، الطبيب والفيلسوف اليهودي الذي خدم سلاطين الموحدين. يهدف كتاب ابن ميمون إلى إزالة بالحرج الذي يشعربه رحال الدين أمام التناقض الذي يظهر في النص الديني (التوراة في “دلالة الحائرين”).
أما في العالم المسيحي، فلقد برز بالدرجة الأولى القديس توما الاكويني (1225-1274) الذي أعطى الدين تعريفا أشمل استمده من التعريفات التي قدمها شيشرون (إعادة القراءة)، ولاكتانتيوس (إعادة الارتباط) وأوغسطين (إعادة الانتخاب)، وذلك قصد مقاربة الفضيلة التي تأتي من الدين والتي يخضع لها كل عمل خالص أريد به وجه الله. والدين، في هذه الحالة ووَفقا للقديس توما الاكويني، يجسد الطريق الوسط والمتوازن بين الخرافة (الإفراط) واللا دين (التفريط).
- الدين في الفكر الغربي الحديث:
في الفصل الأخير من الكتاب، يتحدث غروندان عن الدين عند مفكري الحداثة (ابتداء من القرن الخامس عشر). فنقد الدين، في كتابات هؤلاء، يأتي في إطار الصراع الذي دار بين الدين والعقل في القرون الوسطى. وتدريجياً، أخد هذا النقد حيزا كبيرا في كتابات المفكرين بفضل (أو بسبب) المعرفة التجريبية، حتى بلغ أنْ عُدَّ الدين معرفة هزيلة بالمقارنة مع العلم. ثم يعرض غروندان بعد ذلك إلى عدة فلاسفة تعرضوا بالنقد للدين، بدءا من سبينوزا الذي يقول بوجود نوعين من معرفة الله: معرفة عقلانية (يمنحها العقل الطبيعي)، وأخرى مستمَدّة من الوحي (وهي بالطبع تاريخية).
ثم يأتي بعد ذلك إيمانويل كانط (1724-1804) الذي يميز الدين التاريخي (وهو الدين الذي أتى به الأنبياء) والدين العالمي (المستمد من القانون الأخلاقي). وقد أدى هذا بكانط إلى إحداث تمييز آخر بين نوعين من الدين: الثقافي الذي يبحث معتنقه عن مكافآت من الله عن طريق فعل الخير، والأخلاقي: الذي لا يستند إلا إلى حسن السيرة والسلوك من دون انتظار مقابل. وهذا النوع، الثاني، من الدين في نظر كانط هو الوحيد الذي يحبه الله.
كان إلحاق الدين بالأخلاق، من طرف كانط، محطّ انتقاد وجّهه إليه عالم اللاهوت البروتستانتي الألماني شلايرماخ (1769-1834) الذي رأى أنّ الدين لا يمكن أن يخضع للأخلاق، بدعوى أن هذه المسألة ستضر بالاثنين (الدين والأخلاق). فالأخلاق، في نظر شلايرماخر، لا تحتاج إلى الدين من أجل البقاء. ثم إن جعْل الدين تابعا للأخلاق سيفضي إلى تجاهل خصوصيته. والدين، عند عالم اللاهوت البروتستانتي شلايرماخر، جزء من كل، إنه بتعريفه: الميتافيزيقيا التي تسعى لتفسير العالم، والأخلاق التي تريد كماله، والدين الذي يسعى إلى “حدْسه”.
بعد ذلك، ونظراً إلى أن الأخلاق والدين عند كانط مقولتان مجردتان، حاول هيغل (1770-1830) وشيلنج (1775-1854) التفكير في مفهوم المطلق وإظهاره كمفهوم حقيقي وفعال، بغية رفع الدين (الذي يظلّ، رغم ذلك، في مرتبة أدنى من مرتبة الفلسفة) ليغدو المثل الأعلى للإنسانية جمعاء، ويتحقق فعليا في العالم الذي يعيش فيه الإنسان.
وإذ ينتقل غروندان عقب ذلك إلى نقد الدين بعد هيغل نجد كيركيغارد (1813-1855) يعترض على السيادة ـ التي أخدها المفهوم والفلسفة الهيغليان بإشكالية الوجود. هذه الإشكالية التي تبلورت بحدة (وتطرفٍ أحياناً) في القرن العشرين. هنا يشار، مثلاً، إلى كارل ماركس (1818-1883) الذي يرى في الدين “أفيون الشعوب”، وسيغموند فرويد (1856-1939) الذي يرى فيه نوعا من العصاب الجماعي. زِدْ على ذلك التيارات الفلسفية المستوحاة من الفلسفة الوضعية والتي أسقطت الدين من حساباتها، كوجودية سارتر (1905-1980)، وتأويلية غادامر(1900-2002)، وتفكيكية ديريدا (1930-2004) … الخ.
وينهي غروندان جولته الفلسفية هذه مع هايدغر الذي ناقش إشكالية الوجود من خلال قراءته كتاب “المقدس” لصاحبه عالم اللاهوت اللوثري رودولف أوتو (1869-1937). والمقدس عند هايدغر يظل غير مرجح الحدوث. أما الدين فهو في حد ذاته تخيل يقوم به العقل. ويختتم غروندان كتابه بجملة مثيرة للاهتمام، مفادها أن الدين يأتي ليعيد الفلسفة إلى فرضيتها الخاصة بها وهي الإحساس أو الإدراك أو المعنى.
[1]- Grondin, Jean, La philosophie de la religion, Paris, PUF, 2009, 128 p.