“العصر العلماني”[1]:
تشارلز تايلر:
من فلاسفة العصر الحديث المحسوبين على مدرسة فرانكفورت التي أخذت على عاتقها دراسة العلوم الإجتماعية من خلال مايسمى بالماركسية الجديدة، وهو متأثر بعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والفيلسوف الفرنسي ميرلو-بونتي. يدرس تايلر في جامعات كيبيك وشيكاغوومن أهم أعماله: “مصدر الذاتية: وضع الهوية الحديثة” في سنة 1989، وهو بحث فلسفي وسياسي عن “الأنا” الغربية. وكذلك “المخاييل الاجتماعية الحديثة” سنة 2004. وهو أستاذ متقاعد في جامعة ماكغيل بمونتريال (العلوم السياسية والفلسفة) والتي درس بها فى الفترة ما بين 1961 الى 1997. يقف فكر تايلر على مفترق طرق كثيرة وعدّة مدارس وتخصصات فكرية: الفلسفة التحليلية، الفينومينولوجيا (الفلسفة الظاهراتية)، الهيرمينوطيقا (فلسفة التأويل)، والفلسفة الأخلاقية، والانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة والتاريخ. وقد ترجمت كتاباته إلى أكثر من 20 لغة. حاز تشارلز تايلور في مارس 2007 على جائزة تمبلتون. وهذه الجائزة أسسها رجل الأعمال البريطاني جون تمبلتون لتعزيز فهم القيم الروحية. وهي تمنح لأشخاص على أنشطتهم الخيرية وتفانيهم في إيجاد التفاهم المتبادل بين الديانات وكذلك للباحثين في ميدان القيم الروحية وقدرتها على المساعدة في محاربة التعصب والعنف.
عن الكتاب ومضمونه:
أولا، يعني تايلور بعبارة “نعيش في عصر العلمانية” حقيقة أن الدين لم يعد سوى خيارا بين خيارات عديدة، بالإضافة إلى هذا يسلط تايلور الضوء على جانبين من العلمنة. فالدولة الحديثة لم تعد تعتمد على اتصال مع الحياة الأخروية (أي لا تهتم بالجانب الأخروي كما كان في السابق). والممارسات الدينية أصبحت تتناقص بشكل كبير، فالكنائس فارغة، بل ويتم هدمها). علاوة على ذلك، يركز تايلور دراسته حول “سياقات المعتقد”، ويصر على التمييز بين حداثات متعددة. فبالنسبة لتايلور ليست هناك سوى الطريقة الغربية للوصول إلى الحداثة. ويشرح مشروعه على النحو التالي: ” أود في هذا الكتاب إثبات أن تنمية “العلمانية ” الحديثة، في رأيي، تتزامن مع ظهور مجتمع حيث، للمرة الأولى في التاريخ، أصبح مفهوم الأنسنة المكتفي ذاتيا خيارا متاحا على نطاق واسع. ما أعنيه هو أن هذه الأنسنة لا تهدف إلى ما بعد ازدهار الإنسان…. ” هذا بالنسبة الى بعض التعريفات التي يضعها تايلر لضبط المفاهيم.
هذا ويقدم تشارلز تايلر في كتابه القيمتأملات وتصورات من كل ميادين المعرفة باستثناء اللاهوت. إن الفكرة الأساسية للكتاب هو أن تايلر يعتبر تراجع فكرة الله وكل ما يبت للروحانيات والدين بصلة أمام الحداثة والعلم والديمقراطية فكرة “غير مقنعة للغاية”. لهذا يحاول تايلر وهو الكاثوليكي الملتزم والصديق السابق للبابا يوحنا بولس الثاني إثبات أن فكرة “الله” لا تزال متواجدة وبقوة في العالم، بعيدا عن اللاهوت التقليدي بوصفه المدخل الكبير إلى الدين. بمعنى أن التدين أخد أشكالا أخرى بعيدا عن مؤسساته. وللتذكير القارئ حول الإشكالية الكبرى التي يهتم بها الفكر الغربي حاليا، فان ما يسمى بمفكري ما بعد الحداثة كانوا قد أعلنوا “نهاية الفلسفة”، نظرا لأنها لم تعد بإمكانها إخبار الإنسان عما وراء الكون أو ما يوجد “هناك”. لهذا فالإنسان (الغربي خاصة) أصبح في حيرة من أمره رغم التقدم الهائل العلمي والديمقراطي. ولكن هل الدين أنهى هذه الشكوك حول النفس؟”. يجيب تايلر في ب “لا” قطعية. بل ويذهب إلى أبعد من ذلك مدافعا عن ضرورة تفكيك فكرة “وفاة الله” التي أعلنها نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر. وفي رأيه أن ما يسميه “حصون الإيمان” قد تآكلت كفكرة. ومع ذلك ورغم أن ثنائية المقدس والمدنس قد اتخذت معاني جديدة، فانّ تايلر يؤكد أن “الله” يملأ حياة الإنسان في كل مكان، بما في ذلك “حياتنا العادية، أعمالنا، في الزواج … الخ.”. ويستعين تايلر بوليم جيمس كما فعل في كتاب سابق ” تنوع التجربة الدينية اليوم ” للإشارة كيف أن الناس في كل مكان بحاجة إلى الاعتقاد ولو بعيدا عن المؤسسات الدينية. وتتبعا لمناقشة تايلر لعدم اختفاء الدين من حياة الإنسان الغربي (ونؤكد على أن الأمور بالنسبة للغالبية في بلاد الإسلام أو في الاغتراب لم تعرف هذا النوع من التطور الذي لا يهم إلا الغرب بالدرجة الأولى)، فانه إذا كان فرويد يرى الدين باعتباره ضربا من الوهم ولد من الحاجة إلى نفي الموت، فان عالم النفس والفيلسوف الأمريكي وليم جيمس أعطى الإنسان في أوج الحضارة الغربية (فكرا وعلما وتقنية) الحق في الاعتقاد، ولكن لم يوضح بالضرورة أسباب ذلك. وينجح تايلور في البرهنة على أن العلمانية لم تقتل الدين، عندما نجت نزعاته الإنسانية بتحولها إلى قيم روحية. وللإشارة فان تايلور يريد بالعلمانية ليس فصل الدين عن الدولة فقط، بل علمنة السلوك الإنساني إلى درجة التحلل من الدين والاحتكام إليه في كل صغيرة وكبيرة. بل انّ العلمانية ليست مناقضة للدين ولكنها إعادة لتعريفه وتحول في السياق الذي ينتشر فيه الاعتقاد. أما الحداثة في نظر تايلور، بتناقضاتها وتهافتها ومآسيها، فهي في حاجة إلى الدين والإنسان في بحثه المستمر عن الكمال، “يريد أن يذهب أبعد من العقل الأداتي” كما يؤكد تايلر.
وفي تفكيكه لأطروحة “موت الله” يقول تايلر إن ” حجج العلوم الطبيعية في عدم وجود اللهليست كلها مقنعة”. فنجده ينتقد بشدة لا تخلو من تحامل على كل من الفيلسوف دينيت دانيال وعالم البيولوجيا ريتشارد دوكينز، الملحدين الذي يزعمان أن العلم، وخاصة نظرية التطور، أطاحا بالدين بصفة نهائية. بل عل العكس، يرى تايلور أن العلم يعزز الدين، لأن الله معني بالوجود الاجتماعي حيث التأمل يوحي ب “شيء إلهي فينا”. بالنسبة لتايلر، الاعتقاد ليس هو ما يجده العلم ولكن ما يأمله الدين.
وتبدو في هذا الإطار أن مسألة الاعتقاد تهم الصراع الدائر بين الدين والعلم. غير أن تايلر يبدو غير مهتم بشرح سنن الله في خلقه، ويقول إن الدين لا يحتاج إلى مبرر على أساس أعماله الجيدة في حين أن العلمنة، والتي يقول بعض مفكريها أنها ضرورية من أجل التسامح، تشكل خطرا على القيم الدينية التي قد تنقذنا من إغراءات رغباتنا الأنانية.
أما الكلمة التي تتكرر أكثر في كتاب تايلر (أكثر من 45 صفحة) فهي Disenchantment”خيبة الأمل” أو “إزالة السحر”، المستمدة من ماكس فيبر، والتي اقتبسها المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه كعنوان لأحد أشهر كتبه “إزالة السحر عن العالم”. يرى فيبر سبب التنوير في عملية الترشيد الحديثة لتنظيم الحياة من أعلى إلى أسفل، من خلال هياكل هرمية، التخصص، والتنظيم والمراقبة. ولكن “إزالة السحر عن العالم” هذا الذي أصبح به الإنسان سيد عالمه بقوة عقله دون الرجوع إلى الدين أو التفسير الديني، حسب تايلر، يترك الإنسان في كون ممل وروتينيي، مدفوعا بقواعد بدلا من أفكار. وهي العملية التي تعرف أوجها مع البيروقراطية التي يديرها متخصصون بلا روح، وباحثون عن المتعة بلا قلب. وهذا ما يسميه فيبر ب “القفص الحديدي” للحياة الحديثة. ومع اعترافه بهذه النظرة الفيبيرية رغم قتامتها فان تايلر يضعها جانبا من أجل رؤية أكثر تفاؤلا يجدها عند عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم. فعلى النقيض من فيبر، يرى دوركايم أن أشكال المجتمع تحتوي على ممارسات جد عميقة للمقدس. ويرى أن الدين متأصل في النظم الاجتماعية الحديثة كشكل من إشكال مقاومة التغريب. بهذا يشرح تايلر عودة إشكال التدين مثلا عند اليمين المسيحي في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بأنه شيء من الطموح إلى إعادة تأسيس المفهوم الدوركايمي الذي يستخدم لتعريف الأمة الأمريكية التي لا تزال على علاقة قوية بالإيمان بالله، تحت شعار “أمة واحدة تحت رعاية الله.”
ويلاحظ في هذا العمل الجبار والذي ينم عن سعة اطلاع صاحبه، أن الغرض الرئيسي عند تايلر هو إنقاذ الدين من التآكل بسبب آثار العلمانية الحديثة. فهو يعتقد أن الفكر الغربي الليبرالي، بدءا من هوبز ولوك وهيوم وآدم سميث، يسير على الطريق الخطأ. فبالنسبة له كأحد المفكرين الكاثوليك ذوي التقليد الفكري الأرسطي والاكويني، ليس معنى التاريخ هو الحفاظ على الحياة ولكن خلاص الروح، وليس الحق في العمل والتملك ولكن واجب الالتزام بالنظام الأخلاقي، وليس جشع السوق ولكن نعمة الدين. ولمقاومة انتشار الفردانية الليبرالية، اعتمد تايلر على المصادر التاريخية الكلاسيكية التي تضع مصلحة المواطنين تابعة للفضيلة. كما اعتمد أيضا على الرومانسية لإثبات أن الروح تعيش في خيال العقل مهما كان بأس القوى المادية للعلمنة. ويقول في هذا الصدد “إن اللغة الشعرية الجديدة يمكن أن تفيد في العثور على طريق العودة إلى إله إبراهيم”.
[1][1] Taylor, Charles A Secular Age, Belknap/Harvard University Press, 2007, 896 pages.