مارتن هايدغر، الكتابات الأساسية، 2ج، ترجمة وتحرير اسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة-المشروع القومي للترجمة، القاهرة،2003
شكرا أيها “القدر”: بيننا مترجمون!
يعتبر الفيلسوف الفرنسي مشيل سيرس (Michel Serres)، عن حق، إن التراجمة هم ملائكة الرحمة بين البشر. ويمكن فعلا، رغم ما قد يتسببون فيه من ضرر وخيانة للمعنى، اعتبار رحمتهم هي رحمة الفهم والتفهم في قلب جحيم الاختلاف واللامبالاة وجهل الآخر والغير، أو تجاهله، حين ينقلون من لغة إلى أخرى تجارب ومنظورات ومفاهيم الغير بما يفيد التفاعل والتداخل أو التشابك. لهذا يعتبر نفس الفيلسوف أن الترجمة هي مستقبل البشرية!
علينا أن نتصور أن بابل الحقيقية ليست هي تلك المدينة التي أتتنا الأساطير بأخبارها، بل هي هذا العالم-القرية الذي نعيش فيه اليوم حيث الألسن تتعالق وتعجن قواميسها رغم الحراسة المتشددة التي تمارسها الأكاديميات على اللغات وقواميسها، هذه القلاع التي تتحصن داخلها الهويات، أكانت حية أو ميتة؛ بابل هي هذا العالم حيث الترجمة هي مبدأ الحياة أو الموت، بل هي هما معا! وحيث تعدد الألسن ليس لعنة أو انتقاما إلاهيا، بل هو حظ البشر وامتحان إنسانيتهم في نفس الآن، إنه إمكان الترجمة، بل ضرورتها.
علينا أن نتصور أن المترجمين -وأترك جانبا أطروحة أن اللغة هي من يُترجم- هم السكان الحقيقيون في هذا العالم-القرية؛ هم من بفضلهم يحيى الاختلاف والتعدد بين البشر؛ هم لسان حال الاختلاف وهو يشتغل بعبوره من لغة إلى أخرى؛ هم سفراء العوالم المتعددة داخل كل عالم مفرد؛ هم الانفتاح في جوف الانغلاق؛ الغرابة في قلب الألفة؛ الغير في عمق الأنا؛ البعد في القرب؛ الوجه الآخر الذي يجب أن تظهره المرآة وراء أو بجانب أو أمام وجه الأنا الناظر؛ هم الأفق الذي يلازم كل خطوة على كوكب الأرض؛ هم تكثيف الماضي والحاضر والمستقبل في الحاضر! هم موطن ضعف أو/و قوة الثقافات والمجتمعات؛ بفضلهم تتعارف الشعوب فيما بينها، وتتلاقى الحضارات والأجيال، وتسافر المفاهيم والتصورات والحقائق والأوهام، إلخ. إنّهم الشبكة التي يكون بفضلها العَالَمُ عَالَما؛ هم أجداد الإنترنيت، حقيقة ومجازا: يقربون إليك ما كان بعيدا، ويأتون بالغريب زائرا، ويذهبون بك حيث تريد أو لا تريد!
كان الفيلسوف هيغل (F.G.W.Hegel) يقول: “علينا أن نلعن القدر لأن روائع القدامى لم تكتب بالألمانية”، وبالتالي كان مضطرا لقراءتها مترجمة. غير أن لعنة القدر التي جعلت الروائع تتكلم لغة أخرى غير لغتنا، هي نفسها التي تجعل الترجمة بدورها قدرا مُباركا ومعوضا للنقص، بل مولدا للنص عندنا! فإذا كنا لا نستطيع قراءة تلك الأعمال باللغة التي كتبت بها، وإذا كنا لا نستطيع أن نعيش معها تجربة الاغتراب عن لغتنا وكوننا، فإن المترجمين يحاولون أن نعيش تلك التجربة (تجربة الاغتراب والسفر العقلي) داخل لغتنا بالرغم من ألفتها لنكتشف قابلياتها للآخر.
نعم، نلعن أحيانا القدر الذي جعل نصوصا معينة تتكلم لغة غير لغتنا؛ نلعن القدر الذي خان رغبتنا في أن تتكلم الروائع الأدبية والفكرية لغتنا عند ميلادها الأول، ولكننا نشكره، أحيانا كثيرة، لأنه جعل بيننا تراجمة يسكنون أرض ثقافتنا ولغتنا، ويتكلفون ببناء جسور العبور إلى حيث كان من الممكن جدا أن لا نعبر إلى الأبد، فيجعلون لغتنا تستضيف تلك الروائع بما يجعل روحها تنبعث من جديد بيننا لتغذي إنسانية ٌقادمة من المستقبل ومن أجله!
إن مناسبة هذه التأملات هي الترجمة التي أنجزها إسماعيل المصدق لجزء هام من أعمال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، في إطار المشروع القومي للترجمة الذي يشرف عليه المجلس الأعلى للثقافة بمصر. فقد صدر هذا العمل بعنوان كتابات أساسية في جزأين ( تحت رقم:504 و505) سنة 2003، ولم يوزع في المغرب إلا سنة 2005! ويتضمن الجزء الأول(153ص) دراسة هايدغر الشهيرة، منبع الأثر الفني، في حين يتضمن الجزء الثاني(293ص) الدراسات التالية: ما الميتافيزيقا؟ في ماهية الحقيقة؛ تخطي الميتافيزيقا؛ السؤال عن التقنية؛ البناء، السكن، التفكير؛ والطريق إلى اللغة.
والغريب أن هذا العمل لم ينل، بالرغم من أهميته، حقه في الدراسة والتعليق عليه والتنويه به! فإذا كان صاحبه ليس في حاجة للتنويه ولا للاعتراف، فإن قيمة العمل وحمولته تفرضان التعامل معه ودراسته باعتباره إنجازا فكريا وثقافيا راقيا ميز الحقل الثقافي والفلسفي. إن المثير للاستغراب حقا هو الصمت الذي أحاط به المشتغلون بالفلسفة هذا العمل، خصوصا، أولئك الذين ظلوا لسنوات طوال يترجمون مقاطع ومقتطفات من نصوص هايدغر ويدّعون تحديث الثقافة العربية والمغربية! أولئك الذين يُفترض فيهم، على الأقل مبدئيا، القدرة على تقدير أهمية هذا العمل!
نعم، إن فكر هايدغر صعب، ويتطلب جهدا خاصا للاحتكاك به؛ كما أن الكثيرين ممن كانوا يستشهدون بأفكاره، ويدعون استلهامه في أبحاثهم السوسيولوجية عن هوية الكائن المغربي، كانوا مجرد مقلدين للموضات الباريسية، وفي أحسن الأحوال يلخصون ما كتب في مكان آخر، باللغة الفرنسية تحديدا، وبالتالي لم تكن لهم علاقة “أصيلة” بفكر هذا الفيلسوف!
قد تفسر كل هذه العوامل هذا الصمت أو تبرره؛ ومع ذلك يبقى هذا الصمت أحد أعراض المرض المنتشر بين المثقفين عندنا: تجاهل أعمال الغير، وخصوصا حين تكون مؤسسة. لهذا نعالج شيئا من هذا في هذه المجلة الإلكترونية التي جاءت لتسهيل تداول أخبار الكتب وقراءتها.
هايدغر يتكلم العربية في كتابات أساسية، مساهمة نوعية في حقل الثقافة العربية:
تعتبر ترجمة إسماعيل المصدق لكتابات هايدغر مساهمة نوعية في حقل الثقافة العربية، عموما، وفي حقل البحث الفلسفي، خصوصا إذا استحضرنا الحصار الممنهج الذي تنظمه الأوساط الصهيونية والفعاليات الأكاديمية القريبة منها والمتعاطفة معها على فكر هذا الفيلسوف الأصيل، الذي تريد، عن سوء نية وعن قصد مبيت، اختزاله في سنة من حياته تحمل فيها مسؤولية أكاديمية تحت الحكم النازي؛ لكن قيمة هذه الترجمة لا تأتي فقط من هذه الجهة، بل تأتي أيضا مما تتميز به من مواصفات تجعل منها عملا فكريا نوعيا. وأُجمل هذه المواصفات فيما يلي:
أولا، الأهمية الفلسفية للنصوص المترجمة
اختار المترجم ـالذي درس الفلسفة الألمانية في لغتها، ويعتبر متخصصا في فلسفتي الفيلسوفين مارتن هايدغر وإدموند هوسرل، إذ كان موضوع أطروحتة للدكتوراه هو: نقد علم الطبيعة الحديث، الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغرـ عن علم، مجموعة من النصوص التي يعتبرها الأكثر دلالة على تطور هايدغر الفلسفي. فهو يكتب في تصديره للترجمة: “راعينا في اختيار هذه النصوص أن تكون منصبة على أهم المجالات التي اهتم بها هايدغر، وأن تغطي في الوقت نفسه محطات مختلفة في مساره الفكري”( ص:7).
وبالفعل، فالنص الذي يشكل مادة الجزء الأول من كتابات أساسية هو “منبع الأثر الفني“؛ “ويحتل هذا، النص الذي كتب في ثلاثينيات القرن الماضي، حسب المترجم، مكانة أساسية في تفكير هايدغر، علاوة على أن هايدغر يعمل في هذا النص على إعادة النظر في فلسفة الفن السائدة بطريقة جذرية، وعلى إعادة طرح سؤال الفن انطلاقا من أرضية جديدة تماما، كما أنه يعالج قضايا أساسية في تفكيره مثل الحقيقة والعالم والتاريخ واللغة، وفوق ذلك فإن هذا النص يمثل حلقة أساسية في تطور هايدغر الفكري تربط بين رأيه في عمله الكون والزمان (Etre et Temps) وتفكيره في المرحلة المتأخرة، كل ذلك يجعل منه مدخلا ممتازا للتعرف على فلسفة هايدغر والاحتكاك بأسلوبه في التفكير”(ص:7)
أما النصوص التي تشكل مادة الجزء الثاني، فيمكن تبين أهميتها الفلسفية من خلال بعض المقاطع التي نقتطعها من التقديمات التي خص بها المترجم هذه النصوص.
ما الميتافيزيقا؟
” يقدم نص ما الميتافيزيقا؟ نظرة عن تفكير هايدغر في الفترة التي نشر فيها مؤلفه الأساسي الكون والزمان. ويمكن اعتبار هذا النص سواء من حيث المضمون أو من حيث المنهج، امتدادا لتفكير هايدغر في ذلك المؤلف”(ص:9).
في ماهية الحقيقة
” تعتبر محاضرة في ماهية الحقيقة من المحطات الأساسية والحاسمة في مسار تفكير هايدغر لأنها تمهد لتفكير الانعطاف لديه(…) “اختار هايدغر لسلسلة مؤلفاته الكاملة شعار: “طرق لا مؤلفات”، وهذا يعني بالنسبة للقارئ أنه لا ينبغي التعامل مع أي من نصوص هايدغر كمجموعة من المعارف والمعلومات حول قضية معينة، لأن كل نص من نصوصه هو طريق يسلكه التساؤل المفكر، ولكن هذا الطريق لا يكون قائما ومفتوحا أمام التساؤل المفكر منذ البداية بحيث لا يبقى عليه إلا أن يقطعه، بل إن الطريق يتم شقه وفتحه باستمرار، وهو يتغير مع كل خطوة من خطوات التساؤل، وهذا الطريق لا ينتهي بتقديم إجابة عن السؤال. لأن السؤال يتغير خلال الطريق ويظهر دوما في ضوء جديد، وبموازاة ذلك تتغير أيضا المفاهيم التي انطلق منها التساؤل، وليس ذلك وحسب، حيث إن المتسائل ذاته يتغير ويتحول، فحصيلة البحث والتساؤل ليست مجموعة من النتائج التي يجب تسجيلها، بل إن هذه النتائج تندمج في كون المتسائل ذاته، بحيث إن خلاصة النص ـ نهاية الطريق ـ ليست انتهاء، بل بالأحرى إشارة مسبقة إلى بداية جديدة ينبغي إنجازها والاضطلاع بها، ولكن ذلك لا يعني من جهة أخرى أن الخطوات التي قطعها التساؤل المفكر تصبح بدون أهمية، بحيث إنه يمكن القفز عليها، بل على العكس من ذلك، إنه بفضلها وعلى أساسها فقط يحصل التحول في موقع المتسائل. “هذه الملاحظة تنطبق بشكل واضح على النص (في ماهية الحقيقة؟). (ص:41).
تخطي الميتافيزيقا
“إن التمعن في الميتافيريقا كتاريخ للكون هو إذن في الوقت نفسه تمعن في وضعية الإنسان الحالي التي يطبعها التأويل العلمي للكائن وإرادة السيطرة عليه بإخضاعه وتوجيهه وضبطه، هذا التمعن يضعنا أمام السؤال الحاسم في عالمنا الراهن وهو: هل يجب متابعة غزو الأرض من أجل السيطرة عليها وهل يجب متابعة الصراع من أجل تحديد البشرية التي ستقود عملية الإخضاع التقني للكائن بكل قطاعاته والتحكم فيه، أم يجب التخلي عن ذلك لصالح علاقة أكثر بدئية وتجربة لا تأخذ الكائن كمجرد موضوع للسيطرة التقنية؟”(ص:111)
السؤال عن التقنية
“يتوفر نص “السؤال عن التقنية”، مثل بقية نصوص هايدغر، على بناء صارم، فهو يبتدئ بعرض للمشكل يقوم على توضيح عنوان المحاضرة بالوقوف عند الكلمتين اللتين يتكون منهما، ويتعلق الأمر في المحاضرة بالتساؤل عن التقنية لا بتقديم إجابات وقضايا جاهزة، فالتساؤل ـ كما سيقول هايدغر في نهاية المحاضرة ـ هو قمة التفكير، إن السؤال عن التقنية لا يجري على طريق معطى مسبق، واضح المعالم ومحدد من حيث منطلقه ونقطة وصوله، بل إنه طريق يتم بناؤه من خلال إنجاز خطوات السؤال، يعلن السؤال عن ذاته كسؤال عن التقنية، إلا أن هذا السؤال لا يهتم بما هو تقني، أي بالآلات والمنتجات التقنية أو بأساليب العمل والإنتاج والتنظيم التقني، بل بماهية التقنية (…) ويقرر أن ماهية التقنية لا يمكن أن تكون شيئا تقنيا، كما أن ماهية الشجرة ليست شجرة يمكن العثور عليها بين بقية الأشجار(…)
“يبقى أن هايدغر في سؤاله عن التقنية فيما وراء كل نظرة تفاؤلية أو تشاؤمية إلى التقنية، إنه من جهة لا يمدح التقنية ولا يعتبر أنها يمكن أن تقدم الحل لكل مشاكل الإنسان، بل يرى في ماهيتها أن الإنسان يوجد تحت رحمة قوة تتحداه ولم يبق حرا إزاءها، ولكنه مع ذلك يرى أن هناك أمرا يعلن فيها عن ذاته هو علاقة الإنسان بالكون، هذه العلاقة التي تختفي في التقنية ربما ستظهر للنور ذات يوم. لا تريد تأملات هايدغر أن تمتدح التقنية أو أن تدمها، بل إن هدفها الأساسي هو أن تفهمها” (ص:149؛ 170).
البناء والسكن والتفكير
يكتب المترجم مقدما هذا النص:
“ألقيت هذه المحاضرة في إطار حوار حول “الإنسان والمكان” بعد بضع سنين من الحرب العالمية الثانية والدمار الذي خلفته، وعن هذا الدمار نشأت أزمة في السكن، لهذا قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنه يمكن أن نفهم الوحدة بين البناء والسكن والتفكير انطلاقا من هذه الأزمة، ذلك أنه لتلافي أزمة السكن يجب بناء مساكن جديدة، فغاية البناء هو السكن والعلاقة التي تربط البناء بالسكن هي علاقة الوسيلة والغاية، أما التفكير فسيكون دوره هو التوفيق بين الوسيلة والغاية، أي البحث عن أنجع الوسائل لتحقيق الغاية المرجوة وعن أفضل الإمكانيات لاستغلال المكان. “يسارع هايدغر (…) إلى إبعاد هذا الفهم منبها إلى أن التفكير الذي سيحاوله لا يقدم أفكارا أو قواعد للبناء، بل سيعمل على تحديد السكن والبناء انطلاقا من المجال الأصلي الذي ينتميان إليه(…)”
“يستخلص هايدغر أن الأزمة الحقيقية للسكن لا تكمن في نقص المساكن، وأنه لا يمكن التغلب عليها ببناء المساكن، وإن الأزمة الحقيقية للسكن تكمن في فقدان الموطن الذي يظهر أنه قدر الإنسان في العالم الحديث المطبوع بسيطرة ماهية التقنية، كما تكمن في أننا لم نتأمل بعد هذا الفقدان. لكن فقدان الموطن، عندما يتم الانتباه إليه وتأمله يمكن أن يحمل نداء يوجه الفانين إلى السكن” (ص: 209-210؛ 220).
الطريق إلى اللغة:
“كيف تتكلم اللغة في عصرنا هذا؟ اليوم حيث ينجذب كل شيء إلى إيقاف واستحضار التقنية أصبحت اللغة إعلاما يعلم عن الكائن ويوقفه بذلك في دائرة نفوذ الإنسان، ولكي تخدم اللغة الإنسان التقني الحاسب يتم إضفاء الطابع الصوري عليها. من هنا أصبح الحديث عن اللغات الصورية شائعا في كل المجالات. إذا كانت اللغات الصورية تحيل دائما وباستمرار على اللغة الطبيعية لأنها تحتاج إلى هذه الأخيرة لكي تتمكن هي ذاتها من أن تأتي إلى الكلمة، فإنه لا يعترف باللغة الطبيعية إلا كشيء لا مناص منه وله طابع مؤقت، ولكن هذا الفهم التقني للغة يحجب عنا ماهية اللغة وحقيقتها التي تقوم في الخصوصية، إن اللغة مفهومة كإعلام تتوقف هي ذاتها على الخصوصية وتأتي في ماهيتها من الكيفية التي تسود بها اليوم في عصر التقنية الحقيقية كالاخفاء، لذلك فهي لا يمكن أن تظهر لنا اللغة في علاقتها بالخصوصية(…)
“إن اللغة لا تأتي بصفتها القول أي البيان، وبالتالي ككيفية للخصوص، إلى تكلم الإنسان إلا إذا استطاع هذا الأخير أن يبلغ ماهية اللغة سكوتا، ليس بإصدار قضية حول اللغة كما نصدر قضية حول شيء قائم أمامنا، بل بتجربة ماهية اللغة انطلاقا من اللغة كنداء له طابع تاريخي قدري” (ص:257-258).
إن أهمية النصوص التي اختار إسماعيل المصدق الاشتغال عليها وترجمتها لا تنبع فقط من مكانتها داخل التراث الفلسفي الغربي، بل والإنساني، بل تنبع أيضا من الإمكانات التي تتيحها لنا نحن لنفكر، الآن وهنا، في هذا الذي يشملنا ولا نعرف من أين نأتي إلى منبعه، ولا كيف نطل على آفاقه.
ويكفي أن نستحضر دراسة “البناء، السكن، والتفكير” لنعرف مدى الضحالة أو البؤس الذي يقوم عليه تصورنا لمسألة السكن ولسؤال المدينة حيث يتم نسيان مطالب الساكنة، بل النابعة من كل فرد من حيث هو كائن موطنه الأرض والسماء فوقه؛ نسيان يتخفى وراء خبرات العلاقات العامة ومنطق الإشهار، فندخل المدينة من باب مُجَسَّمها، ونرى بيانها في مُلصقها؛ وعندما تبنى على الأرض تنسى السماء، كما تنسى أن الأرض قبل أن تكون مساحة تقاس هي موطن يعاش؛ فتتحول المساكن إلى صناديق أو علب لا تطل على أفق ولا تستضيف أشعة الشمس.
لقد سبق لجون جاك روسو (Rousseau J.J) أن نبهنا أن المنازل لا تصنع المدن؛ وهو الدرس الذي لم يستوعبه من يخطط لبناء المدن عندنا، فحوّل العديد من المشاريع إلى بناءات من حجر لا تلبي نداءات الكائن!
مع دراسة هايدغر ننتبه إلى أساسية الأمر وجسامته. إنه وجه آخر من وجوه الأهمية الفلسفية، الآن وهنا، على أرض المغرب، للنصوص التي اختار المترجم نقلها إلينا لعلنا نتعلم شيئا يجعل، مثلا مدننا لا تفقد مَوطنها ولا الكائن مسكنه، طبعا لا يفترض هذا الفهم أن فلسفة هايدغر إجرائية الآن وهنا، ولكنه يجعلنا نفكر باستحضار ما يُعدم، وهذا أمر يجعلنا نفهم حقيقة التقنية التي تسيطر في كل بناء.
إنها بعض معالم الأهمية الفلسفية لهذه النصوص، كما قدمها المترجم في بعض المقتطفات التي اخترناها، وكما نراها نحن، الآن وهنا، من خلال نموذج السكن، مثلا.
ثانيا، الأهمية البيداغوجية لهذا العمل
تأتي أهمية هذا العمل، في تقديري، أيضا، من فائدته التربوية بالنسبة لمدرسي الفلسفة، في العالم العربي. فمن المعلوم أن تدريس هذه المادة يعتمد النصوص الفلسفية كمادة لبناء الدرس ولتشغيل التلاميذ والطلبة وتدريبهم على القراءة والكتابة؛ وعادة ما يتم الاعتماد على النصوص المقترحة في الكتب المدرسية أو في مجامع النصوص التي يختارها الأستاذ بنفسه من مؤلف من المؤلفات الفلسفية، غير أن هذا العمل يكون دون فائدة تذكر، إذا لم يكن المدرس يلم بالسياق الفلسفي العام للنص، وبالفصل الذي اقتطع منه، والآليات الحجاجية التي يستخدمها الفيلسوف للإقناع.
وقد ساهمت في هذا الوضع السلسلات التي تقدم النصوص بدون تأطير أو توجيه يضع كل نص في إطاره العام ليحسن المدرس استخدامه، فتخون هذه الترجمات رسالتها التكوينية للقارئ، وتظهر حقيقتها التجارية عارية.
مع كتابات أساسية، أصبح بإمكان المدرسين والطلاب، سواء داخل المغرب أو في باقي البلدان العربية الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية تأطير النصوص الهايدغرية والاشتغال عليها بما يجعلها مادة تكوين نظري ومنهجي حقيقي. وهو الإنجاز الذي يجب أن يمتد ليشمل باقي الفلاسفة، الألمان والإنجليز، والفرنسيين، وكل الذين يكتبون بلغات أخرى.
ثالثا، منهجية عمل المترجم
تُعتبر كتابات أساسية مساهمة نوعية في حقل الثقافة العربية عموما، والفلسفية، خصوصا، ليس فقط بالنظر لأهمية النصوص الفلسفية المترجمة، ولا بالنظر لأهميتها بيداغوجيا، بل أيضا بالنظر للمنهجية التي اتبعها المترجم في عمله. وهو ما يمكن عرضه من خلال النقط التالية:
أ- اعتماد “الأصل” في الترجمة: ترجمت النصوص انطلاقا من “أصلها” الألماني، وهو ما يعتبر مكسبا للثقافة العربية التي تأتيها أغلب النصوص المترجمة من الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، كما تسود الترجمة عن الترجمات. وقد يدعي البعض أن الترجمة عن الأصل ليست مسألة هامة، مادام لا وجود لأصل، وأن كل أصل هو استنساخ، إلخ. إنه رأي محترم يقوم على أساس فلسفي تفكيكي معين، غير أنه يساوي مبدئيا بين جميع الترجمات، أو على الأقل يكون مبررا للقبول بكل الترجمات، والحال أنه لا يمكن أن نساوي مبدئيا وعمليا بين ترجمات عن ترجمات، من جهة، وبين ترجمات عن الأصول، من جهة ثانية، خصوصا، عندما يكون المترجم، في الحالة الثانية، متمكنا من اللغتين وينتج بهما فلسفيا، كما هي حالة إسماعيل المصدق، بل يعرض فوق ذلك نتائج فهمه وقراءته المتأنية والصبورة للنصوص أمام مختصين آخرين في فكر الفيلسوف للتأكد من القيمة الأكاديمية للعمل ( ص:9-10)، علما بأن المترجم لا يتبنى أي موقف فلسفي يُفهم منه أنه يعتبر اشتغاله على النص الأصلي امتيازا لاحتكار المعنى(ص:8).
ب- التقديم للنصوص والتعليق عليها مع إغنائها بالهوامش: تتميز هذه الترجمة بكونها لا تكتفي بترجمة النص، بل تتعدى ذلك إلى تأطيره ووضعه في سياقه، مع إبراز مضمونه الفلسفي ومفاهيمه انطلاقا من احتكاك مطول مع نصوص الفيلسوف وفكره؛ احتكاك اختبر حصيلته في سياق نقاش أكاديمي بين مختصين، وهو الأمر الذي يجعل منها إنتاجات فلسفية محكمة باللغة العربية تطوع المضامين وتحاول إظهار المواقع البينية بين فكر الفيلسوف من جهة أولى، والمجال التداولي العربي، من دون التنكر للصعوبة التي تحول دون إجراء أي حوار مع هذا النوع من التفكير(ص:8). وهكذا نجد الجزء الأول يتكون من تصدير الترجمة (ص:7-10)؛ ومن دراسة المترجم “منبع الأثر الفني في المسار الفكري لهايدغر” (ص: 11-64)؛ والنص المترجم مع ملحق وإضافة (ص:67- 132)؛ والهوامش (ص ص: 133-147)؛ والمراجع والدراسات المعتمدة (ص:149-150).
ويتخذ عمل المترجم نفس البنية، في الجزء الثاني، حيث يقدم المترجم لكل نص بدراسة ويختمه بهوامش مفصلة. فإذا كان عدد صفحات النصوص الستة المترجمة هو حوالي 128صفحة، فإن عدد الصفحات التي شغلتها تعليقات المترجم يناهز 98صفحة، أما الهوامش فتصل إلى حوالي 39صفحة. وبهذا يتعدى عدد صفحات الدراسة والتأطير والهوامش( 137 صفحة) عدد صفحات النص المترجم.
قد يعتبر البعض، حسب نظرية معينة للترجمة، أن كثرة الهوامش والتعليقات هي دليل على فشل المترجم، على اعتبار أن “الهامش هو عار المترجم”! قد يقبل هذا الرأي بنوع من التحفظ بالنسبة للترجمات “الأدبية” التي تفترض نوعا من السيولة، ولكنه رأي يرفض في حالة النصوص الفلسفية، وخصوصا لمفكر صعب من طينة هايدغر.
إن التعليقات والهوامش في كتابات أساسية تشهد على الجهد الاستثنائي الذي قام به المترجم ليُسكن الفكر الهايدغري “المسكن” العربي من دون أن يحول المسكن إلى سجن، ومن دون أن يخفي مواطن القلق؛ إنها (التعليقات والهوامش) تلك المنطقة البينية بين اللغتين، بين الكونيين اللغويين وقد أقام فيها المترجم حارسا للاختلاف من تهديد الصيغة الوحيدة المطمئنة إلى تراثها؛ باحثا عن الانفتاح في جوف الانغلاق، وعن الغرابة في قلب الألفة، وعن الغير في عمق الأنا، وعن البعد في القرب، وعن الوجه الآخر الذي يجب أن تظهره مرآة اللغة وراء أو بجانب أو أمام وجه الأنا الناظر والمتماهي مع لغته. إن تلك الهوامش والتعليقات هي الآفاق التي تطل عليها كل قراءة للنصوص، وكل محاولة فهم وتفهم لمعانيها؛ إنها تعلم التفكير مع هايدغر باللغة العربية. إنها تجربة فكرية، ندين بها لسخاء وصبر وبصيرة إسماعيل المصدق، والذي سيمكننا، قريبا، من أن نعيش تجربة فكرية أخرى، مع فكر الفيلسوف إدموند هوسرل، من خلال ترجمته إلى العربية عن “الأصل” الألماني، لكتابه: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية، والذي ستصدره المنظمة العربية للترجمة.
شكر خاص للأستاذ والدكتور إسماعيل المصدق التي أفادنا بترجماته الممتازة والقيمة ، فعلا إن من يقرأ ترجمة الأستاذ يحس أن هايدغر يتكلم العربية