الجمعة , 29 مارس, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » النخبة وأزمة السلطة

النخبة وأزمة السلطة

عبد الحي الخيلي، النخبة والإصلاح. نماذج من الفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2014.

 

milaffat_1115_05يعتبر مصطلح “الإصلاح” اليوم من أكثر المفردات تداولا وانتشارا اليوم في مختلف وسائل الإعلام وبمختلف المؤسسات الرسمية منها وغير الرسمية، إلى درجة بات معها هذا المصطلح غامضا وفاقدا لدلالاته الحقيقية والأصلية أحيانا، بل ويصبح أحيانا أخرى فضفاضا وقابلا لكثير من التأويلات، بحكم المفارقات والمتناقضات التي تترتب عن التوظيف المختلف لهذا المفهوم كلما اختلفت الأطراف المستخدمة له. وإذا كان هذا هو واقع الحال اليوم بالنسبة لهذا المفهوم الشائك في عصر يشهد تراكما لا حدود له في المعارف والعلوم، فكيف كان عليه الأمر بخصوص موضوع “الإصلاح” عند الأتراك العثمانيين الذين ما فتئوا، على الرغم من تفوقهم في مجالات عديدة إلى حدود القرن الثامن عشر، ملزمين بإعادة النظر في عدة قضايا أصبح مصير الدولة وبقاؤها مرتبطا بتقويمها ومعالجة ما اعتراها من القصور؟

وبناء عليه، صدرت في موضوع الإصلاح عند العثمانيين دراسات كثيرة من إنجاز الباحثين الأتراك والأوروبيين وحتى الأمريكيين والروسيين، بلغات عديدة، كما اهتم الباحثون المغاربيون أيضا بالموضوع كل من زاوية اختصاصه بحكم العلاقات القائمة بين بلدان الشمال الإفريقي والإمبراطورية العثمانية. أما في المغرب، فقد نشأت بكلية الآداب في الرباط نواة صلبة لمدرسة مغربية متخصصة في الدراسات العثمانية، ويعتبر الكتاب الذي أصدره الباحث عبد الحي الخيلي بعنوان النخبة والإصلاح من ثمرات هذه المدرسة الواعدة.

والكتاب هو في الأصل جزء من أطروحة دكتوراه في التاريخ ناقشها صاحبها في صيف سنة 2012، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت عنوان: “النخبة المثقفة وأزمة السلطة في البلاد الإسلامية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر الميلاديين: المغرب والدولة العثمانية نموذجا دراسة مقارنة”. وتصدرت الكتاب كلمة تقديمية ثمَّن فيها الأستاذ المشرف على الأطروحة عبد الرحيم بنحادة هذا العمل، وأبرز الأهمية التي يحتلها العمل الإصلاحي والتحديثي عند العثمانيين بالتركيز فيه على ثلاث مجالات أساسية هي الإدارة والجيش والمالية، باعتبارها تمثل التحديات الأساسية التي اضطرت الدولة العثمانية إلى مواجهتها للقدرة على الاستمرار، مع الحرص على الاعتماد في أجرأة المشاريع الإصلاحية على الترجمة والعلوم الرياضية والعقلية.

وفي المقدمة،خصص الباحث ثلاث صفحات لإبراز أهمية الموضوع، وصفحة عن المادة العلمية المعتمدة، (وثائق الأرشيف: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، أرشيف فترة الحماية، الرصيد الوثائقي، أرشيف رئاسة الوزراء بإستنبول). ومنذ البداية كان هناك إقرار بصعوبات كثيرة واعتراف بالاكتفاء بوثيقتين عن تصنيف جودة خارجية وهما تلخيصان من الصدارة العظمى حول ضرورة تعلم اللغات الأجنبية.

أما المادة المعتمدة لتناول ما سماه المؤلف بالمنهج والمرتكزات، فتتكون من مصادر رئيسية في هيئة وثائق قليلة وكتب تراجم كثيرة زودت المؤلف بالمادة الأساسية لـ “تتبع مسارات وسير رجال الإصلاح والتحديث”، ومكنته من معرفة أصولهم وتكوينهم العلمي ومكانتهم السياسية والاجتماعية ومهامهم الوظيفية، وكذا أهم الإنتاجات السياسية والعلمية، وهو ما ساعده على معرفة نظرتهم للأزمة والإصلاح (قاموس الأعلام، حديقة الوزراء، حليقة الرؤساء، مجلة النصاب، الجوهر الأسنى بشائر أهل الإيمان). غير أن المؤلف تحاشى طرح أي تساؤل عن حدود الأهمية ودرجة المصداقية لهذه التراجم التي اعتمدها في عمله كمصدر أساسي. وتكونت بقية المواد المعتمدة من المصادر التاريخية، ورسائل الإصلاح السياسي، والتقارير السفارية، وهذا إلى جانب الدراسات الحديثة التي تناولت الموضوع، من تخصصات كثيرة ومتنوعة من قبيل الأدب والدين والسياسة والفلسفة والاقتصاد والاجتماع. وحاول الباحث الاستفادة أيضا من أهم الدراسات الأجنبية (ومنها الفرنسية والإسبانية والأنكلوساكسونية والجرمانية وحتى الروسية) والعثمانية والتركية والعربية في الموضوع بما فيها أعمال المغاربة المتخصصين في الدراسات العثمانية.

أما المنهج الذي اتبعه الباحث فقد حرص من خلاله على تتبع المسارات التي مرت منها عناصر النخبة، وتحدث عن إنتاجاتها، وعن التصورات التي وضعتها حول الإصلاح، فكانت النتيجة النهائية هي وجود مشاريع من أجل تحقيق الإصلاح والتحديث، فتم الانطلاق من تتبع تصورات النخبة حول الإصلاح مرورا  بمختلف مراحل تطورها، حيث اتخذت صورة دعوات إصلاحية في القرن السادس عشر، لكي تتحول تدريجيا في نهاية المطاف إلى مشاريع إبان القرن التاسع عشر،  مع التأكيد من قبل المؤلف على نجاحها النسبي في تجاوز بعض الأزمات. وكانت النهاية هي الخلوص إلى تعثر المشاريع وعدم استمرارها، ومن ثم كان السير نحو الفشل. ومما لاشك فيه أن هذا التتبع عن كثب قد استنفذ مجهودا كبيرا من الباحث، وخاصة ما تعلق منها بالمصادر المكتوبة باللغتين العثمانية والتركية. ومنذ الوهلة الأولى، تبين أن الباحث قد اختار التركيز على المصادر الداخلية للإصلاح عند العثمانيين، دون الاهتمام بالمصادر الخارجية، على الرغم من أهميتها وخاصة خلال القرن التاسع عشر التي اشتد فيه التكالب الاستعماري على الشعوب غير الصناعية ومنها دولة العثمانيين.

وتنفيذا للبرنامج الذي سطره الباحث عن وعي منه وعلى هذا الأساس، تناول الباحث في القسم الأول من مؤلفه موضوع رواد الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية، فاهتم في فصله الأول بتتبع المسارات التي مرت منها عناصر النخبة الإصلاحية مع الإشارة إلى أصولها ومكاناها الاجتماعية ومساراتها العلمية ومهامها الوظيفية، ليخلص في إثر ذلك إلى أن تلك النخبة الإصلاحية قد تميزت دائما بدرجات من الحركية، فوضع بتصرف خطاطة توضيحية لمراتب هيئة رجال النخبة العالمة في الدولة العثمانية مأخوذة عن كتاب إحسان أوغلي (ص.54) غير أن قراءتها تظل صعبة جدا، مع أن مضمونها مهم وأساسي لا يمكن الاستغناء عنه لفهم بقية مضامين الكتاب بشيء من السهولة، لأنه يتيح إمكانية معرفة الأجهزة الأساسية التي تسهر على دواليب الدولة وآلياتها المدنية (الكتاب) والعسكرية (الجيش) والشرعية (العلماء) والقضائية  (المحاكم وأنواعها).

وخلص الباحث إلى أن “مسارات النخبة العثمانية ومسالكها قد اختلفت وتباينت تجاربها بتباين الأهداف وبتنوع انتماءاتهم الجغرافية والعرقية” بحثا عن الوظائف في مختلف المجالات التابعة للدولة، مع الإشارة إلى أن بعضها كان مهيئا للمساهمة في تقديم الحلول الرامية إلى الإصلاح في حين كان البعض الآخر من المساهمين في تعميق الأزمة وعرقلة الإصلاح. وأنهى القسم الأول بالحديث عن النخبة الإصلاحية وعلاقتها بالسلطة السياسية عبر نهج الاستقطاب والاحتواء أو المساهمة عن كثب في تعليم السلاطين وأبناءهم، وتحين الفرصة السانحة لبلوغ الحظوة بالامتيازات والإعفاءات الضريبية وغيرها.

وتحاشى الباحث في هذا القسم الأول، دون تقديم أي تبرير لذلك، الدخول في أي نقاش نظري للتعريف بمصطلح النخبة وتلويناته المختلفة والمحتملة في السياق العثماني المعقد جدا والشاسع الأرجاء، لتمكين القارئ من ملامسة واضحة لواقع هذه النخبة، بصيغة المفرد أحيانا والجمع أحيانا أخرى. وبدلا من ذلك، اكتفى المؤلف بالخلوص إلى فكرة مفادها أن “النخب المنحدرة من أصول أوروبية إسلامية كانت أقدر على فهم أسباب الأزمة ودور العالم الأوروبي في تكريسها، في حين انحصرت نظرة النخب المحلية في التركيز على أسبابها الداخلية”، واعتبر هذه الخلاصة التي لا تستند إلا على دراسة سريعة لحالات معينة، كوسيلة  مهد بها للانتقال إلى الإنتاج الذي خلفته النخبة موضوع الدراسة.

وبهذا تم إفراد الفصل الثاني للخوض في ما استطاعت النخبة العثمانية إنتاجه من كتابات في ظروف عسيرة حول قضايا الأزمة والإصلاح. وكان من المنتظر، في هذا الصدد أيضا، أن يستهل هذا الفصل بتحديد مفاهيمي لمصطلحين سوف يرافقان القارئ عبر كل الصفحات المتبقية من الكتاب، ونعني بهما مصطلح “الأزمة” ومفهوم “الإصلاح”. وبدلا من الاهتمام بهذا الجانب، انطلق الباحث في معالجته المباشرة لموضوع تطور الإنتاج المكتوب من قبل عناصر النخبة، اعتقادا منه أنه سيعكس لا محالة وبوضوح رغبتهم الأكيدة في تحقيق الإصلاح بغية التمكن من تجاوز الأزمة أو الأزمات.

وتمحور هذا الإنتاج حول ثلاثة أصناف؛ أولها رسائل الإصلاح السياسي، وقد بذل الباحث مجهودا لوضع جدول ثان يذكر فيه أهم رسائل الإصلاح السياسي الصادرة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر بالدولة العثمانية، بالإشارة إلى عنوان الرسالة واسم مؤلفها والخزانة المحفوظة فيها، مع الإشارة إلى نشر البعض منها (72-73).

وفي معرض حديثه عن النخبة الإصلاحية وعلاقتها بتطور الكتابة السياسية، نبه المؤلف إلى وجود مقاربتين تبنتهما النخبة الإصلاحية في مناقشتها لموضوع الأزمة، أولاهما وصفها بالتقليدية، بين القرنين السادس عشر  والثامن، تمثلت في رسائل الإصلاح المعروفة بـ”سياسة نامة” و “نصيحة نامة”، والتي انبرى فيها واضعوها إلى معالجة المسببات الكبرى للأزمة، بما في ذلك أوضاع الجيش، واستشراء الفساد الإداري والعلاقات بين الحريم والسلطة. وقد وصفها المؤلف بأنها تفرز نظرة أخلاقية وتقدم حلول ذاتية مرتبطة بعدالة السلطان وقوته. واعتبرت هذه الرسائل بأنها نابعة من تجاربهم المحلية في الميدان عبر الوظائف التي شغلوها بمختلف قطاعات الدولة بما فيها الإدارة والصدارة والخزينة والجيش: (طرسون بك ومقدمته حول السياسة والملك، الوزير لطفي باشا ورسالته آصف نامه، مصطفى عالي ورسالته نصيحة السلاطين، وقوجي بك، وكاتب جلبي ورسالته دستور العمل لإصلاح الخلل الهامة جدا خلال القرن السابع عشر، بالإضافة إلى حسين هزرافن، وبرتوي علي أفندي، ومصطفى نعيمة)

أما ما وصفه المؤلف بالمقاربات السياسية الجديدة، فإنها تعود إلى القرن الثامن عشر، وعرفت بـ لوائح الإصلاح، وقد وضعتفي صورة مقترحات ومشاريع إصلاحية، وهي مرتبطة بسابقتها وتبين وجود تطور في درجة الوعي لدى النخبة بالتحولات السياسية الطارئة، كما تعكس تطور الفكر السياسي العثماني ونظرته للأزمة والإصلاح. ومن أهمها في هذا الصدد رسالة إبراهيم متفرقة المجري الأصل، “أصول الحكم في نظام الأمم” التي عرفت طريقها إلى الطباعة منذ سنة 1731. واهتم الباحث بالحديث عن حياة متفرقة فذكر أسره في البلقان عن سن الثامنة عشرة، وعن اعتناقه الإسلام ودخوله في خدمة الدولة، واشتغاله ترجمانا ودبلوماسيا إلى أن أدرك رتبة متفرقة ومعناها المشرف على حاجات البلاد. وقد وصف المؤلف متفرقة بكونه أبرز الداعين إلى استخدام أدوات التقدم الأوروبي خاصة في الميدان العسكري. ثم أشار إلى مصطلح لم يرد من قبل هو “التجديد”، ويعني به تجديد قواعد السلطنة بالرجوع إلى التاريخ الذي اعتبره مدخلا أساسيا لتجديد قواعد السلطنة وتقويتها. ونتساءل مع المؤلف لماذا خص نموذج متفرقة بهذا البسط في الحديث دون تعميمه نفس القدر من الاهتمام على  آخرين ممن كلفوا أنفسهم أيضا وضع لوائح الإصلاح. فهل يعود هذا الاختيار لكثرة المادة المتعلقة بهذه الشخصية البارزة وندرتها بالنسبة لغيره أم لأسباب أخرى؟

أما بقية اللوائح الإصلاحية فهي اللائحة الإصلاحية للمستشار عبد الله منلا تاتارجيق زادة، ورسالة خوجة سكبانجي المسماة “خلاصة الكلام في رد العوام” وهو من رجال النخبة العسكرية، التي دافع فيها عن الجيش الجديد أمام من حملوه مسؤولية الهزائم؛ وأخيرا رسالة محمود رئيف أفندي باللغة الفرنسية”، سماها: Tableau des nouveaux règlements de l’Empire Ottoman، وقد ترجمها خالد زيادة بعنوان”جدول التنظيمات الجديدة في الدولة العثمانية”، وصاحب الرسالة هو المعروف بالإنجليزي، وقد رافق يوسف أغا أفندي في سفارته إلى إنجلترا سنة 1797 واهتم بالجغرافية وتعلم الفرنسية والإنجليزية. وقد دعا إلى تبني ما سماه بـ “الإيراد الجديد” لتجاوز النظام القديم وتعميمه في الولايات والأوجاق، ثم نظام الذخائر لضبط معارف وصناعة الذخائر اقتداء بالأجناس الأخرى. والدعوة إلى تعليم وتعلم الصنائع الحربية، وعلوم الهندسة العسكرية، والاهتمام برواتب الموظفين لتشجيع “النظام الجديد” وتوطيده.

وقد أسهب الباحث بكثير من الحماس في حديثه عن الكتابة التاريخية، علاقة المؤرخين العثمانيين بالإصلاح، إذ لم يقتصر على وضع جدول لمؤلفات المؤرخين كما فعله سابقا مع رسائل الإصلاح ولوائح الإصلاح، بل أتى بعناوينها وفصل في الحديث عن أصحابها وعن تكوينهم. (ص 111- 144). ولاشك أن هذا الاهتمام نابع من الأهمية التي أولاها على الدوام السلاطين والحكام في المركز وفي الولايات لاحتضان المؤرخين في البلاط واستخدامهم في تلميع صورهم وتخليدها عبر الزمن عن طريق الكتابة. وأشار في هذا السياق إلى الصدر الأعظم لطفي باشا وتأريخه “تواريخ آل عثمان”الذي كتبه استجابة لطلب سلطاني؛ وسعد الدين أفندي صاحب كتاب تاج التواريخ وهو شيخ الإسلام؛ وخاصة منهم مؤلف كاتب جلبي “تقويم التواريخ” الذي استقرأ فيه تاريخ الدول السابقة بالمفهوم العالمي، ثم انتقل إلى الدولة العثمانية ليدعو في النهاية إلى “تدارك الخلل في خزينة الدولة بترشيد النفقات والمصارف وإنهاء الظلم والتعدي في تحصيل الضرائب لكنه يرى أن الإصلاح يكمن في الاقتداء بتجربة السلطان أحمد الإصلاحية أي العودة إلى السلف الذي عمد إلى المهادنة مع الخارج والاقتصار على محاربته للصفويين؛ مصطفى نعيمة وتاريخه “روضة الحسين”؛ وراشد أفندي وكتابه “تاريخ راشد”؛ وأخيرا جودة باشا وكتابه “تاريخ جودت” على شكل حوليات اعتمد في كتابه على الوثائق ذات الصلة بالعلاقات الدبلوماسية بين العثمانيين والدول الأوروبية: الحروب النابليونية، العلاقات مع روسيا، ودعا إلى الاستفادة من التقارير السفارية التي رفعها السفراء إلى الدولة لتجاوز الأزمات الداخلية والخارجية.

وأخيرا حاول المؤلف الاهتمام بالدور الذي ساهمت به التقارير السفارية في الإصلاح والتحديث، ثم أشار إلى أن هذه الكتابات قد بدأت خلال النصف الثاني من القرن السابع.  وكان من الأهمية بمكان لو تساءل الباحث لماذا لم ينتشر هذا التقليد قبل هذا التاريخ، هل كان ذلك بسبب الحروب الطاحنة وما ترتب عنها من علاقات ومشاعر عدوانية تولد عنها نوع من الاحتقار أو الاستصغار للغرب وأهله؟ أم لأن القوى بين الطرفين كانت متوازنة نسبيا فيما يبدو عسكريا واقتصاديا على الأقل، وهو ربما الذي جعل الحاجة إلى الغرب غير واردة في أعين العثمانيين إلا من باب الغزو أو الطمع في الأراضي ؟

وعند استعراض الباحث لهذه البعثات السفارية ذكر أن أولها كانت هي سفارة قره محمد باشا من محمد الرابع إلى فيينا سنة 1665، ثم ارتفع حجمها مع زيادة اهتمام العثمانيين بالتوجه نحو الغرب، ومن أهمها: (قدمها في صورة لائحة كرونولوجية في المتن) ستة سفارات إلى ڤيينا ما بين 1688، وستة إلى فرنسا وخمسة إلى كل من روسيا بروسيا وثلاثة إلى حدود سنة 1794، ثم إلى إنجلترا ابتداء من 1793 وهي سفارة يوسف أغا الوحيدة إلى هذا البلد. وفي نظري كان لابد من التساؤل في هذا الباب لماذا حصل الانفتاح باكرا على فرنسا، وتأخر بالنسبة لإنجلترا ؟

وقد اعتبر الباحث أن أهمها هي سفارة جلبي محمد أفندي إلى فرنسا سنة 1721، على عهد أحمد الثالث الذي انفتح على الغرب وعرف عهده استعمال المطبعة. (عهد التوليب) بعد العودة كتب تقريرا سماه “جنتء كفار”، وما يهمنا هو أن الرحلة نشرت في مطبعة متفرقة سنة 1741، وظهرت منها خمس طبعات في 1740، و 1765، و 1866 و 1899 كما طبعت بباريس سنة 1872، وصدرت أخيرا طبعتها العربية بعنوان “جنة النساء والكافرين” دار رؤية بالقاهرة بقلم خالد زيادة. وفي الخلاصات ذكر الباحث أن الملاحظات والمشاهدات المنقولة عن المستحدثات وأحوال المجتمع وما إلى ذلك من الأمور التي جاءت أوصافها الطويلة أحيانا والمقتضبة أحيانا أخرى عبر التقارير السفارية قد ترجمت أحيانا إلى مشاريع، فتأتى تطبق البعض منها وتفعيله، بينما تعثر بعضها الآخر.

وهنا أعتقد أنه لو أبقى الباحث على الشق المحذوف من هذا الكتاب والمتعلق بالمقارنة مع المغرب، لأتاح الفرصة أمام القارئ المغربي لتقدير مدى أهمية الفوارق الكثيرة والمتنوعة الموجودة بين الجانبين العثماني والمغربي في علاقاتهما مع الغرب في مرحلة ما قبل الاستعمار.

وخصص الباحث القسم الثاني من كتابه لتناول التطور الذي شهدهالفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وقد تناول في الفصل الأول تصورات النخبة الإصلاحية للأزمة وحاول دراسة مسبباتها بمعالجته لمجموعة من الإشكاليات المتعلقة بالجيش والجباية والخزينة والحريم والسلطة وطبيعة التركيبة الاجتماعية. ثم انتقل إلى مظاهر الأزمة المتمثلة في الفساد السياسي انطلاقا من مؤسسة السلطان كنموذج، بالإضافة إلى مظاهر الفساد الإداري  وأزما المركز والولايات وأزمة الداخل والخارج، فضلا عم معالجته لإشكالية الحرب والسلم.

وتناول الباحث بالدراسة ما أسماه بتصورات النخبة العثمانية للإصلاح في الفصل الثاني، وغي المستوى الأول حاول التمييز بخصوص تلك التصورات لدى عناصر النخبة بين الإصلاح والتجديد (إصلاح الجيش، الإصلاح المالي)، ثم انتقل إلى الاهتمام بالتطور الحاصل مرورا بالإصلاح السياسي إلى الإصلاح الدستوري، وأخيرا بتصورات النخبة للإصلاح الإداري.

أما الفصل الثالث، فقد خصصه الباحث لاستعراض جملة من مشاريع النخبة العثمانية المتعلقة بالإصلاح والتحديث، فتناول فيها مشاريع الإصلاح والتحديث بين النظرية والتطبيق (مشاريع النخبة العثمانية من الإصلاح إلى الحداثة) وتحديث المؤسسة العسكرية، وإصلاح وتحديث المؤسسة المالية، وإصلاح وتحديث الإدارة، مع الاهتمام أيضا بما وصفه الباحث بمشروع المعرفة الجديدة (الترجمة واللغات) واتخذ من علوم الجغرافية والرياضيات نموذجا لأسس المعرفة الجديدة، دون إغفاله للدور الفعال الذي ساهمت به المطبعة، على الرغم من الصعوبات والتحديات الكثيرة المطروحة في هذا الصدد، بغية التوصل إلى تحديث الدولة.

ثم اختتم الكتاب بالحديث عن مآل مشاريع الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية بتقديمه لمجموعة من الشهادات والنصوص المتعلقة  بمآل مشاريع الإصلاح والتحديث. وبعد تجميع الخلاصات التي سبق وأن ذكرها في نهاية كل فصل على حدة، ذيل الباحث كتابه ببليوغرافية مختارة للمصادر المعتمدة باللغتين الغربية والعثمانية والمراجع والدراسات باللغتين العربية والتركية الحديثة وباللغات الأجنبية، ثم وضع في الأخير بعض الملاحق (جدول الأبجدية التركية، جدول أنساب سلاطين آل عثمان، وقائمة بأسماء سلاطين الدولة العثمانية، ثم كرونولوجيا التاريخ العثماني بين 1260 و 1923، وخريطة للدولة العثمانية خلال القرن السابع عشر، إضافة إلى صور انتقاها لبعض سلاطين الإصلاح والتحديث ورجالاته في الدولة العثمانية واكتفى باثنين منهما: سليم الثالث مؤسس النظام الجديد، وعبد الحميد الأول، وصور لبعض رجال النخبة العثمانية ومنهما: كاتب جلبي وإبراهيم متفرقة.

وبهذا ظل الباحث وفيا للنهج الذي قرر اختياره منذ البداية، فالتزم بتمكين القارئ من مختلف المصادر والنصوص المحلية التي تم إنتاجها من الداخل على أيادي أعضاء النخبة العثمانية في  موضوع  الإصلاحات، وأحجم عن وعي كامل منه عن الاهتمام بالتأثير القوي الذي كان للعوامل الخارجية في موضوع الإصلاحات عند العثمانيين ودول المغارب، وهو الجانب الذي توجد فيه دراسات كثيرة ليست بخفية عن صاحب هذا الكتاب.

 

 

- خالد بن الصغير

جامعة محمد الخامس / كلية الآداب بالرباط

تعليق واحد

  1. توهامي بشير الحسني

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    إخواني السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حفظكم الله وملأ قلوبكم نورا أخوكم باحث في التاريخ العثمااني من الجزائر أحتاج نسخة من كتاب عبد الحي الخيلي، النخبة والإصلاح. نماذج من الفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2014. فهل يمكنني الحصول على نسخة وكيف سيتم دفع ثمنها لكم جزاكم الله خيرا

أضف ردا على توهامي بشير الحسني إلغاء الرد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.